الرجل الشجرة … زكريا!

لا يبعث الأسى في نفسي مثل صفير باخرة تُغادر الميناء في الليل، ولا تمتلئ نفسي بالشجن كامتلائها لصوت قطار ينهب القرى والمدن والليل قبل لحظات من طلوع الفجر وفي الوقت الذي أتأهَّب فيه للنوم! ومنظر البحر يُذكِّرني ببلاد بعيدة وأيام سعيدة قضيتها هناك! وأشجار الجميز بالذات تُذكِّرني بأيام طفولتي البريئة الهنيئة، وسنوات من العمر قضيتها تحت أغصانها على شاطئ الرَّيَّاح! والنوافذ المغلقة تُذكِّرني بالسجن وبالأيام الميتة خلف جدرانه! والرصيف يُذكِّرني بأيام الصياعة التي بدَّدناها في مناقشات بيزنطية وديالوجات سخيفة، ولكنَّها بالرغم من ذلك كانت أيامًا مجيدة؛ لأنَّنا تصورنا خلالها أنَّنا ملكنا كنوز المعرفة، وأنَّنا توصَّلنا إلى معرفة سر الكون؛ فلما اكتشفنا الحقيقة بعد ذلك أدركنا في الوقت نفسه أنَّ العمر قد ولَّى، وأنَّ الوقت قد فات! والحقيقة التي اكتشفناها بعد فوات الأوان هي أنَّنا لا نعرف شيئًا، وأنَّ ما نعرفه هو أقل مِمَّا يجب وأتفه مِمَّا ينبغي، وأنَّ الكتب كثيرة والعمر قصير! وأنَّ المعرفة طريق ليس له نهاية. بينما الإنسان يولد ليموت، وأنَّه يقرأ لينسى، ويتعلَّم ليكتشف في النهاية أنَّه أصبح أجهل مِمَّا كان! وبعض أصدقائي الذين ماتوا نسيتهم تمامًا، والبعض الآخر أذكره أحيانًا، وقلة قليلة منهم لم يغيبوا لحظة واحدة عن ذاكرتي، ولا يمر يوم واحد من عمري دون أن أذكرهم عدة مرات؛ مِن هؤلاء كامل الشناوي الذي تعرَّفت عليه في بداية الخمسينيات، والذي تعرَّفت عنده على عدد من مشاهير الجيل وكانوا يخطون أولى خطواتهم في الحياة! منهم أيضًا عبد الحليم حافظ الذي تعرَّفت عليه في قهوة بلدي في عابدين، وأحسست بشيءٍ ما يشدني إليه، ربما لأنَّه كان مثل حالي مرهقًا ومكسور الخاطر ووحيدًا في الحياة! ومنهم سعيد أبو بكر المُضحك العظيم الذي عاش حياة قصيرة وعاصفة، وساءت أحواله في نهاية العمر، ومات ممرورًا من الناس ومن الحياة! ومنهم زكريا الحجاوي الذي كان جزءًا من الحياة ذاتها، كأنَّه نتوءٌ خرج منها، أو طريق متعرج في شعابها، أو ظاهرة من ظواهرها؛ كالمطر والرعد والزلزال! ولعل موت زكريا الحجاوي هو الحادث الوحيد الذي هزَّ أعماقي، مثل جذع شجرة طيب كشجرة جميز حلو المذاق، كثمار المانجو. وكان أمير الصياع بلا جدال، كان يعشق مصر، ولعل ذلك هو السبب الذي جعله يطوف في أرجائها على قدميه. وكانت مصر عنده هي القرية. والشعب عنده هم الفلاحون، والحياة البسيطة الرتيبة هي الحياة المُثلى. وكان يُردِّد دائمًا، خصوصًا في أوقات المحن والأزمات: لا أريد من الحياة أكثر من قيراط واحد من الأرض، وشجرة وحصيرة أفرشها تحت أغصانها وأتمدَّد عليها، وبجانبي قُلة فخار لتبريد الماء! هذه كانت كل أحلامه، ومدى مطامعه في الحياة. ولم تكن هذه الأحلام تُكلِّف أكثر من خمسمائة دينار كويتي لتُصبح من حقائق الحياة! ومع ذلك مات الفنان الكاتب الأديب زكريا الحجاوي دون أن يُحقِّق حلمه. وغادر الحياة دون أن تتهيأ له فرصة ليرتاح لحظة! وظلَّ يسعى من أجل أكل العيش، حتَّى بعد أن اعتلَّ قلبه واختلَّ نبضه! الغريب أنَّ هناك أُدباء وكُتَّابًا أقل فنًّا من زكريا الحجاوي، وأقل موهبة، وأقل عطاءً يملكون قصورًا على شاطئ القناة، وبعضهم يملك قصورًا على شاطئ النيل، والبعض يملك ضياعًا في ريف مصر! ولعل هذا هو السبب الحقيقي الذي صدمني بشدة في موت زكريا الحجاوي. فهو قطع رحلة حياته بين الميلاد والموت بالخطوة السريعة! كأنَّه عسكري جيش أتى أفعالًا من شأنها الإهمال وعدم الانضباط ومخالفة الأوامر العسكرية! وهو عاش كأنَّه مشدود إلى جذع شجرة والسياطُ تلهب ظهره، عقوبة مسجون خالف اللوائح، وخرج عن تعليمات البيك المأمور! ومع ذلك ما أصفى ضحكته حين كان يضحك، وما أعمق فرحته حين كان يفرح، وما أهدأ نفسه حتَّى في لحظات الخيبة والإحساس بالضَّياع! ولا زلت — برغم السنين الطويلة — أذكر أول لحظة رأيت فيها زكريا الحجاوي. شدَّني صديق من يدي إلى بيته في حارة مظلمة من حواري الجيزة. كان عندي من العمر عشرون عامًا ومعي من الفن قصة قصيرة. واكتشفت أنَّ بيت زكريا كان عاريًا تمامًا من الأثاث، كأنَّه زنزانة يقضي فيها فترة عقوبة. ولكنَّه استقبلني ببشاشة وقرأ قصتي باهتمام. وطلب مني أن أقرأ كثيرًا وأن أقرأ خصوصًا في التراث، وذكر أمامي عدة كتب كنت لحظتها أسمع اسمها لأول مرة، ودلَّني على الجبرتي وابن إياس، وقال وهو يدخن بشراهة سجاير رخيصة: اقرأ ألف ليلة وليلة؛ إنَّها أم الفن القصصي ليس بالنسبة للعرب فقط؛ ولكن بالنسبة للعالم. وقضيت عدة ساعات مع زكريا الحجاوي في منزله، وشعرت بحجم المحنة التي يعيشها! فقد كان البيت شديد الضيق والعائلة كثيرة الأفراد. وحكى لي في بساطة قصة حياته وكأنَّنا أصدقاء منذ ألف عام. لقد تزوَّج من فتاة أحلامه وعاش معها أحلى أيام العمر، ثمَّ اضطر إلى الانفصال عنها لأنَّ أخاه الأكبر تُوفي فجأة تاركًا زوجة ونصف دستة من الأبناء. واضطر زكريا الحجاوي للزواج من زوجة أخيه لكي يعول أبناءها، هكذا بشهامة وببساطة وبدون تعقيدات!

وعندما غادرت منزل زكريا الحجاوي كانت الشمس قد آذنت بالمغيب، وكان الجو حارًّا لم يزَل، ولم أكن وحدي حين غادرت منزل زكريا، بل كان زكريا معي، وعرجنا في طريقنا على دكان سجاير أخذ زكريا منه حاجته من الصنف الرخيص الذي كان يُدخنه. وهمس في أذن صاحب الدكان بكلمات، وسرعان ما فتح الرجل الطيب الدرج وتناول منه عشرة قروش فضة ودسَّها في يده. ومضى زكريا الحجاوي يقطع الطريق من الدكان إلى ميدان الجيزة في خطوات ثابتة وقوية ومتعالية. واندهشت لشعبيته الواسعة في الجيزة، فقد اضطر إلى التوقف عدة مرات ليُصافح بعض المارة، واعتذر لكثيرين من الجالسين على الأرصفة عن شرب الشاي معهم؛ لأنَّ عليه أن يذهب إلى موعد هام! وبعد رحلة استغرقت وقتًا طويلًا وصل زكريا الحجاوي إلى قهوة محمد عبد الله، وكانت هذه أول مرة أجلس فيها على قهوة عبد الله.

وكانت أول مرة أيضًا أرى فيها أنور المعداوي ورشدي صالح وسيد قطب ونزار قباني. وخُيِّل إليَّ أول الأمر أنَّ نزار قباني ممثل سينما جاء يسرِّي عن نفسه بالجلوس بعض الوقت مع الأدباء والشعراء، وجلست بجوار زكريا الحجاوي بعد أن قدَّمني إلى الجالسين قائلًا: الأستاذ محمود السعدني الكاتب الفنان …! وشعرت بخجل شديد وغيظ أشد، فقد ظننت أنَّه يسخر مني! فلم أكن أستاذًا، ولم أشعر يومًا ما بأنَّني كاتب أو فنان. وكنت أخجل من عرض إنتاجي على أحد؛ والسبب أنَّني عرضت إنتاجي ذات مرة على بعض أصدقائي ولكنَّهم سخروا مني، وحتَّى الذين احترموا إنتاجي همسوا فيما بينهم بأنَّني سرقت القصص التي قرأتها عليهم من بعض الكتب! ولكنَّني بلعت ما تصوَّرت أنَّه إهانة من زكريا الحجاوي وجلست بين المجموعة صامتًا. فجأة سألني أنور المعداوي: وليك إنتاج يا أستاذ؟ وردَّ زكريا الحجاوي على الفور: معاه قصة جاهزة، أنا باعتبرها بداية جيدة. وتناول أنور المعداوي القصة التي كنت أحشو بها جيبي وطالعها في صمت، في الوقت الذي كانت عيني تتابعه في قلق، فجأة توقَّف عن القراءة وشارك في الحديث، وأحسست أنَّني انتهيت، وتمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعني. فها هو أنور المعداوي قرأ القصة ولم تعجبه. بدليل أنَّه توقَّف عن القراءة واشترك في الحديث! وهممت أن أُغادر القهوة وأن أذهب إلى أي مكان بحيث لا يقع بصر أحدهم عليَّ بعد ذلك؛ ولكن شجاعتي خانتني وأحسست ببرودة تسري في أوصالي، وبأنَّ ساقيَّ ترتعشان، ثمَّ شعرت فجأة بأنَّ ريقي جف، وأنَّني في حاجة إلى كوب شاي ساخن، ولم يكن في الجالسين أحد أعتبره صديقًا لأطلب كوبًا من الشاي على حسابه، كما أنَّه لم يكن معي نقود لأطلب كوبًا من الشاي لنفسي، ولا أدري إلى أين ذهبت بفكري عن قهوة عبد الله، ولكني انتبهت فجأة على أنور المعداوي وهو يجري ببصره على سطور القصة، وخفق قلبي من جديد؛ فهؤلاء الناس نوع آخر من البشر، ليس من عينة أصدقائي الذين يُشاركونني لعب الكرة! وظلَّ أنور المعداوي يقرأ حتَّى انتهى منها تمامًا. ثمَّ نظر إليَّ طويلًا وكأنَّه يتفحَّصني وقال مُعلِّقًا على القصة: أنا ألاحظ أنك بتكرر ألفاظ معينة كثيرة. وردَّ زكريا الحجاوي قائلًا: وأنا لاحظت نفس الملاحظة، وأعتقد أنَّ السبب في كده أنَّ حصيلته اللغوية مش تمام، عشان كده نصحته يقرأ كثير، وخصوصًا في كتب التراث. وردَّ أنور المعداوي: مش مشكلة، المهم إن الكاتب يعبر بالألفاظ اللي عنده، اللغة وسيلة مش غاية يا زكريا! ودخل الاثنان نقاشًا حول الموضوع، واشترك الحاضرون في المناقشة، وبينما كان النقاش محتدمًا كنت أنا في وادٍ آخر، فهذا النقاش كله كان حول قصة من تأليفي. أنا أصبحت إذن مادة لمناقشات صالونات الأدب في القاهرة وشعرت بأنَّني أنتفخ، وبأنَّني أزداد وزنًا، وخُيِّل إليَّ أنَّني سأطير في الهواء، وجلست وسط الحاضرين كأنَّني الجاحظ في مجلس من مجالس الأدب بالبصرة! ولكني سرعان ما تضاءلت، وانكمشت في مكاني كأنَّني بالونة ثقبها أحد العابثين بإبرة خياطة. فقد وصل إلى مجلس الحُكماء رجل مُعمَّم أنيق بدرجة لافتة للنظر يرتدي زي كبار المشايخ في الأزهر. وعليه سمات الجد والعظمة. صافح الحاضرين، وانحنى باحترام وهو يُسلِّم على أنور المعداوي، وأبدى نفس الاحترام لسيد قطب، وصافح رُشدي صالح في أدب، وسبَّ زكريا الحجاوي وهو يمد له أطراف أصابعه. وضحك زكريا وهو يُصافح «مولانا الشيخ» ونظر الرجل المُعمَّم نحوي بازدراء شديد أهاج جميع مواجعي، ومدَّ لي طراطيف أصابعه، وانتهز فرصة وقوفي لمصافحته فجلس على مقعدي! ووقفت حائرًا كفلاح نزل مطار لندن لأول مرة؟ وانتبه أنور المعداوي للمأزق الذي أنا فيه فقال للشيخ المُعمَّم: أنت يا عبد الحميد خدت كرسي الأستاذ! وردَّ عبد الحمید ساخرًا: الله، هوه دا أستاذ؟ طيب لا مؤاخذة يا أستاذ! وهممت بأن أضرب المُعمَّم قلمًا على قفاه وأُطلق ساقيَّ للريح، ولكني تجمدت ولم أدرِ كيف أتصرَّف! المهم أنَّه بانتهاء السهرة في منتصف الليل كنت قد خرجت بصديقين من قهوة عبد الله: زكريا الحجاوي الطيب، أمَّا الصديق الآخر فهو نفس الرجل المُعمَّم الذي عاملني بجفاء وسخر مني بفظاظة، والمهم أنَّنا صرنا صديقين إلى آخر العمر، مولانا الشيخ عبد الحميد قطامش، المحامي الشرعي، وأحد ظرفاء مصر الكبار، المغرور المَظهر، المسحوق في الواقع، أكثر المشاهير في عصرنا طيبةً وقلقًا وهمًّا وعقدًا، وأعظم دليل على أنَّ المصري يستطيع أن يصنع — برغم كل الظروف — أعظم المعجزات، ويا لها من ليلة التقيت فيها بعدد من مشاهير عصرنا، وكنت لم أزَل شابًّا في العشرين قليل العلم، ولكن كثير التجربة، شديد اليقظة، عظيم الطموح؛ ولكن طموح الفقراء — كما يقول عبد الحميد قطامش — كالفقاعات، عندما يصطدم بالواقع الأليم سُرعان ما ينفجر ولا يخلِّف وراءه إلا قروحًا وجروحًا.

•••

وإذا كان أنور المعداوي هو أعظم أبناء قهوة محمد عبد الله، فزكريا الحجاوي هو أخلص أبنائها وأعظمهم فنًّا وأشدهم تأثيرًا في الجيل الذي جاء من بعده. وعندما جذبت الصحافة زكريا ظلَّ مواظبًا على زيارة القهوة ولو لرَشْفِ فنجان القهوة على عجل، وأحيانًا كان يتلكَّأ قليلًا ليُنهي نقاشًا حادًّا بينه وبين الأصدقاء. ولكن لحُسن الحظ لم يُعمر زكريا طويلًا في بلاط صاحبة الجلالة، سرعان ما عاد إلى القهوة من جديد، وقد امتلأت نفسه مرارة من غدر الزمان وخيانة الأصدقاء! ولكن زكريا الحجاوي الذي كان يتفجَّر حيوية ويفيض نشاطًا لم يستسلم. بدأ رحلة حياة جديدة وألقى بنفسه في نهر الفن الشعبي وسبح فيه بمهارة، وربما فاضت نفسه بِشرًا عندما اكتشف أنَّه وجد نفسه، وأنَّه عثر على الطريق الصحيح! وراح زكريا الحجاوي يجوب ريف مصر، يقضي لياليه في أفقر الكفور وأصغر النجوع، خادعًا نفسه بالوقوع في قصص غرامية مع مطربات شعبيات لم يكن لهن صلة بجنس النساء إلَّا عن طريق الملابس والأسماء. وكان هذا هو رأي الأصدقاء؛ ولكن رأي زكريا كان يختلف. وعندما كانت الفرصة تسنح له بالحديث عن هؤلاء النسوة، كان يتحدَّث عنهن باحترام، وبنعومة وكأنَّه يتحدَّث عن غادة الكاميليا أو ماجدولين أو جولييت، أو بُثينة التي خلبت لُب الشاعر جميل! وما دامت المسائل كلها نسبية، فإنَّ زكريا كان صادقًا في إحساسه تجاه هؤلاء الماجدولينات، فهو في النهاية أصدق كاتب ريفي أنجبته مصر، وهو كان يعشق الأرض المصرية، وكان بينه وبين الطُّرق الزراعية علاقة غرام، وكان يهيم بأشجار النخيل، ويقف مبهورًا أمام الخُضرة الممتدة بلا نهاية في الحقول. وكان يحمل عشقًا خاصًّا لأشجار الجميز، وينشرح قلبه كلما نفذت إلى خياشيمه رائحة روث البهائم. وكثيرًا ما كان يصرخ من شدة الوجد كلما رأی فلاحة سَمهريةَ العود تتلوَّى كالأفعى وهي تخطر في الملابس السُّود! وحقَّق زكريا الحجاوي إنجازات ما كان يُمكن تحقيقها لو أنَّه استمر في عمله الصحفي. التقط ألحانًا ريفية كانت مجهولة، وصنع نجومًا في المجتمع المصري كانوا مجرد صعاليك يتسولون بالغناء. واستطاع زكريا الحجاوي أن يفرض على مصر عددًا من هؤلاء، أدهشوا مصر بفنونهم الأصيلة، وبعضهم أدهش العالم كله بعد ذلك؛ كالريس مِتقال. ولمع داخل حدود الوطن العربي محمد طه، وخضرة محمد خضر، وفاطمة سرحان، ومحمد أبو دراع، وجمالات شيحا، وأصبح زكريا الحجاوي هو شيخ الطريق والطريقة، وكان سرادقه في سيدنا الحسين خلال شهر رمضان هو التعبير الأكثر صدقًا عن التغيير الذي حدث في مصر خلال فترة الستينيات! وانتعش زكريا الحجاوي، ولكن ليس بالقدر الذي كان يجب أن يتوفَّر لفنان على هذا المستوى العظيم. أحيانًا كان يشعر بالضياع فيعود عندئذ إلى شلة الأصدقاء، وكالصوفي التائه كان يتمنى لو جاء المُخلِّص ليُعتقه من الحياة ويُخلِّصه من العذاب! ولكن هذه الحالة كانت مجرد لحظات عابرة في حياة زكريا سُرعان ما كان يتخلَّص منها ويعود إلى الدوامة من جديد، ويختفي في الريف، ولكنَّه حتَّى خلال غيبته الصغرى في ريف مصر، كان يحتفل بكل موهبة يصادفها في طريقه، ويدفع بكل ناشئ خطوات على الطريق، ويحمي كل عود أخضر من النوايا الشريرة والظروف الحمقاء! ولو أُتيحت الفرصة لزكريا الحجاوي لترك لنا ميراثًا أدبيًّا عظيمًا، ولكن هذه الفرصة لسوء الحظ، لم تُتَح له قط. كانت أعباء عائلته الكبيرة وموارده القليلة تقف حائلًا بينه وبين التفرغ للإبداع. وعندما أيقن أنَّ الفرصة قد فاتت، اكتفى بالحديث عن الكُتب التي سيؤلفها في المستقبل. ولكن حديثه اقتصر في النهاية على كتاب واحد أطلق عليه اسم «كوتشينة». وأعتقد أنَّه كان يتمنى لو تُتاح له الفرصة والوقت والإمكانيات لتأليف هذا الكتاب! وكتاب «كوتشينة» الذي كان يحلم به زكريا الحجاوي هو فصول عن شخصيات صادفها في حياته، وقد حصر الشخصيات التي كان ينوي الكتابة عنها وحدَّد أسماء الفصول أيضًا. فالذئب، عن شاعر مُعاصر شهير وعظيم، ولكن بقدر عظمة شعره كان انحطاط الشاعر نفسه، وبقدر لمعان أدبه كان سواد قلبه وخُبث نواياه. وقد عانى زكريا الحجاوي من لؤم هذا الشاعر، كما عانى آخرون من جيل زكريا لدرجة أنَّ ألمع كاتب ساخر ربما في قرننا هذا ضاع في الحياة بسبب مكائد هذا الشاعر وغدره. والعقرب، عن شاعر وكاتب شهير، شغل الناس والحياة خلال عمره، وبالرغم من طيبته كان مصدر ضرر للكثيرين. وكان لسانه كذنب العقرب يلطش الناس لَطْشَ عشواء، وكان يذبح أي صديق عزيز له إذا حبكت النكتة، وكثيرًا ما كان يندم على ما فعله، ولكن بعد فوات الأوان، فهو كالعقرب لا يعض ولكن لسانه يلدغ؛ لأنَّه هكذا وظيفته التي خُلِق لها في الحياة! والشرطي، عن أديب كان يعمل فعلًا بالشرطة، ثمَّ احترف الأدب واشتغل بالوظائف المدنية، ورفعته الظروف إلى منصب كبير كان زكريا يعمل مرءوسًا في إدارته، ولكن زكريا الفنان الذي كان يخاف الشرطة وأقسام البوليس، ظلَّ يخاف من هذا المدير كأنَّه طفل عابث يشعر بالخوف تجاه أبيه. أو كأنَّه مُواطن غير صالح يشعر بعدم الطمأنينة إذا صادف شرطيًّا في الطريق! وفي الكتاب فصول أخرى عن الطيب، والمجنون، والضائع، والموهوم، والهايف، والمزعوم! ولعلنا خسرنا عملًا إبداعيًّا عظيمًا؛ لأنَّ زكريا لم ينتهِ من تأليف هذا الكتاب، وكان كلما حثَّه أحد على الشروع في تأليف الكتاب، زعم أنَّه بدأ في التأليف بالفعل، وكان يتعلَّل بأعذار كثيرة، ولكن أهمها هو وقوف القلم في يده عند شروعه في كتابة الفصل الأخير عن الجوكر، والجوكر هو كارت الكوتشينة الذي تضعه في أي موضع فينسجم، وتستخدمه على أي نحو فتحصد من ورائه المطلوب. وكان زكريا يقصد أديبًا وشاعرًا، نصف فنان، ونصف نصاب، نصف عبقري، ونصف مجنون، وقد مارس كل شيء: القصة، والرواية، والشعر، وكتابة المقالات، والتمثيل، والإخراج، وتستطيع أن تذكره إذا كان الحديث في أي فرع من هذه الفروع، ولكنَّك أيضًا تستطيع أن تُسقطه فلا يحدُث خلل على الإطلاق!

وكان كتاب زكريا الحجاوي الثاني المُفضَّل، والذي لم يكتب حرفًا واحدًا فيه هو «البكور»، وهو عن حياته الأولى في المطرية، وتأثير بحيرة المنزلة على نفسه، وحياته مع الصيادين، وأيامه البعيدة المجيدة التي عاشها هناك. وكان يحكي عن شخصيات عظيمة صادفها في صباه. كان يذكر منهم واحدًا اسمه «عبد العزيز السودة»، وشيخًا من المُعمَّمين هو الشيخ «السنطوري»، وهو رجل نال قسطًا من التعليم في الأزهر، ولكنَّه اشتغل بفن التواشيح، وبالرغم من أنَّه لم يشتهر إلَّا أنَّه كان عالمًا بالمقامات والألحان! ولعل الوفاء كان أهم صفات زكريا الحجاوي بعد الفن. فهو لم يتخلَّ عن أصدقائه القُدامى، ولم ينسَ مراتع صباه، ولم يعشق مكانًا في العالم قدر عشقه للمطرية مسقط رأسه، وللجيزة حيث عاش بقية الحياة، ولو صادف زكريا الحجاوي ظروفًا حسنة، ولو وجد من يستخرج من داخله أصدق خصاله وأنبل مشاعره، فلربما كسبنا زعيمًا شعبيًّا مثل عبد الله النديم، ولكن لأنَّ الظروف كانت معاكسة، ونبض الحياة في مصر كان مختلًّا، فقد جاء زكريا الحجاوي نسخة من النديم ولكن بالمقلوب. وإذا كان الشعب عند النديم وسيلة والهدف هو الثورة، فإنَّ زكريا كانت لديه نفس الوسيلة، ولكن بلا هدف على الإطلاق! بالرغم من أنَّ مصر لم تُنجب في زمانه أديبًا يستطيع أن يُخاطب الفلاحين مثله، ولا خطيبًا يستطيع أن يُؤثِّر في العامة من طرازه! إلَّا أنَّ الأثر الوحيد الذي تركه زكريا في جماهيره من البسطاء لم يكن أكثر من أثر العِشرة الطيبة والذكر الحسن … وكما بدأ زكريا غريبًا في المطرية عاد غريبًا في القاهرة في نهاية المطاف! وعندما جاء أنور السادات رئيسًا لجمهورية مصر، ظنَّ زكريا الحجاوي أنَّ الحياة قد طابت له أخيرًا. فهو صديق قديم للرئيس الراحل السادات، وله عليه أيادٍ بيضاء؛ فقد اشترك في إخفائه عن أعين الشرطة في الأربعينيات، وهو أحد المصادر التي استمد منها الرئيس الراحل ثقافته. وتعبيرات السادات الشهيرة: العيب، وأخلاق القرية، والأصول والقيم، وديوان المظالم، والتصحيح. كلها من وضع زكريا الحجاوي! ولكن زكريا الحجاوي فوجئ بمنع إذاعة أعماله الفنية من الإذاعة بقسوة، ثمَّ فوجئ بفصله من وظيفته بخشونة! ولأنَّ المصائب لا تجيء فُرادى، فقد انهار المنزل الذي يسكن فيه، ولم يستطع — رغم كل الجهود التي بذلها — العثور على مسكن آخر. وربما أدرك زكريا الحجاوي عندئذ أنَّ زمانه قد ولَّى وأنَّ نهايته قد حانت، واضطر مرغمًا إلى مغادرة مصر ليجد في الدوحة على شاطئ الخليج ملجأً أمينًا. وربما ضاعف من سروره وجود الطيب صالح هناك وفي منصب يُشرف فيه على العمل الذي يؤديه الحجاوي. ولكن قلب زكريا الحجاوي لم يحتمل الابتعاد عن مصر، ورئتيه لم تتعودا هواءً غير هواء النيل، فانفجر قلبه فجأة تحت ضغط نفسي هائل. وعاش مريضًا عدة أشهر على شاطئ الخليج، ولكنَّه لم يتوقَّف عن كتابة الرسائل لأصدقائه. وفي آخر رسالة كتبها للعبد لله يقول: لم تتغيَّر مصر يا محمود، ولكن الذي تغير هم ناسها، أو بمعنى أصح، الذين تغيروا هم بعض الناس الذين يطفون على السطح، والذين يتمتَّعون بألف وجه، وهم يُقدِّمون وجهًا لعبد الناصر، ووجهًا آخر للسادات، ولو ضربة حظ أصابتك يومًا وأصبحت مهمًّا في مصر فإنَّ هؤلاء الناس أنفسهم سيرتدون وجهًا ثالثًا لك، وسيكتشفون عندئذ كم ساهم «بُرعي السعدني»، جدك في حضارة مصر الحديثة، ولأنَّني صديقك سيكتشفون أيضًا كم ساهمَت «بَهَانة الحجاوي» — يرحمها الله — مع برعي السعدني جدك في صد الغزو الصليبي عن مصر!

وبعدها بأيام أغمض عينيه وأسلم الروح … بعيدًا جدًّا عن أرض مصر!

وهكذا مات، أخلص أبناء قهوة محمد عبد الله، وأعظمهم فنًّا، وأكثرهم تأثيرًا في الأجيال التي جاءت من بعده، فنان الشعب … زكريا الحجاوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤