رحلة بلا متاع!

لم ألتقِ بمحمد عودة في مقهى محمد عبد الله، ولكنِّي قابلته صدفة في مقهى آخر يقع وسط مدينة القاهرة، هو مقهى «إيزافتش» الذي كان يطل على ميدان الإسماعيلية «التحرير فيما بعد»، وكان يملكه يوغوسلافي مهاجر، فر من يوغوسلافيا، واختار القاهرة منفى له. وأسَّس محلًّا أنيقًا للغاية، واستخدم عُمَّالًا من الأجانب؛ قبارصة ويونانيين، ولكن الرجل اليوغوسلافي — وهنا العجب — قَصَر نشاط محله على بيع الفول المدمس أشهر طعام شعبي في مصر، واجتذب هذا المحل الأنيق — الذي يسبح في جو أوروبي ويبيع طعامًا شعبيًّا — فئة من المثقفين المصريين الذين تعلَّموا في الغرب ولم تنقطع جذورهم الضاربة في أرض مصر!

وكان محمد عودة واحدًا من هؤلاء الذين اختاروا من «إیزافتش» محلًّا مختارًا لهم، يجتمع بالأصدقاء، ويُدير المناقشات ويدخل في معارك نظرية، ويقرأ جانبًا من عشرات الكتب التي كان يحملها دائمًا بين يديه. ولعل اختيار محمد عودة لمقهى «إیزافتش» يرجع إلى الصفات المشتركة بين الرجل والمقهى، فمحمد عودة واحد من المثقفين المصريين الذين سبحوا في علوم الغرب، وأغلب قراءاته باللغتين الفرنسية والإنجليزية، ومع ذلك لم يبحر محمد عودة بعيدًا عن شواطئ مصر، ولم تنقطع خيوطه بقاع المجتمع، في الحارة وفي القرية، بالرغم من أنَّه كان يعيش في وسط القاهرة وفي أرقى أحيائها، وينزل في بنسيوناتها وفنادقها الصغيرة.

كان صورة مصغرة من قهوة إيزافتش، ديكور أفرنجي، وخدمة أجنبية، وطعام مصري عربي أصيل.

كان يتوافد على مقهى «إيزافتش» في تلك الأيام مجموعة من المثقفين المصريين قرءوا قشورًا في الثقافة، وسبحوا في مجارٍ ثقافية ضحلة، واستخدموا شعارات وتعبيرات وعبارات أفرنجية، وارتاحوا إلى ما وصلوا إليه، ورضوا عن أنفسهم واكتفوا بمشاهدة الحياة في مصر من فوق رصيف مقهى «إيزافتش» ثمَّ الدخول في مناقشات عقيمة حول نظريات لا علاقة لها بواقع شعب مصر. لذلك كان الخلاف محتدمًا ومستمرًّا بين جبهة المثقفين إيَّاهم وبين محمد عودة، وكان هذا مدخلي إلى محمد عودة. فذات صباح، احتدمت المناقشة بين محمد عودة وشلة المثقفين إيَّاهم، وكان الحديث حول أم كلثوم وفنها، وتأثيرها على وجدان الشعب المصري، وأثرها في حالة الغيبوبة التي كان يعيشها شعب مصر في ظل حكومة باطشة وسفارة بريطانية حاكمة. كان رأي المثقفين إيَّاهم، أنَّ أم كلثوم هي السبب في كل ما يُعاني منه شعب مصر، فهي ترسم لهم بأغانيها واقعًا مخمليًّا لا صلة له بالواقع البائس الذي يعيش فيه، ووصفوها بأنَّها «أفيون» لتخدير شعب مصر ولتمكين عصابة المستفيدين من دمه، وكان رأي محمد عودة أنَّ هذه مبالغة لا أساس لها في الواقع، وأنَّه حكم سهل توصلوا إليه لإراحة أنفسهم من دراسة المشاكل الحقيقية والأسباب الرئيسية في تعاسة شعب مصر.

وانضممتُ في المناقشة إلى رأي محمد عودة؛ ولكنَّهم تغلَّبوا علينا بالزعيق واستخدام الشعارات والاستشهاد بأقوال من هنا وهناك. وينطقونها بلغتها الأصلية ويخلطونها بكلمات عربية.

واقتربت من محمد عودة أكثر عندما وصف شلة المثقفين إيَّاهم بأنَّهم جهلة. وكان ذلك الوصف من محمد عودة كافيًا لتغيير فكرتي عن شلة إيزافتش.

شلة المثقفين

وأحببت محمد عودة أكثر عندما عرضت عليه إنتاجًا لي فقرأه باهتمام وأبدى إعجابًا شديدًا بما قرأه، على عكس سلوك شلة «إيزافتش» عندما عرضت عليهم شيئًا من إنتاجي، فقد ألقوا نظرة خاطفة على ما كتبت، ولم يوجه لي أحدهم كلمة ثناء أو كلمة نقد، وانشغلوا عني بمناقشة قضايا العصر التي تبدأ من المشكلات التي خلفتها الحرب العالمية الثانية والأخطار المحدقة بالعصر النووي، وتنتهي دائمًا بمناقشة سلوك «مخالي» جرسون مقهى إيزافتش، وموقفه الغريب لإصراره على تقاضي حساب الطلبات من شلة المثقفين قبل أن يُغادروا المقهى! ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلتي وراء محمد عودة، في الصباح عبر شوارع القاهرة الأنيقة، ومساءً عبر حواري وأزقة القاهرة المُعِزِّية، وكانت تنتابه حالة من النشوة وهو يجوب أزقة حي الجمالية وسوق السلاح في القلعة.

وكنت أتخيَّله في تلك الجولات واحدًا من المماليك الذين يحيطون بالسلطان المظفر، وأحيانًا أتخيَّله فلَّاحًا هاربًا من قريته إلى أزقة مصر هربًا مِن تحكم الملتزم وسياطه. كان يبدو كأنَّه قطعة من جسم الماضي انفصلت فجأة وسقطت في عصرنا، وهكذا كان محمد عودة، حرب طاحنة بين ما يعرفه وما يمارسه، بين أحلامه التي يُحلِّق بها وواقعه الذي يزحف فيه، بين طاقاته الذهنية وإمكانياته المادية، بين العصور التي يحيا فيها بخياله والبنسيون الذي ينزل فيه! ومن خلال محمد عودة تعرَّفت إلى عصور مصر الوسيطة ومماليكها العظام، وقادتها الفاتحين، وسلاطينها المستبدين، وحُكَّامها الذين نصبوا المشانق، ودقوا الخوازيق، وفرضوا المكوس والرسوم، وشربوا من دم الفلاحين وأكلوا من لحومهم!

وكما «جرجرني» محمد عودة إلى حواري مصر المملوكية «جرجرته» أنا الآخر إلى قهوة محمد عبد الله، واكتشفت أنَّه على علاقة بالكل، وأنَّه قرأ لزكريا الحجاوي، وأنور المعداوي، وعبد القادر القط، وأنَّه يعرف قدرات كل منهم ويعرف مواطن القوة والضعف لكل واحد من أعضاء الشلة. ولكنَّه كان أقرب في مزاجه وتكوينه إلى زكريا الحجاوي. وكان اختياره لزكريا الحجاوي هو اختياره لصف الصعاليك وأبناء الطريق الذين استطاعوا أن يقهروا كل الظروف ليصنعوا على مدى تاريخ مصر عبقريات أضاءت وسط الظلام والعفن والفساد. بدأ محمد عودة مترددًا ليلًا على قهوة محمد عبد الله، ولم يكن يحضر وحده، بل كان يحضر ومعه شلة من الشباب: محررون يحاولون العمل في دور الصحف، وشعراء يحاولون نظم الحرف، وكُتَّاب قصة يحاولون رسم هياكل لعوالم عاشوها أو شاهدوها أو حلموا بها يومًا ما.

كان بعضهم موهوبًا، وأغلبهم عديم الموهبة، وكان بعضهم خفيف الدم، وبعضهم ثقيلًا لا تُطيق الأرض حمله على ظهرها، ومع ذلك كان عودة يحتضن الكل ويرعى الجميع، وكان بمثابة الأب الروحي، وكان لا يكتفي بفتح الأبواب لهم، ولكنَّه يُتابع مسيرتهم، ليس بالنفوذ؛ فلم يكن له نفوذ على الإطلاق، ولا بالنقود؛ فلم يكن يحمل نقودًا على الإطلاق، ولم يكن يملك منها شيئًا، ولكن بالنقد والتشجيع، وكنت أعجب كثيرًا لهذا السلوك من جانب محمد عودة، لأنَّني كنت الوحيد من أفراد الشلة الذي يعلم ظروف محمد عودة على وجه التحديد. ففي تلك السنوات الأولى من حقبة الأربعينيات كان يسكن في بنسيونات من الدرجة الثالثة وسط القاهرة، وكان يختار بالذات تلك البنسيونات التي تملكها أرامل أجنبيات اضطرتهن الظروف إلى تحويل شققهن إلى بنسيونات لمواجهة أعباء الحياة. ولكن الصحافة في مصر في تلك الأيام كان اعتمادها على أقلام بعض النجوم، بينما ينسحق في قاع المهنة مئات من الموهوبين والمثقفين وأصحاب الأحلام والآمال، ولقد شمل هذا القانون محمد عودة كما شمل الآخرين، ولذلك كان يضطر أحيانًا إلى الانتقال من بنسيون إلى آخر، أحيانًا في وضح النهار وغالبًا في جنح الليل ومن الأبواب الخلفية.

رحلتي العجيبة

في تلك الغزوات كان عودة يختار العبد لله لمساعدته في عملية الهروب من بنسيون لآخر، وكانت مهمتي تنحصر في إخلاء الغرفة من الكتب، وكانت عملية إخلاء الكتب وحدها تستغرق أسبوعًا كاملًا، فقد كانت الكتب هي كل ثروته في الحياة. وكانت مجرد صدفة بحتة أنَّني عثرت على كتاب من كتب عودة أثناء عملية من عمليات النقل، هذا الكتاب هو «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس، وقرَّرت أن أستعيره من عودة دون أن أُخبره، ولزمت بيتي أسبوعًا مع بدائع الزهور، وعشت مع الرحلة العجيبة التي عاشتها مصر في عصور سابقة، من السلطان برقوق إلى المملوك حمص أخضر، وشمخت بأنفي في حروب النصر، وطأطأت رأسي في معارك الهزيمة، ووددت لو انحنيت أمام السلطان قطز اعترافًا بفضله في إبادة جنس التتار من على ظهر الأرض، وأمام الملك الظاهر بيبرس البطل الذي جعل مصر منارة وحوَّلها إلى قلعة، وتمنَّيت لو كنت طبيبًا لأقوم بتشريح قلب وعقل الزيني بركات الذي اشتغل مع عشرة حُكَّام، وجلس يُصدر الأوامر والنواهي من نفس الديوان في خدمة عشرة عهود، وكان دائمًا مع المملوك الحاكم وموظفًا سابقًا في خدمة المملوك السابق، وعلى رأس حكومة المملوك الآتي!

وكان هذا الكتاب هو بابي إلى رحاب مصر المملوكية، ومن بعده توغَّلت في أزقتها، وحواريها وقصورها، وساحاتها، وكانت مكتبة محمد عودة المتنقلة من بنسيون لآخر هي زادي الذي تسلَّحت به في رحلتي الطويلة الحافلة بالأسرار والحكايات والأعاجيب.

وذات مساء، غادرت مقهى محمد عبد الله مع محمد عودة في رحلة قصيرة إلى حي الدقي الفاخر، باعتبار ما كان في تلك الأيام، كانت بالنسبة للعبد لله سهرة إلى مجهول. وعندما دخلت القصر الذي سنقضي السهرة فيه، أحسست برجفة وانتابتني قشعريرة، فلم يكن قد سبق لي الدخول في مكان مثل هذا من قبل. قصر من القصور التي تظهر عادة في السينما، تحوطه حديقة مترامية الأطراف، أشجار النخيل عالية ومتناسقة، كأنَّها صف من الجنود اختير بعناية لاستقبال عظيم، ورائحة الورد تعبق في الجو، والأضواء التي تتلألأ من داخل القصر تُضفي على الجو كله مزيدًا من الفخامة والإبهار، وفكَّرت في الانسحاب واعتذرت لمحمد عودة بحجج واهية، ولكنَّه أصرَّ على اصطحابي إلى داخل القصر، وبثَّ في نفسي الشجاعة، وكسر الحاجز النفسي الذي كان يفصل بيني وبين هذا الجو الجديد. وعندما خطوت الخطوة الأولى داخل القصر، اكتشفت عالمًا آخر لم أُشاهده من قبل، عالمًا من الراحة والرفاهية والثقافة والموسيقى، عالمًا غريبًا خلا من العُقد ومشاكل الحياة اليومية، عالمًا كنت محتاجًا إليه لأعرف بالضبط ما يدور على الشاطئ الآخر من الحياة. ولكن ما دار داخل القصر تلك الليلة كان أغرب من الحقيقة ومن الخيال.

حالات تستحق التشجيع

كان القصر الذي دخلناه آية في الترف والأناقة والجمال، ولم أكن قد رأيت قصرًا مثل هذا قط، ولم يكن في القصر سوى سيدتين ألمانيتين في الخمسين من عمرهما، وإن كان يبدو عليهما أنَّهما في الأربعين. وقد سهرت تلك الليلة سهرة ممتعة استمعت فيها إلى موسيقى بتهوفن وباخ، وقد تبادلنا العزف على البيانو بينما كانت الأنوار الخافتة تُضفي جوًّا ساحرًا على المكان.

وتناولنا عشاءً شهيًّا، وكان الحديث يدور بالفرنسية التي لا أعرفها، واضطرت إحداهما إلى التحدث معي بإنجليزية ركيكة، ولكنَّها اضطرت إلى استعمالها مجاملة للعبد لله الذي كان يجلس أثناء الحديث كثور الله في برسيمه!

كنت في الثانية والعشرين من عمري، وكنت خجولًا بالرغم من طموحي واقتحامي، وقد نغَّص عليَّ خجلي تلك الليلة الرائعة، والسبب أنَّ هندامي لم يكن لائقًا وحذائي لم يكن نظيفًا، وتصوَّرت طوال السهرة أنَّ السيدتين تُحدِّقان في ملابسي وتشمئزان من منظري، وعندما صارحت محمد عودة بعد السهرة بحقيقة إحساسي، نظر نحوي باندهاش، وأكَّد لي أنَّهما سُرَّتا جدًّا لوجودي وأنَّهما لم تلتفتا إلى شيء مِمَّا أُعانيه، وأنَّ هذا النوع من الناس لا يستوقفه منظر الإنسان ولا هندامه، وأنَّ الأوروبيين خصوصًا لا يُقيمون وزنًا لمثل هذه التفاهات التي تتحكَّم في حياتنا وفي مصيرنا أيضًا في شرقنا السعيد!

وشحنتني كلمات عودة بثقة زائدة، ولذلك كانت السهرات المتتالية ممتعة للعبد لله، وقد تخلَّيت عن خوفي وخجلي، واندمجت في الجو الجديد الذي قادني إليه محمد عودة. ولم أكن أنا وحدي الذي يختصه عودة بهذه السهرات التي تفتح أمام الشخص المبتدئ آفاقًا جديدة … كان يصطحب معه في سهرات أخرى آخرين لهم نفس الظروف، كان أحدهم شابًّا ريفيًّا ساذجًا، وكان عندما يُصاب بنزلة برد، يلف حول رقبته منديل جيب أبيض مبللًا بالماء — عادة من عادات البيئة التي جاء منها الأديب الريفي إيَّاه — وكان العبد لله دائم السخرية من الأديب الريفي الشاب وبطريقته الخاصة التي يتناول بها الأشياء والحياة. وكان محمد عودة على العكس، يرى في كل محاولة حالة تستحق التشجيع وبذرة تستحق الرعاية.

ولعل من أجل هؤلاء الشبان الذين يتزاحمون على أبواب الصحف، ويقفون في طوابير أمام الحياة الأدبية ينتهزون فرصة ويتشبثون بأمل، لعل بسبب هؤلاء كان محمد عودة مرفوضًا عند أغلب أدباء الجيل الكبار، فما من مرة دُعِيَ إلى منزل أحدهم إلَّا واصطحب معه عددًا من هؤلاء الشبان. وكان بعضهم — كما قلت — ثقيل الظل، ولم ينقطع عودة عن تلك العادة حتَّى الآن.

ما بعد الهزيمة

وعندما قامت حرب فلسطين تحمَّس لها عودة بشكل خاص، كان يرى أنَّ الحركة الصهيونية هي امتداد لكراهية أوروبا — ومن بعدها أمريكا — للشرق العربي. عندما انتهت الحرب بهزيمة الجيوش العربية أُصيب عودة بخيبة أمل، وأعلن رفضه لكل شيء وأي شيء. كان مؤمنًا بضرورة التغيير وحتميته أيضًا، وكان مؤمنًا بحزب الوفد، ولكنَّه كان يائسًا من استطاعة حزب الأغلبية القيام بأي عمل حقيقي لقلب الأوضاع في مصر لصالح الناس، كان يرى أنَّ حزب الوفد قد ترهَّل، وأنَّ الأجنحة المُتصارعة داخله قد انتهت بهزيمة الأجنحة الشابة وانتصار جناح الكبار وأبناء العُمد والبيوتات العريقة في ريف مصر. وكان من رأيه في تلك الأيام أنَّ المثقفين قد انفصلوا عن واقع الحياة في مصر، وعاشوا في بروج عالية وانهمكوا في مناقشة نظريات لها وجود في الكتب، وإن لم يكن لها وجود في حياة الناس.

وكان يرى أن الوقت قد حان لحسم الأمور لصالح الطبقات الفقيرة والمجهدة، ولكن كيف؟ كان عودة يُردِّد في حيرة دائمًا: سيحدث التغيير حتمًا، ولكن كيف ومتى؟ هذا هو السؤال.

وفجأة اختفى محمد عودة من القاهرة، ومن مصر كلها، طار إلى الهند ليعمل هناك وغاب فترة طويلة، وعندما عاد كان كل شيء قد تغيَّر في مصر وفي عودة أيضًا!

كان في مصر نظام جديد بقيادة مجموعة من ضباط الجيش، وطنيون بالتأكيد، وإن كانت السُّبل التي يسلكونها غير واضحة المعالم، ولكن عودة كان مُتفائلًا بالتغيير، وكان يرى أنَّ أبواب مصر قد انفتحت على آفاق لا يعلم مداها إلَّا علَّام الغيوب، ولكنَّها حتمًا ستتطور وتنتهي إلى صالح الجماهير.

ولكن فجأة حدث لعودة ما حدث لكل المثقفين الوطنيين الذي أيدوا الثورة على بدايتها بالقلب وليس بالتقارير، وكان اختلاف الضباط في القمة وصراع السلطة الذي نشب بينهم منذ أول يوم، كان قد فتح بابًا أمام تسلل عناصر تزحف كالدود، وتفح كالأفاعي، وسيطرت هذه العناصر على معظم ضباط القيادة، وأصبح الشعار: من ليس معي، فهو ضدي. وألقي القبض على عودة في أزمة مارس ١٩٥٤م، وغاب شهورًا في السجن، وعندما عاد، كان شديد القرف من كل شيء، شديد القلق بالنسبة للمستقبل، ولكنَّه لم يُغيِّر عاداته قط، الطواف بشوارع القاهرة نهارًا، والتسكع في أزقتها ليلًا، والتهام الكتب التي بين يديه، وتوزيع عطفه وحنانه على كل الذين يصارعون على بداية الطريق.

موقف وموقف

وفي عدوان عام ١٩٥٦م، كان محمد عودة معي في بيروت. والحق أقول: إنَّه الوحيد بين الجميع الذين كانوا هناك، الذي لم تخطئ بوصلته هدفها قط، أعلن منذ أول لحظة وقوفه إلى جانب عبد الناصر وثورة مصر، وكان يرى أنَّ الغزو الفرنسي البريطاني سينتهي بدحره، وأنَّ عهد كرومر قد ولى، وأنَّ عصرًا جديدًا قد أشرق على العالم، وأنَّ ثورة مصر كانت الناقوس الذي دقَّ إيذانًا ببدء العصر الجديد. وراح يكتب في الصحف ويناقش في الاجتماعات، وعندما أصدرنا جريدة الجمهورية «طبعة بيروت» لم ينقطع يومًا عن الكتابة، ولم ينقطع يومًا عن الحضور، ولم يفتر حماسُه، في وقت تردَّد فيه آخرون انتظارًا لظهور نتيجة المعركة. لم يكن أحد منَّا يتقاضى أجرًا، ولم نكن نجد ما نأكله أحيانًا، وكنَّا نتقاسم السيجارة أغلب الوقت. وكان في بيروت وقتئذٍ كاتب مصري جهير الصوت، شهير الاسم، إلى جانب عمله كأستاذ بجامعة القاهرة، وكان ينزل في فندق فخيم، ويعيش عيشة السُّواح، وعندما طلبنا منه مقالة ضد الغزو، اعتذر بأنَّه مريض ولا يقدر على الكتابة، ولكن عندما انتهت المعركة لصالح مصر، أرسل إلينا مقالًا من نار ضد الاستعمار، ومقالًا آخر كله نفاق عن بطولة عبد الناصر ورفاقه، ولم ينسَ أن يؤكِّد للقراء ثقته المطلقة في انتصار ثورة مصر. أغرب شيء أنَّنا عندما عدنا إلى القاهرة بقي محمد عودة في الظل، وارتفع الآخر على رأس الموكب، وسافر على رأس وفد مصري في مهمة وطنية في بلاد العالم! وعندما جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن في عام ١٩٥٩م كان عودة موضع هجوم شديد من بعض التنظيمات السياسية؛ لأنَّه لم يذهب معهم إلى السجن، ورموه بكل تهمة، واتهموه بكل نقيصة، وبالرغم من ذلك، ظلَّ خط عودة هو الخط الوحيد الصحيح، هكذا برهنت الأيام بعد ذلك، وبينما أثرى عشرات من الذين هاجموه وركبوا الموجة واحترفوا الهتاف، ظلَّ عودة يكتب ويقرأ، ويسحب وراءه جيشًا من المواهب الجديدة، مُقتحمًا بهم السهرات والعزومات ماسحًا على جراحهم، مُشجعًا إيَّاهم بكلماته المتفائلة وثقته الزائدة بنضارة المستقبل، وبالرغم من كل شيء.

درة ثمينة

كان عودة قد أحدث دويًّا في مصر بكتاب صغير الحجم كبير القيمة عن الصين، وكان بحق نموذجًا في فن الكتابة السياسية، كما كان درسًا في كيفية تحويل السياسة إلى أشعار، كان مستوًى رائعًا لأول مرة في العربية، كان في مستوى ما كتبه ستيفان زفايج وإميل لودفج، وقد بهر الكتاب الجميع، اليمين واليسار والوسط، وكان كل ما تقاضاه عودة عن هذا الكتاب ثلاثين جنيهًا مصريًّا والشهرة والذِّكر الحسن! وطبعًا نُشِر من الكتاب عدة طبعات، وبالرغم من أنَّ عودة أصدر كُتبًا عديدة بعد ذلك، إلَّا أنَّ كتابه الأول عن الصين ظلَّ هو درته الثمينة، وبالرغم من نقائه وإخلاصه وبراءته التي تشبه براءة الأطفال، إلَّا أنَّه لم يصل حتَّى في المهنة التي احترفها طويلًا وعانى بسببها كثيرًا، وكان مؤهلًا لها أحسن تأهيل ومُسلَّحًا لها بكل الأسلحة، لم يصل فيها إلى بعض ما وصل إليه تلاميذه والذين تعلَّموا على يديه.

ملحمة ومأساة

أذكر في العام ١٩٦٧م أنَّني ذهبت لمقابلة أحد المسئولين ورشحت محمد عودة لتولي منصب رئيس تحرير جريدة لم تكن منتشرة ولم تكن مؤثرة، وارتسمت على وجه المسئول علامة لم أفهم مغزاها، وتساءل في دهشة ممزوجة بالاستنكار «محمد عودة؟!» ورحت أستعرض تاريخ عودة وأُعدِّد مآثره، وفي النهاية اكتفى بأن هزَّ رأسه ولم يقطع بشيء. وبعد هذا اللقاء بأيام اختير صحفي باهت اللون والطعم ممسوح الاتجاه، لم يكن يعرفه أحد في مصر خارج دائرة أسرته، اختير رئيسًا لتحرير الجريدة، وبقي متربعًا على قبرها ست سنوات طوال، والسبب أنَّ محمد عودة كان يعقد صِلاته بالناس «اللي تحت»، وكان عَزوفًا عن الاتصال بالناس «اللي فوق»، لم يكن من شلة أحد، ولم تقع عيني عليه في حفل رسمي، ولم أشاهده قط في مكتب مسئول، ليس ترفعًا من عودة أو استنكارًا أو خصامًا، ولكن هذه هي طبيعته، يختنق من الأماكن الرسمية، ويضيق بالخطوات المنضبطة، ويكره الانتظام في صف. وإذا كان هو الكاتب الوحيد الذي لم يتربَّع على منصب في عصر عبد الناصر، ولم ينمُ اجتماعيًّا إلَّا بالقدر الطبيعي والمرسوم، فما حدث له بعد وفاة عبد الناصر يصلح ملحمةً تحتاج إلى شاعر شعبي ومطربة شعبية ليطُوفا بها في الأسواق، وليقُصا أحداثها على مسامع الفلاحين في الحقول، وهي الملحمة التي انتهت بمأساة ونزول عودة ضيفًا على السجن وهو في سن المعاش، ولكن تلك الأيام التي قضاها محمد عودة في مصر بعد وفاة عبد الناصر وحتَّى لحظة دخوله السجن، كانت هي أكثر أيامه حركة وأشدها حرارة، وأغزرها إنتاجًا، وأثقلها مصائب، وأعنفها أحداثًا، ولكنَّه ظلَّ متشبثًا بالأرض، لم يُفكِّر مرة واحدة في أن يُغادرها إلى الخارج، واعتصم بالله والوطن وبأهله من أبناء الشعب.

•••

عندما رحل جمال عبد الناصر، كان محمد عودة قد بلغ الثانية والخمسين، وفي المهنة التي احترفها — مهنة الصحافة — كان موقعه، بعد رحلة شاقة طويلة ومضنية، مجرد مُحرِّر سياسي في إحدى الجرائد اليومية. وكان مُرتَّبه لم يصل بعد إلى مُرتَّب زملائه في المهنة، أو مُرتَّب بعض تلاميذه، لم يصل قط إلى منصب رئيس التحرير أو منصب رئيس مجلس الإدارة، مع أنَّه كان أشد الجميع حُبًّا لعبد الناصر وأكثرهم حماسًا له. وكانت كل ثروته في الحياة خمسة كتب من تأليفه، وشقة متواضعة في عمارة من عمارات الأوقاف في حي الدقي، وسيارة فيات صغيرة اضطر إلى بيعها بعد ذلك عندما فشل في استعمالها لعدم قدرته على قيادة السيارة في بحر زحام القاهرة الرهيب، وبالرغم من المحاولات لاستمالة محمد عودة، إلَّا أنَّه لم يتخلَّ أبدًا عمَّا يعتقده، ولم يكتب حرفًا ضد قناعاته، وخاض حربًا ضروسًا بقلمه ضد كل الذين حاولوا وعملوا وساهموا في تلطيخ المرحلة الناصرية في وحل العار.

ولكن مأساة محمد عودة الحقيقية أنَّه كان يحارب من استفادوا من تلك الفترة والتفوا حول موائدها، وكان عودة هو الوحيد الذي خرج من المولد بلا حمص، ولم يخرج من العهد الناصري إلَّا بأمجاده وذكرياته، بينما خرج الآخرون بالمكاسب والمغانم. وكانوا خمسة أو ستة من الكُتَّاب المصريين الذين بقوا في مصر وتشبثوا بمبادئهم، وكان محمد عودة أكثرهم تشبثًا وأقلهم ظهورًا، وعندما رفع كُتَّاب مصر وأدباؤها عريضة إلى رأس الدولة يستنكرون فيها حالة اللاسلم واللاحرب، ودعَوا فيها إلى حسم الموقف، والوقوف بصلابة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، وطالبوا بضرورة تحقيق مطالب الشعب والانحياز إلى صف الغالبية العظمى من الفقراء ورفع المعاناة عنهم، كان محمد عودة واحدًا من المُوقِّعين على العريضة، وكان واحدًا من الذين عصفت بهم قرارات السلطة، فنقلتهم من دور الصحف إلى إدارات حكومية وشركات القطاع العام.

وعندما عادت الأمور إلى وضعها الطبيعي بعد حرب أكتوبر، اشتعل محمد عودة حماسًا للمصري العادي الذي استطاع أن يقهر الصعب، وأن يصنع المستحيل ويعبر قناة السويس ويدك حصون خط بارليف.

ولكن الأمور سارت بعد ذلك في عكس الاتجاه الذي كان يحلم به عودة، انقسم المجتمع المصري إلى قسمين: الذين عَبروا، والذين هَبروا.

وفي هذا الجو المتوتر آثر أحمد بهاء الدين أن يُهاجر إلى الكويت، وهرب عشرات من الكُتَّاب المصريين إلى بلاد عربية أو أوروبية، وهرب محمد عودة ولكن إلى داخل مصر. انكفأ على كتبه يلتهمها، وعكف على تأليف عدة كتب صدرت تباعًا، كانت بمثابة بصيص من النور وسط الظلام الدامس، واختار الاستقلال التام وسط التيارات المتصارعة، والحياد وسط صراع الأنظمة العربية، ورفع شعار العروبة دون انضواء وبغير انحياز. وتفرَّغ محمد عودة لكتبه، وأدار ظهره لمجتمع العمولات والمكافآت والصفقات والمشروعات، ولكن هذا المجتمع نفسه أبَى أن يتركه. وعندما عصفت بمصر قرارات سبتمبر ١٩٨١م كان محمد عودة ضمن الذين أُلقي القبض عليهم، وكانت التهمة الموجهة إليه: التجسس، والقضية التي تضمه اسمها: التفاحة، وكانت تهمته أنَّه اجتمع مع عبد السلام الزيَّات نائب رئيس الوزراء السابق.

وعندما دخل محمد عودة السجن كان قد بلغ عامه الثاني والستين، وفي بلاد أخرى يُكرَّم الكُتَّاب والأدباء الذين يبلغون هذه السن، وتُقدَّم لهم الجوائز والعطايا، امتنانًا وشكرًا لهم على ما قدَّموه خلال حياتهم الطويلة، ولكن نصيب محمد عودة كان مائة يوم في السجن واتهام حقير بالتجسس، وهو العاشق الذي تدله حبًّا في مصر، وهو الشاعر الذي تغنى بكل ذرة تراب في أرضنا، وهو الكاتب الذي كان مداده عَرَق الناس وزحام الطريق ومعاناة الأغلبية الساحقة. وبعد ٦ أكتوبر ١٩٨١م قُدِّر لمصر أن تعود إلى الطريق الصحيح، وقُدِّر لمحمد عودة أن يُغادر سجنه بعد ذلك … خرج بلا مساءلة وبلا محاكمة، خرج لأنَّ التهمة كانت مُلفَّقة، وخرج لأنَّ المتآمرين بعضهم انتقل إلى رحمة الله وبعضهم انتقل إلى سجون الدولة، وبعضهم فرَّ هاربًا خارج البلاد.

وعاد محمد عودة هذه المرة ليُنقِّب في تاريخ مصر عن أعظم أيامها وأخلد معاركها، ورسم لنا وللأجيال القادمة صورة زاهية الألوان عن الفلَّاح عُرابي، والشركسي الوطني محمود سامي البارودي، وعن اللورد الوقح كرومر، وعن الصايع الخالد عبد الله النديم. وكان كتابه «سبعة بشوات» بمثابة تاريخ جديد لمصر المعاصرة، ووجهة نظر فلاح مصري مُثقَّف في فترة هي بحق من أعجب وأغرب وأخصب فترات تاريخها على المدى الطويل … وإذا كانت الأيام قد زحفت بعودة إلى الشيخوخة، فهو أقرب الشيوخ في مصر إلى الشباب، أقربُ إليهم بفكره وبموقفه، ويتندر بعض الناس في مصر ويتداولون مقولة: «إذا أردت أن تعرف الاتجاه الصحيح، فاعرف أولًا أين يقف محمد عودة» فهو بالرغم من اضطراب بحر السياسة المصرية وصخب أمواجها، وشدة أعاصيرها وعواصفها، إلَّا أنَّ بوصلته لم تُخطئ الاتجاه الصحيح قط، وسفينته لم تُخطئ الميناء المنشود.

وإذا كان محمد عودة هو واحد من الكُتَّاب الموهوبين، وخبيرٌ من خبراء السياسة العربية المعدودين، ونجم من نجوم الصحافة والكتابة السياسية، إلَّا أنَّه لم يظهر قط في حديث تليفزيوني، ولم يُدْعَ مرة واحدة إلى برنامج إذاعي، وليس عضوًا في المجالس المتخصصة، وحتَّى طلب الانضمام إلى اتحاد الكتاب رفضوه وطالبوه بأن يُقدِّم لهم ما يُثبت أنَّه كاتب، وأغرب شيء أنَّ الذين طالبوه بإبراز هويته الأدبية هم أُدباء وكُتَّاب من أمثال سعد حبلص، وسيد المناويشي، والأستاذ الكبير أحمد أبو دراع. إنَّها مأساة ولكنَّها ليست مأساة عودة وحده، بل مأساة الكثيرين من أمثال محمد عودة، وإن كان هو نفسه يشعر بأنَّها ليست مأساة إذا قيست بمأساة الوطن كله. والوطن عند محمد عودة هو امتداد الأرض العربية من الخليج إلى المحيط، فهو عروبي أصيل بلا ادعاء وبلا ثمن، وهو لذلك جاب أرض العرب على قدميه، وجاس خلالها من قرية إلى قرية، من وجدة في المغرب إلى الحُدَيدة في اليمن، وله في كل مكان من الأرض العربية أصدقاء وتلاميذ، ولديه مقدرة على الحياة في أي بقعة من أرض العرب أسابيع طويلة دون أن يحمل زادًا أو نقودًا، ودون أن يحتاج إلى استضافة رسمية من الدولة التي يوجد على أرضها، فهو قادر دائمًا على إيجاد أصدقاء، وقادر دائمًا على خلق جو من حوله، وقادر أيضًا على اكتشاف مواهب جديدة، بالرغم من طبقات الصدأ والتراب.

وإذا كان محمد عودة قد خرج من المرحلة الناصرية بلا مغانم، فقد خرج بإيمان لا حد له بأنَّ عبد الناصر كان ضرورة، وبالنسبة للعروبة كان أملًا ومنارًا، وأنَّ طريق عبد الناصر هو الطريق السليم، وحلول عبد الناصر هي الحلول الصحيحة. ولقد حمل على رأسه خلال السنوات العشر الأخيرة تراث عبد الناصر وتعاليمه وطاف بها في الأسواق، وبالرغم مِن تنكر الأصدقاء وتناقص الأنصار، وهروب المريدين، وكثرة المستفيدين، وزحام الأرزقية، إلَّا أنَّه ظلَّ مُتمسِّكًا بالطريق، مُحافظًا على الطريقة مع عدد صغير من المريدين والأنصار، ومن المؤكد أنَّه سيظل على الطريق والطريقة حتَّى لو بقي وحده.

ويبقى بعد ذلك، أنَّ عودة عاش في جيل واحد مع توفيق عبد الحي، وعصمت السادات، ورشاد عثمان. وبينما هَبر توفيق عبد الحي كنوز مصر الذهبية بدون موهبة وبلا علم، اكتفى عودة بالحصول على كنوزها الروحية؛ ولذلك سيعيش عودة طويلًا في تاريخ مصر … الفنان الذي حوَّل السياسة إلى شعر، والسياسي الذي أثبت أنَّ السياسة حرفة تحرق صاحبها بالنار، بعكس مفهوم العصر كله، الذي يؤكِّد أنَّ الفرق بين السياسي والحرامي هو أنَّ السياسي يدخل السجن أولًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤