حديث أمس

يجتمع في «لجنة التأليف» كل مساء خميس جماعة من صفوة الإخوان، يسمرون سمرًا طيبًا، ويتحدثون حديثًا بريئًا، ويدور الحديث حيثما اتفق، مرة في الشرق، ومرة في الغرب. ومرة في الشرق والغرب معًا، تارة في أدب، وتارة في اجتماع، وتارة في اقتصاد، وقد يكون في غير ذلك جميعًا؛ ويُترك الحديث على سجيته، يستقيم كما يشاء، ويعوجّ كما يشاء؛ ولو سجل هذا الحديث كل أسبوع لكان صورة صادقة من صور بعض المجتمعات المصرية المثقفة. وقد يزورنا صديق من أصدقائنا في الشام أو العراق أو الهند، فيعرض علينا، ونعرض عليه، ونأخذ ونعطي، ويمدنا بالرأي ونمده بمثله.

وقد يحتد الجدل ويرتفع الصوت ويشتد الحوار، ثم لا نصل بعدُ إلى نتيجة حاسمة، وقد توفق أحيانًا إلى أن يقنع بعضنا بعضًا، وعلى الحالين ينتهي الحديث بسلام، بعد أن نقضي ساعتين أو أكثر في متعة عقلية لذيذة.

كان الحديث بالأمس من نصيب الأدب، جرَّ إليه سؤال وجهه أحدنا، وهو أنه كُلِّف أن يختار كتابًا عربيًّا من الأدب القديم تقرؤه الفرقة الخيرة بالمدارس الثانوية، فماذا يختار؟

قال أحدنا: «جزءًا من العقد الفريد». وآخر: «جزءًا من الأغاني». وثالث: «نهج البلاغة». ورابع: «مقدمة ابن خلدون».

– ما الغرض من اختيار هذا الكتاب من الأدب القديم؟

– الأدب القديم يمتاز بجزالة لفظه ومتانة أسلوبه، فإذا حملنا الطالب على دراسة هذا النوع من الأدب، ووضعنا في يده بجانب ذلك كتابًا من الأدب الحديث استطاع أن يجمع مزيّة الأدبين، وخير الثقافتين، وأيضًا إن الأدب الحديث ليس إلا نتاجًا لتطور طويل، فما لم نعرف الأصل لم نعرف الفرع، ثم في الأدب القديم معرض صور لآراء أسلافنا، ومستودع معان تغذي عقولنا، وأخيرًا هو يصل حديثنا بقديمنا، وزمننا بزمن آبائنا.

– إن الأدب القديم نتاج عصر قديم، وصورة من صوره، ونابع من بيئته؛ والطالب الحديث لا يستطيع أن يتذوق نتاج عصر مضى عليه ألف سنة أو تزيد؛ فإذا كلفناه قراءته ودرسه، فقد كلفناه تجرع المر، وهو لا يقبل عليه ولا يستسيغه، ويتجرعه ليلقيه في ورقة الامتحان، ثم لا يبقى منه شيء إلا الذكرى السيئة؛ فأولى أن نعلمه الأدب الحديث، ونقرئه الكتب الحديثة، فهي التي يسيغها، وهي التي يشعر بها، وهي التي تعبر عن بيئته وزمنه؛ أما الأدب القديم فيدرسه من يتخصصون بعدُ لدراسة الأدب العربي واللغة العربية.

– إن هذه نظرة ثائرة، لم يقل بها ولا الثائرون من الأوروبيين؛ ألا ترى المدارس الإنجليزية تدرس شكسبير وبيكون، والمدارس الفرنسية تدرس في مدارسها الثانوية روسو وكورنيّ؛ فما بالك تريدنا نحن على أن نقتصر على الأدب الحديث؟

– شكسبير وكورني صورة من حضارتنا التي نحياها الآن؛ والطلبة يقرءون مؤلفاتهما في شغف، ويشعرون بما عرضَتْ له من موضوع. أما الطالب العصري فكيف يشعر بما كان يدور في العصر الأموي والعباسي.

– لقد جربت تجربة في السنة الأولى من كلية الآداب تشهد بصدق هذا النظر؛ ذلك أني أدرس لهم أدبًا عربيًا قديمًا وأدبًا حديثًا؛ وفي الأسبوع الماضي ألقيت عليهم سؤالًا عن شعورهم نحو ما يدرسون، وأمرتهم ألا يكتبوا أسماءهم على ورقة الإجابة. فكان هناك شبه إجماع منهم على الشكوى من الأدب القديم وعدم فائدته، وأنه يجب الاقتصار على الأدب الحديث؛ قالوا ذلك لأنهم طلبة القسم الإنجليزي، وطلبوا أن يترك الأدب العربي القديم لقسم اللغة العربية.

– هذا كلام فيه إسراف. فمتى كانت رغبة الطالب وحبه وشوقه مقياس ما يدرس وما لا يدرس؟ إنما يجب أن نعرف الصالح ونكلفه الطالب، سواء أحبه أو كرهه؛ وكل دراسة في أول أمرها ثقيلة مكروهة، حتى إذا سار فيها الطالب شوطًا بدأ يستلذها ويحبها. فليس يصح أن نعوّل على الحب والكره، والشوق وعدمه، فيما يدرس وما لا يدرس؛ بل يجب التعويل على ما ينفع وما لا ينفع.

– وهب هذا، فماذا ينتفع الطالب من شعر مديح وشعر هجاء، وفصل في الأجواد، وفصل في صفة الحروب القديمة؟

– ليس الأدب العربي كله كذلك، فقسم كبير منه قسم عالمي صالح لكل زمان ومكان، كباب الحِكَم وباب الأدب، حتى الأشياء التي ذكرتها لا تخلو من فائدة كبرى، كما ندرس أدق الأشياء في التاريخ القديم، وهي تخالف ما نحياه اليوم.

– هذا مثل جيد! إننا ندّرس الطبيعة والكيمياء والجغرافيا في المدارس على النمط الحديث، ولا ننظر مطلقًا إلى ما كتب فيه قديمًا، فلا ننظر في تعليم الجغرافيا إلى معجم البلدان لياقوت، ولا كتب الإدريسي، ولا نعلّم التلاميذ كتب ابن سينا في الطبيعة والكيمياء. إنما نعلمهم في كل ذلك آخر ما وصل إليه العلم؛ فلماذا لا نسير في الأدب على هذا الأساس؟

– الفرق واضح، وهو أن العلم لا قيمة لقديمه إلا من حيث دراسة تاريخه. أما الأدب فخالد وجماله خالد؛ فنحنُ نُعجب الآن بالمتنبي وأبي نواس، ولا نعجب بالعلم الذي كان في زمنهما إلا من ناحية الدراسة التاريخية.

– أرى أيها الإخوان أنكم شتَّتُّم البحث وبعثرتم الموضوع؛ فأنا أرى خطأ آخر هامًا يقع فيه واضعو برامج الأدب العربي، من دراسة لتاريخ الأدب في عصوره المختلفة ودراسة القديم والحديث وغير ذلك. إن دراسة هذه الأمور تنفع عددًا محدودًا من الطلبة قد يكون اثنين في المئة أو اثنين في الألف، ولكنه يضر الأغلبية العظمى، فهل من الحق أن نرعى القليل ونضر الكثير؟ أجيبوني أولًا عن السؤال الآتي: ما الغرض من تعليم اللغة العربية وآدابها لطلبة المدارس الثانوية على اختلاف أنواعهم، مع العلم بأن منهم من سيكون مهندسًا أو زراعًا أو تاجرًا أو معلم رياضة أو أديبًا؟

– الأغراض من دراسة اللغة العربية — في نظري — على شكل هرم، قاعدته منبسطة جدًّا، ثم تأخذ في الضيق شيئًا فشيئًا؛ فأوسع غرض وأشمله أن يستطيع الطالب التعبير عما في نفسه باللسان والقلم تعبيرًا صحيحًا يطابق تمام المطابقة ما في نفسه، وأن يفهم فهمًا صحيحًا ما يقوله الآخرون أو يكتبونه على هذا النمط.

ويلي ذلك أن يُمدهم الأدب العربي بمعلومات صحيحة مفيدة، تنفعهم في حياتهم، وتفتق ذهنهم، وتجعلهم أقدر على فهم الحياة، حياتهم الواقعية وحياة آبائهم.

ويلي ذلك أن يستطيعوا تذوق ما في القطع الأدبية من جمال، سواء من حيث اللفظ أو من حيث المعنى؛ فإنَّ تذوق الجمال الفني غرض هام، نستطيع أن نقصد إليه ونهتم به.

ويلي ذلك أن نهيئ من له استعداد للأدب أن يكون أديبًا، وهذه كلها تتدرج في الشمول حتى يكون الأخير في القمة.

– إني أوافق في الجملة على هذه الأغراض، وإن كنت أخالف في تربيتها، وأرى أن هناك أغراضًا غير هذه؛ ولكني أدع المناقشة في هذا الآن، وأقول: إذا سلمنا بهذا فيجب أن ننظر للبرامج في ضوء هذه الأغراض، وإنا إن فعلنا ذلك وصلنا إلى نتيجة هامة. وهي أنه يجب توزيع العناية بما نعلّمه في اللغة العربية وآدابها على مقدار الشمول وعلى مقدار أهمية الغرض؛ فيجب أن يكون تصحيح العبارة في القول والقدرةُ على الفهم في المنزلة الأولى من حيث البرنامج الموضوع، ومن حيث توجيه العناية، ومن حيث ما تعطَى من زمن، ثم تقل هذه العناية كلما صعدنا إلى القمة.

وفي ضوء هذا النظر يجب أن نقلل من التعليم الفلسفي ما أمكن، ففلسفة الإعراب في النحو، وفلسفة البلاغة التي لا ينبني عليها عمل، والنظريات في تاريخ آداب اللغة من حيث أسباب رقي كذا وضعف كذا، يجب أن تكون كلها في المنزلة الثانية أو الثالثة؛ لأنها لا توافق إلا عددًا قليلًا من الطلبة.

كما يجب أن نفرق في التدريس للسنة التوجيهية بين القسم العلمي والقسم الأدبي، فنعني للعلميين بالغرض الأول ونتوسع فيه، ونعني للأدبيين بسائر الأغراض.

•••

بدأ أحدهم يرد على هذا الكلام ويفنده، وتبين من ملامحه أنه استعد استعدادًا عظيمًا لتحطيم هذا الرأي، واستوى في جلسته وبدأ يقول: إن هذه الآراء كلها آراء غير ناضجة، ويجب أن …

وهنا أخرج عضو ماكر ساعته وأعلن الحاضرين بتقدم الوقت والحاجة إلى الانصراف، فانصرفوا من غير أن يجيبوا عن السؤال الأول: «ما أحسن كتاب يختار».

فإن شاق هذا النحو من الحوار كثيرًا من القراء، رجوت أن أعرض عليهم من حين إلى حين «محضر» بعض الجلسات في «لجنة التأليف».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤