فلسفة المصائب

محال أن يحوّل الكاتب ذهنه عما يقع في هذا العالم الآن من مصائب، فهي موضع تفكيره، ومجال أحلامه؟ فلا بد أن تكون أيضًا مجال قلمه.

والعالم الآن في مأتم كبير، ضحاياه أمم لا أفراد، وصرعاه ممالك وعروش، ومبادئ وحريات، ودمار في الأنفس والأموال، وخراب في كل مكان؛ والأمم التي لم تكتوِ بنيران الحروب إلى الآن، مكتوية بعذاب الانتظار، وتوشك أن تدرك النار أُخراها كما أدركت أُولاها. تضع كل أمّة يدها على صدرها واجفة من مصيرها؛ والناس كلهم في عَمَاء، لا يدرون إلى أين ينتهون، كأنهم يمثلون يوم الفزع الأكبر وما صَوَّرته الديان عند قيام الساعة.

إن الخيال ليعجز عن أن يتصوّر حقيقة ما يحدث في العالم الآن من كوارث، فقد غطيت الأرض بالأشلاء، وصبغت بالدماء؛ وجاء دور العلم يقدم للإنسانية أقصى ما يستطيع من شر، كما قدم لها في السلم أقصى ما يستطيع من خير؛ وهرعت الملايين من مكامنها تتطلب الملجأ وتسير على غير هدى، وتشتت الأسر لا يعرف بعضها مصير بعض، إلى ما لا يُحصى من أهوال.

•••

ومن قديم خُلق الإنسان وخُلقت معه مصائبه، حتى لتوقَّع الملائكة منه ذلك قبل أن يُخلق، فقالوا: «أتجعل فيها مَنْ يُفسد فيها ويَسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونُقدِّس لك؟». فكانت المصائب ملازمة له، وكأنها عنصر هام من عناصر وجوده؛ وكأنها خاضعة لقانون النشوء والارتقاء، تبدأ بسيطة ساذجة كما بدأ الإنسان، وتعظم وتهول كلما تقدم الإنسان في العظم والرقي. وتقرأ التاريخ فتراه سلسلة مصائب وسلسلة حروب، نصرتها مصائب وهزيمتها مصائب؛ فإن فترت الحرب حينًا، تتداول الأمَم أنواع من الكوارث الأخرى السلمية تختلف أشكالًا وألوانًا.

حتى كان من غريب أمر الإنسان أنه لا يدرك اللذة إلا بالألم، ولا الفائدة إلا بالمصيبة؛ كما لا يدرك الحلو إلا بالمر، ولا المر إلا بالحلو، ولا يمكن أن نتصوّر سعادة إلا بشقاء، ولا شقاء إلا بسعادة، فكأن السعادة والشقاء وجها القطعة من النقود، لا يمكن أن يُتصوّر وجود أحد الوجهين إلا بالآخر.

وتعجبني قصة صوفية، وهي أن أحد المتصوفين دخل بلدة، فأعجبه ما فيها، ثم زار مقبرتها فقرأ على أحد شواهدها: هذا قبر فلان، ألّف كتاب كذا، وكان عالمًا فاضلًا، ومات وعمره يومان؛ ورأى على قبر آخر: هذا قبر فلان القائد العظيم الذي انتصر في موقعة كذا، ومات وعمره ثلاثة أيام، وفلان ملك الناحية، وقد مات وعمره يوم؛ فعجب من هذا كله، وتوجه إلى خبير بالبلدة وسأله عن هذا اللغز الذي لم يفهمه، فقال: إننا لا نعد من أيام حياتنا إلا الأيام السعيدة. فقال الصوفي: إني أود أن أموت ببلدكم، وأرجو أن تكتبوا على قبري: هذا قبر صوفي رحالة، جاب الأقطار وزار الأمصار، ومات قبل أن يولد.

•••

على أن المصائب نفسها ليست تخلو من وجه جميل وناحية رائعة؛ فهي ليست قبحًا صرفًا، ولا شقاءً خالصًا؛ بل كثيرًا ما تكون بلسمًا كما تكون جروحًا، ودواءً كما تكون داءً.

إن الرخاء قد يُفسد الطبيعة البشرية، فلا بد لها من شقاء يصلحها؛ والحديد قد يفسد، فلابد له من نار تذيبه حتى تصلحه وتذهب خبثَه؛ فكذلك النفوس قد يطغيها النعيم ويصدئها الترف، فلا بد لها من نار تُكْوَى بها لتنصهر ويذهب رجسها.

ثم إذا أردت أن تعرف نفوس الناس حقًّا فتعرَّفْها في أوقات المصائب لا في أوقات النعيم.

ويعجبني قول القائل: إنّ أعرف الناس بالناس الممرضات في المستشفيات، فهن اللائي يرين الناس في الكوارث، فيعرفن كيف يجزعون أو يحتملون، وكيف يفزعون أو يصبرون، وكيف يضعفون أو يقوون؛ أما خارج المستشفى فكلهم شجاع وكلهم قوي.

في أوقات الرخاء ترى الجمال المتصنع والقبح المتصنع، وترى القبيح في شكل جميل والجميل في شكل قبيح؛ أما في الشدة فترى الجمال عاريًا والقبح عاريًا، وترى الحق حقًّا والباطل باطلًا، وترى الأوضاع تنقلب والقيم تختلف، فيصبح لا يساوي شيئًا من كنت تظنه يقوّم بالألوف، ويقوّم بالألوف من كنت تظن أنه لا يساوي شيئًا.

حتى الموت — وهو ما يعدّ بحق مَلِك المصائب — هو الحجر الأساسي لنظام العالم، ومصلح شأنه، ولا بد من الموت للحياة، وهو بعد ذلك كما قال القائل: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.

•••

ثم الأمم لا تُخْلق إلا من المصائب، ولا تحيا إلا بالموت، ولا يكوِّن زعماءها إلا الشدائد، ولا يصهر نفوسها إلا عظائم الأمور، ولا تنال استقلالها إلا بضحاياها، ولا تستردّ حريتها إلا ببذل دمائها؛ وما ترك الجهادَ قوم إلا ذلوا، ولا استلسم قوم للترف والنعيم إلا هانوا. تلك هي قوانين طبيعية للعالم بمنزلة قوانين الحرارة والضوء والجاذبية، لا تتغير ولا تتبدل مادام العالم هو العالم.

•••

ويبلغ الرقي في بعض الأفراد أن يروا لذتهم في أن يألموا لإسعاد غيرهم، وسعادتهم في تضحيتهم.

كل امرئ فيه نواة لهذه التضحية، فهو يضحي من لذته لإسعاد أولاده وإسعاد أصدقائه؛ ولكن عظماء الناس يرون في حرية أممهم واستقلالها، وفي مبادئ العدل والحق معنى أسمى من العلاقة الشخصية بين المرء وبين أسرته أو بينه وبين صديقه، ثم يقدسون هذه المعاني السامية ويتعشقونها ويهيمون بها، فيبذلون نفوسهم لها كما يبذل العاشق نفسه لمن يحب، ويرى في ذلك لذته العظمى وسعادته الكبرى.

فهو بذلك أناني من جنس راق جدًّا، يرى أن سعادته وسعادة أمته شيء واحد، ويرى أن العمل لها هو بعينه العمل لنفسه. ثم هو لا يتطلب بعد ذلك جزاءً ولا شُكورًا، كما لا يتطلب ذلك فاعل الخير لنفسه.

•••

قد أرانا التاريخ — مع الأسف — أن الإنسانية لا ترقى إلا عن طريق المحن، سواء في ذلك أفرادها وأممها؛ فالفرد الذي يجد كل شيء ممهدًا سهلًا لا يصلح لشيء، والغني المترف الذي يجد كل ما يشاء في الوقت الذي يشاء، ثم لا يكلف نفسه شيئًا أكثر من أن يستمتع بالحياة، هو نبات طفيلي يستهلك ولا ينتج، مظهر ولا مخبر، يومَ تعصف به عاصفة من شدة يذهب مع الريح ولا يستطيع مقاومة؛ إنما يثبت للحياة ويصلح للبقاء من عركته الأحداث، وربته المصائب، وصلَّبته الكوارث؛ وهكذا شأن الأمم، أصلبها عودًا أصلحها للحياة، وخير رجالها أقدرهم على التضحية؛ والأمم التي تنعم تؤذن نعومتها بفنائها؛ ولم تبلغ الأمم مثلها السامية من عدل وإخاء ومساواة وحرية إلا من طريق المصائب.

وصحة الأمم كصحة الأفراد، فالمرض ينتاب من الأجسام أنعمها وأكثرها إخلادًا للراحة؛ والصحة لا تنال إلا بالأعمال الرياضية الشاقة، وبذل الجهد المضني؛ ولا لذة للراحة إلا بعد التعب، ولا لذة للماء إلا بعد العطش، ولا للأكل إلا بعد الجوع.

كذلك الأمم لا تدرك قيمة الخير إلا بالشر، ولا الفوائد إلا بالمصائب؛ ويوم تنزل بها الكوارث تؤمن بالجِد، وتحتقر التافه، وتطلب المثل. فأهلًا بالموت. إذا كان فيه الحياة، وبالشر إذا كان يتبعه الخير … و:

مرحبًا بالخطب يبلوني إذا
كانت العلياء فيه السببا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤