أسباب الضعف في اللغة العربية

١

رددت الجرائد والمجلات الشكوى من ضعف الطلبة وخريجي الجامعة في اللغة العربية — ولا شك أنها مسألة لا يصح أن تمر من غير أن يتداولها الكتّاب بالشرح والتعليل، ويقلبوها على وجوهها المختلفة، حتى يصلوا إلى علاج حاسم.

أما أن الطلبة ضعاف جدًّا في اللغة العربية فأمر لا يحتاج إلى برهان. فأكثرهم لا يحسن أن يكتب أسطرًا ولا أن يقرأ أسطرًا من غير لحن فظيع يكاد يكون بعدد الكلمات التي يكتبها أو يقرؤها؛ وهم إذا خطبوا أو قرءوا أو كتبوا أو أدوا امتحانًا رأيت وسمعت ما يثير العجب ويبعث الأسف. وأما أن الضعف في اللغة العربية نكبة على البلاد فذلك أيضًا أمر في منتهى الوضوح؛ لا لأن اللغة العربية لغة البلاد، والضعف فيها ضعف في القومية فقط؛ بل لأنها اللغة التي يعتمد عليها جمهور الأمة في ثقافتهم وتكوّن عقليتهم؛ فاللغة الأجنبية التي يتعلمها طلاب المدارس الثانوية والعالية ليست هي عماد الثقافة للبلاد، وليست هي التي تكوِّن أكبر جزء في عقليتنا، إنما الذي قوم بهذا كله هو اللغة العربية التي نتعلمها في الكتاتيب ورياض الأطفال، وندرس بها العلوم المختلفة في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية. فالضعف في اللغة العربية ضعف في الوسيلة والنتيجة معًا، على حين أن الضعف في اللغة الأجنبية في كثير من الأحيان ضعف في الوسيلة فقط؛ ولهذا أعتقد أن معلم اللغة العربية في المدارس على اختلاف أنواعها عليه أكبر واجب وأخطر تبعة، وبمقدار قوته وضعفه تتكون — إلى حد كبير — عقلية الأمة.

وبعد، فما هي الأسباب التي نشأ عنها هذا الضعف؟

عندي أن الأسباب ترجع إلى أمور ثلاثة: طبيعة اللغة العربية نفسها، والمعلم الذي يعلمها، والمكتبة العربية.

فأما طبيعة اللغة فهي صعبة عسرة إذا قيست — مثلًا — باللغة الإنجليزية أو الفرنسية. ويكفي للتدليل على صعوبتها ذكر بعض عوارضها: فهي — مثلًا — لغة معربة، تتعاور أواخرَها الحركات من رفع ونصب وجر وجزم حسب العوامل المختلفة؛ ولا شك أن اللغة المعربة أصعب من اللغة الموقوفة، أعني التي يلتزم آخرها شكلًا واحدًا في جميع المواضع ومع جميع العوامل، كاللغة الإنجليزية والفرنسية.

وهي صعبة كذلك من ناحية أن حروفها وحدها لا تدل على كيفية النطق بها، بل لا بد لصحة النطق من الضبط بالحركات أو المران الطويل، على عكس اللغات الأوروبية التي تدل كتابتها على كيفية النطق بها في أكثر مواضعها. والضبط بالشكل عسير فلا نستعمله في الجرائد والمجلات ولا في أكثر الكتب الأدبية قديمها وحديثها.

وهي صعبة — أيضًا — من ناحية الاختلاف الكثير في الفعل الثلاثي، فله أشكال كثيرة لا يمكن إخضاعها لضوابط حاسمة، وكصيغ جمع التكسير، فهي كثيرة وضوابطها قلما تطّرد، وكنظام العدد والمعدود، فإنه معقد تعقيدًا شديدًا حتى لا يجيده إلا الخاصة وأشباههم.

كل هذا ونحوه يجعل اللغة العربية صعبة المنال، وإتقانها يحتاج إلى مران كثير ومجهود كبير من المتعلم والمعلم.

ولست أعرض هذا لبيان ما إذا كانت هذه الأغراض مظهرًا من مظاهر رقي اللغة أو ضعتها، فإن هذا لا يعنيني الآن، وأما الذي يعنيني فهو تقرير صعوبة اللغة العربية وحاجتها الشديدة إلى عناية كبرى لتذليل صعوباتها، ورسم أقرب خطة للتغلب عليها، حتى يحذقها المتعلم من أقرب سبيل.

•••

فإذا نحن وصلنا إلى المعلم فقد وصلنا إلى نقطة شائكة؛ ذلك لأننا اعتدنا دائمًا إلى أن ننقل النقد في الأمور العامة إلى مسائل شخصية، ونحول الكلام في المبادئ العامة إلى فئات وأحزاب، ونسيء الظن بالناقد، فإن كان من فئة خاصة ظنوا أنه يدافع عن فئته، وأنه يريد تنقص غيره. فهل يسمح لي المعلمون بأن أصارحهم القول مؤكدًا أن لا غرض لي إلا الإخلاص للحق؟

إن كان الأمر كذلك فإني أصدقهم القول بأن جزءًا كبيرًا من ضعف اللغة العربية يرجع إليهم. ولست أنكر أن منهم أفذاذًا نابغين يصح أن يكونوا المثل الذي ننشده، ولكن المنطق عودنا أن يكون حكمنا على الكثير الشائع لا على القليل النادر.

فالحق أن دار العلوم والأزهر وكلية الآداب لم تستطع أن تخرج المعلمين الأكفاء، الذين نتطلبهم والذين تتطلبهم اللغة العربية للأخذ بيدها والنهوض بها، ومحاربة الضعف المتفشي فيها.

فأما دار العلوم فقد تأسست، والذي دعا وزارة المعارف إلى إنشائها أنها أحست عجز الأزهر عن أن يمدها بالمعلمين الصالحين، إذ رأت أن الأزهر تنقصه — إذ ذاك — الثقافة الحديثة والعلم بمناهج التربية والتعليم، وقد نجحت الوزارة في تحقيق هذا الغرض إلى حد كبير، وأخرج رجالًا نهضوا باللغة العربية إلى حد ما، وأحسنوا التدريس على خير مما كان يدرسه الأزهريون، ولكن دار العلوم كانت سادَّة لحاجة الأمة في السنين الأولى من إنشائها، ثم تقدمت الأمة في ثقافتها ووقفت دار العلوم حيث كانت، فأصبحت لا تؤدي رسالتها كاملة، وأصبح خريج دار العلوم لا يحذق الأدب القديم ولا الأدب الحديث، ولا يستطيع تغذية الشعب بالأدب الذي هو في حاجة إليه، وليس له من المهارة في الوسائل ما يستطيع به أن ينهض بالطلبة النهوض اللائق، ولا هو يساير الزمن في ثقافته حتى يخضع الطلبة لشخصيته القوية؛ ودليل ذلك أمور كثيرة: منها ضعف المكتبة العربية وهو ما سأبينه بعد؛ ومنها عجز معلمي اللغة العربية عن تشويق الجمهور والطلبة إلى القراءة العربية، حتى إنا نرى الناشئ لا يكاد يستطيع القراءة في الكتب الأجنبية حتى يهيم بها ويفضلها ألف مرة على المطالعة العربية؛ ومنه نظر الطلبة في صميم نفوسهم على أن اللغة العربية مادة ثانوية، وإن وضعت في المناهج في أوائلها؛ ومنها أن ثقافة الجمهور فيما تتعلق بالتاريخ الإسلامي والأدب العربية والمعلومات العامة التي تتصل بذلك ضعيفة إلى حد بعيد، والمسئول عنها — كما أسلفنا — هم معلمو اللغة العربية؛ لأنها لغة البلاد وعليها يعتمد في تكوين العقلية، إلى كثير من مثل هذه الأسباب.

وأما الأزهر من ناحية اللغة العربية، فهو الآن وليد دار العلوم، والمشرف على تعليم اللغة العربية فيه هم خريجوها؛ فقصاراه أن يبلغ من الرقي ما بلغته مدرسة دار العلوم في تعليمها ونظمها ومناهجها، حتى يحل محلها؛ ويكفي هذا برهانًا على أنه لا يحقق الغرض الذي نرمي إليه.

وأما قسم اللغة العربية في كلية الآداب فكذلك ناقص ضعيف، فهو يعلم طرق البحث الجامعي، وهذا يضطره على أن يتوسع في مسألة وأن يهمل مسائل، فلا يخرج الطالب دارسًا لكل ما ينبغي أن يدرس. أضف إلى ذلك أنه يعتمد في طلبته على طائفة تخرّج أكثرها من المدارس الأميرية، وحصلوا على شهادة الدراسة الثانوية، وهؤلاء لا يصلحون صلاحية تامة لدراسة اللغة العربية إلا بعد عهد طويل لا تكفي له سنو الدراسة الجامعية؛ ذلك أن اللغة العربية — إلى الآن — متصلة اتصالًا وثيقًا بالدين، ولا يمكن أن يحذقها ويستطيع أن يفهم كتبها القديمة إلا من بلغ درجة عالية في فهم القرآن والحديث والفقه وأصول الفقه والتاريخ الإسلامي. والطلبة الذين تأخذهم الجامعة لهذا القسم لم يثقفوا هذه الثقافة، ولا تستطيع الجامعة أن تكمل هذا النقص مهما بذل المدرسون من الجهد. ومن أجل هذا ترى أن طلبته بينما يجيدون نهج البحث في بعض المسائل، يقصرون في مسائل تعد في نظر الأزهر ودار العلوم مسائل أولية وهي في الواقع كذلك.

•••

إذًا من الحق أن نقول: إن المعاهد التي تدرس اللغة العربية في مصر تعجز عن إخراج المعلم الكفء. ومن العجيب أن توجد هيئات ثلاث لتحضير معلمي اللغة العربية والبلد لا يحتاج إلا إلى هيئة واحدة؛ ثم كل هذه الهيئات معيب لتوزع قواها، ولو وحدت القوى في هيئة واحدة لاستطاعت أن تخرج خير أنموذج للمعلم، ولكن يعصف بهذه الفكرة الصالحة تعصب كل فئة لنفسها، وتدل السياسة عند حلها، فضاعت بذلك المصلحة العامة.

•••

ويتصل بأمر المعلمين مسائل كانت هي الأخرى سببًا في الضعف، وهي مناهج الدراسة والامتحانات والتفتيش.

فمناهج تدريس اللغة العربية متحجرة برغم ما يبدو من مدنيتها وأناقتها. خذ — مثلًا — منهج قواعد اللغة العربية والبلاغة تجد أنهما إلى الآن لا يزالان هما بعينيهما منهجي سيبويه والسكاكي على الرغم من زخرفتهما؛ فالتقسيم الذي قسمه سيبويه في النحو، والتعاريف التي وضعها، والمصطلحات التي ذكرها هي هي في كتب المدارس اليوم. وكل ما حديث حتى في الكتب التي ألفت منذ سنوات قليلة هو ذكر المثلة الرشيقة وتبسيط الشرح، ولكن لم يبذل مجهود موفق في معالجة النحو على أساس جديد كضم مسائل متعددة إلى أصل واحد حتى يسهل على الطلبة فهمها وتحصيلها. وكوضع مصطلحات جديدة أقرب إلى الفهم ونحو ذلك؛ وحسبنا دليلًا على ذلك ما نراه في أجروميات اللغات الحية الأخرى؛ فأجرومية اللغة الفرنسية أو الإنجليزية اليوم تخالف — في الجوهر — ما كانت عليه منذ عشرين سنة فضلًا عن قرن وقرنين.

ومصيبتنا في البلاغة أعظم، فبرامجنا لا توحي بلاغة، ولا تربي ذوقًا؛ وإلا فقل لي بربك: ماذا تفيد دراسة «الفصل والوصل» على هذا المنهج إلا تكرير مصطلحات فارغة ككمال الاتصال، وكمال الانقطاع، وشبه كمال الانقطاع، وشبه كمال الاتصال؟ وأخبرني: أي أديب يراعي ذلك عند كتابته؟ ومتى كانت هذه المصطلحات الفارغة وسيلة لرقي الذوق الأدبي؟

وليست برامجنا في الأدب بأقل سوءًا من هذين، فإنا نضع في البرنامج أول الأمر مسائل فلسفية وقواعد في النقد وتاريخ الأدب في العصور المختلفة قبل أن يلم الطالب بجمهرة كبيرة من الأدب يقرؤها ويحفظها ويتذوقها، وبذلك نقدم له نتائج من غير مقدمات، ونصعده على السطح من غير سلم.

والذين يضعون البرامج يكلِّفون وضعها في أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين. وماذا على وزارة المعارف لو كلفت من يضع لها البرامج المستقبلة في سنتين أو أكثر على ألا تضوع إلا بعد دراسة عميقة، ثم تنشر في الجرائد والمجلات وتتقبل الاعتراضات عليها ويعمل بالصالح منها، ثم تثبت الوزارة العمل بها عهدًا طويلًا حتى تتم تجربتها؟

ثم الامتحانات أمرها غريب! فمع هذا الضعف الذي نسمعه في كل مكان تظهر نتيجة الامتحانات في اللغة العربية باهرة، والسقوط فيها نادرًا، فشيء من شيئين: إما أن تكون الشكوى في غير محلها، وهذا ما لا يسلم به عاقل، أو تكون الامتحانات على غير وجهها، وهذا ما يقوله كل عاقل. وسبب هذا السوء في الامتحان كثير؛ فنظريات النحو واسعة تحتمل أن يكون لكل خطأ تأويل من الصواب، ومنها عدم تقدير وقة الامتحانات في جملتها، حتى يصح أن يسقط الطالب إن أتى بخطأ شنيع في موضع ولو أصاب في مواضع أخرى؛ ومنها الرحمة والشفقة في التصحيح، وأؤكد أن لو زالت هذه الرحمة سنة من السنوات وأدرك الطالب ما تعامل به ورقته من الحزم في الامتحان لخدم هذا الموقف اللغة العربية في المدارس جملة سنين.

ثم التفتيش. والمفتش معذور، فهو كالقاضي يطبق مواد القانون ولا يشرعها، فعليه أن ينظر كم موضوعًا إنشائيًّا كتبه الطلبة، وهل هذا يتناسب مع العدد المقرر في السنة، وهل ترك المدرس كلمة كتبها الطالب خطأ في كراسته، من غير أن يصححها، وهل أساء المدرس إساءة كبرى فاستعمل كلمة «التليفون» و«الراديو» أو على العموم استعمل كلمة ليست في «القاموس المحيط» أو «لسان العرب». فأما هل نجح المدرس في تعليمه اللغة العربية لطلبته، وما الوسائل التي استعملها، وهل تقدم الطلبة في القراءة والكتابة فأمر في المنزلة الثانوية؛ وأما ما ينبغي أن يدرس هنا أو لا يدرس، وما العوامل في الرقي باللغة العربية — على العموم — فأمر يرجع في الأغلب إلى المشرع لا إلى المفتش.

نعود — بعد — إلى الأسباب الأخيرة من أسباب ضعف اللغة العربية. وهي مسألة «المكتبة العربية» فالحق أنها مكتبة ضعيفة فاترة، هي مائدة ليست دسمة ولا شهية ولا متنوعة الألوان. والحق أيضًا أن القائمين بإحضارها لم يجيدوا طهيها؛ فدار العلوم — وقد أتى على إنشائها أكثر من خمسين عامًا خرجت فيها الألوف من أبنائها — هل أجادت في إخراج الكتب النافعة المختلفة الألوان والموضوع؟ أو هي قصرت كل التقصير، فأخرجت من الكتب ما لا يتفق وعدد خريجيها ومنزلتهم في الحياة الاجتماعية والأدبية؟

والأزهر — وهو أقدم عهدًا وأعرق أصلًا — لم يشترك في التأليف الحديث اشتراكًا جديًّا، ولم يساهم بالقدر الذي كان يجب عليه، ولم يعرف عقلية الناس في العصر الحديث حتى يخرج لهم ما هم في أشد الحاجة إليه.

وكلية الآداب — وإن قصر عهدها — لم تؤد رسالتها في هذا الموضوع كاملة، واتجهت أكثر ما اتجهت إلى الثقافة الخاصة لا العامة.

فمكتبتنا في كل نواحيها ناقصة من ناحية الأطفال، ومن ناحية الجمهور، ومن ناحية المتعلمين. وحسبك أن نقوم بسياحة في مكتبة إفرنجية وأخرى في مكتبة عربية لترى الفرق الذي يحزنك، ويبعث في نفسك الخجل والشعور بالتقصير.

ماذا يقرأ الطفل في بيته وفي عطلته؟ وماذا تقرأ الفتاة في بيتها؟ وأين الروايات الراقية التي يصح أن نضعها في يد أبنائنا وبناتنا؟ وأين الكتب في الثقافة العامة التي تزيد بها معلومات الجمهور؟ وأين الأدب القديم المبسط؟ وأين الأدب الحديث المنشأ؟ الإجابة عن هذه الأسئلة يعرفه كل قارئ لمقالتي. وواضح أن اللغة لا ترقى بكتبها في قواعد النحو والصرف والبلاغة بمقدار ما ترقى بالكتب الأدبية ذوات الموضوع.

سيقول المعلمون: وماذا نصنع وليس العيب عيبنا، فوزارة المعارف ترهقنا بالدروس، وترهقنا بنظام الكراسات وتصحيحها، وبنحو ذلك حتى لا نجد وقتًا لترقية نفوسنا والازدياد في معلوماتنا فضلًا عن المساهمة في تضخيم «المكتبة العربية» والمشاركة في إصلاح جوانب النقص منها.

ذلك حق، ولكنه ليس ردًّا على ما أقول، فإني في هذا المقال أكتفي باستعراض الأدواء استعراضًا خاطفًا سريعًا من غير أن أعني كثيرًا بتحديد المسئول.

٢

قرأت في الصحف وصفًا لعلاج قيل: إن مكتب التفتيش في وزارة المعارف اقترحه؛ وخلاصته زيادة الحصص للغة العربية، وتوسيع مكتبة التلميذ. وأظن أن هذا علاج ليس كافيًا ولا شافيًا، وأنه لا يلاقي المرض في الصميم، وأنه لا يقدم في الموضوع ولا يؤخر، فلو ضاعفنا الحصص والمعلم على حاله من النقص، والمنهج كما هو من الضعف، لم نصل إلى نتيجة ولم تتحسن حالة المرض.

إنما العلاج الحقيقي في إصلاح المعلم وما إليه من منهج وامتحان وتفتيش؛ فالمعلم الآن تخرجه ثلاثة معاهد: دار العلوم والأزهر وقسم اللغة العربية في كلية الآداب، وكلها معيبة كما أبنت، فلا بد للإصلاح من توحيد تلك الجهود الموزعة والاقتصار على معهد واحد يسلح بكل أنواع الأسلحة الملائمة.

وعندي أن أصلح معهد لذلك هو «دار العلوم»، فتاريخها القديم في التعليم؛ وسبقها الأزهر في هذا الباب؛ يجعلان المصلحة في بقائها؛ وكذلك صبغتها الدينية، وما بين اللغة العربية والدين من صلة وثيقة يجعلها أصلح من قسم اللغة العربية في كلية الآداب، ولكنها في شكلها الحاضر غير صالحة، بل لا بد لصلاحيتها من أمور:
  • (١)

    فصلها عن «وزارة المعارف» وجعلها معهدًا تابعًا للجامعة أسوة لها بكل المدارس العليا، التي كانت تابعة للوزارة كالمعلمين والهندسة والزراعة والتجارة. فالجامعة أوسع حرية وأكثر استقلالًا، والحرية والاستقلال أصلح للنمو العلمي والرقي العقلي.

  • (٢)

    إعادة النظر فيها من جديد: في نظامها وبرامجها، فلم تعد أساليبها التي كانت صالحة منذ عشرين عامًا صالحة الآن؛ على أن يشرف على وضع هذه النظم جماعة من خيرة رجال مصر ثقافة وعقلًا وسعة تفكير وعلمًا بمناهج التربية.

  • (٣)

    أن تكون الدراسة فيها مقصورة على المواد العلمية، وبعد الانتهاء يدرس المتخرج سنة أو سنتين أساليب التربية في معهد التربية.

  • (٤)

    أن يعاد إنشاء تجهيزية دار العلوم لتغذي دار العلوم، ويعاد تنظيمها على خير مما كانت، فيتوسع فيها في الدراسة الدينية من قرآن وتفسير وحديث وما إلى ذلك، وتدرس فيها لغة أجنبية، حتى يخرج الطالب منها مساويًا للطالب في المدارس الثانوية الأخرى ومتفوقًا في اللغة العربية والدين الإسلامي، وخريجو هذه المدرسة يغذون دار العلوم وقسم الفلسفة في كلية الآداب ونحو ذلك، ويكون في دار العلوم دروس في اللغة الأجنبية أيضًا تتمم ما درسه الطلبة في المدرسة الثانوية.

  • (٥)

    تكون الدراسة في دار العلوم دراسة قاسية شديدة دقيقة، في الانتقال وفي الامتحان. فلا يسمح لضعيف ولا متوسط الكفاية أن يخرج من هذه المدرسة؛ لأنها ستكون — على ما أعتقد — أفعل مدرسة في رقي الأمة وتكوين عقليتها والنهوض بحياتها.

وهذا هو في نظري أهم علاج لضعف اللغة العربية، فالحصة من هذا المعلم الكفء خير من مئة حصة من معلم غير كفء.

•••

ويلي هذا في الإصلاح برامج التعليم؛ فمناهج اللغة العربية — وخاصة في المدارس الثانوية — تحتاج إلى ثورة تقلبها رأسًا على عقب، تبسط فيها المصطلحات، وتحذف منها الأبواب العقيمة ويقتصر فيها على ما ينتج استقامة اللسان والقلم، ويترك ما عدا ذلك للخاصة.

ولو ألف في وزارة المعارف هيئة فنية «مراقبة» للبرامج ووضعها وطريقة تنفيذها لكانت أفضل من كل المراقبات الأخرى؛ لأن هذا هو العمل الأساسي للوزارة وما عداه تبع له.

وليس عمل برنامج اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية من الأمور السهلة، فهو يحتاج إلى دراسة المناهج السابقة من أول وضعها، ويحتاج إلى دراسة المناهج للغات الحية الأخرى في الأمم المختلفة للاستفادة منها، والاتصال بتلاميذ المدارس في مراحلهم المختلفة لمعرفة مقدار عقليتهم، وهكذا.

ثم الامتحان له كبير أثر في ضعف اللغة؛ لأن التلاميذ عندنا اعتادوا أن يقرءوا للامتحان، ويتعلموا للامتحان، وبقدر صعوبة الامتحان والتشديد فيه تكون عناية الطلبة.

والامتحان في اللغة العربية معيب من وجهين: من وجهة ورقة الامتحان، فإنها في أغلب شأنها نظرية لا عملية، وتعتمد على الذاكرة والحفظ أكثر مما تعتمد على التفكير والعمل، واللغة أداة للتعبير، والغاية منها تقويم القلم واللسان، فيجب أن يرمي الامتحان إلى هذه الغاية، أما أن تكون الأسئلة في ما هو التشبيه الضمني، وما هي الاستعارة المكنية، وما أثر الثقافة اليونانية في الثقافة العربية، فأسئلة لا يصح أن تكون في المرحلة الأولى ولا الثانية من التعليم، إنما تكون بعد أن يستكمل الطالب الجانب العملي.

وكذلك من جهة التصحيح، فقد استولى على مصححي اللغة العربية نوع من العطف أشبه ما يكون بالعطف على المجرم فلا يعاقب، وبعطف الأمر الجاهلة على ابنها فلا تؤدبه.

والمصححون يبنون تساهلهم على فكرتين باطلتين: أولاهما: أن اللغة العربية هي اللغة الأصلية، فلا يصح أن يرسب الطلبة فيها، وهذا خطأ؛ لأن لغتنا الأصلية هي اللغة العامية لا اللغة العربية الفصحى، وشتان ما بينهما، ولو كانت العربية لغتنا الأصلية ما شكونا هذا الضعف. وثانيهما: غلبة الرحمة عليهم وقد أبنا ضررها.

وليس أدل على فساد الامتحان من حسن النتيجة المئوية مع ضعف الطلبة ضعفًا نضجّ منه جميعًا بالشكوى. أمن المعقول أن نلمس هذا الضعف ثم تكون نسبة النجاح فوق الثمانين في المائة في أكثر السنين؟

كل هذا جعل التلاميذ يهزءون باللغة العربية ولا يعيرونها التفاتًا، ويحترمون اللغة الأجنبية والرياضة؛ لأن الاحترام عندهم تابع لنسبة النجاح، فكلما كانت النسبة قليلة كانت العناية بالعلم أقوى؛ وليس ينسى أحد منا العبارة التي تدور على ألسنة الطلبة، وهي أنهم إذا سمعوا طالبًا يجتهد في استذكار اللغة العربية قالوا له: «وهل يسقط أحد في العربي؟»

ثم لهم طريقة في التصحيح ليست صحيحة، فهم لا يقومون الورقة ككل، ولكن يجزئونها جزيئات صغيرة ثم يضعون درجة على كل جزيء، فيحدث أن الطالب يأتي بأخطاء شنيعة تدل على الجهل التام ومع ذلك ينجح، حتى يخيل إليّ أن التلميذ إذا أعرب «في البيت» في حرف جر والبيت مفعول به منصوب لأعطوه ٥٠٪ على إعرابه «في» وخطئه في إعرابه «البيت».

أنا كفيل بأن سنة واحدة توضع فيها ورقة الامتحان عملية أكثر منها نظرية، ويشدد فيها في التصحيح شدة حازمة تساوي الشدة في تصحيح الرياضة واللغة الأجنبية، كافية في أن يوجه الطلبة عنايتهم الكبرى للغة العربية، فيزول الضعف وتحسن النتيجة.

ولا ننسى أن التفتيش بعد ذلك له أثره، فلو حدد الغرض منه لبانت قوته الحالية أو ضعفه، فليس المفتش جاسوسًا يضبط الجريمة، ولا هو عدّاد يعد موضوعات الإنشاء والتمرينات، ولا غرضه الأول أن يقول: إن كلمة كذا ليست في القاموس، كلا ولا غرضه الأول أن يكتب عن المدرس إنه جيد أو ممتاز أو ضعيف. إنما مهمته الأولى حسن توجيه المعلمين إلى تحقيق الغرض من دراسة اللغة العربية والوصول بالطلبة والمدرسين والكتب والمناهج إلى أرقى حد مستطاع، وبمقدار تحقيق هذا الغرض أو عدم تحقيقه يكون الحكم على قيمة التفتيش.

إذا أصلح المعلم والمنهج والامتحان والتفتيش صلحت اللغة العربية في المدارس، وهذا هو العلاج الوحيد الصحيح، أما عداه فعلاج غير حاسم ولا ناجع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤