مقدمة في العلم الزائف

تِجارتان لا تَعرفان البَوار؛ تجارة الخُبز، وتجارة الوَهم.

ع. م.

(١) دلائلُ ومَخايِل

في القلب من العلم يَقبَع توترٌ جوهري بين موقفَين متناقضَين في الظاهر؛ انفتاح على الأفكار الجديدة مهما تكن غريبةً أو مضادةً للحَدس، وأقسَى تمحيصٍ ارتيابِي لِجميع الأفكار، قديمِها وجديدِها. هذا هو السبيل إلى غربلة الحقائق العميقة من الهُراء العميق. إن اجتماع التفكير الإبداعي والتفكير الارتيابي في آنٍ معًا هو ما يحفظ العلمَ في مِضمارِه.

كارل ساجان: عالم تسكنه الشياطين

ليست هناك معايير حاسمة تجزِم بأننا بإزاء علمٍ زائف، غير أن هناك أَمارات عامة تُهِيب بنا أن ننتبه ونرتاب، ليس بين هذه الأمارات ما هو «ضروري» ولا ما هو «كافٍ» للحكم بزيف الممارسة، غير أن اجتماعَ عددٍ وافرٍ منها قد يدنو بنا إلى مَشارف اليقين، وكأنه ضربٌ من «تحوُّل الكم إلى كيف».

  • يسرف العلمُ الزائف في استخدام الفرضيات الاحتيالية،١ والفرضية الاحتيالية أشبهُ بِرُقعةٍ مُفَصَّلةٍ على مَقاس الثغرة، الغرضُ منها حماية الدعوى من الدحض. ثمة فرضياتٌ احتياليةٌ أدت إلى كشوفٍ علمية حقيقية: عامل Rh في الدم كان فرضيةً احتيالية، ووجود كوكب نبتون كان فرضيةً احتيالية،٢ غير أن الفرضية الاحتيالية في العلم الحقيقي هي ذاتُها قابلةٌ للاختبار، أما في العلم الزائف فالأغلب أن تكون تَمَحُّكًا صِرفًا ولَجاجةً مجانيةً لا سبيل إلى اختبارها ولا غرض منها إلا التَمَلُّص والتَّخَلُّص، والتحَصُّن من التكذيب والتَشَفُّع للخطأ.
  • ليس من دَأب العلمِ الزائف أن يعترف بخطئِه ولا أن يُصَحِّح نفسَه، بينما العالِمُ الحَق مَيَّالٌ بطبعِه إلى تكذيب فرضيتِه. إن كلفةَ التصويب الذاتي باهظةٌ ثقيلة، ولكن العالِم الحقيقي على استعدادٍ دائمًا لِدفعِها عن طيب خاطر؛ ذلك أن من الصعب على النفس أن تُلقِي في اليَمِّ بما أنفقَت فيه جُهدًا ومالًا، واستثمرَت فيه أملًا وضَيَّعَت عُمرًا، يُقال لِهذه الظاهرة النفسية «أثر الكلفة الغاطسة».٣ إن واجبنا في مجال العلم أن نُبَجِّل الزميلَ الذي يعترف بخطئه ويُقلِع عن باطلِه، لا أن ندينه ونعاقبَه ونسلقَه بألسنةٍ حِداد. واجبنا أن ندخر الشجبَ والإدانةَ لأولئك الذين يُصِرون على الخطأ ويستميتون في تبريرِه.
  • يتهرب العلماءُ الزائفون من النشر في المجلات العلمية المحكَّمة، ومن «مراجعة النُّظَراء»؛٤ بِزَعم أن المجتمع العلمي ومحرِّري المجلات متحيزون ضدهم ولن يَقبلوا إسهاماتِهم، ومِن دأب العلماء الزائفين أن يطلبوا من منتقديهم أن يبرهنوا على خطأ نظريتهم، بدلًا من أن يبرهنوا هُم على صوابها (نقل عِبء البرهان).٥
  • يركز العلمُ الزائف على الأمثلة المؤيِّدة ويضرب صَفحًا عن الأمثلة المضادة، بينما العالِم الحق ينتحِي بغريزتِه نحو الأمثلة المفنِّدة، وينحني للخلف (على حد تعبير ريتشارد فيمان) عسَى أن يبرهن على أنه مخطئ. إنه يأخذ مسافةً من عملِه، ومِن عِزَّتِهِ بأي شيءٍ عدا الحقيقة. يتضمن ذلك أن عليه أن يصمِّم تجاربَ صارمةً تختبر فرضيتَه اختبارَ النار، وتُثبِت كذبَها إن أَمكَن.

  • يقدم العلماءُ الزائفون أطروحاتٍ مقطوعةَ الصلة بكل المعارف القائمة، ويزعمون دائمًا أن أعمالهم قائمة على نماذج إرشادية جديدة تمامًا؛ وهُم مِن ثم يُطلِقون مزاعمَ يقتضينا قَبولُها الإطاحةَ بكل ما نعلمه عن العالَم، ويَدَّعون أنها اختراقات أو «تحولات في النموذج».٦ إن تحولات النموذج لَتحدث في تاريخ العلم، ولكنْ على فَترةٍ ونُدرة، وتتطلَّب دليلًا قويًّا وتجاربَ فاصلةً جيدةَ التصميم قابلةً للتكرار، عملًا بالقاعدة القائلة بأن «الدعاوى الهائلة يلزمها دليلٌ هائل».٧
  • يستند العلماءُ الزائفون في إثبات فرضياتهم إلى «النوادر الفردية وشهادات الآحاد»،٨ وهي أشياءُ لا تَصلح بذاتها كدليل، وإنْ كانت مُلهِمةً أحيانًا في سياق الكشف،٩ وذاتَ فائدة أحيانًا في توضيح ما قد ثبت بالدليل؛ ذلك أننا لا تَصِلنا في العادة إلا الشهاداتُ الإيجابية، أما الشهاداتُ السلبية فسوف تحتجب تلقائيًّا. هَبْ أن ألف شخص تناولوا علاجًا مزعومًا، وأن عشرةً منهم فقط اعتقدوا أنهم آنَسوا فائدةً منه فقدموا لنا عشرَ شهاداتٍ فردية مؤيِّدة لفاعلية العلاج، إن التسعمائة والتسعين الذين لم يُشفوا — وهم الأغلبية العظمَى — لن تَراهم مِن بَعدُ ولن تسمَعَ لهم رِكزًا (بيانات محجوبة).١٠ من ذلك تتجلى لنا أهمية «المجموعات الضابطة»١١ في التقييم الصحيح لأي دعوى تتعلق بفاعلية علاج جديد.
أما النوادرُ الفردية — الصارخةُ البراقة — فينبغي ألا تَفتِنَنا في عملنا العلمي؛ فالنُّصوع المضَلِّل١٢ للنادرة يُعَمِّق انطباعَها ويُرَسِّخ ذكراها ويُضخِّم تأثيرَها النفسي تضخيمًا زائفًا، ويُغرِي المخيلةَ بأن تَلِجَّ في الوهم، ويجعل للنادرةِ الواحدةِ فاعليةَ ألف مثال عادي. هذا ما يجعل العلماءَ الزائفين يلجئون إلى النوادر ويستدلون بحكايا فردية أشبه بحكايا العجائز. من أمارات العلم الزائف أنه يتحدث إليك بالقصص والروايات، لا لكي يُؤنِسَ ويوضِّح بل لكي يَستدِل ويبرهن (التفسير بالسيناريو). وما هكذا تُورَد الإبلُ في العمل العلمي الذي يرتكز على العينات العشوائية المُمَثِّلة والتجارب المنضبطة والدلالة الإحصائية ومَيكنة تسجيل البيانات.
  • يُولَع العلماءُ الزائفون باستخدام رِطانات مبهَمة، ويخترعون معجمَهم اختراعًا على حد تعبير روري كوكَر (الطاقة الكونية الحيوية، الطاقة، مستويات، تعاطفات، منظومة خط الزوال، التكبير السيكوتروني …) لكي يتشبهوا بالعلماء الحقيقيين ويوهموا الناس بأنهم منهم، ويميلون إلى المزاعم العريضة و«نظريات كل شيء»، والادعاء بأن إجراءً هزيلًا معيَّنًا يحل شتى المشكلات، وبأن عقارًا لا أصل له يَشفِي جميع الأدواء، بينما يتسِم العلمُ الأصيل بالتواضع والأناة والاقتصاد في الزعم، ويتوفر في الأغلب على مشكلةٍ واحدة في الوقت الواحد.

وللعلماء الزائفين تعويذةٌ أثيرة هي لفظة «كلي» و«كلية»،١٣ ويُكثِرون من ترديدها كرطانةٍ موهِمة من جهة، وتهرُّبٍ من التفنيد من جهة أخرى، ورغم أن «الكلية» قد تكون قولةَ حق في بعض السياقات؛ فهي في سياقات العلم الزائف قولةُ باطل تعمل على «طمس جميع التمييزات المفيدة التي جَهِدَ الفكرُ الإنساني في وضعها طيلةَ ألفَي عام» على حد تعبير روجر لمبرت.

(٢) المُقام في الفجوات

للخرافة غريزةٌ حشرية تنتحي إلى الشقوق وتعشق الثغرات وتقيم في الفجوات. يسود الدجلُ ويَركُز لواءَه في المناطق التي ما زال العلمُ فيها مُبلِسًا مُحَيَّرًا لا يملك جوابًا حاسمًا:
  • في المجال العلاجي يرتع الدجل وتعلو نبرتُه في نطاق الأمراض المستعصية الغامضة التي لا يزال البحثُ الطبي يقاربها بأناةٍ وحذر: السرطان، الشقيقة، التهاب المفاصل، الإيدز … إلخ. يريد الدجل أن يتلَقَّف أناسًا مذهولين بالمرض متخبطين في اليأس متنازِلين عن المنطق.

  • وفي صدد نظرية التطور يحلو للفكر الخرافي الإشارة إلى الفجوات غير المفسَّرة في سِجِل الحفريات، ويتمنى من أعماق قلبه أن تبقى إلى الأبد غيرَ مفسَّرة.

(٣) الحِس المشترك

يظن عامةُ الناس أن الحِس المشترك مُرشِدٌ وَثِيقٌ لِفَهم الظواهر وتقييم العالَم الطبيعي، ونحن نُسَلِّم بوجاهةِ المخزون البشري من الحكمة الشاملة لجميع الناس والموَرَّثة عبر الأجيال، والتي أعانت الكائناتِ البشريةَ على البقاء وعلى الإبحار في عالمٍ معقَّد.

نحن نُسَلِّم بحكمة الحِس المشترك وقيمته في نطاق الحياة اليومية، ولكنْ حين يكون المَقامُ مَقامَ علمٍ دقيقٍ يسعى إلى فهم تشغيلات العالَم الخارجي وتشغيلات الدماغ البشري يكون الحِسُّ المشترك مِحَكًّا غيرَ مأمون. لقد تطور الدماغُ البشري لكي يُمَكِّن صاحبَه من البقاء ويضمن لجيناتِه أن تَمُرَّ إلى الأجيال التالية، ولم يتطور من أجل أن يفهم عمليات العالَم الطبيعي، سواء على المستويات الفلكية أو تحت الذرية أو النيوروبيولوجية، والعلمُ لا يأتي إلينا طوعًا؛ لأنه كثيرًا ما يقتضينا المسيرَ ضد الحس المشترك،١٤ يقتضينا أن نمحو الكثيرَ مما تَعَلَّمناه من قبل أو اكتسبناه فيما سبق.

إن الأرض لَتبدو مسطحةً للحس المشترك، والشمس تدور حول الأرض فيما يظهر للحس المشترك، والأشياء المتحركة تتباطأ تلقائيًّا في مَرأَى الحِس المشترك إلى أن تتوقف (بينما هي في الحقيقة تتحرك إلى ما لا نهاية ما لم يَحُل دون ذلك حائل)، والذاكرة تبدو كشريط تسجيل للحس المشترك، والأضداد تتجاذب فيما يظن الحس المشترك، والعين الرجراجة دليل الكذب لدى الحس المشترك … إلخ.

تَلفِتُنا الخُدَع البصرية العديدة إلى أن الإدراك البشري ليس بالدقة التي نظنها، وتُنبِئنا دراساتُ الذاكرة وأخطاء تقارير شهود العِيان بأن الذاكرة البشرية خادعة مُرجِفة ولا يُعَوَّل عليها، وتَجبَهُنا ظاهرةُ «الباريدوليا» بأن العقل البشري مرتَهَن للأنماط المخزونة فيه على نحوٍ لا فِكاكَ منه. إن الذهن البشري معطوبٌ بطبيعته، وليست إجراءاتُ البحث العلمي سوى تدابيرَ تعويضيةٍ لِتَدارُكِ هذا العطب الصميم. إنما نَشَأت الطرائقُ العلمية لكي تتلافَى هذه العيوبَ وتعوضَ هذا القصور:
  • عشوائية العينة.

  • إجراءات أخذ العينة الممَثِّلة، كمًّا وكيفًا وبعد انقضاء زمن.

  • مَيكنة تسجيل البيانات (لِتَجَنُّب ميل البشر لرؤية ما هم مُهَيَّئون لرؤيته).

  • المجموعة الضابطة ذات العَمَى المزدوج.١٥
  • الدلالة الإحصائية.

  • التحديد المسبق لما عساه أن يؤيد الفرضية وما عساه أن يفندها.

  • مراجعة النظراء.

  • تكرار التجربة.

والضمانة الكبرى بعدُ للأداء العلمي القويم هي الصفة المؤَسَّسِية للعلم؛ فالعبرة إنما هي بِعلمية المؤسسةِ الكلية لا العالمِ الفرد، بالعقلانية والموقف النقدي المبيَّت في المؤسسة ككل؛ ذلك أن العلماء بشر، وعُرضة من ثم للتقصير في اتباع الطريقة العلمية، شأنهم شأن المهنيين من كل صنف. ثمة صمامات أمان في قلب المنظومة تتمثل في السياسات الرقابية للوكالات العلمية المانحة ومؤسسات البحث والدوريات تكشف صراع المصالح لدى الباحثين. إن الحاضنة العقلانية هي الكفيلة بِرَدِّ كلِّ انحراف إلى الجادة، ورَدِّ كلِّ مَيلٍ إلى القَصد وكلِّ زَيغٍ إلى سَواء الصراط، وهي الكفيلة بمنع ما هُيِّئَت له عقولُنا من مَزالق، وهي الكفيلة بالحفاظ على صفة «التصحيح الذاتي» وضمان الصفة الديمقراطية للعلم.

(٤) وَعثاء التطور

ولقد بَقِيَت به لأنه بَقِيَ بها.

***

تَبَنَّى الإنسانُ عبرَ رحلةِ التطور استراتيجياتٍ معينةً من الاقتصاد الذهني أعانته على التكيف والبقاء في بيئةٍ محفوفة بالمخاطر من كل صنف. تطورَت هذه الاستراتيجيات تحت وطأة ظروفٍ قديمة كانت تُلِحُّ على سرعة اتخاذ القرار حتى لو جاء ذلك على حساب صوابه الاستدلالي ودقته المنطقية. كان القرارُ «المُلَوَّث» السريع أجدَى من القرار الحصيف حين يكون قاتلَ البطء مُوبِقَ التدقيق. لقد كان الرهان الإدراكي والتفسيري باهظًا، وكانت «السلامة» هي القيمة الأولى والمُلِحَّة في كل تفكير وفي كل تفسير: الأنثروبومورفيزم، النزعة الإحيائية،١٦ التعميم المتسرع، البروكروستية، مغالطة المنشأ، نزعة الماهية، الباريدوليا، المُختصَرات الذهنية … إلخ، تلك استراتيجياتٌ إدراكية مُبَيَّتة في غَور دماغنا البشري وفي صميم مِعمارِنا المعرفي، ومن شأنها أن تُعِين الإنسانَ على اتخاذ القرار السريع المُسعِف وإنْ كان مَشُوبًا غيرَ دقيقٍ وغيرَ مُحكَم.
يبدو — إذن — أن الخرافةَ هي الأصل! وأن من طبيعة عمل العلم أن يسبح ضد هذا التيار الجِبِلِّي ويجتاز هذه العوائق الطبيعية؛ فيصطنع من الإجراءات الاحترازية والضوابط الاحتياطية ما يُعَوِّض به أوجُهَ النقص في الإدراك والاستدلال البشريَّين. إنما العقلُ أَسيرٌ للمخطَّطات والأنماط المبيَّتة فيه، والتي انطبعَت فيه بفعل خبراتٍ سابقة لم يكن له يدٌ فيها، واتخذَت ما اتخذت من أشكال كنتيجة لعددٍ كبير من «العوارض»١٧ المَحضة.

ثم إن هذه «الأنماط» أو «المخططات» أو «النماذج» — أو ما شِئت — تجد طريقَها إلى اللغة البشرية، حيث تُعَمَّر طويلًا بعد أن تكون أسبابُها الموضوعية قد تبدلَت أو زالت، فاللغة ليست مخزونًا مباشرًا لما هو موجود، بل هي بالأحرى مخزون أثري وتاريخي جزئيًّا لِما تَراءَى للبشر يومًا أنه جديرٌ بالحديثِ عنه والقولِ فيه. هذا الطابع التاريخي التذكاري التراكمي للغة هو ما يجعل تنقيتَها من التعبيرات المتنافرة مع قناعاتِنا الحالية أمرًا بالغَ الصعوبة.

تنطوي اللغةُ في ذاتها على «رؤية للعالم»١٨ وتصنيف للأشياء، أي على وجهةِ نظرٍ عامة إلى الأشياء وتَصَوُّرٍ إجمالي لِما يَكُونُه العالَم. إن للغة المحكية منطوياتٍ تاريخيةً حفرية تنقلب عبئًا ضارًّا عندما تتغلغل دون وعي منا في صميم إدراكنا الراهن للأشياء، وتفرض قوالبَها ونماذجَها على رؤيتنا الحالية للعالم، لَكَأَن الخرافةَ تُقِيم في عُقر اللغة المحكية، وفي كهولة الألفاظ الدارِجة، إرثًا من الماضي البعيد يُقِيم في الحاضر ويَحكُمه، وهو بِمَأمنٍ من الرقابة وحصانةٍ من الافتضاح.

(٥) ضرورة دراسة العلم الزائف

لا نعدم بين العلماء وفلاسفة العلم مَن يرى أن دراسة أمارات العلم الزائف هي تَزَيُّد لا داعيَ له، وتَرَفٌ نظري لا ضرورة فيه، فضلًا عن استحالتِه لِعدم وجود معيارٍ ضروري ولا كافٍ يَفصِل بين العلم واللاعلم، وقد ذكرنا من هؤلاء، على سبيل المثال لا الحصر: ماكنالي وفيربند وإليزابيث سبري، غير أننا نرى — آخذين بالاعتبار وجاهةَ كل ما يقولون — أن هذا الاتجاه هو الترفُ بِعينِه: إن المجتمعات لَتَتَرَدَّى في هاوية التخلف، والناس تموت موتًا حقيقيًّا، من جراء الافتتان بالعلوم الزائفة واتباع أباطيلها. يقول إمري لاكاتوش في حديثه «العلم والعلم الزائف»: «إن حق الحزب الشيوعي في تقرير ما هو علمٌ ويُنشَر وما هو علمٌ زائفٌ ويُعاقَب ظَلَّ حقًّا قائمًا، كما أن المؤسسة الليبرالية الجديدة في الغرب لها الحق أيضًا في أن ترفض مَنحَ حرية الحديث لما تعتبره علمًا زائفًا (مثلما رأينا في حالة الجدل المتعلق بالذكاء والعنصر)، من أجل ذلك فإن مشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف ليست مشكلةً زائفة تليق بالفلاسفة النظريين في مقاعدهم الوثيرة، إن لها منطوياتٍ أخلاقيةً وسياسية هي من الخطورة بمكان.»

أما البروفيسور سكوت ليلينفِلد فيذهب إلى ضرورة تدريس خصائص العلم الزائف من أجل الفهم القويم للعلم، الذي لن يبلغ تمامَه إلا بفهم نقيضه: العلم الزائف (وبضدها تتميز الأشياء)، ومن أجل غرس الفكر النقدي في عقول الطلاب الذين يلتحقون بالجامعة وأذهانُهم متخمةٌ بالخرافات والأساطير الحديثة.

وقد أشرنا في هذا الصدد إلى دراسات إمبيريقية حديثة تثبت أن دراسة التمييز بين العلم والعلم الزائف تُفضِي إلى صَرف الناس عن تبني الاعتقادات الخرافية، وإلى تَحَسُّن القدرة على تقييم أخطاء الاستدلال في المقالات العلمية، والتعرف على الأخطاء المنطقية فيها، وتقديم تفسيرات بديلة لنتائج البحث.

وفي عالمنا الجديد الذي تمطرنا فيه الوسائط الإعلامية بوابلٍ من الخرافات الجديدة، وسيولٍ من الغثاء المنفلِت والنظريات الزائفة والدجل الوَقاح، لم تَعُد مشكلةُ التمييز بين العلم واللاعلم ترفًا بل قضية مُلِحَّة، وضرورة تعلو على كل ضرورة.

إن من حق الناس أن تتلقى المعلومات الصحيحة، وأن تؤسس قراراتها واعتقاداتها على بياناتٍ صادقة لا زيف فيها ولا خداع. من حق المرضى أن يتلقوا العلاج الحقيقي، ومن حق المُصَوِّتين أن يُدْلُوا بأصواتهم بناءً على حقائق. إن الأمية العلمية تقتل الفكرَ النقدي وتُخلِّف أجيالًا تدمن الوهمَ وتراهن على الباطل وتختار لِأُمتِها المَسارَ المُهلِك. الاقتراعُ العام في مثل هذه الأجيال إنْ هو إلا استقواءٌ بالجهل وتَجيِيرٌ للأمية وتَدويرٌ لِعوادِم الانحطاط.

(٦) جاذبية الخرافة

للخرافة جاذبيةٌ هائلة، ومهما تقدم العلم فسوف تظل الخرافةُ تحتل أعَزَّ الأمكنة من قلوب البشر وأعمقَ الأغوار من أنفسهم؛ ذلك أنها هي الأصل وهي العِلم الأقدم، وهي التي قدمت للإنسان الوعدَ والسلوى يومَ كان مُلقًى هَمَلًا في عالمٍ موحِشٍ ملغَزٍ خَطِر. والوعد — حتى لو كان كاذبًا — ليس بالشيء الهَيِّن، فهو للنفوس المغلوبةِ على أمرِها أنيسُ الأيام وسميرُ الليالي.

مُنًى إنْ تَكنْ حقًّا تكنْ أحسنَ المُنَى
وإلا فقد عِشنا بها زمنًا رَغدًا
غير أن هذا المنطقَ إن جاز أن يُفعل في أزمنة الضعف والعجز فإنه لا يجوز للإنسان اليوم بعد أن فَك طلاسمَ الطبيعة وأمسكَ بقرون الظواهر، لم يَعُد الإنسان في عصر العلم يَقنَع بهلوسةِ ساكني اللابِرِنت١٩ أو بِخَدَر آكلي اللوتس،٢٠ تلك مَعِيشةٌ سلبيةٌ كئيبةٌ تقتات بالوهم عِوَضَ أن تُغَير الواقع، وتُزَيِّن الشوكَ عِوَض أن تقتلِعَه.

يُفتَتَن بعضُ الناس بالخرافة؛ لأنها مثيرةٌ للدهشة زاخرةٌ بالغرابة، ولِهؤلاءِ نقول: إن العلمَ يفوقُها في هذا المضمار فتنةً وإدهاشًا ويَزيد عليها بأن غَراباتِ العلمِ حَق. إن نظرةً في تلسكوبٍ أو مجهر لَتُلقِي بالمرء في عوالمَ فاتنةٍ بديعةٍ ملونةٍ أنعمَ من أهداب الحُلم وأغربَ من نَسْج الخيال، غير أنها حَق: أطراف الكون القَصِية، تشكيلات الأنجم والمجرات، تلافيف الدماغ ومَسالكه ودُروبه، العالم تحت الذري، العالم الجِيني، قصة التطور تقرؤها منقوشةً في أحافير الصخور وأنوية الخلايا، أعاجيب لم يَجُد بمِثلِها خاطرٌ ولم تتفتق بمثلِها قريحة.

ويُفتَتَن البعضُ بالخرافة؛ لأنها تدغدغ عواطفَ وتَبعَثُ نَشَوات، ولِهؤلاءِ نقول: إن للعلم مَقاماتِه وأحوالَه وطَرَبَه ومَواجدَه. «الطريقة العلمية» مِلَّةٌ حياتية لها أخلاقياتُها بل روحانياتها: التطَهُّر بالاختبار، الاعتراف بالخطأ، التَّبَتُّل للحقيقة، الوَلاء الخالص ﻟ «الدليل» evidence، التنزه عن الغرض، إرجاء الحكم، الانفتاح على الأفكار، الانتشاء بالكشف، الابتهاج بالزمالة.

(٧) طرائف تاريخية٢١

(٧-١) مرهم السلاح٢٢

من العلاجات التي راجت في القرن السابع عشر مرهمٌ خاص مُعَد من تركيبةٍ مسجلة معقدة، من عناصر يصعب الحصول عليها، زعموا أنها لا تؤتي مفعولَها إلا إذا اتُّبِعَت وصفتُها بدقة، وعجيبُ أمرِ هذا المرهم أنه لا يُدْهَن به الجرح بل السلاح الذي أحدَثَ الجرح! وقد صَدَّق عليه فرنسيس بيكون نفسُه، أبو التجريب العلمي الحديث ومؤسسُ الفلسفة الاستقرائية! الذي كان متشكِّكًا في البداية ولكنه اقتنع بنفس الطريقة التي يقتنع بها كثيرٌ من عِلية المتعلمين في زمننا الحديث بممارساتٍ تبدو مزرِية: لقد شاهد النتائجَ مباشرةً، شاهدها بأم عينِه، وآمنَ مِن ثم بأنها صادقة بالضرورة.

كيف يمكن لشخصٍ في طبقة بيكون التعليمية أن يَسقط في مثل هذه الممارسة السخيفة؟! الحق أن مرهم السلاح أقنعَ المتشككين إذ شاهدوا بأعينِهم نتائجَه المُذهِلة، لقد كان علاجًا ناجعًا حتى إذا كان الشخصُ الجريح لا يَدرِي أنه يعالَج، بل قيل: إنه كان ناجعَ التأثير حتى على الحيوانات (وهي نقطةٌ وجَدَها بيكون دامغةً إذ بَدا أنها تَستبعد عاملَ الإيحاء)، أما حالات الفشل فكانت تُفَسَّر — استبعاديًّا — بوجود خطأ في إعداد التركيبة المعقدة للمرهم.

أما الشيء الذي فات الجميع — ولهم كل العذر في ذلك — فهو الخطوة المبدئية في البروتوكول: أن يُنَظَّف الجرح بعناية ويُضَمَّد، فقد كان مرهم السلاح سابقًا تاريخيًّا على نظرية الجراثيم، ولم يكن هذا الإجراء مُتَّبَعًا في تلك الأيام، هذا هو التفسير الأرجح للنجاح الباهر للعلاج: غيار الجرح لا دَهن السلاح.٢٣

(٧-٢) جَرَّارات بيركينز٢٤

انتشرت في القرن الثامن عشر أدوات تسمى «جرارات بيركينز» وراجت رواجًا عظيمًا، وقد ابتكرها دكتور إليشا بيركينز (١٧٤١–١٧٩٩م)، خريج جامعة ييل، وهو رجل مشهود له بالإخلاص والصدق والإيثار والإحسان، والأداة عبارة عن قضيبَين معدنيَّين قصيرَين مصنوعَين من عدد من المعادن المختلفة، وكان يُعتقَد أن لها خواصَّ علاجيةً معينة، اجترحَ بيركينز في أداته امتدادًا استقرائيًّا٢٥ غيرَ مشروع من العلم المشروع في زمنه، والمتعلق بالكشوف الاختراقية العلمية الأصيلة عن الكهربية، مثال ذلك: أن البطاريات البدائية كانت تُصنَع من طبقات متبادلة من أقراص معدنية متباينة (مثل النحاس والزنك)، وهذا مما أضفَى على جراراته المظهرَ السطحي بأنها قائمة على «العلم»، وكان من شروط الاستخدام السليم لها أن تُجَرَّ على جسم المريض إلى أسفل حتى تؤتي أثرَها، أما الجَر إلى أعلى فكان يُعتقَد أنه يُفاقِم المرض!

ذاع صيتُ جرارات بيركينز وانتشرت في أوروبا ونالت شهاداتِ آحادٍ إيجابيةً عديدة وسجلت مبيعات هائلة، ولكي يدحض أنصارُ الجرارات اعتراضَ الشكاك بأن الشفاء يحدث بسبب الإيحاء الإيجابي فقد زعموا أن حيوانات — كالخيول — قد تَمَّ علاجُها بنجاح بواسطة تلك الجرارات.

أما الذي قَضَى على هذه التقليعة في النهاية وأَبطلَ أسطورتها فهو أن عددًا من الأطباء المتشككين صنعوا زوجَين من الجرارات من الخشب وأسبغوا عليها بالطلاء مظهرَ المعدن، فإذا بالجرارات المزيفة تؤتي نفسَ الأثر الشفائي العجيب، ولما كان الأثرُ العلاجي يُعزَى إلى المعدن فقد تم بذلك تكذيب الدعاوي العلاجية، وبحلول عام ١٨١٠م كانت جرارات بيركينز قد أُسدِلَ عليها الستار.

(٧-٣) المِزمَرية وتدويراتها

في أواخر القرن الثامن عشر راجت «المِزمرية»٢٦ (نِسبةً إلى فرانز مِزمَر) رواجًا كبيرًا، وهي ممارسةٌ تقوم على الاعتقاد بوجود «قوة حيوية» و«سائل كوني» متعلقَين ربما بالمغناطيسية، التي إن أُعِيقَت يمكن أن تسبب عددًا من شتى العِلَل، بما فيها مشكلات الصحة النفسية. كان المرضى يجلسون في ماءٍ مُمَغنَط أو يُشَدُّون إلى أقطابٍ ممغنطة بينما يهز المعالِج عصا ممغنطة فوق المريض. كان ذلك يجري على مَرأَى من جموع المشاهدين، وكان مِزمَر يتغمد المرضَى الفقراءَ أيضًا بإحسانِه فيربطهم إلى جذوعِ شجرٍ يُعتقَد أنه ممغنط.
وكانت النهاية عندما كَلَّفَ الملك لويس السادس عشر كلًّا من بنيامين فرنكلين وأنطوان لافوازييه بإجراء استقصاءٍ أكثرَ منهجيةً لهذا الأمر، فقام هذان العالِمان باستخدام علاجاتٍ تبدو في الظاهر مِزمَرية، غير أنها في الحقيقة لا تشتمل على أي شكل من المغنطة، وذلك كإجراء وهمي ضابط، وعندما أدت العلاجات الوهمية إلى نفس النتائج تم دحض المزمرية إلى حد كبير، وانتهت خرافة المزمرية بفضل هذا الاستخدام المبكر للتجربة «ذات العَمَى المزدوَج».٢٧
ذهبَت المزمريةُ وبقيت تناسخاتُها، سلالاتُها، تدويراتُها، تُبتكَر الواحدة تلو الأخرى إلى يومنا هذا: فض حساسية وإعادة معالجة حركة العين EMDR — على سبيل المثال — هي سلالة مِزمرية جديدة في رأي بروفيسور ريتشارد ماكنالي، أستاذ علم النفس بهارفارد، فكلتاهما تَزعم شفاءَ طيفٍ عريضٍ من الحالات، وكلتاهما ابتكرَها وناصرَها أشخاصٌ كارِزميون، وكلتاهما أَسست فصولًا تدريبية دراسية مسجلة وكوَّنَت رابطات لدعم العلاجات الجديدة. وإذا كانت الدجليات القديمة تَقضِي نحبَها على يد التجريب العلمي، فإن السلالات الراهنة للدجل تلجأ إلى التفسيرات الاستبعادية التي تُفَصَّل بعد الواقعة٢٨ للتملص من الدحض.
من تدويرات المزمرية ما يُسمى «الأساور الصحية»،٢٩ فهي أيضًا تَدَّعِي الأساسَ العلمي: مغناطيسية، أيونات، موجات راديو … إلخ، يدَّعي أنصار الأساور الصحية أنها تتلقى كهرباءَ شبيهةً بموجة الراديو طَوَّافةً في الجو، وهي من أجل ذلك تُطلَى بالذهب أو الفضة لكي تكون جيدةَ التوصيل، وهي تحوِّل الموجةَ الملتقَطة من الهواء إلى كهرباءَ يَسرِي تيارُها في الجسم ويؤدي إلى إنعاش الجهاز العصبي!

لماذا يقع الأذكياءُ في «المِزمَريات»؟

ينبغي أن نعترف في البداية أن النظَر المؤخَّر٣٠ (بِأَثَر رَجعي) حادٌّ دائمًا، وأن «الحكمة» تصل دائمًا «بعد الحفل»،٣١ وبومة منِرفا لا تحلق إلا ليلًا: نحن نضحك من الممارسات الزائفة التي خَدعَت الأجيالَ الماضية ونراها مهازلَ مضحكة، بعد أن أُنبِئنا بتأويلِها وكُشِفَ لنا باطلُها، في حين نقع نحن في سلالاتِها المعدَّلة ونتبنَّى صيغَنا الخاصة من المزمرية الجديدة:
  • فض حساسية وإعادة معالجة حركة العين EMDR.
  • البرمجة العصبية اللغوية NLP.
  • علاج حقل الفكر thought field therapy.
  • موالفة الدماغ brain tuning.
  • إلخ إلخ.

(٨) سِحر النوادر الفردية وشهادات الآحاد

تَسحرنا الأمثلةُ الشائقة وبخاصة حين تأتي «من المنبع»٣٢ وتتخذ شكل «سيناريو»، مثلما كانت تسحرنا في الصغر حكايا الجدَّات، وللشهادة الشخصية المباشرة قوةُ جذبٍ عاتية يصعب الانفلاتُ منها، بما للسرد الحي من نبضٍ وبما للحضور الشخصي من سطوة، وبِوُسع واقعةٍ زاهيةٍ واحدة أن تستحوذ على الانتباه وترسخ في الذاكرة وتستعصِي على النسيان، وتقوم في الذهن مَقامَ ألف مثال.

(٩) سطوة الواقعية الساذجة

تفيد «الواقعية الساذجة»٣٣ أننا نجنِي المعرفةَ من الملاحظة المباشرة، مما نراه رأيَ العين، وأن ما نراه بأعيننا «واضح بذاته»،٣٤ ولنا أن نستمد منه نتائجَ دون حاجةٍ إلى مَزِيد من إعمال الفكر أو من التأمل النقدي في تفسيراتٍ بديلة.

ونحن نُسَلِّم بأن الملاحظة المباشرة هي نقطة بدايةٍ ممتازة، على أن نتفطَّن إلى أن الملاحظة التي لا يعقبها اختبارٌ صارم ونظرٌ نقدي في تفسيرات بديلة قد تُفضِي إلى نتائجَ مغلوطةٍ تَضُر بالمرضى أو تُضيع وقتَهم ومالَهم على أقل تقدير، في مثال «مرهم السلاح» سالف الذكر شاهد بيكون بعينِه نجاعةَ الإجراءات، ولكنْ فاتَه التفاتٌ إلى الفائدة الممكنة لعملية تنظيف الجرح وتضميده.

إن كثيرًا من الممارسين الإكلينيكيين واقعيون ساذجون بهذا المعنى، فَهُم يُسَلِّمون تسليمًا بما يشاهدونه في خبرتهم دون أن يفكروا في تفسيراتٍ بديلة: فنحن لكي نَعقِد استدلالات عِلِّيَّة فإن لِزامًا علينا أن نصمم تجاربَ جيدةً تضع بالاعتبار التفسيراتِ البديلةَ وتُقَيِّض لها مجموعات ضابطة.

(١٠) انحياز التأييد٣٥

يغلب علينا في الممارسة الإكلينيكية أن نلتفت إلى النجاحات، وأن نغضَّ الطرفَ تلقائيًّا عن ضرباتنا الخائبة، وهذا لون من «انحياز التأييد»: أن نركز على ما يؤيد اعتقاداتنا ونغُض الطرفَ ونضرب صَفحًا ونَطوِي كَشحًا عن الأمثلة المضادة أو نفسرها تفسيرًا غرضيًّا استبعاديًّا متخَلِّصًا. أما العالِم الحق فإن الحقيقةَ أحَبُّ إليه من نفسِه، والكشف عن الحقيقة أهَمُّ عنده من إثبات صواب ملاحظاته المبدئية. العلماء الحقيقيون لديهم مَيلٌ غَرَزِي إلى إثبات أنهم على خطأ!

هل يتعلم الإكلينيكيون حقًّا من الخبرة؟ الخبرة قِيمةٌ لا تُنكَر، غير أن الاعتداد بخبرة سنواتٍ طويلة من الممارسة الإكلينيكية دون إقامتِها على الدليل لا يَعدو أن يكون اعتدادًا بسنواتٍ طويلة من «انحياز التأييد»!

(١١) الحَرَج من تغيير الرأي

ينبغي أن نعترف بأننا جميعًا نتحرَّج من تغيير رأينا بعد طول تَمَسُّكٍ واعتداد، فنحن نخشى الاتهام بالتقلب والنفاق والخيانة والهشاشة وضعف الشخصية وعدم الالتزام وعدم الثبات على المبدأ. على أن «الالتزام والثبات على المبدأ» قد لا يَصلُح مبدأً يحدو العالِمَ على طول المدى. العالم الحقيقي لا يلتزم إلا ﺑ «الدليل»٣٦ ولا يَنشُد إلا الحقيقة، وهو على استعداد دائمًا للعدول عن فرضيته إذا لم تَثبُت للاختبار.
ثمة «أمرٌ إبستِمولوجي مطلق»٣٧ يقيم في وجدان العالِم الحق ولا يملك أن يعصيه:

فَكِّرْ بحيث تكون على استعدادٍ مِن حيث المبدأ لأن تُغَير رأيَك إذا ما تَبَيَّنَ خَطَؤه.

وعلى طريقة إيمانويل كَنْت: إن شيئَين يملآن عقلَه بالإعجاب والإجلال المتجدِّدَين والمتزايدَين على الدوام: السموات المرصَّعة بالنجوم من فوقه، والقانون الإبستمولوجي المطلق في داخله.

(١٢) فخ التبرير٣٨

حين ينفق المرءُ الكثيرَ من الوقت والمال والعمر مستثمرًا في مشروعٍ ما فإن من الصعب عليه جدًّا أن يعترف بزيفِه إذا تَبَيَّنَ له، وبدلًا من الاعتراف فإنه يتمادَى في تبرير باطلِه بالانخراط في انحياز التأييد، وفي التفسير الاستبعادي للأدلة المضادة، وفي غير ذلك من الاستراتيجيات المُغالِطة.

يتَجَذَّر الاستثمار في العلم الزائف، ويترسخ الالتزامُ به أكثر فأكثر من خلال اللقاءات والمؤتمرات، حيث يَعرِض الأشخاصُ خبراتهم الإيجابية مع عِلمِهم المزعوم، ويتقلَّبون في دفء الأمثلة المؤيدة والنوادر الفردية وشهادات الآحاد.

(١٣) هذا الكتاب

هذا الكتاب — في شطرٍ كبيرٍ منه — عبارة عن فصول متفرقة توجِز إسهامَ ثلة من كبار المفكرين والعلماء وفلاسفة العلم في مسألة التمييز بين العلم والعلم الزائف: توماس جيلوفيتش، باري بيريشتاين، كارل بوبر، إمري لاكاتوش، سكوت ليلينفِلد، روري كوكر، جون كاستي، ماريو بَنج، ريتشارد ماكنالي، أنتوني براتكانيس، فالكتابُ — بمعنًى ما — مزيجٌ من التأليف والتصنيف شأن بعض أعمالي المبكرة، ومن حيث هو فصول متفرقة في موضوعٍ واحد لم تكن ثمة مندوحة عن شيءٍ من التداخل، أرجو أن يكون تداخلَ تَبيينٍ وزيادةَ خير.

ويبقَى أن أُوَجِّهَ عنايةَ العالِمِ الحقيقي نفسِه إلى أن أدهَى تمثلات العلم الزائف وأخفاها هو ثقتُكَ الزائدةُ ببضاعتِك، وتقديرُك المبالَغ فيه لِعلمِك، ثرائه وسَدادِه وطولِ ذراعِه، فتُفتِي فيما لا تعلم، وتقدم لمجتمعِك أفكارًا غيرَ مُجدِية، وخُطَطًا غيرَ رشيدة.

وبعدُ، فهذا الكتاب هو بمثابة تَتِمَّة لكتاب «المغالطات المنطقية»، أُسدِّد به نصفَ دَيْني لهذا الشعب الطيب، الذي لدغَته الخرافةُ على غير انتظار بعد أن قَطَعَ نحو الحداثة شوطًا يُذكَر. لَكأنه استحَبَّ المكوثَ في «اللابِرِنت»، واستَمرَأَ أكلَ «اللوتس»،٣٩ وباتَ لِزامًا على قُوَى التنوير أن ترشدَه ﺑ «خيط أريان»، وتشُدَّه بذراع أوديسيوس.
عادل مصطفى
[email protected]
٢٠ / ١١ / ٢٠١٧
١  الغرضية/العينية/الترقيعية ad hoc hypotheses.
٢  كان المسلَّم به أن فصيلة الدم O هي مُعطٍ عام، فلما تبيَّن أن هذه الفصيلة في بعض الأحيان تقتل متلقيها من الفصائل الأخرى جرى البحث عن تفسير لذلك واكتُشِفَ عامل Rh: فإذا ما نُقِل دم من فصيلة O Rh +ve إلى شخصٍ آخر من فصيلة أخرى ذات Rh −ve كان ذلك غير ملائم، وانتهى البحث إلى أن صاحب فصيلة O Rh −ve هو وحده المعطي العام. أما اكتشاف كوكب نبتون فقد تم إذ رأى علماء الفيزياء النيوتونية أنه لا بد أن يكون هناك كوكب آخر بعد أورانوس، وذلك عندما أعجزهم تفسير انحراف المسار وفقًا للحسابات بأي طريقةٍ أخرى. لقد كانت هذه الفرضية التحايلية قابلة للاختبار من حيث المبدأ، وعندما تحسنت طرق الملاحظة فيما بعد تبين أنهم كانوا على حق.
٣  أو «أثر المنصرِف الغارق» sunk cost effect.
٤  peer review.
٥  burden of proof (onus probandi).
٦  paradigm shift.
٧  extraordinary claims require extraordinary evidence.
٨  anecdotes and testimonials.
٩  context of discovery.
١٠  invisible data.
١١  control groups.
١٢  misleading vividness.
١٣  holism.
١٤  ينبغي أن نضيف هنا أن التعارض المؤقت بين مفاهيم علمية معينة ومفاهيم أخرى للحس المشترك لا تُثبِت أن ثمة تعارضًا مستديمًا بين العلم والحس المشترك؛ ذلك أن مفاهيم الحس المشترك يمكن أن تكون مرنةً بعضَ الشيء، وأن التفكير العلمي يميل إلى أن يندمج مع الوقت في الحس المشترك ويلتئم بالفِطرة، مثال ذلك: إنه لَيبدو اليوم أن الاعتقاد باستواء العالَم أو بدوران الشمس حول الأرض هو ضرب من الخَرَف، إلا أن هذا الاعتقاد كان يومًا ما تصورًا سائدًا من تصورات الحس المشترك. على الحس المشترك — إذن — أن يدمج المفاهيم العلمية الجديدة في منظومته التصورية ولا يُجفِل منها، وأن يتعلم شيئًا فشيئًا أن ينظر إلى الأشياء نظرةً مختلفة. هنالك يَصدُق فيه قول ألفرد نورث هويتهد: «يتجذَّر العلمُ فيما أسميتُه الجهاز الكلي لفكر الحس المشترك، فمن معطيات الفطرة السوية يبدأ العلمُ وإليها لا بد في النهاية أن يعود. ربما يتوجب عليك كرجلِ عِلم أن تجلو هذه المعطيات الفطريةَ وتهذبها، وقد تعارضها في التفاصيل الجزئية، وقد تفاجئها بما لم يكن في الحسبان، غير أن مهمتك في نهاية المطاف أن تُقنِع هذه الفطرةَ وتُرضيها.»
١٥  double-blind.
١٦  أو الحياتية animism.
١٧  contingencies، العَرَضية (الإمكان/الحدوث) هي صفة كونِ الشيء غيرَ «ضروري» necessary، بذلك يُقال لأي شيءٍ غيرِ ضروري: إنه «ممكن» (حادث/عارِض/طارئ) contingent، يُعَد الحدث الذي لم يكن لِزامًا عليه أن يحدث هو حدث ممكن (عارض/طارئ)، وتُعَد الخاصة التي ليس لِزامًا على الشيء أن يتحلى بها هي خاصة ممكنة (عارضة/طارئة)، ويُعد الموجود الذي ليس وجودُه ضروريًّا هو موجود ممكن (حادث/عارِض/طارئ).
١٨  world view (Weltanschauung).
١٩  اللابرنت — في الميثولوجيا اليونانية — بناءٌ مَتاهٌ لا يعرف مَن يدخله كيف يخرج منه، بناه ديدالوس لِمينوس ملك كريت؛ لكي يحفظ فيه المينوتور دون أن يستطيع الهروب، وفيه أبخرةٌ مخدِّرة تُمِيت الإرادةَ وتُشِيع سكرًا خلابًا وتجعل المقيمَ فيه لا يريد الخروج منه.
٢٠  آكلو اللوتس، في الأوديسا، سكان جزيرة مَر بها أوديسيوس ورجالُه، يقتاتون على نباتات اللوتس، وهو طعامٌ مخدِّر يجعلهم ذاهلين طولَ الوقت، وكان مَن يستطلع أمرَهم من رجال أوديسيوس يُطعَم منه فيستمرئه ويريد البقاءَ في الجزيرة ولا يرغب في العودة إلى الوطن، وقد اضْطُر أوديسيوس إلى جذبِهم إلى السفينة بالقوة.
٢١  أفدتُ هذه الطرائفَ (وكذلك أمارات الخرافة بِعامة) من الفصل الأول من الكتاب القيم: Science and Pseudoscience in Social Work Practice, by Bruce A. Thyer and Monica G. Pignotti, Springer Publishing Company, New York, 2015.
٢٢  weapon ointment.
٢٣  من تَناسخات مرهم السلاح ما صار يُعرَف ﺑ «المسحوق السري» Sympathetic Powder. وهو تركيبة سِرية كانت تُرَش على الملابس المضرجة بدماء الجريح فتؤدي إلى التئام الجرح!
٢٤  Perkins Tractors.
٢٥  Extrapolation.
٢٦  Mesmerism.
٢٧  double-blind.
٢٨  post hoc explanations.
٢٩  health bracelets.
٣٠  Hindsight.
٣١  post festum.
٣٢  first-hand.
٣٣  naïve realism.
٣٤  self-evident.
٣٥  confirmation bias.
٣٦  evidence.
٣٧  epistemological categorical imperative.
٣٨  rationalization trap.
٣٩  انظر أسطورة اللابرِنت وجزيرة اللوتس فيما قيل آنفًا، وأيضًا في فصل «الحنين إلى الخرافة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤