الفصل الثامن والعشرون

أرسطوطاليس والمتنبي

للحاتمي

قال الإمام أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب اللغوي المعروف بالحاتمي: لما رأيت أبا الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن الشاعر اللغوي المعروف بالمتنبي، قد أتى في شعره على أغراض فلسفية ومعانٍ منطقية؛ أردتُ الموافقة بين ما توارد به في شعره مع أرسطو في حِكَمه؛ لأنه إن كان ذلك عن فحص ونظر، فقد أغرق في درس العلوم، وإن يكن ذلك منه على سبيل الاتفاق، فقد زاد على الفلاسفة في ذلك. وهو في الحالين على غاية الفضل، وقد أوردت من جمله ما يستدل بها على فضله.

أرسطو: إذا كانت الشهوة فوق القدرة، كان هلاك النفس دون بلوغها.

المتنبي:

وإذا كانت النفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجسام

أرسطو: رم نقل الطباع من ذوي الأطماع شديد الامتناع.

المتنبي:

يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل

أرسطو: نفوس الحيوان أغراض لحوادث الزمان.

المتنبي:

إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمر به الوحول

أرسطو: إذا تجردت اللطائف من الشكوك، اكتسبت الصورة رونقًا.

المتنبي:

إذا خلعت على عرض له حُللًا
وجدتها أنت في أبهى من الحلل

أرسطو: الألفاظ المنطقية مضرة بذوي الجهل لِنَبْوِ إحساسهم عن دركها.

المتنبي:

بذي الغباوة من إنشادها ضرر
كما تضر رياح الورد بالجعل

أرسطو: تعاقب أيام الزمان مفسدة لأحوال الحيوان.

المتنبي:

فما ترجى النفوس من زمن
أحمد حاليه غير محمود

أرسطو: الزمان يُنشئ ويلاشي، ففناء كل قوم سبب لكون قوم آخرين.

المتنبي:

بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد

أرسطو: يسيرٌ من ضياء الحس خير من كثير من درس الحكمة.

المتنبي:

فإن قليل الحب بالعقل صالح
وإن كثير الحب بالجهل فاسد

أرسطو: من علم أن الكون والفساد يتعاقبان الأشياء، لم يحزن لورود الفجائع؛ لعلمه أنه من كونها، وهان ذلك عليه؛ لعجز الكل عن دفع ذلك.

المتنبي:

إذا استقبلَتْ نفس الكريم مصابها
بخبث ثنت فاستدبرته بطيب

أرسطو: النفوس المتجوهرة تأبى مقارنة الذلة، وترى فناءها في ذلك حياتها، والنفس الدنيئة بالضد من ذلك.

المتنبي:

فحب الجبان النفس أورده البقا
وحب الشجاع الذكر أورده الحربا

أرسطو: ترك حركات الفلك تحيل الكائنات على جهاتها.

المتنبي:

ومن صحب الدنيا طويلًا تقلبت
على عينه حتى يرى صدقها كذبًا

أرسطو: باعتدال الأمزجة وتساوي الإحساس يفرق بين الأشياء وأضدادها.

المتنبي:

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم

أرسطو: من لم يردك لنفسه فهو النائي عنك وإن تباعدت أنت عنه.

المتنبي:

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألَّا تفارقهم فالراحلون همُ

أرسطو: من علم أن الفناء مستولٍ على كونه، هانت عليه المصائب.

المتنبي:

والهجر أقتل لي مما أراقبه
أنا الغريق فما خوفي من البلل

أرسطو: العيان شاهد لنفسه، والأخبار يدخل عليها الزيادة والنقصان، فأولى ما أخذ ما دل على نفسه بالنظر.

المتنبي:

خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به
في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل

أرسطو: قد يفسد العضو لصلاح الأعضاء كالكي والفصد اللذين هما يفسدان الأعضاء.

المتنبي:

لعل عتبك محمود عواقبه
وربما صحت الأجسام بالعلل

أرسطو: مباينة المتكلف المطبوع كمباينة الحق الباطل.

المتنبي:

لأن حلمك حلم لا تكلفه
ليس التكحل بالعينين كالكحل

أرسطو: الرجاء تمنٍّ، والشك توقف، وهما الأمل.

المتنبي:

وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه
وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي

أرسطو: علل الأفهام أشد من علل الأجسام.

المتنبي:

يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول

أرسطو: من تخلى عن الظلم بظاهر أمره وغفت جوارحه وكان مساكنًا بحواسه، فهو ظالم.

المتنبي:

وإطراق طرف العين ليس بنافع
إذا كان طرف القلب ليس بمُطرق

أرسطو: من يجعل الفكر في موضع البديهة فقد أضر بخاطره، وكذلك من جعل البديهة موضع الفكر.

المتنبي:

ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى

أرسطو: مباعدة الجواهر أبعد من التنائي بمباعدة الأجسام.

المتنبي:

وأتعب من ناداك من لا تجيبه
وأغيظ من عاداك من لا يشاكل

أرسطو: إذا لم تنصرف عن النفس شهواتها ومرادها، فحياتها موت، ووجودها عدم.

المتنبي:

ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش أخف منه الحمام

أرسطو: الفرق بين الحلم والعجز أن الحلم لا يكون إلا عن قدرة، والعجز لا يكون إلا عن ضعف، فليس للعاجز أن يتسمى باسم الحليم وهو عاجز.

المتنبي:

كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة تلتجي إليها اللئام

أرسطو: النفس الذليلة لا تجد ألم الهوان، والنفس الكريمة ترى الأشياء بطبعها.

المتنبي:

من يَهُنْ يسهُلُ الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام

أرسطو: الجاهل لا يحلو عنده طعم العلم، بل يجد له ثقلًا كما يثقل على المريض الأدوية النافعة، ويحلو له في فمه غير طعمها.

المتنبي:

ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريض
يجد مُرًّا به الماء الزلالا

أرسطو: ليس جمال ظاهر الإنسان مما يستدل به على حسن فعله وفضله.

المتنبي:

لا يعجبن مصونًا حسن بزته
وهل يروق دفينًا جودة الكفن؟

أرسطو: أقرب القرب مودات القلوب وإن تباعدت الأجسام، وأبعد البعد تنافر القلوب وإن تقربت الأجسام.

المتنبي:

وأبعد بعدنا بعد التداني
وأقرب قربنا قرب البعاد

أرسطو: إذا كان البناء على غير قواعد، كان الفساد أقرب إليه من الصلاح.

المتنبي:

فإن الصرح يفسد بعد حين
إذا كان البناء على فساد

أرسطو: لا يجد لذة الحياة من لا يجد لشهوته دراكًا، ولا لأمر دراكه تصرفًا.

المتنبي:

من لا توافقه الحياة وطيبها
حتى يوافق عزمه الإنفاذ

أرسطو: من نظر بعين العقل ورأى عواقب الأمور قبل مواردها، لم يجزع لحلولها.

المتنبي:

عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا
فلما دهتني لم تزدني بها علما

أرسطو: لحوق البغية صعب، وأعجز العجز من لم يعن عزمه في طلب الغاية.

المتنبي:

إذا قل عزمي عن هوى خوف بعده
فما بعد شيء ممكن يجد العزما

أرسطو: لا برح الفضل بترك الذم ثم التناهي في المدح.

المتنبي:

ومني استعار الناس كل غريبة
فحازوا بترك الذم إن لم يكن حمد

أرسطو: من قصر عن أخذ لذَّاته عَدِمها وعدم صحة جسمه.

المتنبي:

دع النفس تأخذ وسعها قبل بَينِها
فمفترق جاران دارهما العمر

أرسطو: من لم يرفع قدره عن قدر الجاهل، رفع الجاهل قدره عليه.

المتنبي:

إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقص
على هيبة فالفضل في من له الشكر

أرسطو: من أفنى مدته في جمع المال خوف العدم (الفقر)، فقد أسلم نفسه إلى العدم.

المتنبي:

ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر

أرسطو: الذي لا يعلم بعلته لا يصل إلى بُرْئه.

المتنبي:

ومن جاهل بي وهو يجهل جهله
ويجهل علمي أنه بي جاهل

أرسطو: حلول الفناء في عظيم الأمور كحلوله في صغيرها.

المتنبي:

فطعم الموت في أمرٍ حقير
كطعم الموت في أمر عظيم

أرسطو: قبيح بذي الجودة أن يفارقه الجود؛ لأنهما إذا اعتدلا كانا كشيء واحد ويحق بهما اسمان.

المتنبي:

والغنى في يد اللئيم قبيح
قدر قبح الكريم في الإملاق

أرسطو: العاقل لا يساكن شهوة الطبع لعلمه بزوالها، والجاهل يظن أنها باقية وهو باقٍ، فذاك يشقى بعقله، وهذا ينعم بجهله.

المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم

أرسطو: بالصبر على مضض الرئاسة تنال شرف النفاسة.

المتنبي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم

أرسطو: إن الحكيم تُريه الحكمة أن فوق علمه علمًا فهو يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه قد تناهى فيسقط بجهله وتمقته النفوس.

المتنبي:

وما التيه طبي فيهمُ غير أنني
بغيض إليَّ الجاهل المتعاقل

أرسطو وقد رأى غلامًا حسن الوجه، فاستنطقه، فلم يجد عنده علمًا، فقال: نعم البيت لو كان فيه ساكن.

المتنبي:

وما الحسن في وجه الفتى شرفًا له
إذا لم يكن في فعله والخلائق

أرسطو: إذا تجوهرت النفس الفلسفية، لحقت بالعالم العلوي، فلا تسكن إلى الهمم الترابية.

المتنبي:

ولذيذ الحياة أوقع في النفس
وأشهى من أن تمل وأحلى

أرسطو: الكلال والملال يتعاقبان الأجسام لضعف الجسم، لا لضعف آلة الحس.

المتنبي:

وإذا الشيخ قال أف فما ملَّ
حياة ولكن الضعف ملَّا

أرسطو: الدنيا تطعم أولادها وتأكل مولودها.

المتنبي:

أبدًا تسترد ما تهب الدنيا
فيا ليت جودها كان بخلا

أرسطو: إذا كانت الأشياء فاعلة بالطبع لم تحمد على فعلها؛ لأن الشمس لا تُحمد على حرارتها ولا على ضوئها.

المتنبي:

رُبَّ أمر أتاك لا تحمد الفعـَّ
ـال فيه وتحمد الأفعالا

أرسطو: الجبن ذلة كامنة في نفس الجبان، فإذا خلا بنفسه أظهر الشجاعة.

المتنبي:

وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا

أرسطو: الغلبة بطبع الحياة، والمسالمة بطبع الموت، والنفس لا تحب أن تموت، فلذلك تحب أخذ الأشياء بالغلبة.

المتنبي:

من أطاق التماس شيءٍ غلابًا
واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا

أرسطو: الإنسان شبح روحاني ذو عقل غريزي، لا ما تراه العيون من ظاهر الصورة.

المتنبي:

لولا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرف من الإنسان

أرسطو: الظلم من طبع النفس، إنما يصدها عن ذلك خلتان: خلة دينية، وخلة دنيوية سياسية خوف الانتقام.

المتنبي:

والظلم من ظلم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعِلَّة لا يظلم

أرسطو: ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك: ولدك وعبدك وزوجتك، فسبب صلاحهم التعدي عليهم.

المتنبي:

من الحلم ما يستعمل الجهل دونه
إذا اتسعت في الظلم طرق المظالم

أرسطو: كل ما له أول تدعو الضرورة إلى أن يكون له آخر.

المتنبي:

انعم ولُذ فللأمور أواخر
أبدًا إذا كانت لهن أوائل

أرسطو: النفوس المجوهرة تشرك الشهوات البهيمية طبعًا لا خوفًا.

المتنبي:

وترى الفتوة والأبوة والمرو
ءة عند كل مليحة ضراتها

أرسطو: من أثرى من العدم افتقر من الكرم.

المتنبي:

ورب مثرٍ فقير من مروءته
لم يثر منه كما أثرى من العدم

أرسطو: إذا لم تتجرد الأفعال كان الإحسان إساءة.

المتنبي:

إذا الجود لم يرزق خلاصًا من الأذى
فلا الحمد مكسوبًا ولا المال باقيا

أرسطو: ليس تغير مثل تغير الأفعال التي ترد غير مطبوعة، فإنها أشد انتقالًا من الريح الهبوب.

المتنبي:

وأسرع مفعول فعلت تغيرًا
تكلُّف شيء في طباعك ضده

أرسطو: أتعب الناس من قصرت مقدرته واتسعت مروءته.

المتنبي:

وأتعب خلق الله من زاد همه
وقصر عما تشتهي النفس وجده

أرسطو: أعظم الناس محنة من قل ماله وعظم مجده، ولا مال لمن كثر ماله وقل مجده.

المتنبي:

فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجده

أرسطو: من لم يقدر على الفضائل، فلتكن فضائله ترك الرذائل.

المتنبي:

إنا لفي زمن تَرْكُ القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال

أرسطو: تخليد الذكر في الكتب عمر لا يبلى، وهو كل يوم جديد.

المتنبي:

ذِكْر الفتى عمرُهُ الثاني وحاجته
ما فاته وفضول العيش أشغال

أرسطو: أعجز العجز من قدر على أن يزيل العجز عن نفسه فلم يفعل.

المتنبي:

ولم أر في عيوب الناس شيئًا
كنقص القادرين على التمام

أرسطو: اصطبار العقلاء ضد تمني الجهلاء، فالحاجة التي فيها نكر العاقل عليها يحسده الجاهل.

المتنبي:

ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها
أني بما أنا باك منه محسود

أرسطو: لا غنى لمن ملكه الطمع فاستولت عليه الأماني.

المتنبي:

أمسيت أروح مثرٍ خازنًا ويدًا
أنا الغني وأموالي المواعيد

أرسطو: النفس الشريفة ترى الموت بقاء لدرك النفس في أماكن البقاء، فهذه حال يعجز الخلق عن دركها.

المتنبي:

سبحان خالق نفسي كيف لذتها
فيما النفوس تراه غاية الألم

أرسطو: من كان غذاؤه الأماني، مات دون بلوغ مراده.

المتنبي:

يعللنا هذا الزمان بذي الوعد
ويخدع عما في يديه من النقد

أرسطو: إذا كان سقم النفس بالجهل، كان الموت شفاءها.

المتنبي:

إذا استشفيت من داء بداء
فأقتلُ ما أعلك ما شفاكا

أرسطو: كره ما لا بد من كونه عجز في صحة العقل.

المتنبي:

نحن بنو الموت فما بالنا
نعاف ما لا بد من شربه

أرسطو: إننا نواسي الأرواح من كرور الأيام، فما بالنا نعاف رجوعها إلى أماكنها؟

المتنبي:

تبخل أيدينا بأرواحنا
على زمان هنَّ من كسبه

أرسطو: اللطائف سماوية، والكثائف أرضية، وكل عنصر هو عائد إلى عنصره الأول.

المتنبي:

فهذه الأرواح من جوهر
وهذه الأجساد من تربة

أرسطو: الزيادة في الحد نقص في المحدود.

المتنبي:

متى ما ازددت بعدًا في التناهي
فقد وقع انتقاصي بازديادي

أرسطو: بإنفاذ سهم الحزم تدرك صحة العزم.

المتنبي:

مع الحزم حتى لو يعود تركه
لألحقه تضييعه الحزم بالحزم

أرسطو: أواخر حركات الفلك كأوائلها، وإنشاء العالم كتلاشيه في الحقيقة لا في الحس.

المتنبي:

كثير حياة المرء مثل قليلها
يزول وباقي عمره مثل ذاهب

أرسطو: أعظم ما على النفوس إعظام ذوي الدناءة.

المتنبي:

فإني رأيت الضر أحسن منظرًا
وأهون من مرء صغير به كبر

أرسطو: عدم الغنى من النفس أشد من عدم الغنى من اليد والملك.

المتنبي:

غثاثة عيشي أن تغث كرامتي
وليس بغثٍّ أن تغث المآكل

أرسطو: الحيوان كله معتل، وليس من السياسة شكوى بعض إلى بعض.

المتنبي:

لا تشكُ يومًا إلى خلق فتشمته
شكوى الجريح إلى الغربان والرخم

أرسطو: النظر في عواقب الأشياء يزيد في حقائقها، والعشق عمى الحس عن درك الروية.

المتنبي:

لو فكر العاشق في منتهى
حسن الذي أسباه لم يسبه

أرسطو: آخر إفراط التوقي أول موارد الحزن.

المتنبي:

وغاية المفرط في سلمه
كغاية المفرط في حربه

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤