الفصل العاشر

في صمتٍ يُصِمُّ الآذان، نظر عامل التوصيل إلينا، حائرًا فيما يفعل بشأن عُثوره على فئرانٍ صغيرة تعشش بين كُتبِه المقدَّسة؛ هل يُسمِّمها أم يُغرقها؟ هل يُطعمنا للقطط أم يَصطادنا بمصيدة؟ نظر إلينا، ونظرنا إليه بدورنا، لا نجرؤ على التنفس تقريبًا.

كان الرجل قد أزال زهرةَ القرنفل الذابلة وأرخى ربطة عنقه الوردية. كما طوى كمَّيه عند الرُّسغ، وعندما عقَد ذراعيه على بدلتِه الباهتة التي تُغطي صدره الغائر النحيل، كشفت المرأتان المتخاصمتان الوقحتان، كارلين وروندا، عن وجهَيهما — أو دعنا نقول — عن مكانهما.

كانت كارلين مرسومة بحروف مُزخرفة على ذراع الرجل الأيمن، فوق زهرة سوداء ذات أشواك كالمسامير. أما روندا فكانت مرسومة على ذراعه الأيسر، تحت قلب أحمر، قد حُفرت داخله كلمة «أمي». نظرت، وحروف كل اسم تدور وتتمايل؛ وشعرت بالغثيان والخطوط تُعيد رسْم نفسها على شاكلة وجوه نسائية. وبدأتا تتجادَلان من جديد.

«أنتِ أمُّه يا روندا. ماذا فعلتِ كي يَشبَّ لِيستر ضعيفًا على هذا النحو؟ إنه لا يُظهِر مقاومة من أي نوع.»

«لا تلوميني! فليستر يُشبه والدَه الأحمق العديم الفائدة، ذلك الرجل الضعيف. لكن ربما لو لم تُصرِّي يا كارلين أن يُعطيَك ابني كلَّ قرش يحصل عليه من توصيل تلك الكتب المقدَّسة لابن عمك فقد يَحظى بفُرصة الادخار، لمرة واحدة في حياته، بدلًا من تكبُّده المشاقَّ لتغطية نفقاتك.»

شاهدتُ المرأتين وقد عادتا إلى الحياة من خطوط أسمائهما كأنَّ الرسوم الكاريكاتيرية في طرائف يوم الأحد قد دبَّت فيها الحياة، وشعرت بالتشوُّش والدُّوار مرَّة أخرى. تراجعت خطوة للوراء، مُضطربة تعجز ساقاي عن حَملي، وأخذت أُذكِّر نفسي أن هذه ليست موهبتي المتفرِّدة. وما يحدُث هو مجرَّد حيَلٍ ماكرة يمارسها عقلي. ما أزال مُضطرَّة إلى الذهاب إلى أبي وإيقاظه لأن هذا ما يجب أن يحدُث. أردت أن أجلسَ على السرير النقَّال، قبل أن تستسلم ساقاي الهلاميَّتان، لكن كانت بوبي لا تزال مُستقرَّة هناك، وويل الابن يقف حجرَ عثرة في طريقي.

ثم رأيت سامسون يقف في زاوية عيني كالشبح، وبلمسته الرقيقة يَمسح ظهري. لم أَعُد أشعر أنني سأفقد وعيِيَ، وتمكَّنت من تجاهُل المرأتين المتحدثتَين بصوتٍ عالٍ، وبدأت أُخفِض صوتَيهما قليلًا، عبْر الاسترخاء والتنفُّس بعمق.

قال عامل التوصيل: «ماذا تفعلون في حافلتي يا أ… أطفال؟» قالها عابسًا بنَبرة عالية، لكنها عذبة مدهشة كمُغنٍّ غربي قروي يُغني بصوتٍ مُختلف الطبقات مِن فوق نبتة صبار. لم يَقُل أحد شيئًا، لا ندري ماذا نقول أو مَن يجب أن يتطوَّع بالإجابة.

قال الرجل: «لا أريد تكرار السؤال»، بنَبرة لا تزال موسيقية لكنها مُتوتِّرة كأن التحدُّث إلى الأطفال يُصيبه بالتوتر.

قالت روندا من فوق ذراعه الأيسر: «رائع يا ليستر. أرِهم شجاعتك.»

قالت كارلين بازدراء: «هذا لو أنه يتحلَّى بالشجاعة. سيكون استعراضه قصيرًا للغاية قبل أن تتداعى شجاعته. وهؤلاء الأطفال سيقودون هذه الحافلة وسيُخبرونه بمكان جلوسه في أقل من عشر دقائق.»

ابتلعتُ ريقي بصعوبة، وخطوت تُجاه الرجل بحذر وبطء. وسألت: «هل ستعود إلى كانساس قريبًا يا سيدي؟ نحن نُحاول الذهاب إلى سالَينا.»

نظر إليَّ ليستر، وكان لا يزال يَعقد ذراعَيه فوق صدرِه ويُقاوم للحفاظ على بقاء كتفَيه في مكانهما، باذلًا غاية جهده للثبات على موقفِه. تحرَّك فمُه كأنه يَمضغ شريطًا من علكة بوبي، يُحاول أن يمنع الكلمات الخاطئة من أن تتكوَّن داخله. وتنبَّهت إلى أنه ربما تدور تروسه ببطء نوعًا ما مُقارنة بالأناس الآخرين أو أن قبَّعة تفكيره انكمشت في المغسلة ولم تَعُد تَستوعب حجمَ مخِّه.

قال الرجل أخيرًا، وهو يُشير بإصبعه نحونا باسطًا ذراعه: «لا يُمكنكم الوجود على متن هذه اﻟ… الحافلة أيها اﻟ… الأطفال.» لكن اهتزَّ إصبع ليستر، وسط ضحكات كارلين وتوبيخيات روندا، سُخرية من محاولاته للتحلي بالإصرار والشجاعة، كما لم تحمل نظراته أيَّ حقد حقيقي أو غيظ.

خطوت خطوة أخرى تجاهه قائلة: «أرجوك يا سيدي. نحن نُحاول بلوغ سالَينا فحسب. لن نتسبب في أي مشكلات ولن نُعيق طريقك. وبالتأكيد لا ضرر من انتقالنا بالحافلة معك مجانًا. فلديك الكثير مِن الأماكن. ستعود إلى هناك، أليس كذلك؟ فاللافتة على حافلتك تقول …»

تلعثم ليستر، وهو يخطو خُطوة للوراء، ويدُسُّ سبَّابته تحت إبطه الرطب، كما لو كان لا يثق به، قائلًا: «قد أقع في أزمة ﻛ… كبيرة جدًّا بوجود أ… أطفال في حافلتي. ربما لن يرُوق الأمر لرئيسي على الإطلاق. وسيَطرُدني من عملي بالتأكيد. هل تعلم عائلتكم أين أنتم؟»

قلتُ: «إنَّ أمي وأبي في سالَينا الآن. وأبي يَرقُد في المشفى. ستُسدي إليهما خدمة جليلة إن أوصلتنا إليهم. أقسم لك»، ورفعْت يدًا في الهواء كأنني أقطع عهدًا؛ ومع وجودي وسط كل هذه الكتب المقدَّسة ظننت أن عهديَ سيكون له وزن. تحرَّك ليستر جَيئةً وذهابًا، وكتفاه لا تزالان تهتزان، وترُوسه لا تزال تدور بعد كلامي.

قالت كارلين: «ها قد بدأ. هذا هو ليستر سوان. انظري إليه وهو يُذعن لفتاة صغيرة كالأحمق.»

طقطقت روندا، بلسانها المرسوم، بخيبة أمل معهودة من الأمهات. وقالت: «لم يتطلَّب الأمر أكثرَ من لمسة خفيفة كي يُطرح ابني ليستر أرضًا. ليته صار مثلي. حينها، كنت سأُلقِّن هؤلاء الأطفال درسًا.»

خفضت يدي، وخطوت خطوة أخرى إلى الأمام؛ أما ليستر فقد تراجع إلى الخلف خطوة أخرى، كأنه يخشى أن أعَضَّه إن دنوتُ منه أكثرَ من اللازم.

وقلت: «أتسمَح بنقلِنا يا سيدي؟»

مرَّر ليستر يدَه اليمنى في شَعره الخفيف، وحكَّ رأسه الأصلع، فانتصبَت خصلات شعره المتبقية مثل ريش بطة صغيرة قبيحة؛ أدارت كارلين عينَيها الكاريكاتيريتَين المرسومتَين في مَحجِرَيهما، وهي تهتز للأعلى والأسفل، وتَنقلِب رأسًا على عقب مع حركة يده. ولوهلة، ظننت أن ليستر سيلقي بنا من الحافلة مباشرة، ويَتركنا على جانب الطريق السريع، وسط المجهول. لكن بعد فترة صمتٍ غير مريحة، مرَّت هذه اللحظة، وانخفض ليستر ليجلس على حافةِ أقربِ مقعد له، بعد أن تهدَّلت كتفاه وارتخيتا بصورة زائدة.

سأل بنَبرة رجل حزين يُدرك أنه خسِر آخرَ قطرة من شجاعته: «حسنًا، من أين جئتم جميعًا؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤