الفصل الثالث

كنتُ أعلم أنَّ السيدة روزماري ليست بديلًا مُناسبًا لأمي المثالية. شعرتُ بذلك أسفل مِعدتي، وعلمتُه مِن أطراف أصابع قدمي. وغَشَّاني شُعور بالغثيان والسيدة روزماري تُشير بزجاجة الرش لحثِّنا على الذهاب إلى الصالة في الطرَف المقابل للدَّرج وقالت: «أحضرتُ روبرتا وويل الابن معي لمرافقتكما في فترةِ ما بعد الظهيرة. لمَ لا تَبحثان عنهما؟ بوسعكما مشاهدة التلفاز. لكن بهدوء.»

تمتمت: «أجلْ سيدتي»، رغم أننا لم نكن نملِك تلفازًا؛ إذ مع وجود روكيت في المنزل قرَّر أبي وأمي عدمَ شراء أي أجهزة كهربية غالية الثمن حتى يتأكَّدا تمامًا من قدرته على تجنُّب تدميرها بطريق الخطأ.

تلهفتُ وسامسون لمغادرة المطبخ، لا للبحث عن صغار السيدة روزماري روبرتا وويل الابن. كان للقسِّ وزوجته أبناءٌ ثلاثة، أكبرهم في الثلاثين من عمره، ويعمل شرطيًّا في مدينة توبيكا. ولم يتحدَّث أحدٌ كثيرًا عنه.

كانت روبرتا — التي يُناديها الجميع ﺑ «بوبي» باستثناء أمِّها — في السادسة عشرة، وربما لم تأتِ في ذاك الوقت من الظهيرة إلا لأنَّها تأمُل في رؤية روكيت بالمنزل. وكان روكيت، في رأيي، ذاك النوعَ مِن فِتيان السابعة عشرة الذي تُحبُّ فتياتُ السادسة عشرة التصرُّف بسخافة وغباء أمامه حتى ولو بدا دائمًا كأنه أدخل إصبعَه في مَقبِس إنارة.

كانت بوبي تقول بينما نَدخل الغرفة: «هذا مُمل. لا أُصدِّق أننا اضطُررنا إلى القدوم إلى هُنا.» لم يأتِ ويل الابن وبوبي إلى منزلنا من قبل، وكانا مُنشغلَين بالتنقيب والتلصُّص والتطفُّل. انشغلت بوبي بتصفُّح كومة من رسومات أمي المُكتمِلة جزئيًّا، وانهمك ويل الابن في نكزِ سلحفاةِ سامسون الأليفة بأحد مُكعَّبات جيبسي الخشبية، حيث قبَعت داخل حوض زجاجي مُنكمِشة في قوقعتها بلا حَراك.

قال ويل: «اصمتي يا بوبي. فوالدهم يقبَع في المشفى. أظهري بعضَ الشفقة.»

قلتُ دون عواطف، مفاجئًا ويل وبوبي، اللذين لم ينتبِها لدخولنا إلى الغرفة: «لا نحتاج إلى شفقتكما. نحن على ما يُرام.»

التفتت بوبي لتنظرَ إليَّ أنا وسامسون كأننا دخلنا الغرفةَ دون إذن. ثم تنهَّدت تنهيدةً طويلة بدا أنها تدرَّبت عليها كثيرًا كمُراهِقة، وأدارت عينَيها في مَحْجِرَيهما، ونفَخَت فقاعة وردية كبيرة بعلكتِها، وألقت نفسَها على الأريكة بهمهَمةٍ ضَجِرة.

انحنَت إلى الوراء، وهي تُغلِق عينَيها وتَضع إحدى يدَيها على جَبهتها بشكلٍ درامي، وقالت مُتذمِّرة: «ألا يُوجد ما نفعله في هذا المنزل؟» لاحظتُ أن بوبي تستخدم ظلًّا لامعًا للعيون وأنها قد ثقبتْ حاجبَها الأيمن. برَقَ قرطٌ ذهبيٌّ صغير بريقًا لا يكاد يُرى من تحت شَعر ناصيتِها الطويل، وتعجَّبتُ كيف سمحتِ السيدة روزماري لها بأن تَفعل ذلك.

قال ويل، وهو يَرمُق بوبي بنَظرةِ غضبٍ، تحوَّلت إلى نظرةٍ حانية عندما نظر إليَّ وسامسون: «تجاهَلاها فحسب.» كان ويل مثلَ فيش، في الرابعة عشرة، إلا أنه كان يفوقه طولًا، وعلى النقيض من أخي، كان يُحافظ على شَعره البني المجعَّد مُهندمًا. شَعرت بالفضول تجاه ويل دائمًا. سمِعته ذات مرَّة يقول إنه يُريد أن يَصيرَ مثلَ والده عندما يَكبُر. وبينما تجاهل الآخرون عائلة بومونت في الكنيسة، بدا ويل كأنه يَقتفي أثرنا أو يُراقبنا في الوقت الذي كان يفترض فيه أن يتلوَ صلواته. بل إنه ذات مرة أعطاني كوبَ العصير الخاص به عندما احتشد الحاضرُون حول طاولة المَشروبات حتى إنني لم أَستطِع شقَّ طريقي بينهم. ولكن على الرغم من أن ويل الابن وفيش كانا في العمر نفسِه، ولم يكن لدى فيش أيُّ أصدقاء، فإنَّ أخي لم يحبَّ ويل قط، ظنًّا منه أنه ليس أكثرَ من فتًى يُنصِّب نفسَه واعظًا على الآخرين. أما أنا، فرأيته فتًى لطيفًا، وإن كان مُتزمِّتًا بعضَ الشيء في مظهره.

عاد ويل يَنظر إلى الحوض الزجاجي. وسأل: «هل السلحفاة حية أم …؟» لكنه ألجمَ نفسه قبل أن يقول «ميتة»، وأطرقَ مُعتذِرًا.

أفلت سامسون يدي، وانساب كالظل عبْر الغرفة كي يُخرِج سلحفاته من الحوض ويُبعِدها عن معاينة ويل الفضولية. ثم تسلَّل من الغرفة بحيوانه الأليف الفاقد الحياة، بعد أن نظر إلى الفتى الكبير نظرةً طويلة ثابتة، كي يَختبئَ بمكانٍ ما، مثل عُثَّة رمادية مُغبرة. كنت أعلم أنه سيظهر لاحقًا خلف باب أو تحت سريره أو أسفل كومة غسيل.

وضع ويل المكعب الخشبي ومسح يدَيه في سرواله، والتفت لينظرَ إليَّ، مُحاكيًا بنجاحٍ الاهتمامَ البالغ الذي يُوليه الواعِظُون لرعيتِهم.

وقال بجِدِّية لا تَحتمِل الهَزْل: «أتمنَّى للسيد بومونت شفاءً عاجلًا. جميعنا ندعو لوالدك.»

هززتُ كتفي في توتُّر وأجبتُ: «حسنًا.» لم أكن أُعارض الدعاء؛ فقد دعوت الربَّ في كل ليلة حتى تظهر هِبَتي الخارقةُ وتكون الأفضل على الإطلاق. ودعوته كي يَمنحني القوة التي تُمكنني من الطيران أو إطلاق الليزر من عيني. كما دعوته من أجل جَدِّي بومبا وجيبسي عندما أُصيبت الأخيرة بالخُناق. كلُّ ما في الأمر هو أنني لم يَخطُر ببالي الدعاء لأبي، وشعرت بالأنانية مرةً أخرى، وغشَّاني شعورٌ بالخِزي والسوء، وشعرت أنني أستحق «سقوط» منزل فوقي، فلا يُرى مني شيء سوى قدمي؛ لهذه الدرجة شعرت بالسوء.

عَبَر ويل الابن الغرفةَ، ووضع إحدى يدَيه على كتفي، بطريقة غريبة لائقة بالبالغين، وانحنى للأمام مائلًا برأسه كما لو كان يبحث عن الدموع في عيني.

وقال كما لو أن ذلك سيُصلح كلَّ شيء: «لقد جلبَت أمي لكم رغيف لحم.» تراجعت للخلف غير مُتأكِّدة من رغبتي بالوقوف بالقرب من ويل إلى هذه الدرجة حتى وإن كان يتصرَّف بلُطفٍ فحسب. كنتُ أعلم أن رغيف اللحم شيءٌ رائعٌ، خاصَّة مع صلصة الطماطم وشرائح البصل الرقيقة، إلا أنه لن يكون كذلك الليلة، بالنسبة إلى عائلة بومونت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤