الفصل السابع

جاك ماريتان

(١٨٨٢م–…)

ظل الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان سنواتٍ عدةً شخصية رئيسية في الحركة الاشتراكية الجديدة في القرن العشرين. وقد أدخل عمق العلم ومرونة الخيال على تفسيره لفلسفة القديس توماس أكويناس — وهو موضوع حاضَر فيه في جامعات العالم الغربي كله؛ في لوفان وجنيف وفريبورج وميلان وأكسفورد وسانتاندر، وجامعات شيكاغو وبرنستون وكولومبيا وأنجليكام بروما ومعهد دراسات العصور الوسطى في تورنتو وكندا. غير أن «ما يسترعي النظر فيه ليس شرحه لمبادئ توماس، وإنما قدرته على النمو العقلي المستمر» كما قال ناقد صديق له. وقد شغل ماريتان نفسه بجميع التيارات الفكرية والروحية في العالم المعاصر، كما يتبين من كتاباته في المنطق الصوري، ونظرية المعرفة، وتاريخ الفلسفة، والفن، وعلم الجمال، ونظرية الدولة، وبخاصة في العلاقة بين المسيحية والديمقراطية، والتربية، وفي الأمور الحيوية في زماننا مثل النازية، والحركة المناهضة للسامية، والحرب والسلم. وفي كثير من تفكيره نراه وثيق الصلة بمبادئ الفردية والبشرية. وقد كتب بحرارة في «الحرية في العالم الحديث» دون أن يخفف من اعتقاده بأن «إقحام المسيحية وحقائق الكتاب المقدس في قلب الحياة الاجتماعية والثقافية، أمر لا غنى عنه لتحقق الإنسانية أغراضها، ولتبلغ الحضارة أوج كمالها.»

ولما كانت لماريتان مكانة ممتازة كممثل للكاثوليكية الحديثة، فقلَّ من الناس من يدرك أنه كان يؤمن بغيرها وتحول إليها. وُلد جاك ماريتان في الثامن عشر من شهر نوفمبر من عام ١٨٨٢م في أسرة يحتفظ بيتها بجو البروتستانتية الحرة. وقد أصبحت أمه الكاثوليكية بالميلاد بروتستانتية عندما تزوَّج أبوها للمرة الثانية بعد وفاة أمها. واعتنق دين زوجته الجديدة البروتستانتي. وقد تلقَّى جاك ماريتان تعليمه بالسوربون، والظاهر أنه كان شديد السخط على الفلسفة الأكاديمية المتشككة شيئًا ما، وعلى العلم المادي الذي كان يعلم هناك. وكان تلميذًا للمرحوم هنري برجسن، فقبل فلسفة اللقانة، التي وصفها بعد سنوات بأنها «فلسفة غير معقولة للحركة الصافية». وفي خلال دراسته بالسوربون التقى بطالبة زميلة، هي رائسا أومانكوف، وهي مهاجرة روسية يهودية، تزوج منها في عام ١٩٠٤م، وواصل الزوجان الشابَّان — وهما طالبان للفلسفة محترفان — بحثهما عن «المطلق»، الذي وجداه في النهاية لا في الفلسفة ذاتها، ولكن في الدين، تحت تأثير حماسة الإيمان عند ليون بلوي وشارلزبجي. وفي يونيو من عام ١٩٠٨م تعمَّد جاك ورائسا ماريتان في الكنيسة الكاثوليكية، وهو تحوُّل صدم أسرتَيهما، غير أن التوفيق بينهما وبين أسرتَيهما قد تم بمرور الزمن.

وقضى ماريتان بعض الوقت في دراسة مركزة لكتاب «سوما ثيولوجيا» للقديس توماس تحت إشراف الأب كليريساك الدومنيكي بفرساي. وكثير من كتبه الأولى، مثل «مناهضة الروح العصرية» الذي نُشر في عام ١٩٢٢م و«ثلاثة مصلحون» الذي صدر في عام ١٩٢٨م، تعضد في صراحةٍ إحياء مذهب توماس في العلم الحديث. ولكن ماريتان اكتسب من النُّقَّاد إعجابًا أشد بكتبه التي جاءت بعد ذلك، مثل «الفن والمذهب المدرسي، والمسيحية والديمقراطية، والإنسانية الصحيحة، وحقوق الإنسان والقانون الطبيعي، والإنسان والدولة، ومدى العقل». وقد تعاونت رائسا ماريتان — وهي كاتبة وشاعرة — مع زوجها في تأليف كتاب «الصلاة والذكاء». وفي أُخريات العقد الخامس من القرن العشرين، كان ماريتان سفيرًا فرنسيًّا بالفاتيكان لدى البلاط المقدس. وكذلك قضى بعض الوقت يكتب في أمريكا بمعهد برنستون للدراسات العليا.

ويُعزى إلى ماريتان أنه بشَّر بموجة من التحول نحو الكاثوليكية بين المثقفين في الغرب، وبخاصة في ميدان الفنون. وحتى حينما لا يتسبب في التحول كان تأثيره محسوسًا، كما يتبين من تعليق ت. س. إليوت الذي قال فيه: «إنه يرى أن ماريتان هو أقوى دافع في الفلسفة المعاصرة.»

(١) الإنسانية التي تدور حول الدين

جاك ماريتان

(١-١) حاجتنا في الوقت الحاضر إلى التوفيق بين العلم والحكمة

إن حلول عصر الذرة قد أظهر للعالم فجأةً الجانب الخطير من هذه المشكلة. ولم يعد الإنسان يعتقد أن العلم والمهارات الفنية تستطيع وحدها أن تكفل تقدُّم الجنس البشري وسعادته، بل إنه ليفزع حين يرى الخراب والكوارث التي يمكن أن يسببها العلم والمهارات الفنية. ورجال العلم يراجعون أنفسهم، ولا بد لنا أن ننظر بالتقدير العميق — محاولين في إخلاص أن ندرك مدى تأثير المأساة التي تهددنا — إلى الذعر الذي ينتاب عالمًا نابغًا مثل ألبرت أينشتين.

ولا يكفي أن نوجه نظر الشعوب إلى الكوارث المدمِّرة للعالم بأسره التي قد تؤدي إليها المكتشَفات الحديثة في علم الطبيعة إذا ما وقع نزاع مسلح آخر؛ فإن الخوف لا يكفي لأنه يجعل الناس عقلاء، كما لا يكفي أن نقول لهم إن هذه المكتشَفات عينها — إذا استُخدمت في أغراض السلم — قد تفتح مجالات لم يحدث مثلها من قبلُ لرفاهية الجنس البشري وحريته؛ فإن الاحتمال لا يكفي لإيجاد السعادة، وإن ما نريده من الذكاء البشري هو أن يدرك أننا قد أقبلنا على عصر حاسم في تاريخنا، أقبلنا على فترة يجب — مهما كلَّفنا الأمر — أن تخضع للعقل فيها أدوات القوة الضخمة، التي حصلنا عليها بالسيطرة العلمية على المادة، وذلك بالتغلب على الشهوة الجامحة التي تتملك الإنسان وتدفعه إلى طريق غير طريق العقل، وبخاصة في وجوده الجماعي. ومن الضروري أيضًا أن ندرك أن هناك سلطات باطنية متدرجة وعلاقات متبادلة حيوية بين فضائل النفس البشرية؛ فبينما يعالج العلم في مجاله «الوسائل»، فإن مجال «الغايات» يتعلق بشيء ليس بالعلم، ولا يطابقه، نُسميه الحكمة. ولن نأمل في السلام، أو الحرية، أو الكرامة، في عالم الغد، ما دام العلم والحكمة في مؤسسات الحضارة وفي وعي الناس (بل وفي وعي العلماء أنفسهم) لا يتفقان، وما دامت تطبيقات العلم العملية لا تخضع خضوعًا تامًّا لإرادة خلقية صحيحة وللغايات الحقيقية لحياة الإنسان. لقد انقضى عهدٌ كنا نتوقع فيه أن يحل العلم المشكلات الخلقية والميتافيزيقية والدينية، أو أن يستغني عنها؛ حينئذٍ كنا نعتمد على العلماء لكي يقيموا في يوم من الأيام السلطة الروحية التي تقود البشرية نحو الأوجه اليانعة من التقدم الذي لا بد منه. أمَّا اليوم فعلينا أن ندافع عن العلم ضد أولئك الذين يتهمونه الآن — بغير حق — بالإفلاس، بعدما طلبوا منه أكثر مما يستطيع أن يعطي، فحادوا عن جادة الحق. ونرى رجال العلم — من ناحية أخرى — مشتغلين بتحليل باطني لأنفسهم، يتساءلون فيه عن العلاقة بين ضميرهم كرجال وبين ما يمكن أن يُستخدم فيه علمهم كعلماء، ونستطيع أن نراهم وقد حاق بهم الخطر من معاملة الدول لهم كمجرد خامات صناعية لها قيمة خاصة تُعزى إلى إنتاجهم الذي يخرج على صورة المكتشفات. وإذَن فهي كرامة العلم ذاته وكرامة العالم التي تتعرض للخطر. ومن أجل الإبقاء على هذه الكرامة والاحتفاظ بها، ومن أجل التطبيقات المباشرة للعلم في اتجاه رفاهية العالم لا في اتجاه دماره، من أجل ذلك يجد الإنسان نفسه بحاجة إلى تجديد قوي عنيف في تنمية جانب الحكمة فيه، وبحاجة إلى إعادة إدخال الحقائق الخلقية والميتافيزيقية والدينية في ثقافته، وبحاجة إلى ذلك التوفيق بين العلم والحكمة الذي أشرت إليه فيما سبق.١

(١-٢) فشل المدنية الدنيوية

إن العملية الضخمة، عملية تحوُّل الرجل المسيحي إلى إنسان دنيوي، قد عادت على كل ما في العالم بنتائج باهرة، إلا الإنسان نفسه؛ فقد انقلبت الأمور إلى الأسوأ فيما يتعلق بالإنسان ذاته، وليس في هذا ما يدعو إلى العجب.

إن عملية تحويل الرجل المسيحي إلى رجل دنيوي تتعلق فوق كل شيء بفكرة الإنسان وبفلسفة الحياة التي تطورت في العصر الحديث. حدث في واقع التاريخ البشري الملموس نموٌّ في نفس الوقت الذي تمَّت فيه انتصارات إنسانية كبرى؛ نظرًا لسير المدنية الطبيعي، وللدافع البدائي، والدافع الإنجيلي، نحو المثل الديمقراطي. وقد بقيت مدنية القرن التاسع عشر على الأقل مسيحية في مبادئها الحقيقية رغم نسيان هذه المبادئ أو إهمالها، وذلك في الآثار العلمانية لما تصوره هذه المدنية في حياة الإنسان وفي الحضارة، في الحرية الدينية التي احتفظت بها طوعًا أو كرهًا، بالرغم من أن هذه الحرية ربما انحرفت في بعض الأحيان وفي بعض البلدان، بل وفي نفس الاهتمام بالعقل وعظمة الإنسان التي استخدمها المفكرون الأحرار سلاحًا ضد المسيحية، وأخيرًا في الشعور الدنيوي الذي أوحى بتقدمها الاجتماعي والسياسي، وبآمالها الكبرى، بالرغم من مذهبية خاطئة.

ولكن الشُّقَّة قد ازدادت بعدًا بين السلوك الحقيقي في هذا العالم المسيحي الدنيوي وبين المبادئ الخلقية والروحية التي أكسبته معناه ومنطقه الذاتي، والتي أراد أن ينكرها؛ ومن ثَم فإن هذا العالم يبدو كأنه خلو من مبادئه، وهو يميل إلى أن يصبح عالم ألفاظ — عالمًا اسميًّا — أو عجينة بغير خميرة. وهو يعيش ويحتمل العيش بالعادة وبالقوة التي اكتسبها من الماضي لا بقوته الذاتية، ويندفع بقوة عكسية لا بقوة باطنية متحركة. وهو عالم نفعي، قاعدته العليا هي المنفعة، ولكن المنفعة — وهي ليست وسيلةً نحو هدف — ليس من ورائها جدوى. وهو عالم رأسمالي بمعنى هذه الكلمة في القرن التاسع عشر (وهو المعنى الحقيقي قبل أن يُحرَّف). وقد مكَّنت المدنية الرأسمالية القوى الابتكارية لدى الفرد من تحقيق انتصارات ضخمة على الطبيعة المادية. غير أن إنسان هذا العصر — كما لاحظ ورنر سمبارت — لا يستهدف جواهر الأمور، ولا يشعر بالمحبة؛ أي إنه فقد الإحساس ﺑ «الوجود»؛ لأنه عاش في الرموز وبالرموز، كما فقد الإحساس ﺑ «المحبة» لأنه لم يستمتع بحياة الفرد الذي يعيش مع غيره من الأفراد، ولكنه جاهد جهادًا شاقًّا في سبيل الثراء من أجل الثراء.

وبالرغم من المذهبية الخاطئة التي وُضعت، والصورة المشوَّهة للإنسان التي ترتبط بها، فإن حضارتنا تحمل في صلب مادتها الميراثَ المقدس للقيم الإنسانية والسماوية الذي يعتمد على نضال أسلافنا في سبيل الحرية، وعلى أساس التقاليد اليهودية المسيحية، وعلى القديم الكلاسيكي؛ تلك القيم التي هبطت في كفايتها بدرجة مؤلمة، ولكنها لم تتقوض البتة في مضمونها الكامن.

وأشد الظواهر إزعاجًا في الأزمة الحاضرة هو أننا — برغم اشتغالنا بنضال مُميت في سبيل الدفاع عن هذه القيم — كثيرًا ما نفقد الإيمان والثقة في المبادئ التي يقوم على أساسها ما ندافع عنه؛ وذلك لأننا نسينا في أكثر الأحيان المبادئ الصادقة المعتمدة، ولأننا في الوقت ذاته نشعر — ونحن واعون إلى حد كبير — بضعف الآراء السطحية التي تفترس هذه المبادئ افتراسًا كالطفيليات التي تعلق بالأجسام.٢

(١-٣) صورة الحضارة المسيحية الجديدة

إن عصر العالم المسيحي الجديد — إذا حل — سيكون عصر التوفيق بين ما كان قد تفكَّك، عصر حضارة مسيحية «دنيوية»، عصرًا تُمارَس فيه الأمور الدنيوية، والتفكير الفلسفي والعلمي، والمجتمع المدني، استقلالها الذاتي، وتدرك فيه — مع ذلك — الدور الملهب الإيحائي الذي تقوم فيه الأمور الروحانية، والعقيدة الدينية، والكنيسة، من مستواها الرفيع؛ عندئذٍ سوف تقوم فلسفة مسيحية للحياة مجتمعًا مسيحيًّا حقًّا لا ظاهرًا، مجتمعًا تتوافر فيه حقوق الإنسان وكرامة الفرد، مجتمعًا يقوم فيه بأداء واجب دنيوي مشترك، يدعو إلى الإنسانية وإلى التقدم، قوم ينتمون إلى أصول عنصرية مختلفة، وإلى مواريث روحانية متباينة.

وإذا تعمَّقت التحليل قلت إن الأزمنة الحديثة منذ نهاية العصور الوسطى — وهي لحظة أحسَّ فيها المخلوق البشري وهو يتنبه لذاته بأنه مظلوم مسحوق في وحدته — أخذت تتطلع إلى استرداد كرامة المخلوق البشري. وقد بحثت هذه الأزمنة الحديثة عن رد اعتبار الإنسان في انفصاله عن الله، وكان ينبغي أن تبحث عنه في صلته بالله؛ فالمخلوق البشري يزعم لنفسه الحق في أن يحب، ولا يمكن أن يحب حبًّا حقيقيًّا مثمرًا إلا في هذه الصلة بالله. ويجب أن يُحترم هذا المخلوق لعلاقته بالله، ولأنه يتلقى كل شيء — وكرامته ذاتها — من الله. وبعدما زال الوهم الكبير في «الإنسانية المركزة في الإنسان»، وبعد التجربة القاسية في مناهضة الإنسانية في الوقت الحاضر، فإن ما يحتاج إليه العلم هو إنسانية جديدة، إنسانية «مدارها الدين»، أو إنسانية متكاملة تنظر إلى الإنسان في كل جلاله وكل ضعفه الطبيعي، وفي كيانه الناقص الذي يحل به الإله، وفي حقيقة الطبيعة الكاملة، وفي إثمه، وفي قداسته. مثل هذه الإنسانية تعترف بكل ما لا ينطبق على العقل في الإنسان، بقصد أن ترده إلى العقل، وتعترف بكل ما يتجاوز العقل، لكي تبثَّ به الحياة في العقل، ولكي تهيئ الإنسان لكي يحل فيه القدس. إن العمل الأساسي لهذه الإنسانية الجديدة هو أن تجعل روح الإنجيل ووحيه يتخللان مؤسسات الحياة الدنيوية — وهو عمل يهدف إلى تقديس النظام الدنيوي.

و«إنسانية التجسيد» هذه تهتم بالجموع البشرية، وبحقهم في ظروف دنيوية جديرة بالإنسان وبالحياة الروحية، وبالحركة التي تسير بالعمل نحو مسئوليته الاجتماعية عن إبلاغ هذا العمل مرحلة الرشد، هذه الإنسانية تميل إلى أن تستبدل بالمدنية المادية الفردية، وبالنظام الاقتصادي الذي يقوم على أساس وفرة المال، لا اقتصادًا جماعيًّا، بل ديمقراطية مسيحية تعترف بالفرد. وهذا الواجب ينضم إلى الجهد الحاسم الذي يُبذل اليوم لحماية الحرية من اعتداء حكم الاستبداد! وإلى عمل آخر مُوازٍ يستهدف إعادة البناء ولا يحتاج إلى حماسة أقل، وهو ينضم أيضًا إلى يقظة تامة للضمير الديني. إن من أسوأ أمراض العالم الحديث ثنائيته، أو الفصل بين ما لله وما للدنيا، لقد ترك ما للدنيا أو ما يتعلق بالحياة الاجتماعية الاقتصادية السياسية لقانونه المادي الشهواني، بعيدًا عن مقتضيات الكتاب المقدس؛ فكانت النتيجة أن العيش في هذه الحالة قد اشتدت استحالته، وفي الوقت ذاته أمست في هذا الصدد الأخلاق المسيحية — التي لم تتخلل فعلًا الحياة الاجتماعية للناس — عالمًا من القواعد الرمزية والألفاظ، لا في حد ذاتها، ولا في الكنيسة وحدها، وإنما في العالم الدنيوي، وفي السلوك الاجتماعي العام. وهذا العالم من القواعد والألفاظ قد أضحى في الواقع خاضعًا في السلوك العملي الاجتماعي للطاقات الحقيقية لهذا العالم الدنيوي ذاته الذي انفصل وجوديًّا عن المسيح.

والمدنية الحديثة — فوق هذا — التي تدفع اليوم الثمن غاليًا للماضي، تبدو كأنها تندفع بالتناقض الذاتي واللزوميات العمياء التي عانت منها، نحو صيغ متباينة من البؤس والمادية المركزة. ولكي نرتفع فوق هذه اللزوميات العمياء نحتاج إلى إيقاظ الحرية وإيقاظ قواها الخلَّاقة، التي لا يكون الإنسان جديرًا بها بفضل الدولة أو بفضل أي لون من ألوان التربية الحزبية، وإنما بفضل الحب الذي يثبت مركز حياته إلى الأبد فوق العالم وفوق التاريخ الدنيوي. وأودُّ أن أشير خاصةً إلى أن روح الوثنية العامة التي تخلَّلت حضارتنا أدَّت إلى أن يضع الإنسان أمله في القوة وحدها وفي قدرة الكراهية، في حين أن المثل الأعلى السياسي للعدالة والصداقة المدنية — التي تحتاج إلى قوة سياسية وإعداد فني، ولكنها تستوحي المحبة — في نظر الإنسانية المتكاملة، هذا المثل الأعلى هو وحده الذي يستطيع أن يوجه عمل الإحياء الاجتماعي.٣

(١-٤) الكاثوليكية والعقيدة الديمقراطية

فيما يتعلق بالديمقراطية التي ترد إليها الحياة والتي نتطلع إليها، أرى أن الحل الوحيد هو من النوع «المتعدد». يستطيع الناس الذين ينتمون إلى مذاهب وأصول فلسفية ودينية مختلفة جدًّا أن يتعاونوا في الواجب المشترك، ومن أجل الرفاهية المشتركة للمجتمع الدنيوي يستطيعون ذلك، بل ينبغي لهم ذلك، بشرط موافقتهم على صورة واحدة من صور المجتمع الذي يتألف من أفراد أحرار، وعلى ما لهذا المجتمع من حقوق أساسية؛ لأن مجتمع الأفراد الأحرار يتضمن ميثاقًا ضروريًّا وحقوقًا أساسية هي من صميم وجوده، ومن واجبه أن يدافع عنها وأن يعمل على تقدمها. ومن أخطاء التفاؤل بالفردية الاعتقاد بأن «الحق» في المجتمع الحر، الحق الذي يتعلق بأسس الحياة المدنية، كما يتعلق بالقرارات وطرائق السلوك التي تلائم الكرامة الإنسانية والحرية الإنسانية، الاعتقاد بأن هذا الحق يصدر تلقائيًّا عن التنازع بين القوى والآراء الفردية التي تفترض فيها الحصانة ضد أي اتجاه لا يطابق العقل أو ضغط يؤدي إلى التفكك. وموضع الخطأ هو تصور المجتمع الحر شبيهًا بحلقة الملاكمة التي يتوافر فيها «الحياد» التام، فيكون حلقة تلتقي فيها كل الآراء الممكنة عن المجتمع وقواعد الحياة الاجتماعية، وتتصارع في سبيل الفوز، دون أن تهتم السلطة السياسية بالقيام على رعاية أية ظروف مشتركة أو وحي عام؛ ومن ثَم فإن المجتمع الديمقراطي — في مسلكه الملموس — لم تكن له «صورة ذهنية» خاصة به، والحرية — وهي منزوعة السلاح مشلولة — تعرَّضت لما قام به أعداؤها، الذين حاولوا بكل الوسائل أن يثيروا في الناس رغبةً دنيئة في أن يتحرروا من الحرية.

وإذا أردنا أن نتغلب على الاتجاهات الاستبدادية والإخلاص لرسالتها، فلا بد أن تكون للديمقراطية المتجددة صورتها الذهنية عن الإنسان وعن المجتمع، وأن تكون لها فلسفتها، وعقيدتها، التي تمكنها من تربية الناس على الحرية، كما تمكنها من الدفاع عن نفسها ضد أولئك الذين يودون أن يستخدموا الحريات الديمقراطية في تحطيم الحرية والحقوق الإنسانية. ولا يستطيع أي مجتمع من المجتمعات أن يعيش دون وحي عام أساسي وإيمان عام أساسي.

والنقطة الهامة التي يجب التنبيه إليها هنا هي أن هذا الإيمان وهذا الوحي وهذه الفلسفة وهذه الصورة الذهنية عن الديمقراطية التي تحتاج إليها الديمقراطية، كل ذلك لا يتعلق في حد ذاته بناحية المذهب الديني والحياة الأبدية، وإنما يتعلق بالناحية الدنيوية أو العلمانية من الحياة فوق هذه الأرض، كما يتعلق بالثقافة والحضارة، بل إنها أمور ذات صبغة «عملية» أكثر منها ذات صبغة نظرية أو عقائدية، أقصد أنها تعالج المعتقدات العملية التي يستطيع العقل البشري أن يحاول تبريرها — حقًّا أو باطلًا — من وجهات نظر فلسفية جد مغايرة، بل ومتنازعة متصارعة. ويرجع ذلك على الأرجح إلى أنها تعتمد أساسًا على مدركات بسيطة «طبيعية»، يكون القلب البشري قمينًا بها بتقدم الضمير الخلقي؛ ومن ثَم يمكن للأفراد الذين يعتنقون آراءً دينية وميتافيزيقية مختلفة، بل ومتضاربة، أن يلتئموا، لا بفضل تماثل المذاهب، ولكن بفضل تجانس متشابه في المبادئ العملية، ليتجهوا نحو النتائج العملية بعينها، كما يستطيعون أن يشتركوا في نفس العقيدة الديمقراطية العملية، بشرط أن يتفقوا على تقديس الحق والعقل، والكرامة الإنسانية، والحرية، والمحبة الأخوية، والقيمة المطلقة للخير الخلقي، حتى إن كان هذا الاتفاق لأسبابٍ جد مختلفة.

وهنا — إن أردنا أن نكون ناقدين في تفكيرنا ولا نخشى الألفاظ — ينبغي لنا أن ننبه إلى أنه حيثما تكن العقيدة — المقدسة أو البشرية — لا بد أن يكون هناك أيضًا الزنادقة الذين يهددون وحدة المجتمع، الدينية أو المدنية. والزنديق في المجتمع «المقدس» هو الذي يخرج على الوحدة الدينية. أمَّا في مجتمع الأفراد الأحرار الدنيوي، فالزنديق هو الذي يخرج على «المعتقدات والسلوك الديمقراطي العام»، هو الحاكم المستبد، هو الذي ينكر الحرية — حرية جاره — وكرامة الفرد الإنساني، والقوة المعنوية للقانون. ولا نريد أن نحكم على مثل هذا الرجل بالإحراق، أو بالإبعاد عن المدنية، أو بالحرمان من حماية القانون، أو بالحبس في المعسكرات. ولكن المجتمع الديمقراطي لا بد أن يحمي نفسه منه بإبعاده عن قيادته، عن طريق رأي عام قوي مستنير، بل وعن طريق تسليمه للعدالة حينما يعرض نشاطه أمن الدولة للخطر، وفوق هذا كله لا بد للمجتمع الديمقراطي أن يحمي نفسه منه ببث وتعزيز فلسفة للحياة، ومعتقدات فكرية، وعمل بنَّاء، لا يجعل لنفوذه أثرًا.٤

(١-٥) لكي نخدم واجب السلام

إذا كنا نودُّ أن نمهِّد لعمل السلام في أذهان الناس وفي وعي الأمم، فلن يكون ذلك إلا إذا اقتنعت العقول بشدة بمثل المبادئ الآتية: إن السياسة الطيبة هي أولًا وقبل كل شيء السياسةُ العادلة. على كل شعب أن يجاهد لكي يفهم نفسية الشعوب الأخرى، وتطورها وتقاليدها، وحاجاتها المادية والمعنوية، وكرامتها الصحيحة ودورها التاريخي؛ لأن كل شعب لا ينبغي له أن يتطلع إلى مصلحته فقط، بل إلى الصالح العام لمجموعة الأمم كذلك. وهذا التنبه إلى التفاهم المتبادل وإلى الحس بالجماعة المتحضرة يسد الحاجات التي تتطلبها الضرورات الطارئة في عالم سيكون حتمًا منذ اليوم موحدًا، بالرغم من أنه ما زال مقسَّمًا تقسيمًا قاتلًا من حيث الأهواء والمصالح السياسية، يسد هذه الحاجات بالرغم من افتراض وجود نوع من الثورة الروحية (على أساس العادات القديمة للتاريخ البشري). إن وضع المصلحة القومية فوق كل شيء آخر وسيلةٌ مؤكدة لفقدان كل شيء. إن مجتمع الأحرار لا يمكن تصوره إلا إذا اعترف بأن الصدق هو التعبير عما هو كائن، والصواب هو التعبير عما هو عادل، وليس هو التعبير عما هو لازم في وقت معين لمصلحة المجموعة البشرية. لا يجوز أن نقضي على حياة الرجل البريء لأنه أمسى عبئًا باهظًا لا فائدة منه لأمته، أو لأنه يقف في سبيل الأعمال الناجحة لأية مجموعة مهما تكن. إن كل فرد من الناس لديه من الكرامة ما يفترضه صالح الجماعة نفسه، وينبغي لمصلحة الجماعة ذاتها أن تحترم هذه الكرامة، وله كذلك حقوق أساسية معينة وعليه واجبات معينة، باعتباره مدنيًّا، أو باعتباره شخصًا اجتماعيًّا أو عاملًا. الصالح العام يسبق الصالح الخاص. إن دنيا العمل لها الحق في الإصلاح الاجتماعي الذي يقتضيه نمو العمل في التاريخ البشري، وللجماهير حق الإسهام في الثورة الثقافية والروحية العامة. إن مجال الضمائر حرم لا يُنتهك. من واجب الدولة من أجل الصالح العام أن تحترم الحرية الدينية كما تحترم حرية البحث. إن المساواة الأساسية بين الناس تجعل التعصب العنصري، والطبقي، والطائفي، والتمييز العنصري، جرائم تُرتكب في حق الطبيعة البشرية وكرامة الفرد، كما تجعله تهديدًا قويًّا للسلام.

إذا أردنا أن نثبت دعائم السلام الذي يكون جديرًا باسم السلام، مكينًا دائمًا، في يوم من الأيام بين شعوب العالم، فإن ذلك لا يتوقف على التنظيم الاقتصادي والسياسي والمالي الذي يرتئيه رجال السياسة ورجال الدولة، ولا يتوقف فقط على إنشاء مؤسسة تتجاوز حقًّا حدود القوميات وتربط بينها على أساس شرعي، مؤسسة مزوَّدة بالوسائل الفعَّالة للتنفيذ، لا يتوقف على هذا أو ذاك فحسب، وإنما يتوقف أيضًا على وعي الناس وعيًا تامًّا لمبادئ عملية مثل التي ذكرت، والتزامهم بها.

ويتوقف أيضًا — إذا أخذنا الأمور على علاتها — على ذلك «الروح الأكبر» الذي يحتاج إليه عالمنا بعدما أصبح — كما قال برجسن — أضخم من الناحية التكنولوجية، ويتوقف أيضًا على تدفق ظافر لتلك الطاقة الحرة السامية التي تهبط علينا من عل، والتي نعرفها بالمحبة الأخوية — مهما تكن تبعيتنا الدينية أو مذهبنا الفكري — وهو تعريف عبَّرت عنه الكتب السماوية بأسلوب هزَّ ضمير الإنسان في جميع العصور.٥

(١-٦) الإيمان الذي نعيش به

هل هناك إيمان نعيش به؟ هذا هو موضوع السؤال الذي طُلب إليَّ أن أجيب عنه منذ بضع سنوات. وإني لأشك في أن هذه الصيغة من الألفاظ تعرض المشكلة عرضًا ملائمًا. ما هو الضروري؟ ما الذي نحتاج إليه أشد الحاجة؟ هل هو إيمان نعيش به، أو إيمان نعيش له، إيمان نعيش ونموت في سبيله؟! لما كانت حياتنا ذاتها في خطر، فنحن مضطرون إلى أن نعيد الكشف عن إيمان نعيش له ونموت في سبيله.

في تصور الكثيرين من معاصرينا أن الإيمان — الإيمان الذي نعيش به — هو أبعد من أن يعرف بحقيقة ذاتية لا تقبل الجدل، تسمو على الإنسان وعلى الحياة الإنسانية، فهو مجرد شيء يُقاس بالشعور الإنساني أو بالحاجات الإنسانية، يستهدف طمأنينة النظام العقلي والاجتماعي لحياة الإنسان، وتأمين الإنسان، وهو يتملك الأرض ويسود الطبيعة. ولقد بات الإيمان بالله تدريجًا لعدد كبير من الناس — منذ عهد ديكارت وجون لوك إلى الوقت الحاضر — نوعًا من الإيمان يعيشون به. وفي نهاية الأمر تحوَّل الشعور الديني إلى مجال الحياة الإنسانية. إن أسلافنا تعهَّدوا بالقيام ببحث جريء مستنير ثابت عن إيمان يعيشون به، هو الإيمان بالإنسان، تعهَّدوا بهذا البحث وتابعوه في أمل ليس له حد. وهذا الإيمان بدا — خلال بعض الأجيال — شديدًا قويًّا، وأدى أعمالًا رائعة وإن تكن قابلة للتدهور. والحقيقة الواقعة هي أننا فقدنا الإيمان بالإنسان.

وما نُسميه اليوم الوجودية الملحدة هو أقوى مظاهر هذه الحقيقة. كانت وجودية كركجارد هي الشعور بالإيمان الذي يبحث عن الحقيقة التي يشقُّ إدراكها ولا يمكن التعبير عنها. وحتى وجودية هيدجر تبحث عن لغز الوجود عن طريق الشعور الأليم بالعدم. ولكن الوجودية الملحدة، التي بشَّر بها في السنوات الأخيرة كُتابٌ لم يكونوا سوى مرايا صادقة لعصرهم، لا تعكس ما يلاقيه الإنسان من ألم وهو يواجه العدم، وإنما تعكس تشوُّق الإنسان إلى العدم وتصرح به. إنها تعبر عن الميل إلى إنهاء الوجود والرغبة فيه. غير أن هذا أمر مستحيل؛ لأن التشوق إلى العدم مع الحكم على الإنسان بالوجود معناه أن يتخلى المرء عن نفسه. والشيوعية — وهي الوجه الأخير من أوجه المذهب العقلي الذي يجعل الإنسان مداره — تعلن في الواقع إيمانها بالإنسان، وتزعم أنها آخر أمل في النظرة المتفائلة. ولكن تفاؤلها هو تفاؤل طاقات المادة والحيل الفنية الجبَّارة التي تفرض سلطانها. والإنسان فيها يخضع خضوعًا تامًّا لحكم التاريخ مجسَّدًا في فئة اجتماعية. نعم إنها إيمان بالإنسان، ولكن في أي نوع من أنواع الإنسان؟ في الإنسان الجماعي الذي يحرم الفرد حرية العقل، ويتحول إلى إله زائف صادر عن تطور المادة ومناقضات التاريخ؛ وبذلك نضحي بالإنسان الحقيقي، بالشخص البشري، في سبيل عبادة وثنية قاتلة لعظمة الإنسان.

وهنا نتساءل: هل اليأس له الكلمة الأخيرة؟ وهل نحن مُحاطون بالمأساة من كل جانب؟

الواقع أن العقل يقتضينا أن نؤمن بالإنسان. والآن دعنا نترك عالم الإنسان الحالي وننظر في عالم الطبيعة؛ أعني أن نحدق فيها بالنظر المبسط الذي يخلو من التعقيد. إننا نجد أن السلام السحيق الذي يتجاوز حدود الفرد، والذي ليس منه مهرب — وهو أساس الخير وقوى الوجود العالمية — نجد أن هذا السلام يتخلل الطبيعة في أعماقها، بالرغم من ذيوع قانون النضال والصراع. والإنسان — كجزء من الطبيعة — لديه جوهر طيب في حد ذاته. إننا نرى أن تطور الكون هو عبارة عن حركة دائبة — بالرغم من انحرافها باستمرار — نحو صور أسمى من الحياة والوعي، حركة تنتهي بالفوز النهائي للنوع البشري، حركة تسيرها حرية الإنسان، في حدود إمكانياته البشرية، كما نرى أن التقدم البطيء الأليم للجنس البشري — منذ عهد إنسان الكهف — يدل على وجود طاقات عند الإنسان تجعل أي ازدراء للجنس البشري صبيانيًّا لا يستند إلى فرض سليم. أنظر بشيء من المحبة إلى أي فرد مهما يكن وسط الجماهير العامة المجهولة من البشرية المسكينة. إنك كلما ازددت معرفة به، اكتشفت فيه مصادر خفية للخير لم يستطِع الشر أن يقضي عليها. إن موقف الإنسان العسير ينشأ من أنه ليس من مخلوقات الطبيعة فحسب، ولكنه كذلك من مخلوقات العقل والحرية، وهما عنصران ضعيفان فيه، ولكنهما — مع ذلك — من أسباب قوته التي لا تهد، ومن علامات كرامته الكامنة فيه. ولا يمكن لأي نوع من أنواع الفشل أو لأية لوثة من اللوثات أن تمحو عظمة الإنسان الأصيلة.

أجل، إننا نرى أنه لا بد أن يكون لدينا إيمان بالإنسان. بَيد أنَّا لا نستطيع ذلك؛ فإن خبراتنا توقف العقل عند حد. وقد كان عالم الإنسان الحاضر بالنسبة إلينا كاشفًا للشر، حطَّم كل ثقة فينا. وكم من جريمة شهدنا لا يمكن أن يعوضها أي انتقام عادل، وكم من موت يائس، وكم من مواقف من الامتهان المذل للطبيعة البشرية! إن صورة الأشباح الدموية في معسكرات الإبادة، التي لا تُمحى ولا تُنسى، قد غشت صورتنا عن الإنسان. وشهوة الحكم الاستبدادي — نازية كانت أو شيوعية — التي تتغذى على ما فينا من أسباب الضعف الخلقي، قد أطلقت الشياطين في كل مكان، وكأن كل ما أحببنا قد تسمَّم، وكأن كل ما وثقنا به قد فشل. واتجه العلم والتقدم نحو دمارنا، وكياننا ذاته مهدَّد بالخطر من جرَّاء التحليل الدقيق لقوى العقل والأخلاق. ولغتنا ذاتها قد انحرفت فبات اللفظ غامضًا، وكأنه لا ينقل إلا خداعًا. إننا نعيش في عالم كافكا Kafka، فأين إيماننا الذي نعيش به؟١

ربما نكون قد اخترنا الطريق الخاطئ، وربما كان من الأفضل لنا أن نتشبث بإيمان نعيش له ونموت في سبيله، بدلًا من أن نبحث عن إيمان نعيش به فحسب. إن الحكمة الوثنية القديمة عرفت أن أنبل وأسعد وأكثر النواحي البشرية إنسانيةً متعلقة بما يسمو على البشرية، كما عرفت أن الإنسان لا يستطيع العيش إلا بما يحيا من أجله وما هو مستعد لأن يموت من أجله، وبما هو أفضل منه. وإذا كانت إنسانيتنا قد فشلت فربما كان مردُّ ذلك إلى أنها كانت تدور حول الإنسان وحده، وأنها كانت نفعية لا بطولية، ولأنها حاولت أن تلقي بالموت والشر في هُوَّة النسيان، بدلًا من أن تواجههما وتتغلب عليهما بصعود الروح إلى الحياة الأبدية، ولأنها وضعت ثقتها في الحيل الفنية بدلًا من أن تضعها في المحبة؛ أقصد المحبة التي بشَّر بها الإنجيل.

يقول القديس بولس: إن الإيمان هو مادة الأشياء التي نضع فيها آمالنا. ويمضي فيقول: إنه الثقة في أمور لا نراها. الإيمان هو التمسك بالحق الذي يسمو على البشر، وهو المدخل إلى مملكة الأشياء المقدسة التي لا تُرى. الإيمان يجعل حياتنا متعلقة بالعيش الكامل، الذي يفضل حياتنا الخاصة كثيرًا، وهو إلى نفوسنا أحب. الإيمان هو الالتقاء ﺑ «شخص هو الحق ذاته وهو المحبة ذاتها». شخص إذا نحن أسلمنا إليه نفوسنا أدى بنا ذلك إلى الحرية القصوى، وإذا نحن متنا في سبيله أضحت حياتنا ثابتة لا يلحق بها الدمار.

ثم إنَّا نعيش من أجل الحق، وهذا الحق الذي نعيش من أجله أقوى من الدنيا بأسرها. ونحن نعيش من أجل الحب، وهذا الحب الذي نعيش من أجله قد صنع الدنيا، وسوف يجددها ويعيد تشكيلها في النهاية. ونحن أحرار، وليس بوسع أي شيء في الدنيا أن يحطم إيماننا.

وهذا الإله الذي هو الحق والحب قد خلق الإنسان على صورته، وقُدر للإنسان أن يقاسمه حياته. وقد مات المسيح في سبيل خلاص الإنسان. وبالرغم من جميع الكوارث التي تنجم عن فشل الإنسان وانحرافه عن جادة الحق، فإن الله يسيِّر تاريخ البشر نحو العمل وتشكيل الدنيا على الصورة التي يحب ويرضى. هذه هي عظمة الإنسان، وهذه هي نقطة الارتكاز في إيماننا به.

ومن ثَم فإن الإيمان بالإنسان يعود إلى الحياة إذا امتدت جذوره إلى ما يسمو عن الإنسان، إن الإيمان بالإنسان يصعد عن طريق الإيمان بالله.

إن تاريخ البشر يسير في اتجاه معين، وهو يتوقف على الطاقات الطبيعية والروحية، وتاريخ البشر — من بين جميع ضروب الصراع — يميل نحو تحقيق الإنسانية بطريقة طبيعية؛ أقصد أنه يميل نحو إظهار جوهر الإنسان وإمكانياته تدريجًا، وإلى التقدم التدريجي لأشكال معرفته، وضميره الخلقي، وحياته الاجتماعية، ويقصد إلى تحقيق الوحدة والحرية تدريجًا. وهو يميل أيضًا إلى تحقيق الروحانية، التي تسمو على الزمان وتتجاوز حدود التاريخ، والتي يعدها المسيحي مملكة السماء والإلهام لأبناء السماء. وهذان الاتجاهان للتاريخ — وإن كانا يمتزجان امتزاجًا لا ينفصل — ينتسبان إلى عالمين يتميز كلٌّ منهما عن الآخر تميزًا واضحًا، وكثيرًا ما يقف ضعف الإنسان في سبيل أحدهما، ويعمل على حث الآخر على التقدم. وفي مقابل هذين الاتجاهين ينمو عامل الشر كذلك في التاريخ، فترى حركة سفلية تسبب زيادة الخسائر في نفس الوقت الذي تسعى فيه الحركة العلوية إلى أن تتمخض عصارة الدنيا عن ثمار أفضل. إن الشر يعمل متخفيًا إبان ازدهار بساتيننا التي لم يتم إيناعها، وذلك في أسعد فترات التاريخ. وفي أحلك العصور ظلمةً يتأهب الخير متخفيًا كذلك لانتصارات غير منظورة، والخير أقوى من الشر؛ ومن ثَم يتحقق قول الكتاب المقدس: «قل لمن هم على طريق الحق إن الدنيا بخير.» وفي سِفر الرؤيا اليهودي جاء أن عصر آلام المسيح سيكون هو عصر انتصاراته الكبرى.

وفي تقديم كتابه «على أعتاب سِفر الرؤيا» لأحد القراء، كتب ليون بلوي منذ نحو ثلاثين عامًا في الصفحة الأولى: «أرجو أن تتقدم بخُطاك يا صديقي العزيز.» ويبدو في الواقع أننا تقدَّمنا فعلًا بالخُطا، ويبدو كأن عصرنا هو من عصور الإيحاء، فيه تصفية لقرون عدة من التاريخ. إننا ما زلنا نجني ثمار الغضب، ولم تنتهِ آلامنا بعد، ولكن عالمًا جديدًا سيخرج في نهاية الأمة التي نعانيها.

وبهذه الأفكار في أذهاننا تتخذ التجربة صورة جديدة، وهي التجربة عينها التي هزَّت من قبلُ إيماننا بالإنسان. إنها تكتسب معنًى جديدًا؛ فهي ليست الإبانة عن تفاهة الوجود، إنما هي الإبانة عن آلام التاريخ وجهوده، وهي ليست الإبانة عن وضاعة الإنسان وحقارته الوضيعة، وإنما هي الإبانة عن الكرب التي يتكشف عندما يهبط من كبريائه، وعن المِحن والكوارث التي تبرز من خلالها عظمة مصيره الكامنة فيه.

والتطور التاريخي كذلك الذي نمرُّ به لا يتم في يوم واحد؛ فعامل الزمن ضروري لكي يتمكن العقل من السيطرة على الوسائل المادية المريعة التي وضعتها بين أيدينا الضعيفة الثورةُ الصناعية والتكنولوجية. وعامل الزمن ضروري لكي يهزَّ الثورة الخلقية الروحية التي نحن أشد حاجة إليها منا إلى أية ثورة أخرى، تهزُّها من أعماق الحيرة البشرية؛ لأن أقل ما نتطلبه هو انتصار إيمان الكتاب المقدس في السلوك الاجتماعي للإنسان فوق هذه الأرض. إن تجديد الحضارة الذي نأمل فيه، وعصر الإنسانية المتكاملة، والوقت الذي يتم فيه التوفيق بين العلم والحكمة، وإنشاء دولة مشتركة أخوية، وبداية التحرر البشري الحق، كل ذلك لا ننتظره في غدنا، وإنما ننتظره بعد غدنا، ننتظره في اليوم الذي أعلن القديس بولس أنه سوف يكون — بعد أحلك الظلمات — كالربيع تزدهر فيه الدنيا وتتجدد.

إن كل مجهود يُبذل في هذا السبيل لا بد أن يثمر في نهاية الأمر. ولست أشير إلى النضال الروحي لأولئك الذين استمعوا — كما قال هنري برجسن — إلى نداء البطل، الذين ينبهون الناس إلى المحبة التي يبشر بها الكتاب المقدس، لا أشير إلى ذلك فحسب، وإنما أشير أيضًا إلى النضال الدنيوي لأولئك الذين يهبون أنفسهم لرفع مستوى حياة إخوانهم وتنويرهم، من علماء وشعراء ورواد للعدالة الاجتماعية. وأشير إلى الجهد اليومي الذي يبذله أولئك الذين لا يعرفون الراحة ما دام إخوانهم في عبودية وبؤس. وحتى إن كانت الظروف العامة في العالم وما تجمع لدينا من أخطاء يحُول دون أن تتغلب أمثال هذه الجهود في الوقت الحاضر على الشرور التي تتدفق من كل صوب، فهي تمهِّد لعهد تزداد فيه كرامة الإنسان وتنتشر فيه المحبة تحت رعاية الله.

وحتى هذا لن يكن إلا خطة في تاريخ كوكب صغير قابل للفناء. والأمل يتجاوز الزمن؛ لأنَّا ننتظر في النهاية بعث الأموات، والحياة الأبدية. هذا هو الإيمان الذي نعيش له، ولما كنا نعيش له فهو الإيمان الذي نعيش به.٦

المصادر

كل المختارات التي وردت في هذا الفصل مقتبَسة من كتاب «مدى العقل» لجاك ماريتان.
  • ١ احتمالات التعاون في عالم منقسم.
  • ٢ الإنسانية المسيحية.
  • ٣ نفس المصدر السابق.
  • ٤ مبدأ التعدد في الديمقراطية.
  • ٥ احتمالات التعاون في عالم منقسم.
  • ٦ الإيمان الذي نعيش به.
١  كافكا: فرانتي كافكا (١٨٨٣–١٩٢٤م) روائي وشاعر نمسوي، ويبستر، ص٧٩٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤