حُب الحياة

«سيزول كل شيء ويبقى جهدهم؛
إذ يكفيهم أنهم جرَّبوا وألقَوْا نَردهم،
فالمحاولة وحدها تعد مكسبًا لهم
حتى وإن لم يكُن الفوز حليفهم.»

بخُطًى عرجاء متألمة، تقدَّم الرجلان نحو أسفل الضفة، وترنَّح أولهما مرَّة بين الصخور الوعِرة المتناثرة. كانا مُنهكَين وخائِرَي القوى، وقد ارتسمَت على وجهَيهما تعبيرات الصبر والجلَد التي كانت نتاجًا للصعاب التي طالَما كابداها. كان الرجلان مُثقلَين ببطَّانيات محزومة مربوطة إلى أكتافهما. وقد ساعدَتهما أربطة رأسَيهما التي كانت مشدودة على جبهتَيهما، في حمل هذه الحُزَم. كان كلاهما يحمل بندقية. وكانا يمشيان بظهرٍ مَحنيٍّ، ما جعل أكتافهما مائلة بشدة إلى الأمام، ورأسَيهما أشد ميلًا، وأعينهما مُنكفِئة إلى الأرض.

قال ثانيهما: «ليتنا كنا نملك ولو اثنتين فحسب من عبوات الطلقات الموجودة في مخبئنا.»

كان صوته باردًا وخاليًا تمامًا من أي تعبير. تحدَّثَ من دون حماس، أما الرجل الأول، الذي كان يعرُج في خُطاه في الجدول الكدِر الذي أزبد على الصخور، فلم يتعطَّف بردٍّ.

كان الرجل الثاني يتبعه ويسير في عقِبه. لم يخلع الرجلان عنهما حذاءَيْهما، مع أنَّ الماء كان باردًا كالثلج إلى حدِّ أنه آلَمَ كاحلَيهما، وأصاب أقدامهما بالخدر من شدة برودته. وصل الماء في بعض المواضع إلى ركبتَيهما، فكانا كلاهما يترنَّحان في خطواته.

انزلقت قدم الرجل المتأخِّر على صخرة ملساء، وكاد يسقط، لكنه استجمع نَفْسه بجهد كبير وهو يطلق صرخةً حادة من الألم. بدا الرجل خائرًا ومصابًا بالدوار، ومدَّ يده الفارغة، وهو يترنَّح، كأنه يبحث في الفراغ عن شيء يستند إليه. وبعدما استعاد ثباته تقدَّم خطوة، لكنه ترنَّح ثانيةً وكاد يسقط. ثم وقف ساكنًا ونظر إلى الرجل الآخَر الذي لم يلتفت إليه قطُّ طَوال هذا الوقت.

وقف الرجل دقيقةً كاملة بلا حَرَاك، وكأنه يتحدَّث إلى نفسه. ثم نادى يقول:

«يا بيل، لقد الْتَوى كاحلي.»

واصَل بيل سيره مترنحًا عَبْر الماء الكدِر. ولم يلتفت حوله. راقَبَه الرجل وهو يتقدَّم، ومع أن وجهه كان خاليًا من أي تعبير، كدَأْبه دائمًا، فإن عينَيه كانتا كعينَي إيَّلٍ جريح.

تقدَّمَ الرجل الآخَر صاعدًا الضفة الأخرى بخُطًى عرجاء، وأكمل مَسيره من دون أن يلتفت خلفه. أخذ الرجل الذي في جدول الماء يراقبه. اختلجت شفتاه قليلًا، فبدا الاضطراب على كتلة الشَّعر البُني الخشِن التي كانت تُغطِّيهما. حتى إنه أخرج لسانه ليرطِّبهما.

ونادى بصوت مرتفع: «يا بيل!»

كانت صرخة استجداء من رجل قوي واقع في محنة، لكن رأس بيل لم يلتفت. شاهَدَه الرجل وهو يرحل بخُطًى عرجاء غريبة، مترنِّحًا بمشية متعثِّرة إلى أعلى المُنحدَر المتدرِّج نحو خط الأفق الخافت الممتزِج بسلاسة مع التل المنخفض. شاهَدَه يذهب حتى تجاوز قمة التل واختفى. ثم التفتَ حوله وجالَ ببصره ببطءٍ في المكان الذي لم يتبقَّ سواه فيه بعد أن رحَل بيل.

كانت الشمس قُربَ الأُفق تشتعل بضوء خافِت يكاد يحجبه الضباب والأبخرة عديمة الشكل التي أعطَت انطباعًا بأنها متكتِّلة وكثيفة، من دون أن يكون لها شكل خارجي واضح أو مَلمَس محسوس. أخرج الرجل ساعته بينما استقرَّ بثقل جسده على ساقٍ واحدة. كانت الساعة تشير إلى الرابعة، ولأنَّ هذا الوقت من العام كان قريبًا من أواخر يوليو أو أوائل أغسطس — لم يكُن يعرف التاريخ بالتحديد فقدَّرَه بوقتٍ ما في حدود أسبوع أو اثنين من الوقت الفعلي — كان يعلم أن الشمس تشير إلى الاتجاه الشمالي الغربي تقريبًا. نظَرَ الرجل صوب الجنوب وعرف أن بحيرة جريت بير تقع في مكانٍ ما وراء تلك التلال القاتمة الكئيبة، وكان يعرف أيضًا أن الدائرة القطبية الشمالية تمتد في ذلك الاتجاه بظروفها القاسية الموحِشة عَبْر القِفار الكندية. كان هذا الجدول الذي يقف فيه الآن رافدًا مُغذِّيًا لنهر كوبرماين، الذي يتدفق بدوره شمالًا ويصبُّ في خليج كورونيشن والمحيط المتجمد الشمالي. لم يكُن قد ذهب إلى هناك من قبلُ قط، لكنه رأى المكان مرَّة في أحد مخطَّطات شركة هدسون باي.

جال ببصره مرَّة أخرى محدقًا إلى المكان من حوله. لم يكُن مشهدًا مشجِّعًا. كان خط الأُفق الخافت يلفُّ العالم من حوله. وكانت التلال كلها منخفضة. لم يكُن ثمَّة أشجار ولا شُجيرات ولا عشب، لم يكُن هناك أي شيء سوى وَحشة هائلة وشنيعة أصابته بالخوف الشديد.

همس الرجل همسًا متكرِّرًا: «بيل! بيل!»

جثَمَ مرتعدًا في وسط الجدول الكدِر، وكأن رحابة المكان من حوله كانت تضغطه بقوة هائلة، تسحقه بفظاعتها في غير اكتراث. بدأ الرجل يرتعد وكأنه محموم، حتى سقطت البندقية من يده فترشرش الماء. استفز ذلك انتباهه. فقاومَ خوفه واستجمع نَفْسه وأخذ يتحسَّس في الماء واستعاد سلاحه. ثم رفع حُزمة أمتعته إلى مستوى أعلى فوق كتفه اليُسرى، حتى يحمل شيئًا من وزنها عن كاحله المصاب. ثم تقدَّمَ ببطء وحذَرٍ نحو الضفة وهو يجفل من الألم.

لم يتوقف. هرعَ في يأس كالمجنون، غير عابِئ بالألم، إلى أعلى المُنحدَر حتى قمته التي اختفى عندها صديقه، وكانت هرولته أغرَب وأكثر إضحاكًا من هرولة رفيقه الأعرج المترنح. لكن عند قمة التل وجَدَ واديًا ضحلًا، خاويًا من أي حياة. قاوم خوفه ثانيةً، وتغلَّب عليه، ورفع حمله على كتفه أكثر، وأخذ يترنَّح ويتمايل وهو ينزل المُنحدَر.

كان قعر الوادي مُشبَعًا بالماء الذي كانت الطحالب الكثيفة محتفظةً به كالإسفنجة قُرب سطح الأرض. انبثق الماء من تحت قدمَيه مع كل خطوة يخطوها، وكلما رفع قدمه، كانت الطحالب المُبتلَّة تُصدِر صوت امتصاص وهي تفرج قبضتها عن قدمه على مضَض. تقدَّم الرجل بين المستنقعات بحذَر وانتقاء، وتبعَ آثار أقدام الرجل الآخَر على طول الحواف الصخرية التي كانت بارزة كجُزر صغيرة في بحر الطحالب، وعَرْضها.

لم يكُن تائهًا مع أنه كان وحيدًا. بل كان يعرف أنه سيصل فيما بعدُ إلى مكان تحدُّ فيه أشجار السبروس الميتة وأشجار التنوب الصغيرة والهزيلة شاطئَ بحيرة صغيرة، اسمها بلغة أهلها «تيتشن نتشيلي»، ومعناها «أرض العِصيِّ الصغيرة». كما كان يعرف أنَّ تلك البحيرة يتدفَّق إليها جدول صغير ذو ماء ليس بالكدر. كان يتذكر جيدًا أنَّ ذلك الجدول يوجد عنده أسَلٌ، لكن من دون أشجار، وقرَّر أن يتبع الجدول إلى حيث يتوقف نُهَيره المتضائل الأول عند مرتفع فاصل. ثم سيعبر هذا المرتفع إلى أن يصل إلى أول نُهَير متضائل متفرِّع من جدول آخَر يتدفق جهة الغرب، وسيتبعه حتى يصب في نهر ديس، حيث سيجد مخبأً تحت زورقِ كانو مقلوب ومُغطًّى بأحجار كثيرة. وهناك في هذا المخبأ سيجد ذخيرةً لسلاحه الفارغ، وخطاطيف لصيد السمك، وخيوط صيد، وشبكة صغيرة؛ أي كل الأدوات اللازمة لاصطياد الطعام. وكذلك سيجد طحينًا — وإن لم يكُن كثيرًا — وقطعة لحم مُقدَّد، وبعض الحبوب.

وسيكون بيل بانتظاره هناك، سيجدِّفان صوب الجنوب مع مجرى نهر ديز نحو بحيرة جريت بير. وسيَعبُران البحيرة تجاه الجنوب، ثم سيواصلان المُضيَّ جنوبًا حتى يصِلا إلى نهر ماكينزي. وبعدها سيُكملان طريقهما جنوبًا كما هما بلا أي تغيير، بينما يسابقهما الشتاء عبثًا من خلفهم، ويتكوَّن الجليد في الدوامات، ويصبح الطقس باردًا وجافًّا، ثم سيتجهان جنوبًا إلى موقع دافئ تابع لشركة هدسون باي؛ حيث تنمو أشجار طويلة وفيرة، ويتوافر القُوت من دون نهاية ولا انقطاع.

كانت تلك هي الأفكار التي راودت الرجل وهو يتقدَّم جاهدًا. لكن وعلى قَدْر ما بذلَ جسده من جهد في أثناء تقدُّمه، كان عقله أيضًا يبذل جهدًا مكافئًا؛ يحاول أن يتخيَّل أن بيل لم يهجره، وأنه سينتظره حتمًا عند المخبأ. كان مُجبَرًا على تخيُّل ذلك، وإلا فلن يكون مآل سَيره وتقدُّمه إلا عبثًا، ومن ثَم سيرقد في موضعه ويموت. وبينما أخذت كرة الشمس الخافتة تغوص ببطءٍ في الأُفق الشمالي الغربي، أخذ يتخيَّل مِرارًا أنهما يقطعان كل بوصة من رحلتهما جنوبًا قبل حلول الشتاء. وتهيَّأ له مِرارًا القُوت الذي خبَّآه في المخبأ والقُوت الذي سيجدانه في موقع شركة هدسون باي. لم يكُن قد تناول شيئًا من الطعام منذ يومَين؛ بل كان محرومًا من الإحساس بالشِّبَع منذ مدة أطول من ذلك بكثير. كان ينحني بين الحين والآخَر ليلتقط حبَّات توت المُستنقَع الباهتة، ويضعها في فمه ويمضغها ويبلعها. وتوت المُستنقَع هو بذرة صغيرة يغلِّفها قَطْر من الماء. يذوب الماء في الفم ويكون مذاق التوت لاذعًا ومُرًّا عند مضغه. كان الرجل يعرف أن هذا التوت لا يحمل أي فائدة غذائية، لكنه كان يمضغه في طول أناة وهو مُفعَم بأمل يفوق المعرفة ويتحدَّى الخبرة.

عند التاسعة، ارتطم إصبع قَدَمه بحافة صخرية ناتئة، فترنَّح وسقط من شدة إعيائه. ظلَّ راقدًا على جنبه بعض الوقت من دون أي حَراك. ثم فك نفسه من أربطة الأمتعة المحزومة على ظهره وانتصب جالسًا بتثاقُل أخرق. لم يكُن الظلام قد خيَّمَ بعدُ، فأخذ يتحسَّس في غُبشة الغَسَق الطويلة بين الصخور باحثًا عن قِطع الطحالب الجافة. وحين جمعَ منها كومة، أشعل جذوة من نارٍ تتقد ببطء ويتصاعد منها الدخان، ووضَع عليها وعاءً صفيحيًّا من الماء ليغلي.

حلَّ الرجل حُزمة أمتعته، وكان أول ما فعله أنه أحصى أعواد الثقاب. كانت ٦٧ عودًا. أحصاها ثلاث مرات كي يتأكد من عددها. وقسَّمها إلى عدة مجموعات، ولفَّها في ورق مشمَّع، ثم وضع مجموعة منها في جراب تبغه الفارغ، ووضع مجموعة ثانية في الشريط الداخلي لقبعته البالية، والثالثة تحت قميصه على صدره. وبعد أن فرغ من هذا، انتابَته نوبة من الهلَع، فأخرج الأعواد كلها وأحصاها مرَّة أخرى. كانت ما تزال ٦٧ عودًا.

جفَّف الرجل حذاءَه بالقُرب من النار. كان خُفَّاه مُمزَّقَين ومُشبعَين بالماء. كما كان جوربه الصوفي مُهترئًا عند عدة مواضع، وكانت قدماه مُصابتَين بسحجات، وتنزفان دمًا. كما كان كاحله يخفق من شدة الألم، فتفحَّصه. رآه قد تورَّم حتى صار بحجم ركبته. فمزَّق شريطًا طويلًا من إحدى بطَّانيتَيه، وربطه على كاحله بإحكام. ومزَّق بضع شرائط أخرى ولفَّ بها قدمَيه لتكون محلَّ الخُفَّين والجورب. ثم شرب وعاء الماء الساخن، ولفَّ قرص ساعته لئلَّا تتوقف عن العمل، وزحف ليرقد بين بطَّانيتَيه.

غطَّ الرجل في النوم كجُثة هامدة. حلَّ ظلام منتصف الليل مُقتضَبًا وانقشع. وأشرقت الشمس من جهة الشمال الشرقي، أو بالأحرى بزَغَ فجر النهار في ذلك الجزء من الأُفق؛ لأن الشمس كانت محجوبة وسط سُحب رمادية.

استيقظ الرجل عند الساعة السادسة، وكان مُستلقيًا على ظهره في سكون. حَملَق فوقه مباشرة إلى السماء الرمادية، وأدرك أنه جائع. وبينما كان يتقلَّب على مرفقه روَّعَته نَخرة عالية، ورأى وَعلًا يتطلَّع إليه في فضول وحذَر. لم يكُن الحيوان بعيدًا عنه بأكثر من ٥٠ قدَمًا، فتخيَّلَ الرجل شرائح لحم الوعل وطعمها وهي تئزُّ وتحمَرُّ على النار. مدَّ يده تلقائيًّا ليُمسك ببندقيته الفارغة من الذخيرة وصوَّب عليه وضغط على الزناد. نخَرَ الوعل وقفز مبتعدًا، كانت حوافره تُقعقِع وتطرق على الأرض وهو يهرب عَبْر النتوءات الصخرية.

انهال الرجل بالسباب على بالبندقية الفارغة ورماها. وتأوَّهَ بصوت عالٍ وهو يسحب نَفْسه ليقف على قدمَيه. كان قيامه بطيئًا وشاقًّا.

كانت مفاصله كمُفصَّلات صدِئة. احتكَّت بخشونة في مواضعها فآلَمَته، وكانت كل انثناءة وانبساطة تتطلب منه جهدًا جهيدًا. وحين وقف أخيرًا على قدمَيه، استغرق دقيقة أخرى ليُقيم ظهره حتى يقف منتصبًا كما ينبغي.

زحف متسلِّقًا رَبْوة صغيرة وأخذ يمسح الأرجاء ببصره. لم يكُن ثمَّة أشجار ولا شُجيرات، لا شيء سوى مساحة شاسعة من الطحالب الرمادية تتخلَّلها صخور رمادية، وبُحيرات ومَجارٍ مائية كلها اكتست باللون الرمادي، فكاد المنظر يخلو من أي تنوُّع. بل كانت السماء أيضًا رمادية. لم تكُن الشمس مُشرِقة، ولم يكُن ثمَّة شعاع يدلُّ على وجودها. لم يكُن لدى الرجل أدنى فكرة عن اتجاه الشمال، وقد نسي الطريق الذي أتى منه إلى هذه البقعة في ليلته السابقة. لكنه لم يكُن تائهًا. كان متيقنًا من ذلك. فقريبًا سيصل إلى أرض العِصيِّ الصغيرة. شعَرَ بأنها تقع جهة اليسار في مكان ليس ببعيد عنه، ربما خلف التل المنخفض التالي مباشرة.

عاد ليجهِّز مَتاعه لينطلق في طريقه. اطمأنَّ على وجود مجموعات أعواد الثقاب الثلاثة، لكنه لم يتوقف لحصرها. ولكنه تأنَّى، وظلَّ يحدِّث نَفْسه بشأن كيس مكتنز مصنوع من جلد حيوان الموظ. لم يكُن الكيس كبيرًا. إذ كان بوسعه أن يُخفيه تحت يدَيه. كان يعرف أن وزن الكيس يبلغ ١٥ رطلًا — أي ما يعادل وزن بقية أمتعته — فأهَّمَه ذلك. في الأخير وضع الرجل الكيس جانبًا وشرع يلفُّ متاعه ليحزمه. ثم توقَّف ينظر إلى الكيس المكتنز المصنوع من جلد حيوان الموظ. رفعه سريعًا بنظرة متحدية على وجهه، وكأن المكان المُقفِر من حوله يريد أن يسرق الكيس منه، وحين نهض على قدمَيه ليواصل مسيره مترنِّحًا تحت ضوء النهار، كانت حُزمة أمتعته على ظهره تحوي الكيس الجلدي.

اتجه يسارًا، وكان يتوقف بين الحين والحين ليتناول توت المُستنقَع. أصبح كاحله متيبِّسًا، وصار عرَجُه أوضَح في مشيته، لكن ألَم كاحله كان بسيطًا جدًّا مقارنةً بآلام معدته. فخفقات الجوع كانت حادة وشديدة. ظلَّت تنخر في معدته وتَعَضُّ أمعاءه إلى أن فقَدَ التركيز على المسار الذي ينبغي أن يتبعه ليصل إلى أرض العِصيِّ الصغيرة. لم تُسكِّن حبات توت المُستنقَع من آلام جوعه، بل إنَّها آلمت لسانه وورَّمَت له سقف فمه من مَضْغها المُتعِب.

وصل الرجل إلى وادٍ تُحلِّق فيه طيور تَرْمجان الصخر بأجنحة طنَّانة وتتعالى من بين النتوءات الجَبَلية والمُستنقَعات. كان لهذه الطيور أصوات قرقرة. ألقى الرجل عليها الحجارة، لكنه لم يستطِع إصابتها. فوضعَ أمتعته على الأرض وحاول أن يتصيَّدها كما يتصيَّد القطُّ عصفورًا. مزَّقَت الصخور الحادة سيقان بنطاله حتى تركت ركبته آثار دماء خلفه، لكن ألَم الجوع طغى على هذا الألم. أخذ يتلوَّى على الطحالب الرطبة، فتشبَّعَت ملابسه بالمياه وأُصيب جسده ببرودة قارسة، لكنه لم يكُن شاعرًا بذلك، فقد كان ألَم جوعه أشد بكثير. ظلَّت طيور التَّرْمجان طَوال هذا الوقت تطير حوله وتخفق بأجنحتها وتقرقر حتى صار يرى قرقرتها استهزاءً وتلاعُبًا به، فسبَّها وأخذَ يصيح فيها محاكيًا أصواتها.

وفي إحدى المرَّات، زحف — دون أن يدري — قُرب أحد الطيور الذي لا بد أنه كان نائمًا. ولم يرَهُ حتى فوجئ به يطير مندفعًا في وجهه من رُكنه الصخري. فجفل الرجل كما جفل الطائر، وحاول أن يقبض عليه، لكنه لم ينَل سوى ثلاث ريشات من ذيله. شعَرَ الرجل بالكُره تجاه الطائر وهو يشاهده يطير مبتعدًا، وكأن الطائر قد أخطأ في حقه خطأً فادحًا. ثم عاد وحملَ أمتعته على كتفه.

ومع مرور ساعات النهار، وصَل الرجل إلى أودية أو مُستنقَعات كانت الطرائد فيها أكثر وَفْرة. مرَّت به مجموعة من الوعول، نحو بضعة وعشرين وَعلًا، كانت جميعها في مدى بندقيته بشكل أيقظ في نفسه العذاب. شعَرَ برغبة جامحة في مطاردتها، وساوَرَه يقين أنه يستطيع التغلُّب عليها واصطيادها. وأتى نحوه ثعلب أسود حاملًا في فمه طائر تَرْمجان. فصاح فيه الرجل. كان يقصد إخافته، لكن الثعلب الذي وثبَ بعيدًا من الفزع لم يُسقِط الطائر من فمه.

وفي ساعة متأخرة من الظهيرة، تبع الرجل جدولًا يجري ماؤه الكدِر بالكِلس بين بقع متفرِّقة من الأسَل. أمسك الرجل ببعض أعواد الأسَل وقبض عليها بشدة من قُرب جذورها، ثم سحبها فأخرج ما يبدو كأنه بُرعم بَصَلة لا يتعدى حجم مسمار الخشب. كان البُرعم طريًا، وغاصت فيه أسنانه بقرمشة أوحَت بأنه سيكون وجبة شهية. لكن أليافه كانت صُلبة. كان يتكون من ألياف خيطية مُشبَعة بالماء، مثل توت المُستنقَع، ويخلو من أي فائدة غذائية. ألقى الرجل أمتعته عنه وغاص وسط الأسَل جاثيًا على يدَيه وركبتَيه، وأخذ ينهش ويمضغ كأنه بقرة.

كان الرجل مُنهَكًا، وتمنَّى مِرارًا أن ينال قسطًا من الراحة؛ أن يستلقي وينام، لكنه كان مدفوعًا ومنقادًا طَوال الوقت، ولم تكُن رغبته في الوصول إلى أرض العِصيِّ الصغيرة هي ما تدفعه وتحرِّكه، إنما كان شعوره بالجوع. بحَثَ في البِرَك الصغيرة عن ضفادع، وحفَرَ في الأرض بأظفاره بحثًا عن ديدان، مع أنه كان يعرف أنه لن يجد أيًّا منهما في هذا المكان الواقع أقصى الشمال.

ظلَّ يبحث سُدًى في كل بِركة ماء، حتى حلَّ الغسَق الطويل، وعندئذٍ وجدَ سمكة وحيدة بحجم سمكة المنوة في إحدى تلك البِرَك. غمرَ ذراعه حتى كتفه في الماء لكن السمكة تملَّصَت منه. مدَّ كلتا يدَيه فحرَّك الطين في قاع البِركة فأصبح الماء كدِرًا. ولفرط حماسته سقط في البِركة فابتلَّت ملابسه حتى خَصْره. حينها أصبح الماء عكِرًا جدًّا فلم يستطع أن يرى السمكة، فاضطر إلى الانتظار ريثما ترقد الرواسب.

جدَّد الرجل محاولته حتى تعكر الماء. لكنه لم يستطع الانتظار هذه المرَّة. فكَّ الدَّلْو الصفيحي من حُزمة أمتعته وبدأ يُفرغ البِركة. كان يُفرغ الماء باهتياج محموم في بادئ الأمر، فبلَّل نَفْسه وكان يُلقي بالماء على بُعد مسافة قصيرة جدًّا من البِركة، حتى إن الماء كان يجري عائدًا إليها. ثم صار يعمل بعناية أكبر، محاولًا أن يستعيد رباطة جأشه، مع أن قلبه كان يخفق في صدره خفقانًا شديدًا، ويدَيه كانتا ترتعدان. بعد مرور نصف ساعة شارفَت البِركة أن تجف. لم يبقَ من مائها ما يملأ كوبًا واحدًا حتى. لكن السمكة لم تكُن موجودة. وجَدَ الرجل صدعًا خفيًّا بين الأحجار هربت منه السمكة إلى البِركة الأكبر المتاخمة لتلك البِركة، وكانت تلك البِركة الثانية كبيرة جدًّا فلم يكُن بمقدوره أن يُفرغها حتى ولو في ليلة كاملة وضُحاها. لو أنه عرف بأمر الصَّدع، لَأغلقه بحجر منذ البداية، ولَأصبحَت السمكة بحوزته الآن.

هكذا قال الرجل في قرارة نَفْسه، وانهارَ وخرَّ على الأرض المُبلَّلة. في البداية أخذ يبكي بصوت خافت، ثم أخذ يصيح بصوت عالٍ في وجه العزلة القاسية التي كان يعانيها؛ وظلَّ يتشنَّج مُنتحِبًا بشدة لوقت طويل.

أشعل نارًا ودفَّأ نَفْسه بأن شرِبَ كميات من الماء الساخن، وضرب مخيَّمه على نتوء صخري بالطريقة نفسها التي اتَّبَعها في الليلة السابقة. وكان آخِر ما فعل أنه اطمأنَّ أن أعواد الثقاب جافة، وأدار قرص ساعته. كانت بطَّانياته مُبتلَّة وباردة. وكان كاحله يخفق من شدة الألم. لكنه لم يكُن يدرك أي شيء سوى جوعه، وفي أثناء نومه المُضطرِب القَلِق، راودَته أحلام رأى فيها ولائمَ ومآدِب وطعامًا وفيرًا يُقدَّم ويُوزَّع بكل الطُّرق المُمكِنة.

استيقظ شاعرًا بالبرد والتوعُّك. لم تكُن الشمس قد طلعت. وكان لون الأرض والسماء الرمادي قد أصبح أكثر قَتامةً ودُكنة. هبَّت رياح باردة ورطبة، وكانت أُولى هبَّات الثلج المتساقط تُحيل قِمَم التلال إلى اللون الأبيض. ازداد الهواء من حوله كثافةً وأصبح أكثر بياضًا، بينما أشعل نارًا وغلى المزيد من الماء. كان الثلج مُبلَّلًا، يكاد يكون مطرًا، وكانت رقائق الثلج أكبر حجمًا وأكثر رطوبة. في بادئ الأمر ذابت تلك الرقائق حالَما لامسَت الأرض، لكنها أخذت تهطل بغزارة، فغطَّت الأرض وأطفأت النار وخرَّبت عليه مئونته من الطحالب التي يتخذها وقودًا لناره.

رأى الرجل أن تلك إشارة له كي يحزم متاعه ويكمل مسيره العاثر. لم يكُن مهتمًّا بأرض العِصيِّ الصغيرة، ولا ببيل ولا المخبأ الموجود تحت زورق الكانو المقلوب بالقُرب من نهر ديس. كان ما يسوقه هو الحصول على الطعام. كان جائعًا جوعًا جنونيًّا. لم يكترث بالمسار الذي كان يسلكه، ما دام هذا المسار يقوده عَبْر قيعان المُستنقَع. أخذ الرجل يتحسَّس طريقه بين الثلج الرطب بحثًا عن توت المُستنقَع المُبلَّل، وراح يقتلع الأسَل من جذوره، معتمدًا على حاسة اللمس فقط. ولكن الأسَل كان بلا طعم، ولم يُشبع جوعه. وجَدَ الرجل عُشبة كان طعمها لاذعًا فأكلَ كل ما وقعَت يده عليه منها، ولم يكُن هذا بالكثير، لأنها كانت من النوع الزاحف، فكانت مَخفية تحت طبقة الثلج التي وصَلَ سُمكها إلى عدة بوصات.

لم يُشعل نارًا في تلك الليلة، ولم يشرب ماءً ساخنًا، وزحف إلى تحت بطَّانيته لينام نومة الجائع المتقطِّعة. تحوَّل الثلج المتساقط إلى أمطار باردة. واستيقظ الرجل مِرارًا لشعوره بتساقُط المطر على وجهه المكشوف. ثم حلَّ النهار؛ كان نهارًا قاتمًا لم تطلع فيه شمس. وكان المطر قد توقف. كما زالت عنه شدة جوعه. فقد استنفد كل حساسيته المتعلِّقة باللهفة إلى الطعام. كان يشعر بألم ثقيل غير حاد في معدته، لكنه لم يسبِّب له إزعاجًا كبيرًا. أصبح أكثر رشدًا، وعاد شغله الشاغل هو العثور على أرض العِصيِّ الصغيرة والمَخبأ عند نهر ديس.

مزَّق بقايا إحدى بطَّانيتَيه إلى شرائط، وربَط بها قدمَيه النازفتَين. كما أعاد إحكام وثاق كاحله المصاب وهيَّأ نَفْسه ليوم من الترحال. وحين عاد إلى أمتعته، توقَّف طويلًا ليفكِّر في الكيس المصنوع من جلد الموظ، لكنه في النهاية أخذه معه.

ذاب الثلج تحت المطر، ولم يكُن البياض يغطِّي سوى قِمَم التلال. أشرقت الشمس، واستطاع الرجل تحديد الاتجاهات على البوصلة، لكنه صار يدرك حينئذٍ أنه ضلَّ سبيله. ربما أنه بالَغ كثيرًا في المَشي صوب اليسار أثناء تجواله في الأيام السابقة. لذا انعطف يمينًا ليعوِّض الانحراف المحتمل عن وجهته الفعلية.

ومع أن عضَّات الجوع وآلامه لم تعُد حادة، أدرك الرجل أن الوهن قد أصابه. واضطر إلى التوقُّف مِرارًا للاستراحة حين كان يُداهم توت المُستنقَع ورُقَع الأسَل. شعر بأن لسانه جافٌّ وغليظ، كأنه مُغطًّى بشَعر دقيق، وكان مذاقه في فمه مرًّا. وأتعبه قلبه تعبًا شديدًا. فحين كان يمضي في مسيره بضع دقائق، كان قلبه يبدأ خفقانًا شديدًا بلا توقُّف، ثم يثب من مكانه في اختلاج مؤلم يخنقه ويُصيبه بالضعف والدوار.

في منتصف النهار، وجَدَ الرجل سمكتَين من نوع المنوة الصغير في بِركة كبيرة. كان مستحيلًا أن يُفرغ البِركة من الماء، لكنه كان أهدَأ هذه المرَّة وتمكَّن من اصطيادهما في دلوه الصفيحي. صحيح أن طولهما لم يكُن يتعدَّى طول إصبعه الصغيرة، لكنه لم يكُن جائعًا بشدة على أي حال. فقد أخذ الألم في معدته يتضاءل. وبدا كأن معدته كانت تغفو. أكَلَ الرجل السمكتَين نيِّئتَين ماضغًا إياهما بعناية شديدة، لأنه في تلك اللحظة كان يأكل بدافع عقلاني محض. فهو لم يكُن راغبًا حينئذٍ في الأكل، لكنه كان مدركًا أنه يجب أن يأكل ليبقى على قيد الحياة.

وفي المساء اصطاد ثلاث سمكات أُخريات من النوع نفسه، فأكلَ اثنتَين وترك الثالثة ليتناولها على الإفطار. كانت الشمس قد جفَّفَت أعواد الطحالب الشاردة، واستطاع أن يدفِّئ نَفْسه بماء ساخن. لم يكُن قد قطع أكثر من ١٠ أميال في ذلك اليوم، وفي اليوم التالي لم يقطع أكثر من خمسة أميال؛ إذ كان يسير متى ما سمح له قلبه بذلك. لكن معدته لم تسبب له أي إزعاج. فقد غفَت ونامت. كذلك فإنه كان في أرض غريبة أيضًا، وكانت أعداد الوعول بها تزداد، كما ازدادت أعداد الذئاب أيضًا. كان عُواؤها ينجرف مِرارًا عَبْر أنحاء الفضاء من حوله، وقد رأى ثلاثة منها تنسلُّ مبتعدة من أمامه.

مرَّت ليلة أخرى، وفي الصباح، حين صار الرجل أكثر رشادًا، فكَّ الشريط الجلدي الذي يربط الكيس المصنوع من جلد الموظ. وصبَّ من فتحته سيلًا أصفر من حبوب غبار الذهب وشذراته الخشِنة. قسمَ الرجل الذهب إلى نصفَين تقريبًا، فخبَّأ نصفه عند حافة بارزة بعد أن لفَّه في قطعة من البطانية، وأعاد النصف الآخَر إلى الكيس. كما استخدم أيضًا شرائط من البطانية الوحيدة المتبقية ليلفَّ بها قدمه. وكان لا يزال ممسكًا ببندقيته، لأن المَخبأ الواقع عند نهر ديس كان يحتوي على عبوات طلقات.

كان ذلك النهار مُلبَّدًا بالضباب، وقد استيقظ شعور الجوع داخله مجددًا آنذاك. كان واهنًا جدًّا ومصابًا بدوارٍ أعماه في بعض الأحيان. فصار يتعثر ويسقط كثيرًا، وبينما تعثَّر في مرَّة من المرات، سقَط مباشرة على عش لطائر التَّرْمجان. كان في العش أربعة أفراخ حديثة الفَقْس عُمرها يوم واحد، وكانت تنبض بالحياة لكن حجمها كلها كان ضئيلًا جدًّا لا يتجاوز ملء فمه، فأكلها الرجل بشراهة؛ إذ ألقى بها وهي على قيد الحياة في فمه وطحنها بأسنانه وكأنها قِشر بَيض. رفرفت أمها من حوله بصيحات عالية. فاستخدم بندقيته كعصا ليضربها بها، لكنها راوغته وابتعدت حتى صار يستحيل الإمساك بها. فألقى عليها من الحجارة حتى أصابها بإحداها فكُسِر جناحها. فأخذت ترفرف مبتعدة، وركضت تجرُّ جناحها المكسور، وكان هو في إثرها.

كانت الفراخ الصغيرة قد ألهبت شهيته وحسب. ظلَّ يهرع وراء الأم متقافزًا ومتمايلًا بشكل أخرَق على كاحله المصاب، وهو يُلقي بالحجارة ويصرخ بصوت مبحوح تارة، وتارة أخرى يطاردها وهو يتقافز ويتمايل بصمت، مستجمعًا قواه لينهض بتجهُّم وصبر كلما سقط، أو فاركًا عينَيه بيده كلما شعَرَ بأنَّ دواره سيتغلَّب عليه ويصرعه.

أدَّت به المطاردة إلى أرض سبخة في قاع الوادي، ولقي آثار أقدام في الطحالب المُبلَّلة. لم تكُن تلك آثاره هو، لقد تبين له ذلك بوضوح. لا بد أنها آثار أقدام بيل. لكنه لم يستطع التوقُّف، لأن أنثى التَّرْمجان التي يطاردها كانت ما تزال تركض. قرَّر أن يصطادها أولًا، ثم يعود ويتحقَّق من الأمر.

أنهك الرجل أنثى التَّرْمجان، لكن الإنهاك ناله هو أيضًا. استلقت على جنبها لاهثة. واستلقى هو الآخَر على جنبه لاهثًا على بُعد بضع أقدام منها، وعاجزًا عن الزحف نحوها. وحالَما استرد شيئًا من طاقته، كانت قد تعافت هي أيضًا، فرفرفت وابتعدت عن يده الجائعة التي مدَّها ليُمسك بها. وهكذا استُئنِفت المُطارَدة. ثم حلَّ الليل وهربت أنثى التَّرْمجان. تعثَّر الرجل لشدة ضعفه، وسقط على وجهه فجرح وجنته، وبقي متاعه على ظهره. ظلَّ بلا حَراك وقتًا طويلًا؛ ثم انقلب على جنبه، وأدار قرص ساعته ورقد هناك حتى الصباح.

كان اليوم التالي يومًا آخَر مُلبَّدًا بالضباب. وكان الرجل قد استخدم أكثر من نصف بطانيته الأخيرة لصُنع ضمادات ولفافات لقدمَيه. أخفق في تتبُّع آثار أقدام بيل. لكنه لم يكترث بذلك. إذ كان جوعه يسوقه بإلحاح طاغٍ، لكنه طرح على نفسه تساؤلًا عابرًا عمَّا إن كان بيل أيضًا قد ضلَّ طريقه. بحلول منتصف اليوم كان تعبُه من ثِقَل متاعه قد بلغ مَبلَغه. فقسمَ الرجل الذهب ثانية، لكنه في هذه المرة اكتفى بسكب نصفه على الأرض. وبعد ظهيرة اليوم ألقى ببقيته، فلم يبقَ له سوى نصف البطانية ودلوه الصفيحي وبندقيته.

بدأت الهلوسات تُساوره. إذ راوده يقينٌ بأنه يحمل معه عبوة طلقات متبقية. وأنها موجودة في حجيرة البندقية لكنه غفلَ عنها. غير أنه كان يعرف طيلة الوقت أن الحجيرة بالبندقية فارغة. لكن الهلوسات ألحَّت عليه. ظلَّ يقاومها لساعات، ثم فتح البندقية ولم يجدها إلا خاوية. وكانت خيبة أمله مريرة كما لو أنه كان ينتظر أن يجد الطلقات فعلًا.

واصل الرجل طريقه بكد مدة نصف ساعة، وعندئذٍ عاودته الهلوسات مرَّة أخرى. قاومها الرجل مجددًا لكنها كانت مُلحَّة، حتى فتح بندقيته لمجرد أن يستريح ويقنع نَفْسه بأنها فارغة. وفي بعض الأحيان كان ذهنه يشرد إلى ما هو أبعَد من ذلك، وكان يواصل طريقه بصورة آلية مَحضة، بينما تنخر الأفكار والتصورات الغريبة في ذهنه كالديدان. لكن شروده عن الواقع لم يكُن يدوم طويلًا؛ لأن آلام الجوع كانت دائمًا ما تُعيده. وقد عاد الرجل مرَّة من تلك الخيالات بارتجافة مفاجئة لدى رؤيته منظرًا كاد يُصيبه بالإغماء. تمايل وترنَّح، وارتعش كثَمِل يحاول أن يتفادى السقوط. كان أمامه حصان. حصان! لم يصدِّق ما تراه عيناه. كانت تعلوهما غشاوة كثيفة تتخلَّلُها بُقَع ضوء وامضة. فرك الرجل عينَيه بقوة ليستوضح الرؤية، فلم يرَ حصانًا، بل دبًّا بُنيًّا كبيرًا. كان الحيوان يُحملق فيه بفضول عدواني.

لم يتذكر الرجل أن البندقية فارغة من الطلقات إلا حين كاد يرفعها إلى كتفه. فأخفضها واستلَّ سِكين الصيد من غِمده المطرَّز من عند فَخِذه. إذ كان أمامه لحمٌ وحياة. مرَّر الرجل إبهامه على نَصل السِّكين. كان النَّصل حادًّا. وكان طرف النَّصل مُدبَّبًا. قرَّر أن يرمي بنَفْسه على الدب ويقتله. لكن قلبه بدأ خفقاته التحذيرية. ثم أعقبها الوثبة الجامحة وقَرْع النبضات، وراحت جبهته تنسحق كأنها مربوطة بعِصابة حديدية، وتسلَّل شعور الدوار إلى عقله.

زالت شجاعته المتهوِّرة وحلَّت محلَّها نوبة هائلة من الخوف والفزَع. فماذا لو هاجمه الحيوان في حالته هذه من الضعف؟ نصبَ الرجل قامته ليبدو بأضخم حجمٍ مُمكِن، مُمسِكًا بسِكينه ومُحدقًا إلى الدب بنظرات حادة. تقدَّم الدب بضع خطوات متثاقلًا، ووقف على قائمتَيه وأطلقَ زمجرة أوَّلية تجريبية. لو ركض الرجل فسيركض خلفه، لكن الرجل لم يركض. كان ما يحرِّكه الآن هو الشجاعة الناجمة عن الخوف. زمجرَ الرجل هو أيضًا، بشراسة ووحشية وفظاعة، مُعبِّرًا عن الخوف الوثيق الصِّلة بالحياة، والمتشابك مع أعمَق جذورها.

تنحى الدب جانبًا، وأخذ يزمجر مهدِّدًا ومتوعِّدًا، بينما كان هو نَفْسه مرتاعًا من ذاك المخلوق الغريب الذي بدا مُنتصِبًا ولا يخشى شيئًا. لكن الرجل لم يتحرك. بل وقف جامدًا كتمثال حتى زال الخطر، وعندئذٍ استسلم لنوبة من الارتجاف وخرَّ مُنهارًا على الطحالب المُبتلَّة.

استجمع الرجل قواه وأكمل طريقه وهو يشعر بخوف جديد. لم يكُن خوفه نابعًا من أن يموت جوعًا من قِلة الطعام، بل من أن يتمزَّق بعُنف قبل أن يُنهك الجوع الشديد آخِر ذرَّات هِمَّته الساعية إلى النجاة. كانت الذئاب حاضرة في المكان. وكانت تُردِّد عُواءَها جَيْئة وذهابًا عَبْر أرجاء الفضاء المُوحِش من حوله، فنسجَ العُواء في الجو من حوله وعيدًا حقيقيًّا جدًّا حتى إنه وجد نَفْسه يرفع يده في الهواء ويدفعه عنه كأنه قماش خيمة تذروه الرياح نحو وجهه.

أخذت الذئاب بين الحين والآخَر تعبُر من أمامه في قطعان تتألَّف من ذئبَين أو ثلاثة. لكنها ظلَّت بعيدة عنه. فلم تكُن أعدادها كافية، بالإضافة إلى أنها كانت تفترس الوعول التي لا تقاتل، في حين أن هذا المخلوق الذي يمشي مُنتصِبًا بإمكانه أن يخدش ويَعَضُّ.

وفي ساعة متأخرة من الظهيرة أتى الرجل على عظام متناثرة في مكان كانت الذئاب قد افترست فيه صيدًا. كانت البقايا لوَعل صغير، ولا شك أنه قبل ساعة واحدة فقط كان يصيح ويجري وينبض بالحياة. تأمَّلَ الرجل العظام، كانت نظيفة — وقد أُزيل اللحم عنها — وزَهرية بلون حياة الخلايا التي لم تمُت بعدُ فيها. فهل يمكن أن يكون هذا هو حاله قبل أن ينقضي النهار؟! أليست هذه هي طبيعة الحياة؟ عبثية وعابرة. كانت الحياة نفسها هي ما تُسبِّب الألم. أمَّا الموت، فلا ألم فيه. فأن تموت يعني أن تنام. أن تسكن تمامًا وترتاح. إذَن فلماذا لم يكُن يرضى بالموت؟

لكنه لم ينهمك طويلًا في تأمُّلاته الفلسفية. كان جالسًا القرفصاء بين الطحالب، وواضعًا في فمه عَظمة يمتصُّ منها الأشلاء الحية التي كانت ما تزال تصبغها باللون الزَّهري. أثار جنونه طعم اللحم الحلو الذي كان طفيفًا ومتملِّصًا كذكرى خافتة. أغلقَ فكَّيه على العَظمة وطحَنَها بأسنانه. كانت العَظمة تنكسر في أحيان، وكانت أسنانه هي ما تنكسر في أحيانٍ أخرى. ثم وضع العظام على صخرة وأخذ ينهال عليها بحجَر ليفتِّتها، ويسحقها حتى تصير كالعجين، ويبتلعها. ومن فرط تعجُّله، نالت أصابعه أيضًا نصيبها من الطَّرق، لكنه فوجئ في لحظةٍ ما بأن أصابعه لم تؤلمه حين نزل الحجَر عليها.

مرَّت عليه أيام مُروِّعة من الثلوج والأمطار. فقدَ إحساسه بالزمن فلم يعُد يُدرك متى كان ينصب مُخيَّمه ومتى كان يفضُّه. أصبح يسيرُ في الليل بقَدْر ما يسير في النهار. وكان يستريح حيثما يسقط، ثم يكمل طريقه زحفًا حينما يتَّقد وَميض الحياة فيه ويتأجَّج قليلًا. لم يعُد يبذل جهدًا بإدراكٍ واعٍ منه. بل كانت تسوقه غريزة الحياة التي تأبى الاستسلام للموت. ولم يكُن يعاني. فقد تبلَّدَت أعصابه وتخدَّرَت بينما كان عقله يعجُّ برؤًى غريبة وأحلام لذيذة.

لكنه ظلَّ يمصُّ عظام صغير الوَعل المسحوقة ويمضغها، أو بالأحرى تلك البقايا القليلة التي جمَعَها منها وحملها معه. لم يعُد يعبُر تلالًا ولا مرتفعات فاصلة بين المجاري المائية، لكنه كان — وبصورة تلقائية — يتبع مجرًى مائيًّا كبيرًا يتدفق عَبْر وادٍ فسيح وضَحْل. لم يكُن الرجل يرى هذا المجرى المائي ولا الوادي. لم يكُن يرى شيئًا سوى الرُّؤى التي كانت تراوده. كان جسده وروحه يسيران أو يزحفان متجاورَين، لكنهما كانا مُفترِقَين، وكان الخيط الذي يربط بينهما واهيًا للغاية.

استيقظ الرجل بعقل سليم، وكان مستلقيًا على ظهره على حافة صخرية ناتئة. كانت الشمس ساطعة ودافئة. سمع أصوات صغار الوعول من بعيد. راودَته ذكريات مُشوَّشة عن مطر ورياح وثلج، لكنه لم يكُن يدرك أَضرَبَته العاصفة طَوال يومَين أم أسبوعَين.

ظلَّ مستلقيًا لبعض الوقت بلا حراك، وأشعة الشمس اللطيفة المعتدلة تنصبُّ عليه وتدفِّئ جسده الهزيل بدفئها. رأى في قرارة نَفْسه أن الطقس جميل. وارتأى أنه ربما يستطيع تحديد موقعه. وبجهد أليم انقلب على جنبه. كان يجرى من تحته نهر عريض بطيء. تحيَّر الرجل لأن النهر كان غير مألوف له. تبِعَه ببصره على مهل وهو يتدفَّق في مجراه الممتد الشاسع المتعرِّج بين التلال القاتمة والقاحلة، التي كانت أكثر قتامةً وجَدبًا وانخفاضًا من أي تلال مرَّ بها من قبلُ. أخذ يَتبَعه هكذا ببطءٍ وتأنٍّ، ومن دون حماسة أو اهتمام أكثر من العادي، حتى وصل بعينَيه إلى خط الأُفق ورأى أنه يصبُّ في بحر صافٍ ومتألِّق. ظلَّ غير متحمِّس. إذ رأى أن هذا شيء غير عادي إطلاقًا، وارتأى أنه ربما يكون خيالًا يراوده أو سرابًا يُهيَّأ له، ثم رجَّح أنه خيال خادع مصدره عقله المُضطرِب. وما أكَّد له ذلك أنه رأى سفينة راسية وسط البحر المتألِّق. أغلق عينَيه لبعض الوقت ثم فتحهما ثانيةً. استغرب حين رأى المنظر ما زال موجودًا! لكن استغرابه زال فورًا. كان متيقِّنًا من استحالة وجود بحار أو سفن في قلب القِفار القاحلة، تمامًا كما كان متيقِّنًا من أنَّ بندقيته الخاوية لم تكُن تحوي طلقات.

سمع من خلفه صوت تشمُّم، كأنه شهيق أو سُعال شِبه مُختنِق. فاستدار ببطءٍ شديد لينقلب على جانبه الآخَر، لأن جسده كان غاية في الوهن والجمود. لم يرَ شيئًا بجواره، لكنه انتظر وصبر. فجاء صوت التنشُّق والسُّعال ثانية، ومن بين صخرتَين مُدبَّبتَين لا تبعدان عنه كثيرًا، استطاع الرجل أن يرى ملامح رأس ذئب لونه رمادي. لم تكُن أُذناه المُدبَّبتان مُنتصبتَين بشدة كدَأْب الذئاب الأخرى التي رآها من قبلُ، فيما كانت عيناه دامعتَين ومُحتقنتَين بالدم، وبدا رأسه متدلِّيًا من الضعف واليأس. أخذ الحيوان يرمش باستمرار تحت أشعة الشمس. وبدا سقيمًا. وبينما كان الرجل ينظر إليه، شهقَ وسعلَ مجددًا.

ظنَّ الرجل في نَفْسه أن هذا الذئب على الأقل حقيقي، فاستدار على جانبه الآخَر لعلَّه يرى حقيقة العالَم التي كانت محجوبة عنه من قبلُ تحت غشاء خيالاته وهلوساته. لكن البحر كان ما يزال يتألق في الأُفق وكانت السفينة ظاهرة بوضوح. أيمكن أن يكون المنظر حقيقيًّا رغم كل الشواهد المعاكسة؟ أغمضَ الرجل عينَيه طويلًا وفكَّر، ثم وصَل إلى إدراك. كان الرجل يسلك جهة الشمال الشرقي، مبتعدًا عن الأرض المرتفعة التي تقسم نهر ديس ومُستقبِلًا وادي كوبرماين. كان هذا النهر العريض البطيء هو نهر كوبرماين. وهذا البحر المتألِّق هو المحيط الشمالي المتجمِّد. أمَّا هذه السفينة، فهي سفينة لصيد الحيتان شردت عن مسارها وانحرفت إلى أقصى الشرق من مَصَب نهر ماكينزي، وكانت ترسو في خليج كورونيشن. تذكَّر الرجل مخطَّط شركة هدسون باي الذي رآه قبل وقت طويل، وأصبح كل شيء واضحًا ومنطقيًّا له.

انتصب في جلسته وحوَّل انتباهه إلى الظروف الراهنة. كانت الضمادات التي صنعها من بطانيته قد تمزَّقَت، وكانت قدماه عبارة عن كُتَل عديمة الشكل من اللحم المسلوخ. لم يعُد معه شيء من بطانيته الأخيرة. كما فقد بندقيته وسِكينه. وفقدَ قُبَّعته في مكانٍ ما ومعها مجموعة أعواد الثقاب التي كانت مخبَّأة في شريطها، لكن أعواد الثقاب التي خبَّأها في صدره كانت لا تزال آمِنة وجافة داخل جراب التبغ والورق المشمَّع. نظر في ساعته. فوجدها تُشير إلى الحادية عشرة وما زالت تعمل. من الواضح أنه كان مواظبًا على لفِّ قُرصها.

كان هادئًا رابط الجأش. ومع أنه كان واهنًا للغاية، فإنه لم يكُن يشعر بأي ألم. ولم يكُن جائعًا. بل لم تكُن حتى فكرة الطعام بالفكرة السارَّة له، وكان يفعل ما يفعله، أيًّا كان، بدافع عقلاني محض. مزَّق ساقَي بنطاله إلى ركبتَيه وربط بهما قدمَيه. وبطريقةٍ ما، كان ما يزال محتفِظًا بدَلوه الصفيحي رغم كل الصعاب. قرَّر أن يشرب بعض الماء الساخن قبل أن يبدأ ما توقَّع أنه سيكون رحلة قاسية وفظيعة باتجاه السفينة.

كانت حركاته بطيئة. كان يرتجف وكأنه مصاب بالشلل. وحين بدأ يجمع الطحالب الجافة، وجد أنه لا يستطيع النهوض على قدمَيه. حاول مِرارًا وتكرارًا، ثم قَنَع بالزحف على يدَيه وركبتَيه. مرَّ في أثناء زحفه بالقُرب من الذئب السقيم. فجرَّ الحيوان نَفْسه في تردُّد مبتعِدًا عنه، وأخذ يلعق ضلعه بلسان بدا أنه لا يقوى على أن يلويه. لاحظَ الرجل أن لسان الذئب لم يكُن باللون الأحمر المعتاد الدال على الصحة. بل كان بُنيًّا مُصفَرًّا وبدا مُغطًّى بمُخاط شِبه جاف وغليظ.

بعد أن تناول الرجل لترًا من الماء الساخن وجَدَ نَفْسه قادرًا على الوقوف، بل حتى السير بقَدْر ما يمكن لرجل يُحتضَر أن يسير. كان يضطر بين كل دقيقة وأخرى إلى التوقُّف للاستراحة. كانت خطواته واهنة ومتقلقلة، تمامًا كخطوات الذئب الذي كان يتبعه، وفي تلك الليلة، حين ابتلع الظلام البحر المتلألئ، كان الرجل يعرف أنه لا يفصل بينه وبين البحر أكثر من أربعة أميال.

وطَوال الليل ظلَّ الرجل يسمع سُعال الذئب السقيم، وبين الفينة والأخرى كان يسمع أصوات صغار الوعول. كانت الحياة تنتشر من حوله في كل اتجاه، لكنها كانت حياة قوية، تنبض بالحيوية والصحة، وكان يعرف أن الذئب السقيم يتبعه أملًا في أن يموت هو أولًا. وفي الصباح حين فتح عينَيه، وجَدَ الذئب ينظر إليه ويُحملِق فيه بنظرات الجوع والتمنِّي. كان الذئب رابضًا وذيله بين ساقَيه، كأنه كلب بائس مكتئب. أخذ الذئب يرتجف بفعل نسمة الصبح الباردة، وكشَّر عن أنيابه في إحباط حين تحدَّث إليه الرجل بصوت لم يعلُ عن همس مبحوح.

أشرقت الشمس ساطعة، وأخذ الرجل يترنَّح ويتداعى طَوال الصباح في طريقه نحو السفينة الراسية في البحر المتلألئ. كان الطقس مثاليًّا. إذ كان الوقت هو وقت الصيف الهندي القصير الذي تشهده خطوط العرض القطبية. وأحيانًا ما يستمر أسبوعًا. وأحيانًا ينتهي بحلول اليوم التالي أو الذي يَليه.

بعد الظهيرة صادفَ آثار أقدام. كانت لرجُل آخَر، واتضح منها أنه لم يكُن يمشي بل كان يجرُّ نَفْسه على أطرافه الأربعة. خطر بباله أنها ربما تكون آثار بيل، لكن خواطره كانت متبلِّدة وفاترة. لم يكُن يشعر بأي فضول. ففي الحقيقة انفصل عنه الإحساس والشعور. لم يعُد عُرضة للتألُّم. خلدت أعصابه ومعدته إلى سُبات عميق. لكن غريزة الحياة فيه ظلَّت تدفعه وتسوقه. كان في غاية الإنهاك، لكن غريزته رفضت الاستسلام للموت. ولهذا ظلَّ يأكل توت المُستنقَع وسمَك المنوة الصغير ويشرب الماء الساخن، ويراقب الذئب السقيم بحذَر.

تتبَّع آثار الرجُل الآخَر الذي جرجر نَفْسه على أطرافه، وسرعان ما وصل إلى آخِر ما وصلت إليه تلك الآثار، عند بضع عظام جُرِّدت من لحمها حديثًا، وكانت الطحالب المُبلَّلة في ذلك المكان تحمل آثار أقدام الكثير من الذئاب. رأى الرجل كيسًا مصنوعًا من جلد الموظ يشبه الكيس الذي كان معه، لكنه كان مُمزَّقًا بأسنان حادة. فرفعه، مع أنَّ وزنه حينئذٍ كان أثقَل مما تتحمله أصابعه الواهنة. لقد ظلَّ بيل حاملًا كيسه حتى لفظ آخِر أنفاسه. ها ها! سيكون هو مَن يضحك أخيرًا ويغيظ بيل. سينجو ويحمل الكيس إلى السفينة في البحر المتلألئ. كانت ضحكاته مبحوحة وشنيعة كأنها نعيق غراب، وقد انضمَّ إليه الذئب السقيم، وأخذ يَعوي عُواءً مُفعَمًا بالأسى والحِداد. توقَّفَ الرجل فجأة. فكيف له أن يضحك من بيل ويغيظه لو كان هذا الرجل الميت هو بيل، لو كانت تلك العظام البيضاء المُمتزِجة بلون وردي والمجرَّدة من اللحم هي عِظام بيل؟!

أشاح بوجهه بعيدًا. لقد هجَرَه بيل، لكنه لن يأخذ ذَهَبه، ولن يلعق عظامه. مع أنَّ بيل كان ليفعل ذلك به لو كان الوضع معكوسًا، هكذا فكَّر الرجل في قرارة نَفْسه وهو يشق طريقه مترنِّحًا.

وصل إلى بركة ماء. ومال عليها ليبحث عن سمَك المنوة، ثم نفضَ رأسه للخلف بسرعة كأنه أُصيب بلَسعة. لقد رأى انعكاس وجهه على المياه. وكان وجهه مريعًا جدًّا لدرجة أن وعيه عادَ إليه لحظيًّا وأُصيب بصدمة. وجَدَ في البِركة ثلاث سمكات صغار، وكانت البِركة أكبر من أن يستطيع تجفيفها، وبعد عدة محاولات فاشلة لصيد الأسماك في دَلْوه الصفيحي الذي كان يحمله، توقف عن المحاولة. كان خائفًا لشدة ما به من وهن أن يسقط في الماء ويغرق. ولذا لم يأمن على نَفْسه أن يعبُر النهر بامتطاء أحد الجذوع المنجرِفة الكثيرة التي كانت مُصطفَّة على امتداداته الرملية.

في ذلك اليوم اقترب من السفينة ثلاثةَ أميال أخرى، ثم ميلَين فقط في اليوم الذي يَليه؛ لأنه صار يزحف كما زحفَ بيل من قبله، وفي نهاية اليوم الخامس وجَدَ أن السفينة ما زالت تبعد عنه سبعة أميال، ووجَدَ أنه غير قادر على أن يقطع ولو ميلًا واحدًا في اليوم. لكن طقس الصيف الهندي كان ما يزال مسيطرًا على الأجواء، وظلَّ الرجُل يزحف ويغيب عن الوعي بالتناوب مِرارًا وتكرارًا، وظلَّ الذئب السقيم يسعل ويلهث في أعقابه. كانت ركبتاه قد أصبحتا مُنسلِختَين من جلدهما كقدمَيه، ومع أنه لفَّهما بضمادة قطَعَها من قميصه، فإنه كان يُخلِّف وراءه أثرًا أحمر اللون على الطحالب والحجَر. وحين نظر خلفه ذات مرَّة، وجَدَ الذئب يلعق أثَره الأحمر من شدة جوعه، وحينها رأى ما سيئول إليه مصيرُه رَأْي العين … إلا إذا … إلا إذا تمكَّن من قتل الذئب. حينها تجلَّت مأساة الوجود في أكثر صورها كآبةً؛ رجل سقيم يزحف، وذئب سقيم يعرج، مخلوقان يُجرجِران جثَّتَيهما المُحتضَرتَين عَبْر القِفار، وكلاهما يستهدف حياة الآخَر.

لو كان الذئب سليمًا لَمَا اهتمَّ الرجل لهذا كثيرًا، لكنه كان يبغض أن يصير طعامًا لهذا المخلوق البغيض الذي يوشك أن يموت. إذ كان رجلًا نيِّقًا. وقد بدأ عقله يشرد ثانية ويتشوَّش بفعل الهلوسات، فيما أصبحت الأوقات التي يصفو فيها تفكيره أقصر وأقلَّ تواتُرًا.

استيقظ ذات مرَّة من إحدى إغماءاته على لُهاث قريب من أُذنه. فقفز الذئب نحو الخلف وهو يعرج، واختلَّ توازنه ووقع لشدة ضعفه. كان الأمر مثيرًا للسخرية، لكنه لم يكُن مستمتعًا بما حدث. ولم يكُن خائفًا حتى. إذ كان أشد إعياءً من أن يشعر بالخوف. لكن ذهنه في تلك اللحظة كان صافيًا، فاستلقى وأخذ يفكِّر. لم تكُن السفينة تبعد عنه بأكثر من أربعة أميال. كان يراها بوضوح تام حين يفرك عينَيه فيزيل عنهما ما بهما من تشوُّش وضباب، وكان يرى شراعًا أبيض لقارب صغير يشق صفحة البحر المتلألئ. لكنه لن يستطيع أبدًا أن يقطع هذه الأميال الأربعة ولو زحفًا. كان واثقًا من هذا ومستكينًا للأمر. كان واثقًا من عدم قدرته على أن يزحف ولو نصف ميل. لكنه مع ذلك أراد أن يعيش. فلم يكُن منطقيًّا أن يموت بعد كل ما مرَّ به وصادفه في طريقه. لقد حمَّله القدَر ما لا طاقة له به. ومع أنه كان يُحتضَر، فإنه أبى أن يموت. ربما كان في ذلك جنون صارخ، لكنه ظلَّ يقاوم الموت وهو في قبضته ورفض أن يستسلم.

أغلق عينَيه وتمالكَ نَفْسه بحذَر شديد. استجمع قواه ليتغلَّب على الوهَن الخانق الذي تسلَّل كالمد عَبْر ينابيع كيانه. كان هذا الوهَن القتَّال أشبَه كثيرًا بالبحر الذي يرتفع ماؤه رويدًا رويدًا فيُغرِق وعيه فيه بالتدريج. في بعض الأحيان كانت الغشية تتملَّكه إلا قليلًا، فيسبح في بحر من الإغماء وهو مترنِّح، لكنه يعثر من خلال شيء غريب في روحه على ذرَّة أخرى من الإرادة فيحاول النجاة بقوة أكبر.

استلقى على ظهره من دون حَراك، وكان يسمع لُهاث الذئب السقيم يقترب منه أكثر وأكثر ببطء. ظلَّ الذئب يواصل الاقتراب طَوال وقت لا ينتهي، ولم يتحرَّك الرجل. كان الذئب عند أُذنه. ومرَّ لسان الذئب الخشِن الجاف على وجنته كأنه ورقة صنفرة. مدَّ الرجل يدَيه بسرعة، أو بالأحرى أراد أن يمدهما بسرعة. كانت أصابعه معقوفة كالمخالب، لكنها لم تُطبِق إلا على الفراغ. فالسرعة والثبات يتطلبان قوة، ولم يكُن الرجل يتمتع بهذه القوة.

أظهرَ الذئب من الصبر الكثير. ولم يكُن الرجل أقل صبرًا. ظلَّ مستلقيًا نصف يومٍ من دون حَراك، يكابد الإغماء وينتظر المخلوق الذي يريد أن يأكله، والذي يرغب هو أيضًا في أن يأكله. في بعض الأحيان كان الوهَن يتملَّك منه فيغفو ويستغرق في الأحلام، لكنه كان ينتظر طيلة الوقت، في اليقظة والغشاوة، لُهاث الذئب ولمسات لسانه الخشِن.

لم يسمع أنفاس الذئب، واستيقظ ببطءٍ من حلم كان يراوده على شعوره بلسان الذئب على يده. فانتظر. ضغطَت أنياب الذئب بهدوء، وأخذ الضغط يزداد، كان الذئب يُخرج آخِر ما به من قوة مُحاولًا أن يغرز أنيابه في طعامه الذي انتظره طويلًا. لكن الرجل كان قد انتظر طويلًا، ثم أطبقَ بيده المتهتِّكة على فكِّ الذئب. وبينما كان الذئب يقاوم بوهَن والرجل يقبض عليه بوهَن، تسلَّلَت يده الأخرى ببطء ليُحكِم بها قبضته. بعد خمس دقائق كان يرقد بثقل جسده كله على الذئب. لم يكُن بيدَيه ما يكفي من القوة ليخنق الذئب، لكن وجهه كان ضاغطًا على عُنق الذئب وكان فمه مليئًا بالشَّعر. وبعد نصف ساعة، شعَرَ الرجل بقطرات دافئة في حلقه. لم يكُن مذاقها لطيفًا. كان الأمر أشبَه بإجبار نَفْسه على ابتلاع الرصاص المُذاب، ولم يجبره على ذلك غير إرادته. وبعدها استدار فاستلقى على ظهره وراح في النوم.

•••

كان على متن سفينة بيدفورد لصيد الحيتان بعض أعضاء بعثة علمية. لاحظوا من فوق متن السفينة جسمًا غريبًا على الشاطئ. كان يتحرك على الشاطئ متجهًا نحو الماء. لم يستطيعوا تصنيف هذا الشيء، ولأنهم علماء، فقد نزلوا إلى متن القارب وذهبوا إلى الشاطئ ليتفقَّدوا ذلك الشيء. وعندئذٍ رأوا شيئًا حيًّا لكن بالكاد يُمكِن تصنيفه بشرًا. فقد كان غيرَ مُبصِر وفاقدًا للوعي. وكان يتلوَّى على الأرض كدودة عملاقة. لم تكُن معظم تحرُّكاته فعَّالة أو ذات تأثير، لكنها كانت مستمرة، وقد أخذ يتلوَّى ويلتفُّ وكان يتقدَّم مسافة بضع أقدام في الساعة.

•••

بعد ثلاثة أسابيع كان الرجل يرقد في سرير على متن سفينة صيد الحيتان بيدفورد، وبدموع تنهال على وجنتَيه الهزيلتَين أخذ يحكي عن أصله وعمَّا لقيه في رحلته. كان أيضًا يُثرثر ثرثرة غير مفهومة عن أمه وعن جنوب كاليفورنيا المُشمِس، وعن منزلٍ بين بساتين البرتقال والزهور.

ولم تمر أيام كثيرة حتى وجَدَ نَفْسه جالسًا إلى الطاولة مع علماء الرحلة وطاقم قيادة السفينة. تلذَّذ برؤية هذا الكم الكبير من الطعام، وأخذ يرقبه بقلَق وهو يدخل أفواه بقية الرجال. ومع اختفاء كل لقمة منه في أجوافهم، كانت تبدو في عينَيه نظرة ندم عميق. كان الرجل مُتزنًا وعاقلًا تمامًا، لكنه كرِهَ رؤية أولئك الرجال في وقتِ تناوُل الطعام. إذ كان يُطارده خوف من أن ينفد الطعام ولا يبقى منه شيء. واستفسر من طاهي السفينة ومن ربَّانها ومن خادم المقصورة عن مخزونات الطعام. وقد طمأنوه مِرارًا وتكرارًا، لكنه لم يستطع أن يصدِّقهم، فكان يتسلَّل خلسةً ليسترق النظر ويطمئنَّ على مخزن الطعام بنَفْسه.

قد لاحظ الرجال أنه قد بدأ يَسمن. إذ كانت بدانته تزداد مع مرور كل يوم. لم يقبل العلماء بذلك وبدأوا التنظير. فحدَّدوا له كميات مُعيَّنة من الطعام في وجباته، لكن حجمه ظلَّ يزيد وكان جسده يتضخَّم بشدة تحت ملابسه.

فَكِه البحَّارة بذلك. إذ كانوا يعلمون الحقيقة. وحين عيَّن العلماء رجلًا لمراقبته، عرفوا السر هم أيضًا. إذ رأوه يتسكَّع بعد الإفطار ويُبادر أحد البحَّارة بالكلام كالمتسوِّلين وهو يمدُّ يده. ابتسم البحَّار وأعطاه قطعة خبز. هبَشَها الرجل في طمع، ونظر إليها كما ينظر الشحيح إلى الذَّهَب، ودسَّها في جيب ملابسه. وكذلك كان البحَّارة الآخَرون يتفضلون عليه بهِباتٍ مشابهة وهم يبتسمون.

احتفظ العلماء بالأمر لأنفسهم. وتركوه وشأنه. لكنهم فتشوا سريره سرًّا. وجدوه مليئًا بالخبز، ووجدوا المَرتبة محشوَّة به، فكان كل ركن وكل زاوية يحويان الخبز. لكنه كان رجلًا مُتزنًا عاقلًا. كل ما هنالك أنه كان يتخذ احتياطاته لمواجهة مجاعة أخرى مُحتمَلة. قال العلماء إنه سيُشفى من هذا، وقد شُفي منه فعلًا قبل أن تستقر مَرساة السفينة بيدفورد في خليج سان فرانسيسكو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤