مقدِّمة

في فترة الستينيات قام د. محمد يوسف نجم بنشر، بعض النصوص المسرحية المطبوعة في أواخر القرن الماضي، وبدايات القرن الحالي. وهي نصوص لبعض الروَّاد أمثال: يعقوب صنوع، ومارون النقاش، والقباني، وسليم النقاش، ومحمد عثمان جلال، وغيرهم. وكان هذا العمل فريدًا في نوعه؛ لأنه أعاد بعض الحياة مرة أخرى إلى النصوص المسرحية القديمة. وأقول: «بعض الحياة» لأن معظم هذه النصوص كانت مطبوعة من قبل. وسارت على هذا النهج د. نجوى عانوس، منذ فترة قريبة، فنشرت عِدَّة مخطوطات مسرحية لكاتبَيْن من روَّاد الكتابة المسرحية في مصر، هما إبراهيم رمزي وأمين صدقي. كما قمتُ أنا أيضًا بنفس العمل بالنسبة إلى مسرحيات ومخطوطات الكاتب المسرحي إسماعيل عاصم. ولكن هذه الجهود العلمية كانت تتجه نحو الأعمال المسرحية للشخصيات المعروفة في التاريخ المسرحي المصري.

أما الحديث عن الجانب المجهول من تاريخ المسرح المصري، فلم يتطرق إليه أحد حتى الآن. والمقصود بالجانب المجهول، هو النصوص المسرحية المرفوضة، التي فُرض عليها النسيان، فلم تُمثل ولم تُطبع منذ عام ١٩٢٣ حتى عام ١٩٨٨؛ لذلك أردتُ أن أخوض التجربة، وأنبش في التاريخ حتى أُعيدَ الحياة مرة أخرى إلى هذه المسرحيات، التي رفضتْها الرقابة.

والحديث عن الرقابة بصفة عامة، وعن الرقابة المسرحية بصفة خاصة — قبلَ كتابة هذا الكتاب — هو المستحيل بعينه. فجميع الكتابات النقدية والصحفية التي كُتبت عن الرقابة، كانت من خلال بعض الأحاديث الصحفية المأخوذة — على حَذَر — من بعض رجال الرقابة. فالاقتراب من الرقابة، هو الاقتراب من الممنوع.

وبسبب أهمية إدارة الرقابة على المسرحيات، لما تقوم به من تقييم رقابي على فِكْر المُبدِعين المسرحيين في مصر، أردتُ في بادئ الأمر أن أتعرَّف عليها بغية كتابة دراسة عنها. فذهبتُ إليها — في سذاجة — وحاولتُ الحديث مع المدير المسئول، دون جدوى. فقد امتنع المدير وجميع المسئولين عن مساعدتي، ورفضوا حتى مجرد معرفة سبب حضوري.

وبعد فترة زمنية ذهبتُ إليهم مرة أخرى، بصفة رسمية، من خلال خطاب رسمي من قِبَل جامعة المنيا، كي يقوموا بتقديم المساعدات اللازمة لي لإتمام بحثي عن الرقابة المسرحية. وأمام هذا الخطاب وافق المدير العام على تقديم بعض النصوص المسرحية بطريقة عشوائية لقراءتها فقط داخل الرقابة، دون الاطلاع على المستندات أو التقارير الرقابية المصاحِبة لهذه النصوص. ومكثتُ في إدارة الرقابة على المسرحيات ما يقرب من ستة أشهر، قرأتُ خلالها نصوصًا مسرحية كثيرة تم الترخص لها بالتمثيل، حتى وقع في يدي نصٌّ مرفوض. وعندما سألتُ عن سبب رفضه قيل لي إنها أسباب عديدة مثبتة في تقارير الرُّقَباء. وعندما طالبتُ بالاطلاع عليها، قامت ثورة في الإدارة لمجرد أن جاءني هاتف التفكير في هذا الأمر.

ومن هنا أيقنتُ أهمية التقارير الرقابية، وأكَّد لي هذا اليقين أن جميع الكتابات الصحفية التي تطرَّقتْ إلى الرقابة لم تَذكُر لا من قريب أو من بعيد أية إشارة عن تقارير الرقباء. فهذه التقارير سِرِّيَّة للغاية هذا بالإضافة إلى أهميتها الكبرى. وعلى الفور تحدَّد أمامي موضوع الكتاب، وهو الحديث عن المسرحيات المرفوضة. فتعمدتُ أن أقرأ نصوص المسرحيات المرفوضة وأنا داخل الرقابة. فوجدتُها نصوصًا جيدة، تحمل أفكارًا بنَّاءة، وكان الأجدر بها أن تُمثل لا أن تُرفض! وكان من الضروري أن أطلع على تقارير الرقباء بالنسبة إلى المسرحيات المرفوضة، كي أتعرف على أسباب الرفض وأناقشها. ولكن كما قلت هذا الأمر هو المستحيل بعينه.

وبعد فترة زمنية ليستْ بالطويلة، علمتُ أن جميع النصوص المسرحية الموجودة بمخزن الرقابة حتى عام ١٩٨٨، انتقلتْ إلى إدارة التوثيق بالمركز القومي للمسرح والموسيقى. فذهبتُ إليها على الفَوْر للسؤال عن هذه المسرحيات، فلم أتلقَّ أية إجابة. وترددت على المركز عدة مرات، حتى توطَّدتِ الصلة بيني وبين رئيس المركز. فعرض عليَّ فكرة انتدابي إلى المركز، فوجدتُها فرصة سانحة لإتمام بحثي والاطلاع على أكبر كمٍّ من المسرحيات المرفوضة، وبالأخص عندما علمتُ أن المركز يحتفظ بكمٍّ هائل من المسرحيات التراثية أيضًا. فوافقتُ على الانتداب الذي ظل لمدة عام تقريبًا.١ وطَوَالَ هذا العام وأنا عاكف على دراسة النصوص وتقاريرها الرقابية. وبعد الانتهاء من التعرُّف على جميع المسرحيات المرفوضة داخل المركز، استكملتُ الباقي من بعض الأشخاص المعنيِّين بالحركة المسرحية، ومن بعض المكتبات الخاصة.

وبعد التغلُّب على الصعوبة الأولى؛ من حيث التعرف على المسرحيات المرفوضة، وتقارير الرقباء، بقيتْ صعوبة أخرى، هي التعرف على تاريخ الرقابة المسرحية. فلا يوجد حتى الآن مقال أو كتاب كُتب عن تاريخ الرقابة المسرحية في مصر، إلا كتاب الرقيبة اعتدال ممتاز — وهو بعنوان «مذكرات رقيبة سينما» عام ١٩٨٥ — وهو كتاب مكتوب من وجهة نظر أحد الرقباء في مجال الرقابة بصفة عامة، وقد لَمَستِ الرقيبة فيه من بُعْد بعض الأجزاء عن تاريخ الرقابة بصفة عامة.

ومن هنا توجَّهتُ إلى الدوريات القديمة منذ نشأتها في مصر، حتى الآن — من خلال دوريات دار الكتب — وأخذت أبحث عن جميع الأخبار التي تتعلَّق بالرقابة المسرحية، وكوَّنتُ منها تاريخًا مجملًا لهذا الجهاز الخطير، منذ الحملة الفرنسية حتى صدور قانون الرقابة عام ١٩٥٥، المعمول به حتى الآن، وجعلت هذا التاريخ في صدارة فصول هذا الكتاب، وجاء بعنوان «تاريخ الرقابة والرفض المسرحي»، وكان ختام هذا التاريخ، تاريخًا وثائقيًّا آخَر من خلال أختام وتأشيرات الرقابة من عام ١٩٠٧ حتى عام ١٩٧٠.

أما الفصل الثاني والثالث، فتعرضتُ فيهما إلى المسرحيات المرفوضة منذ عام ١٩٢٣ حتى عام ١٩٨٨، مرتَّبة ترتيبًا تاريخيًّا حسب تاريخ الرفض. مع ملاحظة أن هذه المسرحيات مرفوضة رفضًا تامًّا؛ أيْ لم تُمثَّل في أية فترة زمنية بأي حال من الأحوال. واختتمت كل فصل منهما بتعقيب، كان إجمالًا لفحوى كل فصل على حِدَةٍ. ومنهج الدراسة في هذين الفصلين، يعتمد أساسًا على نقد وتحليل تقارير الرقباء، وتطبيق ما جاء فيها من أسباب رفض على نص المسرحية الأصلي، في ضوء قوانين ولوائح الرقابة؛ لذلك قمتُ بنشر جميع الوثائق الرقابية عن كل مسرحية مرفوضة؛ لأن هذه الوثائق ونصوصها المسرحية — وبالأخص الحديثة ١٩٦٨ / ١٩٨٨ — فُرض عليها النسيان والضياع، داخل إحدى غُرَف معهد الموسيقى العربية.٢

أما الفصل الرابع والأخير، فكان بعنوان «الرفض المسرحي بين الرقابة والرقيب والكاتب المسرحي». وفيه أوضحتُ دَوْر كلٍّ من الرقابة والرقيب والكاتب المسرحي، أمام عملية الرفض أو المنع المسرحي. واختتمتُ هذا الفصل بكلمة أخيرة، تُعَدُّ — من وجهة نظري — توصيات أرجو أن تحوذ اهتمام المسئولين؛ لما تشتمل عليه من اقتراحات صالحة للرقابة وللحركة المسرحية.

دكتور
سيد علي إسماعيل
القاهرة في: ١ / ٢ / ١٩٩٧
١  وكان انتدابي إلى المركز القومي للمسرح والموسيقى في الفترة ما بين ١ / ٥ / ١٩٩٥ و١٠ / ٤ / ١٩٩٦.
٢  فمِن المعروف أن إدارة التوثيق التابعة للمركز القومي للمسرح والموسيقى، والتي تحتفظ بجميع النصوص المسرحية بوثائقها الرقابية، منذ عام ١٩٦٠ حتى عام ١٩٨٨، مقرها الرئيسي في غرف الطابق الأرضي من مبنى معهد الموسيقى العربية بشارع رمسيس. ولكن هذا المبنى أُغلق في ٣٠ / ١٢ / ١٩٩٥ بالقوة الجبرية. وتم تشميعه بصورة فجائية، دون أن يتمكَّن المركز من استخراج ما به من مستندات ووثائق ونصوص مسرحية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤