الفصل الثاني

استكشاف منظومة الاتصال الداخلي

«الشخصية أشبه بمؤتمر كامل يضم عددًا كبيرًا من الأفراد، منهم الخطباء وجماعات الضغط والأطفال، ومنهم الغوغائيون والشيوعيون والانعزاليون وتجار الحروب، وفيهم المستقل والمحافظ ومبتز الأموال ومقايض الأصوات، وبينهم أشباه قيصر والمسيح ومكيافيللي ويهوذا وبرومثيوس الثوري.»

هنري مري

الرسالة الخفية

ثمة وابل من العلامات والإشارات الصادرة من البيئة يصل إلى جهازنا العصبي في كل لحظة فيملي علينا ما نفعله وما نحسه بطرق عدة. كلُّنا يعرف ذلك ويدريه. فنحن نتوقف لدى الإشارة الحمراء، ونتنكَّب مناطق التفجير، ونحتج على سوء المعاملة، ونبتهج للمدح، ونستاء من التأنيب. ولكننا أقل درايةً بمنظومة الإشارات الداخلية التي تناظر الإشارات الخارجية. إن لدينا جهازًا ذاتي التنظيم يقوم بمعالجة processing الرسائل الواردة ويفك شفرتها (رموزها) ويفسرها، ويصدر إلينا الأوامر والنواهي، ويأخذ النفس بالإطراء والتبكيت.

وتتواشج هاتان المنظومتان كالتروس؛ بحيث لا تسيِّرنا المنظومة الخارجية المعقدة من المنبهات البيئية إلا بقدر ما تحرِّك فينا نظيرتها الداخلية. ذلك أن بإمكان تشغيلاتنا الداخلية أن توصد الباب في وجه الإشارات الخارجية أو تشيح عنها فلا نعود نواكب ما يجري من حولنا. على أن التفاوت الشديد أو المزمن بين المنظومتين قد يسفر عن اضطرابات نفسية.

إن نقص معلوماتنا عن السلوك الإنساني هو الذي جعل الغموض يرخي بظله على اضطرابات الانفعال، وجعل كثيرًا من خصائصها محيرًا ملغزًا يتحدى قوانين الحس المشترك. وما إن تتوافر المعطيات الشاغرة للباحث أو المعالج حتى يعود بمقدوره أن يطبق وسائله ويتفهم أكثر الأعراض غموضًا وإبهامًا. إن كشف المعاني الملتحمة بكل استجابة شاذة هو مشروع مثير من شأنه أن يثري فهمنا للسلوك الإنساني أيَّما إثراء. وهاكم أمثلة توضيحية من واقع الممارسة الإكلينيكية:
  • هذه امرأة تسير في الطريق، فتدرك فجأة أنها ابتعدت عن بيتها قيد ثلاثة مبانٍ، فينتابها على الفور شعور بالإغماء.

  • وهذا رياضي محترف يعتريه انقباض وخفقان كلما اجتاز بسيارته خلال أحد الأنفاق؛ فيظل مختنقًا يلهث ويظن أنه يُحتضر.

  • وهذا روائي ناجح جعل يبكي بمرارة عندما امتدح الحاضرون عملًا من أعماله.

لقد حفزت مثل هذه الاستجابات المحيرة أصحاب المدارس العلاجية المختلفة، وجعلت كلًّا منهم يفتش في جعبته عن تفسير. فهذه مدرسة التحليل النفسي تفسر إغماء المرأة التي ابتعدت عن بيتها تفسيرًا لاشعوريًّا؛ ذلك أن خروجها يوقظ فيها رغبة مكبوتة في الإغواء والاغتصاب (Fenichel, 1945) وهي رغبة تورث القلق بسبب طبيعتها المحرَّمة.
أما السلوكيون فيقدِّمون لقلق هذه المرأة تفسيرًا مختلفًا يستند إلى نموذجهم الشرطي. فيفترضون أنها في لحظةٍ ما من حياتها كان قد نالها خطر حقيقي قُدِّر له أن يتزامن مع موقف عادي من مثل التجوال بعيدًا عن المنزل. هذا التزامن بين المنبه الحميد والمنبه الخطِر هو الذي هيَّأ هذه المرأة لأن تستجيب للمنبه الحميد فيما بعد بنفس القلق الذي اعتادت أن تجده بإزاء الخطر الحقيقي (Wolpe, 1969).

أما وقد تبين أن كلا التفسيرين التحليلي والسلوكي تمليه النظرية إملاءً ولا يكاد يفيد من أي من المعطيات المتصلة بالموضوع؛ فإن لدينا تفسيرًا آخر يفرض نفسه حالما نستكشف منظومة الاتصال الداخلي.

فكلٌّ من المرضى الذين أشرنا إليهم في الأمثلة الثلاثة يدرك أن هناك سلسلة من الأفكار تتداخل بين الحدث والاستجابة الانفعالية غير السارة التي تنجم عنه. وما إن يتمكن المريض من ملء هذه الفجوة الفاصلة بين الحدث المؤثر وبين نتائجه الانفعالية حتى ينكشف مغزى هذه الاستجابة المحيرة ولا تعود لغزًا. وكلنا قادر بالمرانة والتدريب أن يمسك بهذه الشوارد من الأفكار والصور التي تتوسط بين الحدث والاستجابة الانفعالية.

فقد استطاعت المرأة في المثال الأول أن تستحضر هذه السلسلة من الأفكار التي كانت تحدث قبيل شعورها بالقلق. فما إن تتبين ابتعادها عن منزلها حتى كان يداخلها هذا الفكر: «إنني بالفعل بعيدة عن المنزل، فلو أنه حدث لي شيء الآن فلن يكون بمقدوري العودة إلى المنزل لأتلقى العون. لو أنني سقطت مغشيًّا عليَّ الآن فسوف يعبرني الناس ولن يتعرف أحد عليَّ ولن يساعدني.» يتبين من ذلك أن سلسلة الوقائع المؤدية إلى القلق تتضمن تعاقبًا من هواجس الخطر.

أما صاحبنا الرياضي الذي يعاني من رُهاب الأنفاق tunnel phobia فقد أمكنه أن يحدد سلسلة من الأفكار التي تدور حول مفهوم الخطر. فبمجرد دخوله إلى النفق كانت تتملكه هذه الفكرة: «إنه من المحتمل أن ينهار هذا النفق فيكون مصيري الاختناق.» عندئذٍ ترتسم في ذهنه صورة هذه الكوارث فيعتريه ضيق بالصدر يفسره بأنه من علامات الاختناق الفعلي، وما تلبث هواجس الاختناق أن تُولِّد فيه مزيدًا من القلق الذي يتمثل في تسارع النبض وضيق التنفس.

وأما الروائي الذي كان يعالج تباريح الاكتئاب، فقد استجاب للإطراء بهذه السلسلة من الأفكار: «يا للكَذبة المضللين، يعرفون أنني روائي محدود القيمة ولا يريدون أن يقبلوني على ما أنا عليه، فما يزالون يكيلون لي المدائح الزائفة.» وعندما كشف لنا عن هذه الأفكار تبدد الإبهام عن استجابته العكسية للمديح؛ فحيث إنه يعتبر عمله هابطًا فقد فسَّر المديح بأنه مخادِع، وخلص من ذلك إلى أنه يفتقر إلى علاقة أصيلة بغيره من الناس. وقد أدى به هذا الاستنتاج الخاطئ إلى مزيد من الشعور بالعزلة والاكتئاب.

ومن المؤسف أن أصحاب المدارس الكبرى للعلاج النفسي لا يتقبلون مبدأ وجود أفكار واعية تقع بين الحدث الخارجي والاستجابة الانفعالية الخاصة به. لقد أهملوا دراسة الفكر الواعي، ذلك المصدر الرئيسي للمعلومات؛ فاضطروا إلى استبعاده من صياغة نظرياتهم. ولكن مهما يكن من أمر هذه المدارس؛ فليس من الصعب أن ندرب الأسوياء والمرضى على أن يلتفتوا إلى ما يدور بخلدهم من أفكار في المواقف المختلفة. عندئذٍ يستطيع كل إنسان أن يلاحظ أن هناك فكرةً ما تصل بين المنبه الخارجي والاستجابة الانفعالية.

ولكن ماذا عن تلك الانفعالات التي تقع للإنسان فجأة في غياب أي حدث خارجي يفسرها؟ في تأويل ذلك نقول إنه بالإمكان دائمًا أن نتحقق من وجود «حدث معرفي» cognitive event، وهو فكرة أو ذكرى أو صورة، مندمج في المجرى الطليق للوعي، ومسبب لهذه الاستجابة الانفعالية. وقد يكون هذا الاتجاه المعرفي السائد هو علة استمرار الانفعالات غير السارة في الاضطرابات الانفعالية كالاكتئاب والقلق.

كثير من السلوكيين لا يوافقوننا على أن الفكر يلعب دورًا محوريًّا في تشكيل الانفعال. ويحاول بعضهم أن يثبت أن المنبهات الخارجية تولِّد الاستجابة الانفعالية بصورة مباشرة، وأن الشخص يقحم تقييمه المعرفي للحدث بعد ذلك باستعادته وتأمله، أي «بأثر رجعي». ولكننا نستطيع أن نؤكد أن الشخص الذي تدرَّب على أن يرصد أفكاره ويمسك بها بمقدوره أن يلاحظ مرارًا وتكرارًا أن تفسيره للموقف يسبق استجابته الانفعالية. فهو إذ يرى سيارة منطلقة نحوه على سبيل المثال، فإنه يفكر أولًا: «إنها ستصدمني.» ثم يشعر بالقلق. بل إنه قد يغير تقييمه للموقف فتتغير استجابته الانفعالية. فهذه فتاة، على سبيل المثال، يقرُّ في ظنها أن صديقًا لها قد مرَّ دون أن يحييها، فتقول لنفسها «إنه يزدريني.» وتحس بالحزن. ثم يتبين لها في النظرة الثانية أنه لم يكن صديقها فلا تلبث مشاعر الاستياء أن تزول.

إن من الصعب في الحقيقة أن نتصور كيف يمكن لشخص أن يستجيب لحدثٍ ما قبل أن يقيِّم طبيعة هذا الحدث. وعلى النقيض من المنبهات المعملية البسيطة من مثل رنين الجرس أو صدمات الكهرباء، الشائعة في التجارب السلوكية؛ فإن مفرداتنا البيئية الدالة تتسم عامةً بالتركُّب والتعقيد بحيث تتطلب منا ملكة الحكم judgement لكي نقرر ما إذا كان موقف ما مأمونًا غير ذي خطر، وما إذا كان شخصٌ ما صديقًا أو عدوًّا. وكثيرًا ما يتوقف ذلك على مفاتيح دقيقة نحدد بها ما إذا كان مزاحه بريئًا مثلًا أو سخرية عدائية. ولا شك أن أحداث البيئة هي منبهات ملحَّة تحملنا على أن نستجيب لها شئنا ذلك أم أبينا؛ فإلا تكن استجابتنا لها بناءً على عمليات معرفية مثل التمييز والاستيعاب فسوف تكون بناءً على إشراطات ماضية تجعل ما ينتابنا أحيانًا من ضحك أو بكاء أو غضب يبدو غير ذي صلة معقولة بواقع ما يجري. مثل هذه الاستجابات النزوية قد يوكَّل التنبؤ بها إلى النظرية السلوكية التي تؤكد أن الاستجابات الانفعالية تقوم على إشراطات طارئة قديمة، وأن ما يفجر هذه الاستجابات هو ما يجري من أحداث سبق أن ارتبطت في الماضي، من طريق المصادفة، بموقف مثير انفعاليًّا.

تتجلى أهمية الكشف عن الوجه المعرفي للشخص بشكل خاص حين نكون بصدد استجابات انفعالية نقيضية. فحين نقف على المحتوى المعرفي ندرك على الفور أن ما يبدو مفرطًا غير واقعي من الغضب أو القلق أو الحزن الذي يبديه الشخص يستند في الحقيقة إلى تقديراته الشاذة للحدث. وفي أمراض الانفعال تسود وتطغى هذه التقديرات الشاذة.

اكتشاف الأفكار الأوتوماتيكية (التلقائية)

أود الآن أن أتطرق إلى شيء من سيرتي الذاتية ربما يلقِي مزيدًا من الضوء على نظريتي عن دور المعرفة في اضطرابات الانفعال. لقد مارست التحليل النفسي والعلاج التحليلي سنوات عديدة قبل أن تسترعي انتباهي حقيقة أن معارف المريض لها بالغ الأثر في مشاعره وسلوكه. فقد كنت أعلِّم كلَّ مرضاي قواعد التداعي الطليق free association وذلك بأن أطلب من المريض أن يقول كلَّ ما يعنُّ بباله دون انتقاء (Fenichel, 1945, p. 23). وقد تعلَّم معظمهم جيدًا أن يقهر أيَّ مَيل لمراقبة أفكاره. وكانوا يعبِّرون بشيء من الحرية عن مشاعرهم ورغباتهم وخبراتهم التي يخفونها على الناس خشية الاستهجان. ورغم ما تبين لي من استحالة أن يبوح المرضى بكل أفكارهم فقد ظللت أعتقد أن أقوالهم تمثل قطاعًا عرضيًّا لا بأس به لفكرهم الواعي.

غير أني بدأت بمرور الوقت أشك بأن المرضى كانوا يغفلون أنواعًا معينة من الأفكار لا عن مقاومة أو دفاع من جانبهم بل لأنهم لم يتعلموا التركيز عليها، وقد أدركت فيما بعد أن هذه الأفكار بالذات هي الحاسمة حقًّا في فهم طبيعة المشاكل النفسية. وربما يكون بعض المحللين النفسيين قد كشفوا الغطاء عن هذه المادة الثرية، غير أنهم لم ينزلوها في تراثهم كما هي دون تحوير وتأويل.

وسوف أعرض الآن لخبرة علاجية حفزتني على الاهتمام بهذه المادة غير المنطوقة وتعقُّبها بالبحث والدراسة.

فقد حدث أن كنت أعالج مريضًا لي علاجًا تحليليًّا، وبينما كان سادرًا في تداعيه الطليق أخذ ينتقدني بحنق وغضب. وبعد أن توقف سألته «ماذا تحس الآن؟» فقال: «أحس بالذنب إحساسًا شديدًا.» يومها كنتُ قانعًا بأني فهمت سياق الأحداث النفسية التي جرت. فقد كان هناك، وفقًا للنموذج التحليلي التقليدي، علاقة بين عدائه وذنبه هي ببساطة علاقة علة بمعلول ولم يكن لديَّ يومئذٍ ما يدعوني إلى توسيط أي حلقات أخرى في السلسلة.

غير أن المريض تطوع عندئذٍ بتقديم معلومة جعلتني أعيد تقييم الموقف من جديد. ذلك أنه فيما كان ينحي عليَّ بالانتقادات المشحونة بالغضب كان لديه أفكار أخرى آخذة مجراها مفادها لوم الذات. لقد أفاد المريض أن هناك تيارين من الأفكار كانا يجريان في نفس الوقت تقريبًا: أحدهما تيار العداء والانتقاد اللذين عبَّر عنهما أثناء التداعي الطليق، أما التيار الآخر فكان يجري هكذا: «إنني لا أقول الحق … ما كان يصح أن أقول هذا … إنني مُتجنٍّ في انتقادي له … إنني سيئ … إنني وضيع دنيء بدرجة لا تغتفر.»

لقد قدَّمت لي هذه الحالة أول مثال محدد على وجود تيار من الأفكار يجري موازيًا للأفكار المعلنة. فأدركتُ أن هناك سلسلة أفكار تتوسط بين تعبيرات الغضب ومشاعر الذنب. لم تكن هذه الأفكار البينية واضحة للعيان فحسب بل كانت تعليلًا مباشرًا لمشاعر الذنب؛ بحيث حوَّلت معادلة الحدث إلى الآتي: لقد أحس المريض بالذنب لأنه كان ينحِي على نفسه باللائمة بسبب أقواله الغاضبة لي.

ثم إنني جعلت أتحرى هذا الكشف الجديد شهورًا عدةً بل سنوات مع مرضى آخرين خلال التداعي الطليق. فاكتشفت أن لديهم أيضًا تيارات فكريةً لا يصرحون بها. غير أن كثيرًا منهم، بعكس المريض الأول، لم يكونوا على دراية تامة بها قبل أن أحفزهم إلى التركيز عليها. تتميز هذه الأفكار المضمرة في صورتها النموذجية بالانبثاق التلقائي والسرعة الخاطفة. وهي في ذلك تباين الأفكار المعلنة. ولكي أتمكن من استكشاف هذه الأفكار المضمرة واستخراجها كان عليَّ أن أوجه المريض إلى أن يولي جلَّ انتباهه إلى أفكار بعينها ثم يفصح لي عنها. إنه ضرب من تغيير بؤرة الانتباه ثبتت فعاليته الكشفية الكبيرة كما يوضح المثال التالي.

كانت لي مريضة ينتابها قلق مستمر أثناء الجلسات العلاجية دون سبب واضح. وقد تطرَّقت في إحدى الجلسات إلى الحديث عن صراعات جنسية معينة. ورغم مسحة من الحرج فقد أفصحت السيدة عن هذه الصراعات الحساسة بحُرية ودون تحرُّز. وقد احترت لأمر هذه المريضة ولم أفهم سرَّ قلقها طوال الجلسات. فقررت أن أوجه انتباهها إلى الأفكار التي كانت تراودها أثناء حديثها معي خلال العلاج. وعندما طلبت منها ذلك أدركت أنها لم تلتفت من قبل إلى هذا التيار من الفكر. وبشيء من التركيز تبينت هذه السلسلة من الأفكار: «إنني لا أعبر بوضوح عن نفسي … إنه ضجِر مني … بل ربما يكون عاجزًا عن فهم ما أقول … إن حديثي قد يبدو له سخيفًا … من المحتمل أنه سيحاول التخلص مني.»

عندما استطاعت المريضة أن تلتفت إلى هذه الأفكار وتسلط عليها الضوء، بدأت أتفهم مغزى قلقها الملازم لها طوال الجلسات. لم يكن لقلق هذه السيدة وارتباكها علاقة بالصراعات الجنسية التي وصفتها، بل كان لبُّ مشكلتها هو تقييمها الفكري لذاتها وتوقعاتها لاستجابات المعالج. فهذه السيدة رغم ما تتحلى به بالفعل من فصاحة وجاذبية كانت تتملكها أفكار تدور حول موضوع واحد؛ هو أنها مملَّة عاجزة عن التعبير. وعندما استطاعت أن تضع يدها على هذه الأفكار الخاطئة وتتناولها بالمراجعة والتصحيح زايلها ذلك القلق الذي كان يلازمها أثناء الجلسات.

وقد بدت لي الأفكار الأوتوماتيكية للمرضى في بداية الأمر من قبيل «الطرح» (النقلة) transference بمعنى أنها تتعلق بتقييم المريض لما يقوله لي أو يزمع أن يقوله، وللاستجابة التي يتوقعها مني تجاه حديثه. ولكن تبيَّن للمرضى فيما بعد أن هذه الأفكار ذاتها تنسحب على تفاعلاتهم مع سائر الناس. وبدا أن هناك حقيقة جديدة تزداد وثوقًا يومًا بعد يوم. ذلك أن المرضى هم على اتصال دائم بأنفسهم، دون أن يفطنوا لذلك، سواء خارج الجلسات أو داخلها. وقد استطعنا عن طريق التوليف على نظام الاتصال الداخلي كما هو أن نحدد المشاكل المحورية للمريض بدقة أكبر. فتلك السيدة التي كانت تظن أنها تضجرني، على سبيل المثال، تبين أنها تعاني نفس الأفكار في كل تعاملاتها الشخصية.
ولكي أفجِّر هذا النبع الثرَّ من المعلومات كان من الضروري أن أدرب مرضاي على ملاحظة تيار الأفكار المضمرة. فما دمت قد اكتشفت ابتداءً أن الأفكار المضمرة سابقة على الانفعال فقد كانت تعليماتي للمرضى هي: «حالما انتابك شعور أو إحساس غير سارٍّ حاوِل أن تستدعي الأفكار التي كانت لديك قبيل هذا الشعور.» وقد ساعدهم هذا التوجيه على أن يشحذوا انتباههم إلى أفكارهم؛ فيتمكنوا في النهاية من التعرف على الأفكار السابقة على الخبرة الانفعالية. ولما كان شأن هذه الأفكار أن تنبثق تلقائيًّا وبسرعة خاطفة فقد وسمتُها باسم «الأفكار الأوتوماتيكية (التلقائية).» automatic thoughts. وكما سوف نرى في الفصول التالية؛ فإن تحديد الأفكار الأوتوماتيكية كان هو المادة الخام التي شكلنا منها فهمًا جديدًا للانفعالات واضطراباتها.
غير أن ملاحظة هذه الأفكار الأوتوماتيكية قد شكلت معضلة. فقد كان مرضاي، وفقًا لتوجهي التحليلي، يتبعون القواعد التحليلية ويقدمون المادة التي دأب جميع المرضى على تقديمها في عملية التحليل النفسي psychoanalysis. يشهد على ذلك أساتذتي المشرفون في معهد التحليل النفسي ممن راجعوا معي الأقوال الحرفية لمرضاي في تداعيهم الطليق. ولكن الأساليب التحليلية السائدة مثل التداعي الطليق، ومغالبة الرقيب overcoming censoring، وتأويل المقاومة interpreting resistances، لم تنجح (باستثناء الحالات التي وصفتُها آنفًا) في تحصيل الأفكار الأوتوماتيكية.

وقد خلصت بعد مزيد من التمعن والتمحيص إلى أن مرضاي في الحقيقة لم يكونوا يركزون كما يجب على تيار أفكارهم. فقد كانوا يقدمون مادة تتصل بمشاكلهم الحالية وأحلامهم وذكرياتهم أو يقدمون حكايات عن خبراتهم، أو يقفزون من فكرة إلى أخرى في سلسلة من التداعيات. ولكنهم لم يركزوا قط على ملاحظة أفكارهم والإدلاء بها. وبات واضحًا أن كثيرًا مما قدموه كان مبنيًّا على حدسهم لما يرجَّح أنهم كانوا يفكرون به وليس على تركيز حاد على ما كانوا يفكرون فيه بالفعل.

لماذا يفشل التداعي الطليق بصورته التقليدية في كشف النقاب عن هذه الأفكار الأوتوماتيكية؟ أحد التفسيرات المحتملة هو أن الناس قد ألِفوا أن يتحدثوا إلى أنفسهم بطريقة ويتحدثوا إلى الآخرين بطريقة مختلفة تمامًا. ورغم ما تمارسه عليه هذه الإشارات الداخلية من تأثير قوي؛ فإن المريض لم يكن يعيرها انتباهًا طوال عمره. صحيح أنه على اتصال دائم بذاته، مفسرًا للوقائع (أو مسيئًا لتأويلها) ومراقبًا لسلوكه ومتنبئًا بالأحداث ومستخلصًا لتعميمات عن نفسه، وصحيح أننا في الموقف العلاجي نجنبه أيَّ حرج أو قلق يمنعه من البوح بأفكاره. ولكن المشكلة هي أنه إما غير واعٍ تمامًا بأفكاره الأوتوماتيكية أو أنه لم يدُر بخلده أن هذا النوع من الأفكار يستحق كثير تمعُّن. ولذا فمن المستبعد أن يدلي المريض بأفكاره الأوتوماتيكية ما لم يُهيَّأ للتركيز عليها.

وكلما زادت خطورة الاضطراب، كما في الاكتئاب الشديد، كانت هذه الأفكار أكثر وضوحًا. وقد ازددت إحاطة بوجودها، في الحقيقة، عندما أجريت محاولات لاستكشاف المحتوى الفكري لمرضى الاكتئاب الشديد. كما أنني لاحظت أن الأفكار الأوتوماتيكية هي أكثر سطوة وتسلطًا في مرضى الوسواس القهري.

طبيعة الأفكار الأوتوماتيكية

أثارت خبراتي الإكلينيكية التي سلف ذكرها اهتمامي بقضية الأفكار الأوتوماتيكية، فشرعت أدرب مرضاي بشكل منهجي على ملاحظتها أثناء التداعي الطليق والإدلاء بها. وكنت أحثهم أيضًا على تسجيل ما يعرض لهم منها خارج جلسات العلاج. وكم كانت دهشتي أثناء مراجعتي لتقارير المرضى عن أفكارهم عندما فوجئت بالتشابه الكبير في هذه الأفكار بين مختلف المرضى.

ومن الوجهة العملية، فإن التحديد الصريح للأفكار الأوتوماتيكية قد أعفاني، وأعفى المريض أيضًا، من التخمين فيما «يرجح أنه يفكر فيه» وجعل من الممكن تحديد أفكاره الفعلية بدقة كبيرة. وفيما يلي مثال آخر يوضح هذا المبدأ.

فهذه امرأة أثناء التداعي الطليق تتحدث عن فيلم سينمائي شاهدته؛ فينتابها شعور بالقلق فيما كانت تصف الحبكة الروائية للفيلم. وعندما سألتها عن سبب قلقها أجابت «ربما لأنني حساسة لمشاهد العنف.» وهو مجرد تخمين أملاه تصورها المستمد من النظرية التحليلية القائلة بأن العدوان يولِّد القلق. عندئذٍ سألتها إن كان لديها سلسلة أخرى من الأفكار سابقة مباشرة على ملاحظتها للقلق فأجابت «الآن وجدتها! لقد داخلتني فكرة أنك تنتقدني بسبب تضييع وقتي بالذهاب إلى السينما. هذا ما جعلني عصبية.»

لقد لاحظت مرارًا أنه ما لم يتم للمريض التدرب على التركيز على أفكاره الأوتوماتيكية؛ فالغالب أنها تمرُّ دون أن يلحظها. ومع ذلك فبإمكاننا مساعدته على تبيُّن أفكاره بتحويل انتباهه إليها. وكما أشرنا للتو، فكلما اشتد المرض زادت الأفكار الأوتوماتيكية بروزًا وجلاءً. وكلما تحسنت حالة المريض خفتت هذه الأفكار وقلَّ وضوحها. فإن رُدَّت الحالة إلى الانتكاس عادت الأفكار الأوتوماتيكية إلى الظهور مرة ثانية.

كان لتلك الأفكار الأوتوماتيكية التي وصفها العديد من المرضى عدد من الخصائص المشتركة. فقد كانت واضحة متميزة بصفة عامة وبعيدة عن الغموض والهلامية. وكانت مصوغة فيما يشبه الأسلوب الاختزالي أو التلغرافي الذي يقتصر على الكلمات الضرورية. وكانت مبرأة من التدبر والاستدلال والتفكُّر في حدث أو موضوع، خالية من التسلسل المنطقي الذي يَسِم التفكير المتوجه لهدف goal-oriented أو لحل المشكلات problem-solving. كانت تحدث تلقائيًّا كما لو كانت انعكاسية. وبدت كأنها تتمتع بنوع من الاستقلالية؛ فهي تنشأ دون أي جهد من جانب المريض. بل إنه لا يملك إيقافها خاصة في الحالات المرضية الشديدة. وبالاستناد إلى هذه الطبيعة اللاإرادية للأفكار الأوتوماتيكية وتمحيصها فقد كان بالإمكان أيضًا تسميتها «الأفكار المستقلة» autonomous thoughts.

ومهما يكن من غلوها وتمحُّلها فقد كانت هذه الأفكار تبدو لصاحبها مقبولة معقولة. وكان يسلِّم بصحتها دون ارتياب ودون اختبار لواقعيتها ومنطقيتها. صحيح أن كثيرًا من هذه الأفكار كان واقعيًّا، ولكن الغريب في أمر المريض هو أنه كثيرًا ما كان يعتقد في الأفكار الباطلة منها، ويعتنقها حتى لو كان قد أقر ببطلانها في مناقشات سابقة. فقد يتبين بطلانها عندما أمهله وقتًا لتأملها وتمحيصها أو عندما أناقشه فيها لكن لا يلبث أن يستسلم لها حين تعاوده ويقبلها على علَّاتها.

وتتميز الأفكار الأوتوماتيكية أيضًا بأنها تنطوي على تيمة theme واحدة وإن اختلف منطوقها في الظروف المختلفة، على ألا نخلط بين ذلك وبين الأفكار المكرورة النمطية في حالات الوسواس. ولنأخذ هذا المريض الاكتئابي كمثال على فكرة اختلاف المنطوق مع وحدة الموضوع. إنما يتملكه هاجس واحد، هو انتقاص الذات، يتلون بحسب الشخص الذي يتعامل معه. فيظن أن أمه تستهجن سلوكه العام وأسلوبه في الملبس وأن رئيسه في العمل غير راضٍ عن أدائه، وأن زوجته تستثقل مغازلاته، وأن المعالج يراه غبيًّا. وتظل هذه الأفكار السلبية على حالها مهما يكن بُعدها عن الحقيقة ومهما ناقضتها الأدلة الموضوعية وفنَّدتها الخبرة الخارجية، ولا تزول إلا بشفاء المريض من الاكتئاب.

وقد لاحظتُ أيضًا أن محتوى الأفكار الأوتوماتيكية يتسم بالخصوصية الفردية ولا سيما الأفكار الأكثر تكرارًا وقوة. وهي ليست مميزةً لصاحبها فقط بل مميزة أيضًا لغيره من المصابين بنفس المرض. كما لاحظت أنها ألصقُ بمشكلات المريض من تداعياته الطليقة وتفوقها من ثَم في الفائدة العلاجية، وأنها تسبق الانفعال كما أشرنا. فالأفكار الأوتوماتيكية في حالة المريضة السابقة هي التي ولَّدت قلقها وليس التأمل في المحتوى الفعلي للفيلم. والأفكار الأوتوماتيكية، أخيرًا، تتضمن تحريفًا للواقع يفوق ما تتضمنه الأنواع الأخرى من التفكير.

لقد بدا واضحًا من خلال متابعتي اللاحقة لمرضاي أن الإشارات الداخلية تلعب دورًا هامًّا في السلوك سواء اتخذت شكلًا لغويًّا أو بصريًّا. وأن الطريقة التي يرقب بها الإنسان ذاته ويوجهها ويطريها ويقرِّعها ويفسر بها الأحداث ويقيم التوقعات؛ هذه الطريقة لا توضح لنا السلوك السوي فحسب، بل تسلط الضوء أيضًا على الاضطرابات الانفعالية وآلياتها الداخلية.

مراقبة الذات والتعليمات الذاتية

يصرف بنو الإنسان شطرًا كبيرًا من أوقات صحوهم في رصد أفكارهم وأمانيهم ومشاعرهم وأفعالهم. وقد يعقد الإنسان مداولة داخلية بينه وبين نفسه، يطارحها الرأي، ويوازن بين البدائل وبين مآلات الأفعال، ثم يتخذ القرارات. وقد أطلق أفلاطون على هذه الظاهرة اسم «الحوار الداخلي» internal dialogue.
وقد تسفر المراقبة الذاتية للسلوك عن استجابات غير تكيُّفية. فيؤدي الرصد المفرط إلى الوعي الذاتي الزائد، والتنظيم المفرط إلى الكف والتثبيط. فمن شأن الإشارات التحذيرية أن تعيق التعبير التلقائي عن النفس. وتتجلى هذه الظاهرة بأوضح صورها في «رهبة المنصة» (رهبة المسرح) stage fright التي تتسم بفرط الإشارات التحذيرية والتعليمات الذاتية الكابحة. وتبلغ هذه الظاهرة مداها في مرض الوسواس القهري؛ حيث تحتدم المجادلات الداخلية وتؤدي إلى شلل الفعل.

ومن الوجهة الأخرى قد يصاب جهاز الرقابة الذاتية بعجز؛ فنجد بعض الناس قد فقد القدرة على ضبط فكره ودفعاته، كما هو الحال في التدخين الزائد وفي البِطنة. فقد يعتِّم الشخص على ذاته عواقب أفعاله. وربما أوقف بعض مدمني الطعام أو الخمور جهاز الرقابة الذاتية؛ بحيث يشرع أحدهم في التهام الطعام أو معاقرة الشراب ولا يكاد يدري.

هذا التعاقب بين تفحص الموقف والمداولة واتخاذ القرارات يؤدي منطقيًّا إلى تعليمات ذاتية هي عبارة عن رسائل لفظية توجه السلوك، يتمثل ذلك في أبسط صوره عندما يصدر الإنسان إلى نفسه تعليمات لكي ينجز أهدافًا ملموسةً محددة، كأن يذكِّر الطالب نفسه أن قد آن أوان المذاكرة، أو يحدِّث المطرب نفسه بالتوقف لتلقي التصفيق. وقد يتبنى التوجيه والتقييم الذاتي أهدافًا أعرض كأن يتجه الإنسان لأن يكون والدًا كفئًا، أو أن يكتسب الثروة والقوة أو يحقق الشهرة. وعندما ينذر الإنسان كلَّ نفسه لهدف محدد تصبح التعليمات التي تعنيه هي تلك التي تحثه وتأمره وتوبخه، ومثل هذا الحث والنخس والتحضيض قد يكون ثقيلًا على النفس حتى في حالتها السوية.

وقد تنشط هذه التعليمات الذاتية في بعض الأمراض بشكل مفرِط؛ بحيث يظل الشخص يحث ذاته على الدوام بمناخس داخلية. ونحن نصادف هذا في بدايات الاكتئاب وفي الاكتئاب الخفيف وبين أصحاب الإنجازات الكبيرة. وقد وصفت كارن هورني Karen Horney (١٩٥٠م) هذه المنظومة من الأوامر الذاتية بأنها «استبداد الموجبات» أو «طغيان لا بد» the tyranny of the shoulds وقد تتواجد الموجبات المتضاربة جنبًا إلى جنب عند المترددين من الناس وفي حالات الوسواس القهري.
وهناك صنف آخر من التعليمات الذاتية يدور حول تيمة تجنب الفعل avoidance أو كفِّه (تثبيطه) inhibition، فيستجيب أصحابه للمواقف غير السارة بأفكار مدارها التنصُّل والتجنب. فكلما واجهتهم مهمة تبدو مضجرة أو مرهقة تولَّدت لديهم فكرة «لا تفعل هذا» (وإن قهر هذه المقاومة resistance ليتطلب أحيانًا من قوة الإرادة أكثر مما يتطلبه الفعل ذاته). وبنفس القياس فإذا توقع الإنسان التعرض للخطر من جراء فعلٍ ما فقد يصدر إلى نفسه إشارة داخلية بكفِّ هذا الفعل وكبحه.

وتبرز هواجس الهروب بشكل خاص في فكر مرضى القلق والاكتئاب. فمريض القلق إذ يدرك وجود خطر بينما تعوزه الثقة بقدرته على التغلب عليه، تتملكه رغبات مدارها الهروب والسلامة، أما مريض الاكتئاب فتشقُّ عليه الروتينيات المعتادة للحياة؛ فيلتمس طرائق لعزل نفسه عن هذه المشاق أو عن الحياة ذاتها، وينسحب من هذا المعترك البغيض إلى حالة من الجمود والسلبية.

أما التعليمات الذاتية للشخص الغاضب؛ فتدعوه إلى اتخاذ موقف من الطرف المعتدي: «اثأر لنفسك منه»، «وبِّخه»، «لا تتركه يفلت من العقاب». وقد يدفع الغضب مريض البارانويا إلى القيام بفعل انتقامي بناءً على إساءات موهومة.

ثمة تعليمات ذاتية ترمي إلى عقاب الذات وأخرى ترمي إلى إثابتها. فقد يعنف الإنسان نفسه ويمطرها بوابل من اللوم والتقريع إذا ما لمس في سلوكه أو أدائه عجزًا أو قصورًا، وربما عمَّم الحكم واعتبر نفسه تافهًا أرذل لا خير فيه. ومن شأن ذلك أن يورثه الحزن والإحساس بالذنب. وقد تصل هذه المشاعر، بالطبع، من القتامة إلى درجات مرضية فيصاب الشخص بالاكتئاب، وهو مرض تسود فيه مشاعر الذنب ولوم الذات.

وعلى النقيض من الندم وعقاب الذات يأتي إطراء النفس وإثابتها. فقد يتملك الإنسان الكبر لإنجاز أتاه أو لثناء ناله، فيحدِّث نفسه: «يا لك من فتى، إنك تستحق أن تملك الدنيا، لقد استعدت أمجادك حقًّا.» وبقدر هذا الغلو والتعالي يكون انكساره فيما بعد وقنوطه عندما يُمنَّى بالإخفاق أو يخونه الحظ، فيقول لنفسه: «يا لك من أحمق. أخذتك أوهام النبوغ بعيدًا بينما يراك الجميع غبيًّا هُزأة. إنك أجوف لا تملك لنفسك نفعًا ولا لغيرك.»

التوقعات

للتوقع والاستباق تأثير في مجرى المشاعر والأفعال يفوق كل التصورات. فما يتوقعه الشخص لخبراته من نتائج عاجلة وآجلة هو الذي يحدد معنى هذه الخبرات إلى حد كبير (Kelly, 1955). فالتوقعات السارة ترفع مزاج الشخص وهمته في الدرس والحديث والعمل، بينما تثبطه التوقعات السيئة وتجعله فاترًا بليدًا.
وقد تتخذ التوقعات شكلًا بصريًّا. فالمريض في فراشه ترتفع معنوياته ويتجدد أمله كلما ألم به طائف الشفاء ومعاودة الحياة النشطة. والمصاب بالقلق تتراءى له صور الكارثة كلما شرع في موقف جديد لا عهد له به. ومريض الاكتئاب تساوره خيالات الفشل في كل مهمة يباشرها (Beck, 1970c).

وفي المواقف الاجتماعية نجد أن الفرد كأنما يسجل استجابات الناس له أولًا بأول ثم يحدس رأيهم فيه في ضوء هذا التقييم. فيسائل نفسه: «ترى هل سيروقهم حديثي؟» «أم سيرون أنني أحمق؟» «هل سأنال استحسانهم؟» «هل سيهزءون بي؟» ويميل الإنسان بطبيعته إلى اعتبار أي استجابة مباشرة من الغير تجاهه كما لو كانت موقفًا ثابتًا كتب له الدوام. وتقييمه لصورته الاجتماعية يتوقف إلى حد كبير على الانطباع الذي يلوح له أنه يحدثه في الآخرين. إن فكرته عن صورته الاجتماعية قد تطغى على مفهومه عن ذاته وتجتاح تصوره عن نفسه: «ما لم أكن جذاب الشكل أو حلو الحديث فسوف لا يحبني الناس وسوف أكون إنسانًا عديم القيمة».

القواعد والإشارات الداخلية

حين نتأمل الأفكار الأوتوماتيكية يتحتم علينا أن نتساءل: ما هي المبادئ العامة التي تتحكم في تشكيل محتوى هذه الإشارات الداخلية؟ فنحن نعلم من ملاحظاتنا أن الناس قد يسلكون بطرق مختلفة تمامًا في الظروف المتشابهة. فمن الواضح أنهم يئوِّلون المواقف الواحدة تأويلات مختلفة يترتب عليها أن يصدروا بشأنها تعليمات ذاتية متفاوتة. ونحن نجد أيضًا أن كل إنسان يكرر نفس الاستجابة في كثير من المواقف التي تتشابه في صميمها؛ بحيث يمكننا أن نتنبأ باستجابته قبل حدوثها. وقد تطَّرد هذه الاستجابة اطِّرادًا يجعلها تلتصق به كسمة من سمات شخصيته أو كطبع من طباعه. فيقال مثلًا إنه خجول هيَّاب، أو إنه جافٍ عدواني.

هذه الملاحظات عن مدى اتساق الاستجابات، توحي بوجود نظام من القواعد العامة يحكم كل فرد ويحدد الطريقة التي يستجيب بها لموقف بعينه. وهذه القواعد لا توجه سلوكه الظاهر فحسب، بل تشكل أيضًا الأساس الذي يبني عليه تفسيراته الخاصة وتوقعاته وتعليماته الذاتية. كما تمدُّه هذه القواعد بالمعايير التي يحكم بها على استجاباته من حيث فاعليتها وملاءمتها للموقف، ويعرف بها قدر نفسه ومدى جاذبيتها. الإنسان إذَن يسترشد دائما بقواعد معينة فيما يسعى لتحقيق أهدافه وحماية ذاته جسميًّا ونفسيًّا وتوطيد علاقاته بالآخرين.

وأبرز صنف من هذه القواعد هو ذلك الذي يأخذ صفة المعايير القياسية أو التنظيمات واللوائح. ففي ذهن كل فرد ما يشبه كتاب الإرشادات أو «الدليل» الذي يسترشد به في أفعاله ويقيِّم به نفسه ويقيِّم الآخرين، ويتبين به الصواب والخطأ في تصرفاته وفي تصرفات غيره. وهو يستخدم القواعد أيضًا كمساطر يقيس بها درجة نجاحه في عمل معين، ويسترشد بهذه المعايير والمبادئ في إصدار التعليمات لنفسه (أو لغيره) في الموقف الذي هو بصدده، ثم يجري التعديلات اللازمة في ضوء ما تسفر عنه أفعاله. وبحسب الثمار الناتجة عن مسلكه في النهاية يكون رضاه عن نفسه أو سخطه عليها.

ولا يقتصر دور القواعد على توجيه السلوك، فهي تزودنا أيضًا بإطار لفهم المواقف الحياتية المختلفة. فهذا الدليل الكتابي الذي يحمله كل منا في ذهنه يتضمن نظامًا شفريًّا يفيده في تحديد معنى الأحداث والمنبهات الخارجية. فهو يطبق قواعد هذا الكتاب حرفيًّا حين يحسب حسابات أو يتبع خارطة أو يسمي أشياء. فهذه القواعد تنطوي على معادلات وصيغ ومقدمات منطقية تتيح للفرد أن ينظم ملاحظاته عن الواقع ويصنفها ويؤلف بينها، حتى يتمكن في النهاية من استخلاص نتائج دالة.

ونحن نستخدم هذه الشفرة أيضًا في المواقف المعقدة، وذلك لكشف المعنى الذي ينطوي عليه الموقف. فعندما يحدثنا شخصٌ ما بشيء فنحن لا نكتفي بفهم رسالته (أي بفك شفرتها) بل يعنينا بالدرجة الأساس أن نستخلص المغزى الشخصي الخاص لحديثه؛ فننظر ما إذا كان في حقيقة الأمر يلوِّح بالعدوان، وما إذا كان علينا أن نرد عليه بالمثل أو أن ننسحب.

وفيما يلي مثال يوضح كيف يختلف شخصان في تأويل موقفٍ ما باختلاف القواعد التي يطبقانها على نفس الموقف. ويوضح المثال أيضًا كيف يكون الموقف الواحد مولدًا لانفعالات متباينة وملهمًا بأشكال مختلفة من السلوك بحسب القواعد التي تستخدم في فهمه وتقييمه.

فهذا معلم يطلب، بطريقة عفوية، إلى طالبتَين (الآنسة أ، والآنسة ب) كانتا منشغلتين في حديث جانبي أن تنتبها إلى الدرس فيقول: «إذا كان لديكما ما تقولانه فإما أن تشركانا جميعًا فيه أو أن تصمتا.» أما الآنسة أ فقد استجابت بغضب قائلة إنها كانت تستوضح نقطة ليس غير، ثم أخذت تتحدى المعلم في المناقشة المفتوحة التي أعقبت الدرس وأخذت تنتقد شرحه ووجهات نظره التي عرضها انتقادًا حادًّا. وأما الآنسة ب، وهي التي كانت دائمًا تشارك في المناقشات مشاركة فعالة، فقد ظلت منزوية حزينة منذ سمعت تعليق المعلم ولزمت الصمت حتى نهاية الدرس.

من الممكن فهم الاستجابتين المتناقضتين لهاتين الفتاتين بالنظر إلى القواعد التي طبقتها كل منهما في تفسير الموقف وبالتالي في الاستجابة له.

فالآنسة أ قد فسرت ملاحظة المعلم كالتالي: «إنه يريد أن يتحكم فيَّ، إنه يعاملني كما لو كنت طفلة صغيرة.» وكانت استجابتها الانفعالية هي الغضب. وكانت القاعدة العامة التي أدت بها إلى هذا التفسير هي: التقويم الصادر عن صور السلطة هو استبداد وسيطرة واستهانة. أما التعليمات الذاتية التي أصدرتها فكانت: «ردِّي له الصاع صاعين،» والقاعدة وراء هذا الانتقام هي: «يجب أن أثأر لنفسي من كل من يسيء معاملتي.»

أما الآنسة ب فكان تفسيرها للموقف كالتالي: «لقد ضبطني متلبسة بفعل لا يليق، وسوف يبغضني من الآن فصاعدًا.» والانفعال هو: الخجل والحزن. والقاعدة هي: «التقويم الصادر من السلطة يعني الفضيحة والضعف والخطأ والدونية. ولفت النظر يعني الرفض.» وتعليماتها الذاتية هي: «يجب أن أبقى صامتة مطبقة الفم.» والقاعدة هي: «إذا بقيت صامتة فإن ذلك يقلِّص من حجم غلطتي.» وأيضًا: «إن صمتي سيكون تعبيرًا عن أسفي على ما بدر مني.»

يوضح لنا المثال أن الناس يتصرفون في حياتهم وفقًا لمجموعة معينة من القواعد. فكلٌّ من الفتاتين في هذا المثال قد استخدمت معيارًا مختلفًا في تقييم كلام المعلم وخلصت بالتالي إلى تفسير مختلف. ثم شرعت تطبق قواعد مختلفة ترشدها إلى ما يجب فعله فيما بعد تجاه هذا المعلم، ووصلت إلى نتائج مختلفة. وبذلك يكون سلوكها الظاهر هو النتاج النهائي الذي أسفرت عنه إشاراتها الذاتية ومداولاتها الداخلية.

وصفوة القول إن هذه القواعد تفيد الفرد كمعايير لتقييم سلوكه وتوجيهه أو كبحه. وهو يطبقها أيضًا على الآخرين ليحكم على سلوكهم ومدى ملاءمته ومعقوليته، ويتفهم بذلك دلالة أفعالهم ويحدس برأيهم في أفعاله.

ويبقى أن نسأل كيف تنشأ هذه القواعد؟ كلنا يعلم أن الإنسان في نموه يشرع في الكلام السليم نحويًّا قبل أن يتأتى له أن يدرس قواعد النحو. فنحن لا نطلب من الأطفال صراحة أن يلزموا التعاقب النحوي للفعل والفاعل والمفعول (مثل: أريد زجاجتي)، بل هم يستمدون القواعد العامة من خلال الخبرات العينية الملموسة. وهم بالمثل يسلكون بطريقة مقبولة اجتماعيًّا قبل أن يصرَّح لهم بمنطوق القواعد العامة للسلوك. فهم على الأرجح يتشربونها من خلال ملاحظتهم للآخرين ومن خلال خبراتهم الشخصية كجزء من الموروث الاجتماعي. فمن اليسير أن يرى الطفل كيف تطبق قاعدة «كن مهذبًا» أو «تمسَّك بحقوقك» في موقف معين لتنتج سلوكًا معينًا. وبالمثل يمكننا أن نرى كيف تتحكم قاعدة معينة في تفسير الموقف.

إن عمل هذه القواعد يمكن مقارنته بنوع من الأقيسة التي يعرض لها المناطقة. فإذا رجعنا إلى صاحبتينا الآنسة أ والآنسة ب وجدنا أنهما تعتمدان قياسًا منطقيًّا syllogism مقدمته الكبرى هي: «كل تقويم يصدر من شخص في موقع السلطة هو انتقاد.» أما المقدمة الصغرى فهي «المعلم يقوِّمني.» وبذلك تكون نتيجة القياس هي: «المعلم ينتقدني.» نلاحظ هنا أن الشخص لا يصرح بالمقدمة الكبرى لنفسه. ذلك بأنها قد اندمجت بنظامه المعرفي وصارت جزءًا منه، بنفس الطريقة التي اندمجت بها قواعد بناء العبارات اللغوية وقواعد التمييز بين أصناف الحيوانات والنباتات. كذلك قد يكون متفطنًا لمقدمته الصغرى (الحالة الخاصة) أو لا يكون، بحسب الظروف، بَيدَ أنه في كل الأحوال يدري نتيجة القياس. وهذه النتيجة قد تتخذ في الموقف موقعًا مركزيًّا وقد تعبره بسرعة شأن الأفكار الأوتوماتيكية التي وصفناها آنفًا.

ولهذه القواعد والأقيسة المنطقية القائمة عليها أهمية خاصة للممارس الإكلينيكي. فهي تساعده على تفسير السلوك اللامنطقي المفاجئ وتفسير الاستجابات الانفعالية غير السوية. وسوف نرى في الفصل الرابع كيف أن هذه القواعد إذا تنافرت مع الواقع أو طبقت بإفراط أو اعتساف حملت نُذُر الاضطراب النفسي أو المشاكل البينشخصية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤