لبنان

ألقيت هذه القصيدة في حفل إفتتاح المؤتمر الطبي ببيروت في صيف عام ١٩٤٤م.

ألْقيتُ للغِيد الملاحِ سلاحي
ورجَعتُ أغسلُ بالدموعِ جراحِي
ولمحتُ رَيْحانَ الصِّبا فرأيتُه
ذَبُلَتْ نضارتُه على الأقداح!١
كان الشبابُ طِماحَ لاعجَةِ الهَوى
فاليوم يرفَعُ ساعِديْه طِمَاحِي٢
مَنْ لي وقد عَبِثَ المشيبُ بلِمَّتي
بضياء ذاك الفاحِمِ اللَّماح؟!٣
قد كان للذَّاتِ أسْرعَ ناصحٍ
فغدًا على الشُّبُهات أولَ لاحي٤
لو أستطيعُ لبعتُ عمريَ كلَّه
لمنى الصِّبا وأريجه النفَّاح!٥
أيامَ أوتاري تغرِّدُ وَحْدها
وتكادُ تَسْكَرُ في الزُّجاجةِ راحي٦
أيامَ شِعْري للفواتنِ رُقْيَةٌ
تَستَلُّ كلَّ تدلُّلٍ وجِمَاح٧
«دوجين» لم يجدِ الفتى مصباحَه
وأبانَ أسرارَ الهَوى مِصْباحي٨
الفلسفاتُ وما حوتْ في نظرةٍ
من لحظِ ساجية العيونِ رَداحِ٩
تُغري الهوى وتصُدُّه لَمَحَاتُها
فَيَحارُ بين تمنُّعٍ وسماح
والنظرةُ البَهْمَاءُ أفتكُ بالفتى
من كُلِّ واضحةِ المرام وَقاح١٠
فخذوا اليقينَ ونورُه لعقولكم
ودعوا شُكوكَ الحُبِّ للأرواح

•••

سِرْ يا قطارُ ففي فؤادي مرْجَلٌ
يُزْجيك بيْنَ مَتالعٍ وبِطاح١١
لو كنتَ شِعْري كنت أسبقَ طائرٍ
يكفيه للقطبين خَفْقُ جَناحِ
قالوا: هنا لُبْنانُ، قلتُ: وهل سوى
لُبنانَ ملعبُ صبوتي ومِراحي١٢
يبدو أشمّ على البِطاحِ كأنّه
عَلَمٌ بكفِّ الفارِس الجَحْجاح١٣
نَسَجَتْ له سُحُبُ السماء مطارفًا
وحَبتْه زُهْرُ نجومِها بوشاح١٤
طُرُقٌ كما التوت الظنونُ، وقِمةٌ
قامت كحقٍّ للشعوب صُراح
النبعُ خمرٌ، والحدائقُ نَشْوَةٌ
والجوُّ من مِسْكٍ ومن تُفّاح١٥

•••

لُبنان دَوْحُ الشعرِ أنت، تعلَّمتْ
منكَ الهديلَ سواجعُ الأدواح١٦
شِعْرٌ له فِعْلُ السُّلاف فلو أتى
قبلَ الشرائع كان غيرَ مُباح
ونضيرُ ألفاظٍ كأزهارِ الرُّبا
يبسِمن غِبُّ الغارِضِ السَّحَّاح١٧
وخمائلٌ من أحرُفٍ قُدْسيةٍ
أَخْمَلْن صوتَ الطائر الصَدَّاح١٨
الفنُّ من سرِّ السماء ونَفْحَةٌ
من فَيْضِ نورِ الواهب الفتّاح!١٩
والعبقريةُ أنْ تُحلِّقَ وادعًا
فتفوتَ جُهْدَ الناصِبِ الكَدَّاح٢٠

•••

لُبنانُ، أنتَ من العزائم والنُّهى
ما أنتَ من صَخْرٍ ولا صُفّاح٢١
أبطالُكَ الصيدُ الكُماةُ مَناصِلٌ
طُبِعتْ ليوم كريهةٍ وتلاحي٢٢
شَحُّوا على مُتَع الحياةِ بلحظةٍ
ومشَوا لوِرْدِ الموتِ غيرَ شِحاح
قهروا الزمانَ، ولن تضيعَ كرامةٌ
للحقِّ بين أسِنةٍ ورماح
المجدُ بابٌ إن تعاصَى فتحُه
فاسألْ كتائبهم عن المفتاح٢٣
دقّوا فما أودَى بعزم أكفِّهم
بأسُ الحديدِ وقسوةُ الألواح٢٤
ومن الْحِفاظِ المُرِّ ما يُعْيي الفتى
ليست تكاليفُ العُلا بمزاح!٢٥
كم صابروا عَنَتَ الحياةِ وعُسْرَها
بخلائق غُرِّ الوجوهِ صِباح٢٦
نزحوا عن الأوطانِ في طَلَبِ العُلا
والعزمُ مِلءُ حقائبِ النُزَّاح٢٧
وسرَوْا مع الريحِ الهَبُوبِ فلا تَرى
إلّا رياحًا زُوحِمتْ برياحِ٢٨
لم يستكينوا للزمان ووعدِه
فالدهرُ أكذَبُ من نَبِيِّ سَجاح٢٩
في أرض «كُولُمْبٍ» بَنَوْا فيما بَنوا
شَمَمَ الأبيِّ وعزمةَ المِلحاح٣٠
وبكلِّ جوٍّ رايةٌ هفَّافةٌ
تهتزُّ كالمتخايل الميّاح٣١
لو أبصروا في الشمسِ موضِعَ مَهْجَرٍ
لتسلّقوا لسعيرها اللوّاح٣٢
والنفسُ إن عظُمتْ يضيقُ بسعيِها
صدرُ الفضاء برَحْبِه الفيّاح٣٣
للناسِ ناحيةٌ تلُمُّ شَتاتَهم
والعبقريُّ له الوجودُ نواحي!٣٤
يمشي الجريءُ على العُبابِ مُخاطرًا
وأرَى الجبانَ يموتُ في الضحْضاح٣٥

•••

لُبنانُ، صُنْتَ الضادَ في لأوائها
من شرِّ ماحٍ أو هَوى مجتاح٣٦
في البَدْوِ لوَّحها الهجيرُ فلم تجدْ
إلّا ظِلَالَكَ نجعةَ المُلْتاح٣٧
جمعَتْ رجالُكَ زَهرَها في طاقةٍ
عَبِقَ الوجودُ بنشْرِها الفَوَّاح
نظموا لها عِقْدًا يرِفُّ شعاعُه
بلآلئٍ مِلء العيونِ صِحاح٣٨
وحَمَوْا كتابَ الله — جلّ جلاله —
من لَغْوِ فَدْمٍ أو هُرَاء إباحِي٣٩
فانظرْ إلى «البُستان» هل تلقَى به
إلَّا ورودًا أو ثُغورَ أَقاحي؟٤٠

•••

لُبنانُ، والفِرْدَوسُ أنت لَقيتُه
فطرَحْتُ عند لِقائِه أتْراحي٤١
وتركتُ للهْوِ العنانَ وأطلقتْ
أيدي الزمانِ العاتياتُ سراحي
وشهِدتُ فيكَ الْحُورَ تسبح في السَّنا
نفسي فِداءُ ضِيائها السّباح!
طاوعتُ في نجلائِهنّ صَبابتي
وعصَيتُ ما تَهْذي به نُصَّاحي٤٢
ما الفتنةُ الشّعْواءُ إلَّا أعينٌ
سُودٌ، تَلَأْلَأُ في وجوهِ مِلاح٤٣
دافعتُ بالغَزَلِ الْحَنونِ لحاظَها
شتَّانَ بيْن سِلاحِها وسلاحي!٤٤
وبعثتُ أنّاتي وقلتُ: لعلَّها
تُغْني إشارتُها عن الإفصاح!
فتجاهلتْ لغةَ الغرامِ وتابعتْ
خُطُواتِها في عِزّةِ وشِياحِ٤٥
عادتْ إليَّ حَبائل فَلَممتُها
ورضِيتُ من ضَحِكِ الهَوى بنُواحي٤٦
لم يُبْقِ مني الوجدُ غيرَ حُشاشةٍ
لولا التعلُّلُ آذنتْ بروَاح٤٧
أشكو، وما الطبُّ الحديثُ براحمٍ
شجوي، ولا مُتَسمِّعٍ لِصياحي٤٨
هل بين مؤتمرِ الأساةِ مُجرِّبٌ
شافٍ لأدواء الصبابةِ ماحي؟٤٩
والطبُّ لا يصِلُ المَدَى إن لم تصِلْ
جَدْواهُ للأَرواحِ وَالأشباحِ٥٠

•••

مَرْحَى بمؤتمرٍ تبلَّجَ نورُه
في الشرقِ، مثلَ تبلُّجِ الإصباحِ٥١
زُمَرٌ من البَشَرِ الملائكِ كم لهم
في الطبِّ من غُرَرٍ ومن أوْضاح٥٢
بذلوا النفوسَ، فكم شهيدِ جِراحةٍ
منهم، وكم منهم شهيدُ كِفاح
وتفهَّموا سِرَّ الحياةِ ولم يكنْ
سرُّ الحياةِ لغيرهم بمُباح
دهَتِ البلادَ بعوضةٌ أجَمِيّةٌ
جاءت على قدَرٍ لمصرَ مُتاح٥٣
دقَّتْ لغير ترحُّلٍ أطنابَها
وَرَمَتْ مراسيها لغيرِ بَراح٥٤
وَعَدَتْ على الماء القراحِ جُيوشُها
فغدا النميرُ العذْبُ غيرَ قراح٥٥
السُّمُّ أقوى في شَبا خُرْطومِها
من حدِّ كلِّ مُهنَّدٍ سفَّاح٥٦
كالْجِنِّ تهوَى الليلَ في وثَباتِها
وتَفِرُّ ذُعْرًا من بُزوغِ صَباح٥٧

•••

يا خِيرةَ الشرقِ المُدِلِّ بقومِه
هذا أوانُ البعثِ والإصلاح٥٨
المجدُ فوقكُمُ دنتْ أفنانُه
فتلقّفوا ثمراتِه بالرَّاح٥٩
وترسَّموا سَنَنَ الرئيسِ وهدْيَه
شيخِ الأساةِ «عليٍّ» الْجراحِ٦٠
وَانْفُوا عن الطبِّ الرَّطانةَ إنّها
نَمَشٌ يَعيثُ بوجهِه الوضَّاح٦١
كم في حِمَى الفُصْحَى وبين كُنوزِها
من مُشْرِقاتٍ بالبيانِ فِصاح!٦٢
ما أنكرتْ أممٌ لسانَ جُدودها
يومًا وسارتْ في طريق فلاح

•••

لُبنانُ، مُذْ حلّتْ ذَراكَ رِكابُنا
حلّتْ من الدنيا بأكرم ساح٦٣
الأرْزُ فيك ونخلُ مصرَ كلاهما
أخَوانٍ في الأتراح والأفراح٦٤
وَالنيلُ منكَ، فلو بَكيْتَ لفادحٍ
غَمَر الشُّطوطَ بدمعِه النضَّاح٦٥
لُبنانُ، آن لك الفَخارُ بسادةٍ
عُرْبٍ كِرامِ المنْبِتَيْنِ سِمَاح٦٦
مجدٌ إذا ما أشرقتْ صَفحاتُه
أزْرتْ بمُؤتلِقِ النهارِ الضاحي٦٧

هوامش

(١) ريحان الصبا: رائحة الشباب الذكية. نضارته: حسنه ورونقه.
(٢) طماح: مرتفع. لاعجة الهوى: الحب. يرفع ساعديه: كناية عن الاستسلام.
(٣) لمتي: الشعر الذي يلي شحمة الأذن.
(٤) لاحي: لائم.
(٥) أريجه: رائحته النفاذه.
(٦) راحي: خمري.
(٧) الفواتن: جمع فاتنة. رقية: تعويذة. تستل: تخرج. جماح: شرود.
(٨) دوجين: فيلسوف يوناني قديم يحمل مصباحًا باحثًا عن الحقيقة.
(٩) ساجية: ساكنة. رداح: مرأة رابية الجسم.
(١٠) البهماء: التي لا يعرف مقصدها. المرام: المقصد. وقاح: البين الواضح.
(١١) قطار: القطار الذي سافر به من القاهرة إلى بيروت عبر فلسطين وكان الوسيلة المعتادة للسفر حينئذ. مرجل: غلاية. يزجيك: يسوقك ويدفعك. متالع: الروابي. بطاح: جمع بطحاء وهو المسيل المنبسط.
(١٢) صبوتي: صباي.
(١٣) أشم: عالي. البطاح: المسيل الواسع. الجحجاح: المسارع إلى الكلام.
(١٤) مطارفًا: أردية من حرير. حبته: منحته. بوشاح: شيء يصنع من نسيج عريض ويرصع بالجواهر، وقد تشده المرأة بين عاتقها وكشحها.
(١٥) النبع: ما ينبع منه الماء. مسك: طيب.
(١٦) دوح: حديقة. الهديل: صوت الحمام.
(١٧) غب: غب كل شيء عاقبته. العارض: السحاب المعترض في الأفق. السحاح: المطر.
(١٨) أخملن: جعلته خاملًا ضعيف الذكر.
(١٩) فيض: جود وكرم.
(٢٠) تفوت: تترك. الناصب: المتعب. الكداح: الذي يسعى ويكد في عمله.
(٢١) صفاح: حجارة عريض رقاق.
(٢٢) الصيد: رافعي الرأس. الكماة: الشجعان. مناصل: سيوف. طبعت: صنعت، جبلت. يوم كريهة: يوم الحرب. تلاحي: نزاع.
(٢٣) تعاصى: استعصى.
(٢٤) أودى: أوهن. بأس: شدة وقوة.
(٢٥) الحفاظ: الإباء والأنفة. يعيي: يتعب.
(٢٦) عنت: الأمر الشاق. عسرها: شدتها. غر الوجوه: بيض الوجوه. صباح: عليهم نور كنور الصبح.
(٢٧) نزحوا: تركوا وهاجروا.
(٢٨) سروا: مشوا. الهبوب: المثيرة للأتربة. والمقصود الشديدة.
(٢٩) سجاح: امرأة ادعت النبوة وادعى النبوة أيضًا مسيلمة الكذاب الذي تزوجته.
(٣٠) كولمب: هو كريستوفر كولمبس مكتشف القارة الأمريكية والمقصود بأرض كولمب الولايات المتحدة الأمريكية. شمم: علو وأنفة. الأبي: الشريف. عزمة: عزيمة. الملحاح: الملح في طلب الشيء.
(٣١) هفافة: مرفرفة. المتخايل: المعجب بنفسه. المياح: المعجب المتمايل.
(٣٢) مهجر: مكان يهاجر إليه. لسعيرها: لنارها. اللواح: الذي يغير لون وجهه.
(٣٣) برحبه: بسعته. الفياح: المنتشر.
(٣٤) ناحية: جهة، مكان. شتاتهم: تفرقهم.
(٣٥) العباب: الموج المرتفع. الضحضاح: القليل الماء.
(٣٦) الضاد: اللغة العربية. لأوائها: شدتها. ماح: مبيد. مجتاح: يريد اجتياحها وإبادتها.
(٣٧) البدو: البادية. لوحها: غير لون وجهها. الهجير: شدة حرارة الشمس. ظلالك: ظلك. نجعة: طلب الكلأ. الملتاح: المتغير من نصب أو سفر.
(٣٨) يرف: يتحرك. صحاح: صحيحة، سليمة.
(٣٩) لغو: باطل. فدم: أحمق. هراء: عبث، استهزاء. إباحي: متصف بالرذيلة.
(٤٠) أقاحي: زهر له ورق أبيض ووسطه أصفر.
(٤١) طرحت: تركت. أتراحي: أحزاني.
(٤٢) نجلائهن: عيونهن الواسعة. صبابتي: رقة الشوق وحرارته.
(٤٣) الشعواء: المتفرقة. تلألأ: تضيء.
(٤٤) لحاظها: عيونها. شتان: هيهات، بَعُدَ ما بينهما.
(٤٥) شياح: حذر.
(٤٦) حبائلي: حيلي. نواحي: بكائي.
(٤٧) الوجد: الشوق. برواح: بذهاب.
(٤٨) شجوي: حزني.
(٤٩) مؤتمر الأساة: المؤتمر الطبي. أدواء: أمراض. ماحي: مزيل.
(٥٠) المدى: الهدف. جدواه: فائدته، عطاياه. للأرواح: للأنفس. الأشباح: الأشخاص.
(٥١) تبلج: أشرق وأضاء.
(٥٢) زمر: جماعات. غرر: سيادة وشرف.
(٥٣) أجمية: نسبة إلى الأجمة وهي الغابة والمقصود بها بعوضة «الجامبيا» التي غزت مصر، وفتكت بالكثير من أبناء الصعيد ولم تنج مصر من شرها إلا بعد نحو أربع سنوات. متاح: مهيأ.
(٥٤) أطنابها: حبالها الطويلة. مراسيها: ما تثبت به.
(٥٥) عدت: اعتدت. القراح: الصافي الذي لا يشوبه شيء.
(٥٦) شبا: طرفه الحاد. خرطومها: أنفها. مهند: السيف.
(٥٧) بزوغ: طلوع. إشارة إلى أن البعوض يكثر ليلًا، وكذلك إلى أن حماها لا تزور المريض إلا ليلًا في الغالب.
(٥٨) المدل: المفتخر، المباهي.
(٥٩) أفنانه: أغصانه. الراح: الكف.
(٦٠) ترسموا: تتبعوا. سنن: طريق، أسلوب، منهاج. الرئيس: رئيس المؤتمر الدكتور علي إبراهيم باشا. هديه: إرشاده. الأساة: الأطباء.
(٦١) انفوا: اطردوا، ابعدوا. الرطانة: الكلام بالأعجمية. نمش: نقط بيض وسود. يعيث: يفسد.
(٦٢) حمى: كنف. الفصحى: اللغة العربية. فصاح: بليغة.
(٦٣) حلت: نزلت. ذراك: كفك. ساح: المكان الذي يسبح منه الماء والمقصود أرض لبنان.
(٦٤) الأرز: شجر الأرز وهو الشجر المشهور لبنان بزراعته واتخذوه علمًا لهم.
(٦٥) النضاح: الكثير.
(٦٦) سماح: كرام.
(٦٧) أزرت: تمسكت بقوة. مؤتلق: إشراق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤