مصطفى النحاس باشا

واحد من زعماء مصر البارزين خلف الزعيم العظيم سعد زغلول باشا في رئاسة حزب الوفد، وعاش حياته يناضل الاستعمار الإنجليزي لمصر حتى حقق الله على يديه استقلال البلاد، وقد أنشد الشاعر هذه القصيدة في الاحتفال الذي أقيم تكريمًا للزعيم بعد عودته هو وصحبه عقب توقيع اتفاقية «منترو» عام ١٩٣٧م.

مَلَكْتَ بما أوتيت ناصِيةَ النجمِ
وحُزْت عِنانَ المجدِ والشرفِ الجمِّ١
وعُدْت زعيمَ الفاتحين تقودُه
يدُ اللهِ مِنْ غُنمٍ لمصرَ إلى غُنْمِ٢
تطالعُكَ الأعلامُ نَشوَى كأنَّها
بكلِّ الذي أوليْت مِصْر على عِلْمِ٣
خوافِقُ تنأى في السماء وتلتقي
كما مال رِئْمٌ في الفلاة إلى رئْمِ٤
ويُطرِبُها عالي الهتافِ فتنثني
كما رقصتْ هِيفُ العذارى على نغمِ٥
فُتِنَّ بألوانِ الرياض وحُسنِها
فقاسَمْنَها في الحُسنِ أو جُرن في القَسْمِ٦
وكادَ سُرورًا ما بها من أهلّةٍ
يتيه على ابن الليل في ليلة التَّم٧
لها نشوةٌ لو أنَّ للكَرْمِ مِثْلَها
لما كانَ إثْمًا أنْ تُساغَ ابنةُ الكرْمِ٨
زَهاها على الرايات أن انتصارَها
على الدهرِ لم يُقْسَم لعُرْبٍ ولا عُجْمِ٩
وأن فَتَاها لم يقفْ في ثيابه
أخو نجدَةٍ في يومِ حربٍ ولا سِلْمِ١٠
حمَاهَا وأعْلَاهَا على النجْمِ سعيُه
فلله من يعْلي اللواءَ ومن يحْمي

•••

أبَى المجدُ أن يدنو بفضل عِنانه
لغير بعيدِ الغَوْرِ والرأيِ والسهمِ١١
وما خضعَ النصرُ الأشمُّ لفاتحٍ
إذا لم يكُنْ من خِيرة السادةِ الشُّمِّ١٢
حملنا له الأزهارَ تَنْدَى نضارةً
وتهتزُّ عن طيبٍ وتَفْترُّ عن بَسْمِ١٣
وأنْفَسُ شيءٍ في الحياةِ أزاهِرٌ
يُبعثرها شَعبٌ على قدمَيْ شَهمِ١٤
وجِئنا بغُصنِ الغارِ تاجًا لجبهةٍ
عليها سطورٌ من إباءٍ ومن عزْمِ١٥
أقامَ طويلًا بالرياضِ كأنَّمَا
أُصيبتْ بناتُ المجدِ في مصرَ بالعُقْمِ١٦

•••

سَعى الشعبُ أفواجًا إليكَ يسوقُه
نوازعُ حُبٍّ قد طَغَيْن على الكتْمِ١٧
رأينا به الآذيَّ يهدُر ماؤه
وجرجرةُ الأمواجِ في لُجَّةِ اليم١٨
صُفوفٌ بناهَا اللهُ في حُبِّ «مُصطفى»
تنَزَّهنَ عن صَدْعٍ وعُوفينَ من ثأمِ١٩
بها اجْتَمَعَتْ كلُّ المدائنِ والقُرى
فما شِئتَ من كيفٍ وما شئتَ من كَمِّ
إذا حاولَ الوهمُ المصَوِّرُ رَسْمَها
على صفحةِ القُرطاسِ عَزَّتْ على الوهمِ٢٠
وأصواتُ صِدْقٍ بالدعاء تتابعت
لها كَدَويِّ النحلِ في أذُنِ النجمِ٢١
أصاخَ إليها الصُّمُّ، يستمعونَها
فإن جَحَدُوها فالعفاءُ على الصُّمّ٢٢
تُحِسُّ أزيزَ النار في نَبراتِها
وتَلْمَحُ فيها قوّةَ العَزْمِ والجزْمِ٢٣
تكادُ تميدُ الأرضُ بالحشدِ فوقها
وتنسدُّ أرجاءُ الفضاء من الزَّحْمِ٢٤
زعمتُ بأن أطوِي لك الجمعَ سابحًا
فللهِ كَمْ لاقيتُ من ذلك الزَّعْمِ
أحاطتْ بيَ الأمواجُ من كُلِّ جانبٍ
أغوصُ إلى لحمٍ وأطفو على لحمِ
إذَا نالَ مني الوكْزُ ما كانَ يشتهي
خَلَصت إلى ما لا أحب من اللكْم٢٥
سَدَدْتُ عليَّ الطُرْقَ لم ألْقَ مَسْلَكًا
وأوسعتُ طُرْقَ المجدِ والحسبِ والضخمِ٢٦
تمنيتُ لو لامَسْتُ كَفًّا هي المُنَى
خواتِمها قد صاغها الشعبُ من لَثْمِ٢٧
وشاهَدْتُ شهمًا كلّما رُمتُ رسمَهُ
تصوّرتُ أخلاقَ الملائكِ في الرسْمِ٢٨
وفُزت بوجهٍ من سنَا اللهِ ضوؤه
كريمُ المحيّا لا قطوبٍ ولا جَهْمِ٢٩
إذا قدَّرَ الشعبُ الرجالَ، فإنّهُ
قمينٌ بالاستقلالِ في الرأيِ والحُكْمِ٣٠

•••

دعْونَاكَ للجُلّى فكُنتَ غِياثَها
وقد عَبَثَتْ خيلُ الحوادثِ باللَّجْمِ٣١
عليكَ من اللهِ العزيزِ مَفاضةٌ
من الحق لم تأبه لرمْحٍ ولا سهمِ٣٢
تصولُ على العُدوان تستَلُّ نابَهُ
وتَصدعُ بالأيمانِ غاشيةَ الظلْمِ٣٣
وترفعُ صدرًا كانَ حِصْنًا وموئِلًا
لمصرَ فأغناهَا عن الحصْنِ والأطَمِ٣٤
رميتَ فسدّدتَ الرمَاءَ وإنَّما
هُو اللهُ يرمي عن يمينك إذْ ترْمي٣٥
وما كل ذي سهمٍ أصابت يمينُه
ولا كل سهمٍ في إصابتهِ يُصْمي٣٦
وجنَّدتَ من آرائِكَ الغرِّ جحفلًا
طلائِعُه أغنَتْ عن البيضِ والدُّهْمِ٣٧
وأرسلتَ صوْتًا في البلادِ مجلجلًا
سمعنا به زأرَ الضراغِمِ في الأجْمِ٣٨
ففتّحت آذانًا وأيقظت أعيُنًا
وصنتَ رِباطَ العنصرين من الفصْمِ٣٩
فلَمْ يرضَ جنبٌ أن ينَامَ على أذًى
ولم يَرْضَ حَقٌّ أن ينامَ على هضْمِ٤٠
وطار بنُو مِصْرٍ لنجدةِ أمهم
سِرَاعًا فأَكْرِمْ بالبنين وبالأمِ
ونَالتْ بك استقلالَهَا مِصْرُ كَامِلًا
على الرغم من كَيْدِ الزمانِ على الرغْمِ
وحَطَّمتَ أغلَال الإسارِ، وقد لَوتْ
يَدُ الدهْرِ واستعصتْ طويلًا على الحَطْمِ٤١
إذا عَظُمَتْ نفْسُ امرئٍ جلَّ سعيُه
وجلّ فَلَم يُوصَمْ بزهْوٍ ولا عَظْمِ٤٢

•••

تحدَّثَت الدنيا «بسعدٍ» و«مصطفى»
وهل قُرئتْ أمُّ الكتابِ بلَا «بسمِ»٤٣
أبانَ لكَ الطرْقَ اللَّواحب للعُلا
فجَلّيتَ فعلَ الفارسِ البطلِ القرمِ٤٤
بَنَيْتَ وهدّمتَ الضلالَ مُجاهدًا
فكنتَ كَريمًا في البناءِ وفي الهدْمِ
بك اهتزّت الآمالُ واخضرَّ عُودُهَا
كما اهتزّ روْضٌ جادَه واكِفُ السَّجْمِ٤٥
ورُبَّ رجالٍ كالسحائبِ خُلّبًا
تَسُدُّ مصابيحَ السماء ولا تهمي٤٦
يَرونَ من الحِلْمِ القرارَ على الأذى
وأين قرارُ الهَوْنِ من خُلقِ الحِلْمِ٤٧
إذا شهوةُ الدنيا دهت عقْلَ عاقلٍ
غدًا، وهو أذكى الناسِ شرًّا من الفَدْم٤٨
وإن عَشَقَتْ رُوحُ الفتى راحةَ الفتى
فلا خيرَ في رُوحٍ ولا خير في جِسْمِ
وقفتَ لنصر الحقِّ في قصر «منترو»
وقوفَ وضيءَ الرأيِ مُجتمِع الحزْم٤٩
وحولَكَ من أصحابِكَ الصيدِ فتيةٌ
خِفافٌ إلى المولى شِدادٌ على الخَصْمِ٥٠
يروْنَ من الحتم الوفاءَ لقومِهمْ
وليست بشاشاتُ الحياةِ من الحتْم٥١
كأنَّ غُبارَ النصر في لَهَواتِهم
جَنَى النحلِ أو أشهى وأطيبُ في الطعْمِ٥٢
لك الحِجَجَ البيضَ الصلَابَ كأنَّها
نِصالُ سهامٍ قد حَزَزْنَ إلى العَظْمِ٥٣
أمَنْ جعل الضيفَ النزيلَ كواحدٍ
من الأهْلِ يُرْمَى بالجفاء وبالذمِّ؟!٥٤
فَهِمْنا ولكن للسياسةِ منطقٌ
عزيزٌ على الأذهانِ صعبٌ على الفَهْمِ
ومثلُكَ مَنْ ردّ العقُولَ لمنهجٍ
سديدٍ وأرْدَى الشكَّ بالمنطقِ الحسَمِ٥٥
فما زلْتَ حتى أدركَتْ مِصرُ سُؤْلَهَا
رفيعةُ شأوِ المجدِ موفورَةُ السهْمِ٥٦
وأصبحَ حُبًّا كل ما كان من قلا
لمصرَ وغُنْمًا كل ما كانَ من غُرْم٥٧
هنيئًا لَكَ الفتحُ المبينُ فإنّه
سيبقى على التاريخِ مُتَّضحَ الوسْمِ٥٨
نثرتُ له زَهْرًا وأنْظَمْتُ لؤلؤًا
فأحسنتُ في نَثري وأبدعتُ في نظْمِي٥٩

هوامش

(١) ناصية: أعالي النجم. عنان المجد: قيادة الشرف والعزة.
(٢) غنم: غنيمة.
(٣) تطالعك: تظهر لك. نشوى: فرحة. أوليت: أعطيت.
(٤) خوافق: مرفرفة. تنأى: تبعد. رئم: غزال. الفلاة: الصحراء.
(٥) هيف: الحسناء ضامرة البطن. نغم: صوت حسن.
(٦) فتن: عجبن. جرن في القسم: جاوزن الحد في النصيب والحظ.
(٧) أهلة: جمع هلال. ابن الليل: المقصود القمر. ليلة التم: ليلة اكتمال القمر وهي النصف من الشهر العربي.
(٨) الكرم: العنب الذي تصنع منه الخمر. تساغ: بمعنى تشرب. ابنة الكرم: من أسماء الخمر.
(٩) زهاها: افتخر بها. لم يقسم: لم يكن من نصيب.
(١٠) لم يقف في ثيابه: لم يلتزم بوتيرة واحدة. أخو نجدة: صاحب عون واستغاثة.
(١١) عنانه: قيادته. بعيد الغور: عميق الفكر. الهم: الهمة.
(١٢) الأشم: العالي. الشم: الشرفاء.
(١٣) تندى: من الندى أي: مبتلة بالماء. نضارة: حسنًا وبهاءً ورونقًا. طيب: رائحة العطر. تفتر: تفصح وتظهر. بسم: ابتسام وبشاشة.
(١٤) أنفس: أثمن. أزاهر: النبات المزهر. يبعثرها: ينثرها.
(١٥) الغار: الوسام. إباء: عزة.
(١٦) العقم: عدم الإنجاب.
(١٧) نوازع: مشاعر. طغين: جاوزن الحد. الكتم: الكتمان.
(١٨) الآذى: الموج. جرجرة: صوت. لجة اليم: ماء البحر العظيم.
(١٩) صدع: كسر، شق. عوفين من ثأم: سلمن من الخلل.
(٢٠) القرطاس: الورق.
(٢١) في إذن النجم: الصوت يصعد إلى مكان النجم في السماء.
(٢٢) أصاخ: استمع. الصم: الذين لا يسمعون. جحدوها: أنكروها.
(٢٣) أزيز النار: صوت النار المشتعلة. نبراتها: صوتها. الجزم: القطع.
(٢٤) تمهيد: تتحرك إلى أسفل. أرجاء الفضاء: نواحي الفضاء. الزحم: التزاحم.
(٢٥) الوكز: الدفع.
(٢٦) ألق: أجد. مسلكًا: طريقًا.
(٢٧) المنى: الأماني. صاغها: صنعها. لثم: تقبيل.
(٢٨) رمت: أردت.
(٢٩) سنا الله: نور الله. قطوب: عبوس. جهم: كالح الوجه.
(٣٠) قمين: جدير.
(٣١) الجلَّى: كشف عظائم الأمور. غياثها: منقذها. اللجم: مقود الخيل.
(٣٢) مفاضة: الدرع الواقي. تأبه: تعبأ، تهتم.
(٣٣) تصول: تهاجم. تستل نابه: تخلع أسنانه أي: تبطل شره كما تنزع أنياب الثعبان فيبطل سمه. تصدع: تشق وتقطع. غاشية الظلم: غطاء الجور.
(٣٤) ترفع صدرًا: الصدر هو أول الشيء. حصنًا: مانعًا. موئلًا: ملاذًا. الأطم: الخطر.
(٣٥) الرماء: الرماية. وفي البيت اقتباس من القرآن الكريم من الآية: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ صدق الله العظيم.
(٣٦) يصمي: يصيب.
(٣٧) الغر: الغراء. جحفلًا: جيوش. طلائعه: أوائله. البيض: السيوف. الدهم: الخيل.
(٣٨) زأر: صوت الأسود. الضراغم: الأسود. الأجم: الغابة كثيفة الشجر.
(٣٩) العنصرين: المسلمين والأقباط. الفصم: الفصل.
(٤٠) جنب: ناحية والمقصود أي شخص. ينام على أذى: يغفل عينيه وبه ضرر. ينام على الهضم: يغفل عينيه وهو مظلوم مهضوم الحقوق.
(٤١) الأسار: الأسر. استعصت: امتنعت. الحطم: التحطيم.
(٤٢) جل: عظم، كثر. يوصم: يدمغ. زهو: افتخار. عظم: كبر.
(٤٣) سعد: سعد زغلول باشا زعيم حزب الوفد. أم الكتاب: الفاتحة. بسم: يقصد بسم الله الرحمن الرحيم.
(٤٤) اللواحب: الواضحة. جليت: أظهرت وأبنت. القرم: السيد المهاب.
(٤٥) جاده: أعطاه ورواه. واكف: القطر والماء. السجم: السائل.
(٤٦) خلبًا: السحاب الذي لا مطر فيه. مصابيح السماء: المقصود النجوم. لا تهمي: لا تمطر.
(٤٧) الحلم: الأناة. القرار على الأذى: الصبر على الضرر. قرار الهون: الصبر على الذل والهوان. خلق الحلم: سجية الصبر.
(٤٨) شهوة الدنيا: ما يحب ويشتهى في الدنيا. دهت: أصابت. غدا: أصبح. الفدم: الغبي العيي.
(٤٩) مونترو: بلدة بسويسرا وُقِّعت بها معاهدة ١٩٣٦م لمنح مصر استقلالها. وضيء الرأي: واضح الرأي. الحزم: الرأي.
(٥٠) الصيد: العظماء. المولى: الله سبحانه وتعالى. شداد: أقوياء. الخصم: العدو.
(٥١) بشاشات الحياة: مباهج الحياة.
(٥٢) لهواتهم: جمع لهاة وهي زائدة لحمية في سقف الحلق والمقصود حلوقهم. جنى النحل: حصاد النحل وهو العسل.
(٥٣) نصال سهام: حد السهام. حززن: قطعن.
(٥٤) يرمي: يوصف. الجفاء: التنكر والابتعاد. بالذم: ضد المدح.
(٥٥) منهج: طريق. سديد: صواب وموفق. أردى: قتل. بالمنطق الحسم: بالقول القاطع.
(٥٦) سؤلها: مطلبها. شأو المجد: غاية الشرف والمجد. موفورة السهم: تامة وكاملة النصيب.
(٥٧) قلا: أبغض وترك. غنمًا: الكسب. غرم: خسارة.
(٥٨) متضح الوسم: واضح الصفة التي يعرف بها.
(٥٩) أنظمت لؤلؤًا: جمع اللؤلؤ وصنع منه عقدًا، يقصد أنه جمع كلمات كاللآلئ ونظم منها شعرًا. نظمي: شعري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤