كلُّ بَيتٍ فيه سَعدٌ مَاثِل

نشرت هذه القصيدة حينما نقل رفات المغفور له سعد زغلول باشا إلى الضريح الذي أعد له في يونيه سنة ١٩٣٦م.

اكْشفوا التُّرْبَ عن الكَنْز الدفينْ
وارفعوا الستْرَ عن الصبح المبينْ١
وابعثوه عَسْجدًا مُؤْتلِقًا
زاد في لألائه طولُ السنين٢
وانتضوا من غمدِه سيفَ وَغًى
كان إن صال يَقُدُّ الدارعين٣
وقناةً جَلَّ من ثَقَّفها
للحِفاظِ المُرِّ والعزم المكين٤
لوتِ الدهرَ على باطله
وهي كالحقِّ صَفاةٌ لا تلين٥
هزمت جيشَ الأباطيلِ فما
غادرتْ غير جَريحٍ أو طعين٦
كتب الله على عامِلها
إنما الْخُلْدُ جزاءُ العاملين٧

•••

جدث ضمَّ سناء وسنا
ومصاص الطهر في دنيا ودين٨
طاعة الأملاك فيه امتزجت
في السموات بعز المالكين
فتشوا في الترب عن عزمته
وعن الإقدام والرأي الرصين
واخفضوا أبصاركم في هيبةٍ
إن رأت أبصاركم نور اليقين
واخشوا بالصمت في محرابه
أفصح الألسن صمت الخاشعين!
وانتحوا من قبره ناحيةً
واحذروا أن تزحموا الروح الأمين٩
وحنانًا بضريحٍ طالما
صقلته قبلات الطائفين
وجثت مصر به خاشعة
تذرف الدمع على خير البنين١٠
صيحةٌ قدْسِيَّةٌ إن سكتَتْ
فلها في مِصْرَ رَجْعٌ ورَنينْ١١
وعَرينٌ حَلَّ فيه ضَيْغمٌ
رحمةُ الله على لَيْثِ العرين!١٢
ومضاءٌ عَرَفَتْ مِصْرُ به
أنَّ للحقِّ يمينًا لا تمين١٣
لا أرَى قَبْرًا ولكني أرَى
صفحةً من صَفَحاتِ الخالدين
أو أراه قَصَبَ المجدِ الذي
دونه ينفق جُهْدُ السابقين
أو أراه عَلَمًا في فَدْفَدٍ
لمعتْ أضواؤُه للحائرين١٤
أو أراه روضةً إنْ نَفَحتْ
خَجِلَ الوردُ وأغْضَى الياسَمين١٥
أو أراه دَوْحَةً وارفةً
نَشَرَتْ أفياءَها للاجئين١٦
أو أراه قلبَ مصرٍ نابضًا
بِمُنًى تمحو من القلبِ الأنينْ

•••

نَقَلوا التابوتَ تَحْتَفُّ به
رَحَماتٌ من شمالٍ ويمين١٧
ذاك بَعْثٌ حَيِيَتْ مصرُ به
من جديدٍ، تلك عُقبى الصابرين!١٨
هل علمتم أنَّ مَنْ واريتُمُ
في حَنايا كلِّ مصريٍّ دفين؟١٩
ما لِسعدٍ خُفْرةٌ واحدةٌ
هو مِلءُ القلبِ، ملءُ الأرَضين٢٠
كلُّ بيتٍ فيه سعدٌ ماثلٌ
في إطارٍ من حَنانٍ وحنين
نظرةُ الرئْبالِ في نظرته
وانبلاجُ الحقِّ في ضَوْء الجبين٢١
وضعتْ مصرُ به آمالَها
فاستقرَّتْ منه في حِصْنٍ حصين
هو للأبناء علمٌ وأبٌ
وهو للآباء خِلٌّ وخَدينْ٢٢
كان سعدٌ عَلَمًا منفردًا
هل يُرَى للشمس في الأفْقِ تَنين؟٢٣
إنَّ أمَّ المجدِ مِقْلاتٌ فكم
سَوَّفَتْ بين جَنينٍ وجَنين!٢٤
تبخل الدنيا بآسادِ الشرَى
أيُّها الدنيا إلى كم تَبْخَلين؟٢٥
أنتِ قد أنجبت سعدًا بطلًا
وقليلٌ مثلَه مَنْ تلدين
وجدتْ مصرُ به واحدَها
ربَّ فَرْدٍ بأُلوفٍ ومئين!
ومن الناسِ نضارٌ خالصٌ
ومن الناس غُثاءٌ وغَرين٢٦
ومن الناس أسودٌ خُدَّرٌ
ومن الناس ذُبابٌ وطنينْ٢٧
قاد للمجد مناجيد الحمى
كلُّهم أرْوَعُ مُنْبَتُّ القَرينْ٢٨
تقرأُ الأقدامَ في صفحتِه
مثلَما تقرأُ خطَّ الكاتبين
كلَّما مرَّتْ به عاصفةٌ
زَعزَعٌ، مرَّت على طَوْدٍ ركين٢٩
تقرَعُ الأقدارُ منه عَزْمَةً
أنِفَتْ صخرتُها أنْ تستكين
يا بني الرُبَّانِ لا تستيئسوا
إنْ مضى الموتُ برُبانِ السفين
إنَّ سعدًا أخضع الريح لكم
والبقيَّاتُ على الله المعين
لاحتِ الفرصةُ في إبَّانِها
إنها لا تُرْتَجَى في كلِّ حين٣٠
فهلمُّوا فاقْنِصوا طائرَها
كلّكُمْ بالسبق والنصر قمين٣١
صَدَقَ الله تعالَى وعدَه
إنما الفوزُ ثواب المخلصين!

هوامش

(١) الستر: الحجاب.
(٢) العسجد: الذهب.
(٣) انتضوا: أخرجوا. وغى: الحرب. صال: وثب وجال. يقد: يشق ويقطع. الدارعين: لابسي الدرع والمراد المحاربين.
(٤) قناة: الرمح. ثقفها: سواها. للحفاظ المر: للمحافظة القوية.
(٥) لوت: أخضعت وألانت. صفاة: صخرة ملساء قوية.
(٦) جيش الأباطيل: جيش الكذب والبهتان.
(٧) عاملها: عامل الرمح: صدره الذي يركب فيه السنان.
(٨) جدث: قبر. سناء: الرفعة والشرف. سنا: الضوء. مصاص الطهر: خلاصته.
(٩) الروح الأمين: سيدنا جبريل.
(١٠) جثت: ركعت.
(١١) رجع: ترديد.
(١٢) عرين: بيت الأسد. ضيغم: الأسد. ليث: أسد.
(١٣) مضاء: نفاذ. يمينًا: قوة. لا تمين: لا تكذب.
(١٤) فدفد: الفلاة أو المكان المرتفع من الأرض.
(١٥) نفحت: انتشرت رائحتها الذكية. أغض: أدنى جفونه وأخفض من نظرته.
(١٦) أفياءها: ظلالها.
(١٧) تحتف به: تحيط به.
(١٨) عقبى: جزاء.
(١٩) حنايا: أضلع.
(٢٠) الأرضين: الأرض.
(٢١) الرئبال: الأسد. انبلاج: إضاءة.
(٢٢) خل: الصديق الودود. خدين: الصديق.
(٢٣) تنين: شبيه.
(٢٤) مقلات: قليل الولادة، سوفت: باعدت.
(٢٥) آساد الشرى: آساد الجبال.
(٢٦) نضار خالص: ذهب نقي. غثاء: ما يحمله السيل من قذر. غرين: طين يخالطه ماء.
(٢٧) خدر: جمع خادر يقال: أسد خادر: ملازم عرينه.
(٢٨) مناجيد: شجعان. منبت القرين: ليس لهم مثيل.
(٢٩) زعزع: متحركة. طود: جبل.
(٣٠) إبانها: حينها.
(٣١) طائرها: ثمرتها. قمين: جدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤