رثاء زعيم

أنشدت هذه القصيدة في حفلة تأبين المغفور له محمد محمود باشا بدار الأوبرا عام ١٩٤١م.

جُودِي بما شئتِ من ذوْبِ الأسَى جُودِي
أَوْدَتْ صُروفُ الليالي بابنِ محمودِ١
أَوْدَتْ بأشجعِ من حَفَّ الرَّعيلُ به
يومَ النِّضالِ، ومَنْ نادَى ومَن نُودي٢
أَوْدَتْ بمن تعرفُ الساحاتُ كَرَّتَه
إذا تنكَّبَ عنها كلُّ مَزْءود٣
ويشهدُ الحقُّ أنَّ الحقَّ في يدِه
سيفٌ يرُوعُ المنايا غيرُ مغمود٤

•••

دعته مصرُ وللأحداثِ مَلْحَمةٌ
والخطبُ ما بينَ تَهْدارٍ وتهديد٥
وأنفُسُ الناسِ في ضيقٍ وفي كمدٍ
كأنَّها زفرةٌ في صدرِ معمود٦
حيرَى تلوذُ بآمالٍ محطمةٍ
كما يلوذُ غريمٌ بالمواعيد٧
طارت شَعاعًا وهَوْلًا مثلما عصفت
هُوجُ الرياحِ برملِ البيدِ في البيدِ٨
والجوُّ أكْلَفُ، والدنيا مُقطِّبةٌ
أيامُها البيضُ من ليلاتها السّود!٩
ومصرُ ليس لها حِصْنٌ ولا وَزَرٌ
إلّا الغطاريفَ من أبنائها الصِّيد١٠
لها سلاحٌ من الإيمَان تشرَعُه
ينبو له كلُّ مصقولٍ ومحدود١١
فجاءها خالديَّ العزمِ في نفرٍ
شُمِّ الأُنوفِ صناديدٍ مناجيد١٢
من كلِّ أرْوعَ عُنوانُ الجهادِ به
قلبٌ ركينٌ، ورأيٌ غيرُ مخضود١٣
جاءوا يزاحمُهم عزمٌ وتفديةٌ
كما تصادم جُلْمودٌ بجلمود١٤
كأنَّهم حينما شدّوا لغايتهم
سهمُ المقاديرِ في قصدٍ وتسديدِ
صدُورهم بلقاء الهوْلِ شاهدةٌ
والطعنُ في الظهرِ غيرُ الطعنِ في الجِيد!١٥
جادوا لمصرَ وفدَّوْها بأنفسهم
«والجودُ بالنفسِ أقصَى غايةِ الجود»
كم هشَّم الدهرُ من سنٍّ ليعجُمَهم
ولم تزَلْ في يديْه نَضْرةُ العود١٦
إن الذي خلق الأبطالَ صوَّرهم
من ثَوْرة البحرِ أو بأسٍ الصياخيد١٧
يمشي الشجاعُ لحد السيف مُبتسمًا
ويرهَبُ الغِمدَ ذُعرًا كلُّ رِعْديد١٨
كم همّةٍ تفرَع الأجيالَ سامقةً
وهمةٍ ركدت بينَ الأخاديدِ١٩
وكم فتًى تسبِقُ الأيامَ وثبتُه
وللبطولةِ أُفْقٌ غيرُ محدود
وخاملٍ ما لآثارِ الحياة به
إلّا ورودُ اسمِه بينَ المواليدِ
وميّتٍ بعث الدنيا وعاش بها
ما كلُّ من ضمّه قبرٌ بملحود!٢٠
سبحانك الله، إن تحرم فتزكيةٌ
وإن تُثِبْ فعطاءٌ غيرُ محدود٢١
تعطِي النفوسَ على مقدارِ جوْهرِها
ما كان لليثِ منها ليس للسِّيد٢٢
والمجدُ عَزْمةُ أبطالٍ مسدَّدةٌ
بريئةُ النصلِ من شكٍّ وترديد
وللعلا من صفات الغِيدِ أنَّ لها
دَلًّا يُروِّعُ تقريبًا بتبعيد

•••

جاءوا إليك كموجِ البحرِ عُدَّتُهم
رأيٌ أصيلٌ، وصدرٌ غيرُ مفئودِ٢٣
فَقُدْتهم غيرَ هيّابٍ ولَا فَزعٍ
إلى لواءٍ بحبلِ الله معقود٢٤
تمشي بهم في فيافي الشوْكِ معتزمًا
من يطلب المجدَ لا يبخلْ بمجهودِ٢٥
لا يستبيك سوى مصرٍ ونهضتِها
فكل شيءٍ سواها غيرُ موجود٢٦
من يقصد النجمَ في عُلْيا سماوتِه
نأى بِجانبِه عن كلِّ مقصود
وراءك الركبُ في يأسٍ وفي أملٍ
لما يروْن، وتصديقٍ وتفنيد٢٧
تحنو على ضعفِ من طال الطريقُ به
حنانَ والدةٍ ثَكْلَى بمولود
وتلمَحُ الأفْقَ، هل بالأفْقِ من نبأٍ؟
وهل من الدهرِ إنجازٌ لموعودِ؟
وهل طيوفُ الأماني وهي حائرةٌ
تدنو بطيفٍ من الآمالِ منشود؟
وهل ترىَ مصرُ صُبحًا بعدَ ليلتها؟
وهل تقَرُّ عُيونٌ بعدَ تسهيد؟
وهل لمعتَقلٍ في البحرِ من أملٍ
في أن يَرَى قومَه من بعدِ تشريد؟٢٨
حتى بدت غُرَّةُ الدُسْتورِ عن كَثَبٍ
كما تبدَّى هلالُ العِيدِ في العيد٢٩
فأرسلتْ مصرُ بنتُ النيل من دمِها
وَردًا تَزينُ به هامَ الصناديد٣٠
وصفَّقت لحُماةِ الغِيلِ تُنشدُهم
من البطولةِ مأثورَ الأناشيد
والناسُ بينَ بشاشاتٍ وتهنئةٍ
وبينَ شكرٍ وتكبيرٍ وتحميد
جاء الزمانُ فلا قوْلٌ بممتنعٍ
على اللسانِ، ولا حرٌّ بمصفود٣١
وأشرقَ الصبحُ والدنيا مهلِّلَةٌ
كأنَّه بَسماتُ الخُرّدِ الغِيد٣٢
من ينصرِ الله لا جَوْرٌ يَحيدُ به
عن الطريق، ولا جَهْدٌ بمفقود!٣٣
سيكتُبُ الدهرُ، فليكتبْ! فليس يَرَى
إلا صحائفَ تشريفٍ وتمجيدِ

•••

نَمَتْ خلائقُه في بيتِ مَكْرُمةٍ
في سُوحِهِ المجدُ فينانُ الأماليد
بيتٌ دعائمهُ نُبْلٌ وتضحيةٌ
إذا بنى الناسُ من صخرٍ ومن شيد٣٤
وسار في سَنَن الآباء متَّئِدًا
أمرٌ مطاعٌ، ورأيٌ غيرُ مردود٣٥
وهمّةٌ تتأبَّى أن يُقال لها:
إن جازتِ النجمَ في مسعاتِها: عودِي٣٦
تجرَّدت لصعابِ الدهرِ واثبةً
وَيْلَ المصاعبِ من عزمٍ وتجريد٣٧
وفكرةٌ لو تمشّت نحوَ معضلةٍ
صَفَتْ مواردُها من كلِّ تعقيد
وعزَّةٌ نظرت للكونِ مِن شَرَفٍ
عالٍ، يَعِزُّ على رَقْيٍ وتصعيد٣٨
قالوا: هي الكِبْرُ، قلتُ: الكبر مَحْمَدةٌ
إذا تساميتَ عمّا بالعلا يوديِ٣٩
ترنو إليه فتُغضِي من مهابتِه
فالطرفُ ما بينَ موصولٍ ومصدود
خاض السياسةَ نفَّاذَ الذكاءِ فما
رأْيٌ بنابٍ، ولا عزمٌ بمكدود٤٠
فكم له وقفةٌ فيها مجلجِلةٌ
وكم مقامٍ عزيزِ النصر مشهود!
وكان خصمًا شريفَ الصدرِ مرتفعًا
عن الدنيّاتِ إنْ عادَى وإنْ عودي
فاسأل مُناصرَه، أو سَلْ مخالفَه
فليس فضلُ ابنِ محمودٍ بمجحود٤١
لمَّا رمَى زُخْرُفَ الدنيا وباطلَها
ألقتْ إليه المعالي بالمقاليد
خذِ الرثاء نواحًا ملؤُه شَجَنٌ
لم تبقَ بعدَكَ أدواحٌ لتغريدي!٤٢
ما في يدي غيرُ أوتارٍ محطَّمةٍ
يبكي لها العُودُ، أو تبكي على العودِ
وكلُّ جمعٍ إلى بَيْنٍ وتفرقةٍ
وكلُّ شملٍ إلى نأْيٍ وتبديد!٤٣
أمست تجاليدُه في جوْفِ مظلمةٍ
كم صَوْلةٍ وإباءٍ في التجاليد!٤٤
نَمْ ملء جفنيْكَ في رُحْمَى ومغفرةٍ
ووارفٍ من ظِلال الله ممدودِ
إنّ البطولةَ والأجسادُ فانيةٌ
تبقَى على الدهر في بعثٍ وتجديد
لم يَحْلُ منكَ مكانٌ قد تركتَ به
ما يملأُ الأرضَ من ذكرٍ وتخليد

هوامش

(١) أودت: ذهبت. صروف: نوائب وأحداث. ابن محمود: هو محمد محمود باشا وهو أحد رؤساء وزراء مصر السابقين.
(٢) حف: طاف به. الرعيل: الجمع.
(٣) الساحات: الميادين. كرته: هجومه. تنكب: مال. مزءود: مذعور، خائف.
(٤) يروع: يفزع. المنايا: الموت. غير مغمود: مسلول خارج الغمد.
(٥) ملحمة: معركة أو وقيعة عظيمة. الخطب: المصاب. تهدار: باطلًا.
(٦) كمد: حزن مكتوم. زفرة: تنفس. معمود: شديد الحزن.
(٧) تلوذ: تأوي. غريم: مغرم.
(٨) شعاعًا: منتشرة، متفرقة. هولًا: فزعًا. هوج: حمق. البيد. الصحراء.
(٩) أكلف: أسود. مقطبة: متجهمة.
(١٠) حصن: واق، حافظ. وزر: ملجأ. الغطاريف: السادة العظماء الشجعان، الكرماء. الصيد: الرؤساء المعتزون بأنفسهم.
(١١) تشرعه: تسنه. ينبو: يتجافى ويبعد. مصقول: سيف. محدود: ذو حد.
(١٢) خالدي: نسبة إلى البطل الإسلامي خالد بن الوليد. شم الأنوف: عالي الهمة. صناديد: شجعان. مناجيد: معينون.
(١٣) أروع: رجل يعجبك. عنوان الجهاد به: يعرف به الجهاد. قلب ركين: قلب له أركان عالية أي: قوي. غير مخضود: غير مقطوع أو مكسور أي: سديد.
(١٤) تفدية: فداء. جلمود: صخر.
(١٥) الجيد: العنق.
(١٦) سن: عمر. ليعجمهم: يسكتهم فلا يسمع لهم صوت. نضرة العود: رونقه.
(١٧) بأس: شدة. الصياخيد: الصخور.
(١٨) رعديد: جبان.
(١٩) تفرع: تزداد علوًّا، أعلا من. ركدت: سكنت وهدأت. الأخاديد: الشقوق المستطيلة من الأرض.
(٢٠) بعث الدنيا: أحياها بعد موتها.
(٢١) تزكية: إصلاح. تثب: تجزى. محدود: لا حدود له.
(٢٢) جوهرها: لبها وما بداخلها. الليث: الأسد والمقصود عظماء الرجال. السيد: العوام.
(٢٣) مفئود: من أصيب فؤاده أي: الخائف الجبان.
(٢٤) لواء: علم. معقود: موصول.
(٢٥) فيافي الشوك: الصحراء الممتلئة بالشوك والمراد السبل الصعبة.
(٢٦) لا يستبيك: لا يستهويك.
(٢٧) تفنيد: تكذيب.
(٢٨) معتقل في البحر: المقصود زعماء مصر الذين نفاهم الإنجليز.
(٢٩) غرة: أول.
(٣٠) هام: رأس. الصناديد: الشجعان.
(٣١) مصفود: مقيد.
(٣٢) الخُرد: ذات الحياء. الغيد: المرأة الشابة الحسناء.
(٣٣) جور: ظلم.
(٣٤) شيد: ما طلي به.
(٣٥) سنن الآباء: شريعة الآباء. مئتدًا: متمهلًا.
(٣٦) تتأبى: تأنف وتمتنع.
(٣٧) تجردت: استعدت وتهيأت.
(٣٨) رقي: ارتقاء.
(٣٩) تساميت: علوت. يودي: يقتل.
(٤٠) نفاذ الذكاء: حاد الذكاء. بناب: بعيد. بمكدود: متعب.
(٤١) بمجحود: بمنكر.
(٤٢) أدواح: الشجر الكبير ذو الأفرع الكثيرة.
(٤٣) بين: فراق. نأي: بعد.
(٤٤) التجاليد: جسم الإنسان وأعضاؤه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤