يَومُ السَّلَام

نشرت هذه القصيدة في صباح إعلان انتهاء الحرب العالمية الثانية في أوائل مايو سنة ١٩٤٥م.

داعِبِ الشرقَ باسمًا وسعيدًا
وائتلِقْ يا صباحُ للناسِ عِيدا١
نَسِيَتْ لحنَها الطُّيور فصوِّرْ
لِبَنَاتِ الغُضُونِ لحنًا جديدًا٢
فزَّعتْها عن الرياضِ خَفافيـ
ـشٌ تَسُدُّ الفضاءَ غُبْرًا وسُودًا٣
ألِفَتْ مُوحِشَ الظلامِ فودَّتْ
أن تبيدَ الدنيا وألَّا يَبيدا
فاسجَعي يا حمامةَ السلْمِ للكو
ن، وهُزِّي أعطافَه تغريدا٤
غرِّدي فالدموعُ طاح بها البِشـ
ـرُ، وأضحى نَوْحُ الثَّكالَى نشيدا٥
واسمَعي! إنَّ في السماء لحُونًا
أسَمَعْتِ الترتيلَ والترديدا؟٦
كلَّما اهتزَّ للملائكِ صَوتٌ
رجَّعته أنفاسُنا تحميدا٧
رنَّةُ النصر في السماواتِ والأر
ضِ، أعادتْ إلى الوجودِ الوجودا
مَوْلِدٌ للزمان ثانٍ شهدْنا
ه، فيا مَنْ رأى الزمانَ وليدا!

•••

سكن السيفُ غِمْدَه بعد أنْ صا
لَ عنيفًا مُناجِزًا عِرْبيدا٨
ما احمرارُ الأصيلِ إلا دماءٌ
بقيتْ في يَدِ السماء شُهودا٩
طائراتٌ ترمي الصواعقَ لا تخـ
ـشى إلهًا، ولا تخافُ عبيدا
أجهدتْ في السُّرى خوافقَ عِزْريـ
ـلَ فرفّتْ من خَلْفهِنَّ وئيدا١٠
كلَّما حلَّقَتْ بأفْقِ مكانٍ
تركتْ فيه كلَّ شيءٍ حصيدا
كم سمِعْنا عَزيفَها من قريبٍ
فغدا الرأْيُ والسدادَ بعيدا١١
يلفَحُ الشيخَ والغلَام لَظاها
ويُصيبُ الشجاعَ والرِعْديدا١٢
كم وحيدٍ بين الرجامِ بكى أمـ
ـا، وأمٍّ بكتْ فتاها الوحيدا!١٣
مُدُنٌ كُنَّ كالمحاريبِ أمْنًا
ترك الْخَسْفُ دُورَهنَّ سُجودا١٤
وقُصورٌ كانت ملاعبَ أُنْسٍ
أصبحتْ بعد زَهْوهِنَّ لُحودا١٥

•••

لَهْف نفسي عَلَى دماءٍ زكيَّا
تٍ كَقطرِ الغمامِ طُهْرًا وجُودا!١٦
سِلْنَ من خَدِّ كلِّ سيفٍ نُضارًا
بعدما حَطَّم الحديدُ الحديدا١٧
لَهفَ نفسِي عَلَى شبابٍ تحدَّى
عَذَباتٍ الفِرْدَوْسِ زَهْرًا وعُودا!
لَهفَ نفسي والنارُ تعصِفُ بالجيـ
ـشِ فتلقاه في الرياح بَديدا!١٨
ذكَّرتْنا جَهنّمًا كلَّما أُلـ
ـقِيَ فَوْجٌ صاحتْ تُريدُ المَزيدا١٩
كالبراكين إنْ تمشَّتْ، وكالبحـ
ـر إذا جاشَ بالْحميم صَهُودا٢٠
وإذا الماءُ كان نارًا فَمَنْ يَرْ
جو لنارٍ إذا استطارتْ خُمودا؟٢١
أُمَمٌ تلتَقي صباحًا على المو
تِ لتستقبلَ المساءَ هُمودا٢٢
وفريقٌ للفتك يلقى فريقًا
وحُشودٌ للهَوْلِ تلقى حُشودا
كم حُطامٍ في الأرضِ كان عقولًا
ورمَادٍ في الْجَوِّ كان جُهودا!
وأمانٍ ونَشْوٍة وشَبابٍ
ذهبتْ مثلَ أَمسها لن تَعودا
قُبُلاتُ الحسانِ ما زلن في الخَدْ
دِ، فهل عفَّرَ الترابُ الْخُدودا؟
ووعودُ الغرامِ ماذا عراها
أغدتْ في الثَّرى الْخضيبِ وعيدا؟٢٣
كم دُموعٍ، وكم دماءٍ، وكم هَوْ
لٍ، وكم أنَّةٍ، تفُتُّ الكُبودا!٢٤
إنَّما الحربُ لعنةُ اللهِ في الأر
ضِ، وشَرٌّ بمَنْ عليها أريدا
صَدَّقَتْ ما رأى الملائكُ من قَبـ
ـلُ، وما كان قولهم تفْنيدا٢٥
إنَّ لله حكمةً دونَها العقـ
ـلُ فَخَلِّ المِراءَ والترديدا٢٦
كيف نصفو ونحن من عُنْصِر الطيـ
ـنِ، فسادًا وظلمةً وجُمودا؟

•••

ذَهَبَ الموتُ بالْحُقودِ فماذا
لو محوتم قبلَ المماتِ الْحُقودا؟
شهواتٌ تدمِّرُ الأرضَ كي تحـ
ـيا، وتجتاحُ أهلَها لتسودا!
وجنونٌ بالمُلْكِ يعصِفُ بالدنـ
ـيا، لكي يملِكَ القُبورَ سعيدا!
يذبح الطفلَ أعْصَلَ النابِ شيطا
نًا، ويحسو دَمَ النساء مَرِيدا!٢٧
ويُسَوِّي جَماجمَ الناسِ أَبْرا
جًا؛ ليبغي إلى السماء صُعودا!
قد رأينا الأُسودَ تقنَعُ بالقُو
تِ، فليتَ الرجالَ كانت أسودا!

•••

قُتِلَ العلمُ، كيف دبّر للفَتـ
ـكِ عَتَادًا، وللدَمارِ جنودا!
فهو كالخمر تَنْشُرُ الشرَّ والإثـ
ـمَ وإنْ كان أصلُها عُنقودا!
أبدعَ المهلكاتِ ثم توارَى
خلفَها يملأُ الوَرى تهديدا٢٨
مادتِ الراسياتُ ذُعْرًا وخَفَّتْ
مِنْ أفانينِ كَيْدِه أنْ تميدا٢٩
وقلوبُ النجوم ترجُفُ أن يجـ
ـتازَ يومًا إلى مَداها الْحُدودا٣٠
مُحْدَثاتٌ عزّتْ على عقلِ إبليـ
ـسَ فعَضَّ البنانَ فَدْمًا بليدا٣١
عالِمٌ في مكانِه ينسِفُ الأر
ضَ، وثانٍ يحُزُّ منها الوَريدا٣٢
حَسْرَتا للحياةِ! ماذا دهاها؟
أصبح الناسُ قاتلًا وشهيدا

•••

أصحيحٌ عاد السلامُ إلى الكو
ن، وأضحى ظِلًّا به ممدودا؟
ورنينُ الأجْراسِ يصدَحُ بالنصـ
ـر، فيا بِشْرَهُ صباحًا مَجيدا!
سايَرَتْها قلوبُنا ثم زِدْنا
فأضَفْنا لشَدْوِهنّ القصيدا!
رَدِّدي رَدِّدي ترانيمَ إسحا
قَ، وهُزِّي الحسانَ عِطْفًا وجِيدا٣٣
أنتِ صُورُ الحياةِ قد بَعَثَ النا
سَ، وكانوا جماجمًا وجُلودا٣٤
قد سئِمْنا بالأمْسِ صَفَّارةَ الإنـ
ـذارِ والوَيْلَ والعذابَ الشديدا
ردِّدي صوتكِ الحنونَ طويلًا
وابعَثِي لحنَك الطروبَ مديدا
واهتِفي يا مآذِنَ الشرقِ بالله
ثناءً، وباسمِه تمجيدا
واسطَعي أيها المصابيحُ زُهْرًا
واجعَلي شوقَنا إليك وَقودا٣٥
قرَّتِ النفسُ واطمأنَّتْ وكانت
أملًا حائرَ الطريقِ شَريدا٣٦

•••

ليت شعري ماذا سنجني من النصـ
ـرِ وهل تصدُقُ الليالي الوُعودا؟
وهل «الأربعُ الروائعُ» كانت
حُلْمًا، أو مواثِقًا وعُهودا؟٣٧
وهل انقادتِ الممالكُ للعد
لِ، فلا سيِّدًا تَرى أو مَسُودا؟
وهل الحقُّ صار بالسلمِ حقًّا
وأذابَتْ لظَى الحروبِ القُيودا؟
وهل العُرْبُ تستردُّ حماها
وتُناجي فِرْدَوْسَها المفقودا؟
وَترى في السلامِ مجدًا طريفًا
جاء يُحْيي بالأمسِ مجدًا تليدا؟
بذَلتْ مصرُ فوق ما يبذُلُ الطَّوْ
قُ، وقد يُسْعِفُ النديدُ النديدا
في فيافِي صَحْرائِها لَمَعَ النصـ
ـرُ، وولَّى «رُوميلُ» يعْدو طريدا٣٨
فهي إذْ تنثُرُ الورودَ تُناغي
أملًا ضاحكًا يفوقُ الورودا
وهي ترجو، لا، بل تريدُ، وأَجْدِرْ
بابنةِ النيلِ وَحْدها أنْ تُريدا!

هوامش

(١) ائتلق: أشرق.
(٢) بنات الغصون: فروع الشجر اللينة الصغيرة. أو الطيور.
(٣) فزعتها: أخافتها. خفافيش: طيور ليلية والمراد بها الطائرات المغيرة ليلًا.
(٤) اسجعي يا حمامة: رددي صوتك بالغناء من أجل السلام. أعطافه: جوانبه.
(٥) طاح بها: ذهب بها. نوح: البكاء. الثكالى: النساء اللاتي فقدن أبناءهن.
(٦) لحونًا: أناشيد.
(٧) رجعته: أعادته. تحميدًا: شكرًا وثناءً.
(٨) سكن السيف: هدأ السيف في جرابه. عربيدًا: مؤذيًا.
(٩) احمرار الأصيل: ظهور الشفق الأحمر في السماء قرب الغروب.
(١٠) السرى: السير ليلًا. خوافق: أجنحة. عزريل: سيدنا عزرائيل ملك الموت. وئيدًا: بطيئًا.
(١١) عزيفها: صوتها.
(١٢) يلفح: يحرق. لظاها: لهيبها. الرعديد: الجبان.
(١٣) الرجام: الأحجار المتناثرة الضخام.
(١٤) المحاريب: جمع محراب وهو مكان الإمام من المسجد والمقصود المساجد.
(١٥) لحودًا: قبورًا.
(١٦) لهف نفسي: حزن نفسي وحسرتها على ما أريق من دماء.
(١٧) سلن: من سال. نضارًا: الذهب.
(١٨) بديدا: مبددا.
(١٩) إشارة في البيت إلى الآية القرآنية الكريمة: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ.
(٢٠) جاش بالحميم: غلى ماؤه فصار حارًّا. صهودا: شدة الحرارة.
(٢١) خمودا: سكون لهب النار.
(٢٢) همودا: الأرض التي لا نبات فيها والمقصود لا حياة بها.
(٢٣) عراها: أصابها. الثرى الخضيب: التراب الملون بالحمرة ويقصد بها هنا الدماء.
(٢٤) أنة: التألم بصوت. تفت: تشق.
(٢٥) ما كان قولهم تفنيدًا: ما كان قولهم كذبًا. ويشير الشاعر إلى الحديث الذي دار بين رب العزة والملائكة في سورة البقرة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ صدق الله العظيم.
(٢٦) خل: اترك. المراء: الجدل في الحديث.
(٢٧) أعصل الناب: معوج في صلابة. يحسو: يشرب بنهم. مريدًا: شديدًا عاتيًا.
(٢٨) توارى: اختفى. الورى: الدنيا.
(٢٩) مادت: تحركت وذهبت. الراسيات: الجبال الشوامخ.
(٣٠) ترجف: تضطرب خوفًا من العلم أن يصل إليها، ونشير هنا إلى رؤية الشاعر لما حدث الآن من اجتياز العلم للفضاء.
(٣١) محدثات: أشياء جديدة. الفدم: العييّ عن الكلام وقلة الفهم.
(٣٢) يحز: يقطع. الوريد: العرق الذي يجري فيه الدم.
(٣٣) ترانيم: غناء. إسحاق: هو إسحاق الموصلي المغني العربي العظيم. عطفًا: الجانب. الجيد: العنق.
(٣٤) الصور: البوق.
(٣٥) زهرًا: متلألئة مشرقة.
(٣٦) قرت النفس: سكنت وهدأت. حائر الطريق: غير مهتد لسبيله.
(٣٧) الأربع الروائع: الحريات الأربع في ميثاق الأطلنطي.
(٣٨) فيافي: الصحراء الممتدة الشاسعة. روميل: أحد قادة الألمان في الحرب العالمية الثانية، وهزم في معركة العلمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤