الجامعة العربية

أنشدت هذه القصيدة في حفل حاشد أقيم بالقاهرة تكريمًا لزعماء الأقطار العربية سنة ١٩٤٤م، بمناسبة إنشاء جامعة الدول العربية بالقاهرة.

سَنا الشرقِ، من أيِّ الفراديس تَنْبعُ؟
ومن أيِّ آفاقِ النُّبوَّةِ تلمَعُ؟١
وفي أيِّ أطواء القُرونِ تنقَّلتْ
بمصباحِكَ الدنيا يشُبُّ ويسطَعُ٢
طلعتَ على الأهرام والكونُ هامدٌ
وأشرقتَ بالإلهام والناسُ هُجَّع٣
طلعتَ شُعاعًا عبقريًّا كأنَّما
من الحقِّ أو نورِ البصائرِ تطلُع٤
وجمَّعتَ أسرارَ العقولِ فهل دَرَتْ
مخابئُ فِرعونٍ بما كنتَ تجمَع؟٥
وجمَّلتَ أفْقَ الشرقِ والأرضُ كلُّها
سُهوبٌ تضلُّ العينُ فيهنَّ بَلْقَع٦
أذاك ابتسامُ الغِيد ما أشرقتْ به
ثناياكَ، أم زَهْرُ: الرُّبا المتضوِّعُ؟٧
رأيتَ ابنَ عِمْرَانٍ على الطُّورِ شاخصًا
يُهيبُ به الوحيُ الكريمُ فيسمَع٨
وأبصرتَ عيسَى ينشُرُ الرفْقَ والرضا
ويستَلُّ أحقادَ القلوبِ وينزعُ٩
وشاهدتَ وَسْطَ الجَحفَلَيْنِ مُحمدًا
وبين هُدى الإيمان والشركِ مَصْرَع١٠
إذا صال فالدنيا مَجَرُّ رِماحِه
وإنْ قال فالأيامُ عَيْنٌ ومسْمَع١١
ألم تَرَهُ في بُرْدَةِ الليلِ ساجدًا
ومنه دُروعُ الروم حَيْرَى تَفْزَّع؟!١٢

•••

سنا الشرق، أشرق وابعث النور ساطعًا
يشُقُّ دياجير الظلام ويصدَع١٣
أعد شمسَك الأولى إلى الأفْقِ مثلما
أعاد ضياءَ الشمسِ للأفْقِ يُوشَع١٤
نزَفنا دموعَ المقلتين تفجُّعًا
فهل مرةً أجدى علينا التفجُّع؟
وعشنا بآمَالٍ كأطيافِ نائمٍ
يُروِّعها من دهرِنا ما يُروِّع١٥
شعاعُك تاريخٌ، ونورُك حِكمةٌ
ولمحُك آمَالٌ، ونهجك مَهْيَع١٦
إذا ضيَّع التاريخَ أبناءُ أمّةٍ
فأنفُسَهُم في شِرْعَةِ الحقِّ ضيَّعوا!١٧
أبَى الدَّهرُ أنْ ينقادَ إلَّا لَعْزمةٍ
يخِرُّ لها الدهرُ العَتِيُّ ويخنَع١٨
وسرُّ العلا نفسٌ كما شاءتِ العلا
طموحٌ، ورأيٌ من شَبا السيفِ أقْطع١٩
وَمنْ يتجنَّبْ في الحياة زحامَها
فليس له في ساحةِ المجدِ مَشْرَعُ!٢٠

•••

خُذي مصر أسبابَ السماء لموطنٍ
من العزِّ لا يسمو إليه التطلع٢١
سحرتِ عيونَ الخافقيْنَ كأَنَّما
بأرضِك سحرٌ للفراعين مُودَع٢٢
قَبابٌ ترومُ السُّحْبَ إدراكَ شأوِها
ومن دونه أعناقُهنّ تَقَطَّع!٢٣
وآثارُ عِرفانٍ تُضيءُ كأنَّما
تناثر حول النيل عِقْدٌ مُرَصَّع
دعُونا نباهي بالحياةِ فطالما
طوَى أمَم الشرقِ الحياءُ المُقَنَّع!٢٤
خلعنا رِداءً رَثَّ من طُولِ لُبْسِه
وكُلُّ رداءٍ رثّ باللّبْس يُخْلَع٢٥
صحا الشرقُ وانجاب الكَرَى عن عيونه
وليس لمن رام الكواكبَ مَضْجَع!٢٦
إذا كان في أحلام ماضيه رائعًا
فنهضتُه الكُبْرى أجلُّ وأروع!
توحّد حتى صار قلبًا تحوطه
قلوبٌ من العُرْبِ الكرام وأضلُع
وأرسلها في الخافقيْنِ وثيقةً
لها الحبُّ يُمْلي والوفاءُ يوقِّعُ
لقد كان حُلْمًا أن نرى الشرقَ وَحْدةً
ولكن من الأحلامِ ما يُتَوقَّع
إذا عُدِّدتْ راياتُه فهي رايةٌ
وإنْ كثُرتْ أوطانُه فهي موضع
فليست حدودُ الأرض تفصِلُ بيننا
لنا الشرقُ حدٌّ، والعُروبةُ مَوْقِع
تذوبُ حُشاشاتُ العواصمِ حسرةً
إذا دَمِيَتْ من كفِّ بغداد إصْبع!٢٧
ولو صُدِعَتْ في سَفح لُبنانَ صخرةٌ
لدكَّ ذُرا الأهرام هذا التصدُّعُ!٢٨
ولو بَرَدَى أنَّتْ لخطبٍ مياهُه
لسالتْ بوادي النيلِ للنيل أدمُع!٢٩
ولو مَسَّ رَضْوَى عاصف الريح مَرَّةً
لباتت له أكبادُنا تتقطَّع!٣٠
أولئك أبناءُ العُروبة ما لهم
عن الفضلِ منأى، أو عن المجد منْزَع٣١
هُمُ في ظِلالِ الحقِّ جمعٌ موحدٌ
وعند التقاء الرأي فردٌ مُجمَّع
وقد يُدرِكُ الغاياتِ رأيٌ مُدرَّع
إذا ناءَ بالأمر الكَمِيُّ المدرَّع٣٢
لهم أملٌ لا ينتهي عند مطلبٍ
لقد ذَلَّ من يُعطَى القليلَ فيقنَع
غُبارُ رحَى الهيجاء في لَهَواتِهم
من الشهْدِ أحْلَى، أو من المسكِ أضْوَع٣٣
إذا لم يكن حِلْم الحليمِ بنافعٍ
فإنّ صِدامَ الجهلِ بالجهلِ أنفع!
سلوا عنهُمُ عَمْرًا وسَعْدًا وخالدًا
ومُلْكًا له يرنو الزمانُ فيخشَع٣٤
تحدَّثتِ الدنيا بهم في شبابِها
وجاءت إلى أبنائِهم تتطلَّع

•••

فيا زعماءَ الشرق، والشرقُ أمَّةٌ
على الدهرِ لا تفنَى ولا تتضعَضَعُ
نزلتم كأطيافِ الربيعِ بشاشةً
يُضاحِككُم من روض النيلِ مُمرّع٣٥
وخلَفتُمُ أهلًا كرامًا وأرْبُعًا
فحيّاكم أهلٌ كرامٌ وأرْبُع٣٦
هنا عَلَمُ الشرقِ الذي في يمينكم
ستعنو له الأيامُ والدهرُ أجْمَع!
فسيروا بحمدِ الله للحقِّ عُصْبةً
وإنْ أسرعتْ دُهْمُ الليالي فأسرعوا٣٧
ففي همَّةِ الفاروقِ أفياءُ عِزَّةٍ
وركنٌ على اللأْواء لا يتزعزع٣٨
دعانا إلى الجُلّى فأكْرِمْ بمنْ دعا
إلى الوَحْدَةِ الوُثْقى وأعْزِز بمَنْ دُعوا!٣٩
مليكٌ له عزمٌ هو السيفُ ماضيًا
ورأيٌ إذا ما أظلم الشكُّ ألْمَع٤٠
أعاد إلى الشرقِ الشبابَ وقد مضَى
وأَيأسُ ما يُرجَى الشبابُ المودَّعُ٤١
فلا زال دَوْحًا للعروبة وارفًا
يُغَنِّي بِذكْراه الزمانُ ويسجَع٤٢

هوامش

(١) سنا: ضوء. الفراديس: جمع فردوس، الجنة. آفاق النبوة: نواحي النبوة وفي البيت إشارة إلى أن الشرق مهبط الرسالات السماوية.
(٢) أطواء القرون: مرور السنين. يشب: يوقد. يسطع: يلمع ويضيء.
(٣) هامد: ساكن. الإلهام: الوحي. هجع: نائمون ليلًا.
(٤) شعاعًا: من الضوء. عبقريًّا: عجيبًا وهو نسبة إلى أرض الجن وتسمى عبقر كما يقال.
(٥) فرعون: اسم حكام مصر القديمة.
(٦) سهوب: جمع سهب (بالفتح) وهو الفلاة. بلقع: الأرض القفر التي لا شيء بها.
(٧) المتضوع: المنتشر الرائحة.
(٨) ابن عمران: سيدنا موسى عليه السلام. الطور: جبل الطور المشهور بسيناء. شاخصًا: فاتحًا عينيه.
(٩) يستل: يخرج.
(١٠) الجحفلين: يقصد المجموعتين. الشرك: الإشراك بالله. مصرع: مقتل.
(١١) صال: وثب وهاجم. مجر: مسار.
(١٢) بردة: كساء أسود تلبسه العرب. تفزع: خائفة.
(١٣) دياجير: شدة الظلام. يصدع: يفرق ويشتت.
(١٤) يوشع: هو سيدنا يوشع فتى سيدنا موسى — عليهما السلام — وجاءته النبوة بعد موسى ووعده الله بالانتصار على القوم الجبارين قبل غروب الشمس وقاربت الشمس على الغروب ولم يحدث، فدعا ربه فأخر الله غروب الشمس وأنزل الملائكة تحارب معه حتى انتصر عليهم.
(١٥) أطياف: الخيال في النوم. يروعها: يخيفها.
(١٦) نهجك: طريقك. مهيع: طريق واسع بين.
(١٧) شرعة الحق: شريعة الحق.
(١٨) ينقاد: يتبع. عزمة: عزيمة وإرادة. يخر: يسقط ويقع ويستسلم. العتي: القاسي المعتدي. يخنع: يخضع.
(١٩) شبا: حد طرفه.
(٢٠) مشرع: مورد الماء.
(٢١) أسباب السماء: نواحي وطرق السماء. المتطلع: الناظر إلى الأمام، الطموح.
(٢٢) الخافقين: أفقا المشرق والمغرب؛ لأن الليل والنهار يخفقان فيهما. الفراعين: لقب ملوك مصر القدماء. مودع: محفوظ.
(٢٣) تروم: تريد. شأوها: غايتها وأمدها.
(٢٤) المقنع: واضعًا قناع يقصد الحياء الزائف.
(٢٥) رث: بالي.
(٢٦) الكرى: النوم. رام: أراد. مضجع: موضع النوم.
(٢٧) حشاشات: موضع القلب من الجسم. دميت: أصيبت بالجراح.
(٢٨) صدعت: تشققت. دك: كسر وهدم. ذرا: قمم، أعالي.
(٢٩) بردى: نهر بسوريا.
(٣٠) رضوى: جبل رضوى الشهير بالحجاز.
(٣١) منأى: مكان بعيد. منزع: مقتلع الشيء من مكانه.
(٣٢) مدرع: محمي، مستعد. ناء: كل وتعب. الكمي: الشجاع المحارب. المدرع: لابس درع الحرب.
(٣٣) رحى: حومة. الهيجاء: الحرب. لهواتهم: جمع لهاة وهي الزائدة اللحمية في مؤخر سقف الحلق يقصد في حلوقهم. أضوع: منتشر الرائحة.
(٣٤) عمرًا: عمرو بن العاص. سعد: سعد بن أبي وقاص. خالد: خالد بن الوليد والثلاثة من أشهر قواد العرب في الحروب في فجر الإسلام. يرنو: ينظر. يخشع: يخضع.
(٣٥) أطياف الربيع: أحلام الربيع. بشاشة: بشرًا وسرورًا. ممرع: كثير المرعى أي: به خضرة.
(٣٦) أربعًا: جمع ربع وهو الحي — المكان — محل.
(٣٧) عصبة: جماعة. دهم: ظلمة.
(٣٨) الفاروق: فاروق ملك مصر حينئذ. أفياء: ظل. اللأواء: الشدة.
(٣٩) الجلَّى: عظيم الأمور. أعزز: أكرم.
(٤٠) ماضيًا: حادًّا.
(٤١) المودع: الذاهب.
(٤٢) دوحًا: شجرة عظيمة. وارفًا: مظلًّا. يسجع: يتكلم كلامًا مقفى وسجع الحمام: صوت الحمام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤