الفصل التاسع عشر

مجلس الحكماء وضرب الأمثال الحسية للأمور العقلية

عند ذلك أشير عليَّ بالرياضة والنزهة في بعض نواحي الأرض الكوكبية مع فتى يرشدني جميل المُحيَا، حسن الشكل مرصع الحلل بالدرر الحسان، فمشى ومشيت، حتى إذا أشرفنا على معهد علمي، ونادٍ حكمي، يجتمع فيه حكماؤهم ويتناجى فيه شيوخهم، فألفيته مكانًا واسع الأرجاء، بديع البناء، مرفوعًا على العُمُد، وهو من جواهر عجيبة، تفوق ما نعرفه في أرضنا.

فمنها ما هو كالياقوت الأحمر، ومنها ما هو كالزبرجد الأخضر الزاهر، تكاد بهجتها تأخذ بالأبصار، ومنها ما هو كالعقيق وكالمرجان، ومنها ما هو الدر المشرق ضياؤه الزاهر إشراقه، وتلك العُمُد تختلف أطوالها باختلاف أوضاعها، إنها تحمل سقفًا مرفوعًا كالقبة السماوية، مشرقًا بالمصابيح المرتبة أوضاعها المزينة أشكالها، كوضع نجوم السماء وترتيبها وأحجامها المنظورة، وبينهنَّ مصباح أشبه القمر في تربيعه الأول قد استضاء نصف دائرته.

فلو رأيت ثَمَّ رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا، وتمثلت لك في ذلك السقف الأزرق مصابيح أشباه الثُّرَيَّا، وأخرى تشبه المجرَّة في استطالتها وبياضها، وترى فيها هيئة الدب الأصغر، وصورة الدب الأكبر، والنجمة القطبية.

فعلوا ذلك حتى لا يحجب عنهم نور العلم وإشراق الحكمة السماوية بسقف كوكبي، وترى تلك الأعمدة دقيقة مرصعة بالأحجار الكريمة، مرسومة بأحجار ثمينة، بهيئة أشكال هندسية، متداخلة، الصور متضارعة في الجمال، وكلما كان العمود أقرب إلى وسط القبة فهو أطول، وكلما تناءى عنها فهو أقصر، ومن رآها علم لأول وهلة أنها زينة للناظرين، وترى الحكماء في ذلك المكان على الكراسي جالسين، وقد أقبلوا إليه من كل حدب ينسلون، عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلل مرصعة بالجواهر واللآلئ والمرجان.

وكان رئيس الحكماء في وسط الجماعة وحوله الأول فالأول، وهم في روضة بهية، فلو رأيت ثَمَّ رأيت أشجارًا ذات أوراق بيض ناصعة، كأنهنَّ الدر المكنون، يتخللها أوراق حمر قليلات، لم أتبين، أهي أزهار أم أوراق، وتلك الأشجار صفوف منظمة تتبين تحتها فرشًا حمرًا قانية، وما أدري أذلك نبات متراكم، أم متاع منظم، وذلك في وسط محيط يشاكل القطع الناقص.

فلما نظرت في إحدى البورتين شاهدت أنواعًا من النبات حمرًا مختلفات الأشكال، وكلما قاربت الوسط آنست ما وصفناه من الأشكال الدرية، ذات الألوان البهية، ولقد سمعت خطب الحكماء، وما أدري ماذا كانوا يقولون، وقد كنت جالسًا في زاوية بحيث أراهم ولا يروني، ولكن لم يتسن لي أن أميز وميض النور المشرق من الحلل والجواهر، والدرر المرصعة المجلوة للناظرين، ولبثوا على ذلك ساعات متواليات.

وبينما أنا كذلك إذ قال لي صاحبي: لقد جاءني نبأ من الأستاذ الحكيم أنهُ سيبعث لك بتلميذه الأول ليلقي عليك العلم والحكمة، ويعلمك ما لم تكن تعلمه بمقدار استعداد قومك في أرضك.

وما أتم كلامهُ حتى جاء ذلك الرسول عليهِ ثياب خضر تشبه ثياب أهل الأرض، قليلة البهجة والزينة، فحياني وسلم عليَّ وآنسني، وأخذ يسمعني من صنوف الحكمة عجبًا مما يلائم طباعنا ويواتي أمزجتنا، إذ قال: لعلك تبينت الفرق بين زيي وزي هذا الجمع المحتشد؟ فقلت: نعم. فقال: إنهم أحسن بِزَّة وأبهج شكلًا ليتشاكل ما أوتيتَ من قليل الحكمة بما أزدانُ به من الملابس، ولتعلم أن الفرق بين الحكمتين الأرضية والكوكبية كالفرق ما بين البِزَّتين، وأن ما سمعته من الحكمة يسيرٌ بالإضافة إلى حكمتنا، كما أن ما لدينا من الحكمة قليل إذا قسناه بمن هم فوقنا قدرًا وعلمًا.

يقول لك أستاذنا: قل لأولي الألباب من أهل الأرض: إنكم امتزتم عن سائر نوع الإنسان بخاصة الذكاء والفطنة، وجعلتم في الأرض نورًا مضيئًا لتنقذوهم من الجهل المبين، فما مقامكم إلَّا أيام قلائل تبثون فيها الحكمة ثم ترحلون، وإنما مَثلكم في نوع الإنسان مثل الإنسان في أنواع الحيوان.

أولو الألباب كنجوم تشرق لتضيء على العالمين، وشموس تطلع ثم تغيب عن الناظرين، فلينقذوا نوع الإنسان من تهلكته، إن الإنسان لفي خسر عظيم، أولو الألباب أنزلوا إلى الأرض لقصد الإنعام على أولئك الأنعام الضالين، لا مقام للعقلاء في الأرض إلَّا ليصنعوا الجميل، ويرحموا الجاهل، والناس كلهم ظلوم جهول، فليرشدهم أولو الألباب للمحبة العامة، ليستخرجوا كنوز أرضهم، ويكونوا أمة واحدة، ولتصبح الكرة الأرضية كلها جنة دانية الجنى.

فالإنسان الحقيقي المستقبل من جمع بين الحس والمعنى، وجنى ثمرات الجنتين، هذا هو الصراط المستقيم.

ثم أخذ بيدي وسرنا حتى أشرفنا على واد فسيح أشبه الأمكنة بأرضنا، فاعترتني الوحشة، وأخذتني الدهشة، واستولت عليَّ الحيرة، وأحسست أني خرجت من النعيم إلى الجحيم، ومن السعادة إلى الشقاء المقيم.

وأول ما صادفني بيت فيه جرار مملوءة عسلًا مغطاة ظواهرها بأنواع الذباب المتكاثفة وهي تطن طنينًا. فقلت: ما هذا؟ فقال: هذه ضربت مثلًا لأحوالكم الاجتماعية، وأخلاقكم الحيوانية، فإن الرجل الفاضل يحيط به المذبذبون الذامون كما يحيط الذباب بجرار العسل، وما هي بضارة الجرار، ولا بناقصات العسل، ففي ذلك عبرة للمفكرين.

ثم انطلقنا إلى روضة خضراء كأنها مرج ابن عامر ببلاد الشام، فأبصرت عقربًا صفراء كأنها تل كبير، نائمة في مزارع البرسيم وهي تأكله أكلًا لَمًّا، وتطارد رجلًا من الزارعين، فعجبت لعظمة جسمها، وكيف تأكل البرسيم وهو ليس لها بطعام. فقلت: ما هذا؟ فقال: ذلك الرجل العظيم يبذر في عقول الشبان الحكمة والموعظة الحسنة فيؤذيه أعداؤه الأَلِدَّاء، حسدًا على فضيلته، وهو ناج إذا كان من المخلصين.

ثم انطلقنا، فرأيت رجلًا معممًا واقفًا وقد أحاطت به طيور سود من كل حدب تنسل، وهي تتعاوون على انتزاع عمامته بمناقيرها، وهو ممسك بها، فلا هي عن رأسه رفعتها، ولا هو مفرط في حفظها. فقلت له: ما هذا؟ فقال: هذا مثل الرجل العظيم عندكم، يحيط به الأعداء الحاسدون لينتزعوا شرفه، فإذا ثبت على أخلاقه ومبادئه فإنهُ من الفائزين.

ثم هجم عليَّ النوم. فقال: سأنصرف لشأني ومتى استيقظت حضرت لديك، فلما أن قمت من النوم ألفيتني بين مزارع نضرات، وحقول خضرات، ولا أنيس لي، والليل مُرْخٍ سُدُوله، مُتْمَطٍ بِصُلْبِه، نَاءٍ بكلكله، والنجوم زاهرة، وبينهنَّ نجمة مشرقة، صوب القطب الجنوبي، فاجتمع بنفسي ضدان؛ فرح بالجمال والأنوار، وخوف من وحدتي في الظلام، فما أسرع ما حضر صاحبي إليَّ، وسلم عليَّ، وقال: إن حالك الساعة أشبه بحال الحكماء في الأمم المقهورة، يفرحون بما آتاهم الله من حكمته، وما شرفهم به من النظر في جماله وخلقته، ويخافون من جهال السُّوَّاس الذي يبغضون الحكماء حسدًا لهم على مرتبتهم، وما كان لهم أن يطفئوا أنوار المصلحين.

فلما أن أشرقت الغزالة، وطلع النهار، ركبنا ذات ألواح ودُسُر شراعية في بحر لُجِّيٍّ، كأنها تسير من أرض المشارق إلى المغارب، وهي على الطراز الشرقي، تحمل قومًا ذوي منظر جميل، فاستوقف نظري أن رأيت نملًا يحيط بها من سائر جوانبها. فقلت: ما هذا التمثيل؟ قال: أما السفينة فالنجاة بالعلم، وأما الراكبون فهم العلماء، وأما النمل فهم رجال السياسة الصادقون، أولئك هم الذين يؤيدون العلماء المصلحين.

ثم رست بنا السفينة على جزيرة خضرة نضرة، فرأيت رجلًا واقفًا، وفوق الرءوس في جو السماء، طير أبيض كبير، مقدار جسم الإنسان، وقد نطق باسمه بلسان عربي مبين، فنادى ذلك الرجل عليهِ، فنزل إليه، فقبل الرجل جناحيه. فقلت: ما هذا؟ فقال: أما الرجل فمثال الحكماء والأنبياء، وأما الطير في جو السماء وما نطق باسم هذا الرجل، فمثال ذِكره الحَسن بين العالمين، وعموم علمه بين الشرقيين والغربيين، والله لا يضيع أجر المحسنين، فإن كنت في شك من ذلك فاسأل عن قصص يوسف الصديق النبي، كيف عفَّ عن الخَنَا، وصبر على السجن والأذى، وعلَّم الصعاليك المسجونين الأدب، ولم ينسلخ عن آدابه وفضله، وعفا عن إخوته الذين كانوا له حاسدين، فأوتي الملك والحكمة واليقين.

واسأل النبي محمدًا ، كيف صبر على أذى قريش، وكيف صفح عمن آذوه من الأقربين، وكيف أوتي الملك والشرف بين العالمين.

ثم مشينا قليلًا فإذا رجل جالس على كرسي، قد كبرت عينه كأنما هي كُرَة مصور الجغرافيا في المدارس قدرًا ورسمًا وهيئة، وما أدري كيف كان المنظر إذ ذاك، حسنًا مقبولًا لا مشوهًا مرذولًا، وهو ينظر في السحاب، والشمس قد توارت بالحجاب، وقد صبغته بدمها المطلول، وعَنْدَمِها المحلول، وكان السحاب قطعًا سودًا وبيضًا وصفرًا وحمرًا، على نسبة اقترابه من الشمس وابتعاده عنها، والنسمات لاعبات بأغصان النخيل والأعناب، ولها غوير، وصفير، ونفحات مطربات، وترى الأوراق تتصافح، والأغصان تتعانق، فَطَوْرًا تشبُّ إلى العلا، وطورًا تتدلى، وآونة تسكن النسمات، فتسكن الحركات، وتتقطع اللفتات، وسمعت الرجل يقول: «عجبًا لجمالك، وواهًا لصنعك وبهائك، زوَّقت السحاب، ولونت السماء، فوحق بهائك، وبديع جمالك، لألوننَّ قلوب الناس بالعلوم، أنت نظمت سماواتك، وزخرفت جناتك، ونصبت ميزانك، فلأنظمنَّ العلوم، ولأزيننَّ بها القلوب، ولأنصبنَّ ميزانًا عادلًا، به يقوم الناس بالقسط والعدل، ولأرفعنَّ به الفضيلة، ولأنزلنَّ الرذيلة إلى سِجِّين.»

وإذ ذاك، ظهر القمر ووضح نوره، والحشرات معنيات، في تلكم الخلوات، فنظر نظرة إليه، وقال: «هذا هو المجد الرفيع، والصنع البديع، ما للإنسان يبني، ويهدم الدهر بناءه، أعمار قصيرة، وأعمال كثيرة، تقضي عليها المهلكات، وتزيلها الموبقات، مجد داثر، وعمل بائر، وشرف فاتر، القمر عمل مجيد، ومجد قديم جديد، أين مجد الإنسان، إنما الجمال في السماوات، لا عز في الحياة الدنيا، إنما العز في البقاء، إنما حياتنا أشبه برسوم يقرؤها الصبيان، فإذا قرءوها أزالوها، إنما الحياة لعب ولهو وزينة، فلأصطفين من العمل ما يبقى نفعه، ويعظم وقعه، إننا نعلَّم في الأرض تمرينًا على الفضيلة، فإذا استحققنا الشرف أوتيناه.

إن النجوم والأقمار والشموس حروف كبيرة، تقرؤها أرواحنا الصغيرة لترتقي يومًا ما إليها، وترفع بالفضيلة والعلم فوقها.

ليست الأرض مستقرًّا لنا، فلننظمها لمن بعدنا، ليكون ذلك لنا مرانة، ولمن بعدنا سعادة، فنرفع إلى عليين، ويقفي أبناؤنا على آثارنا مهرولين.»

فعجبت لمقاله، وقلت لمن معي: من هذا الذي نراه؟ فقال: ذلك الرجل من أهل أرضكم، عقل الحكمة، وفكر في العالم، وقاس نظام الإنسان على نظام العالم، وحقر الدنيا في عينه، فأما عينه الكبيرة وما عليها من هيئة وزينة البلاد والأقاليم والبحار فذلك دلالة على إحاطته بالنوع الإنساني خبرًا، ونظره للناس كأنهم أمة واحدة، في بقعة واحدة، يتكلمون بلغة واحدة، وتلم شعثهم حكومة واحدة. فقلت: وهل هؤلاء يكثرون في الأرض؟ فقال: كلا بل يقلون، ألم ترَ إلى وحدة الشمس والقمر؟ وقد آن أوان أن يتعاقب أمثال هذا في أرضكم، حتى يهذبوا أممكم الجاهلة، ويضعوا لها حكومات عاقلة، صالحة.

فعجبت من مقاله، وقَرَرْت عينًا لتبيانه، وقلت: لمثل هذا فيلعمل العاملون.

•••

ثم انطلقنا، إذا قبة كبيرة، صيغت من الدر الكوكبي، تدور على نفسها، مجعولة نصفين، منقسمين متميزين، أعلى وأسفل، وهما يفترقان تارة ويجتمعان أخرى، ويبتعدان، ويقتربان، ويرتفعان وينخفضان، فلمحت باطنها إذا هو نور باهر، وضوء ساطع، وسمعت رنات الموسيقى، ونغمات الموسيقار، وكأنما النور المشرق فيها، قد مزج بالغناء، أو كان حركات الذرات الضوئية، تولد النغمات الصوتية، والرنات المثنوية والمثلثية مرتبة الداخل، مزينة بأجمال الأثاث وأفخر الرِّيَاش، فيها ما لم تره العيون، من طرائف الفرش وبدائع الجمال.

ولمحت فيها قومًا أعينهم في غطاء عن النظر للأنوار، وآذانهم في صمم عن استماع النغمات، وبينهم شاب جميل الطلعة، حسن الشكل، جميل المحيا، باسم الثغر، مبتهج القلب، ظاهرة على وجهه نضرة النعيم، وقد ألفيته ينظر إلى من حوله، وهم في كآبتهم وشقاوتهم جاثمون، فيزيل الغطاء عن العيون، وما كان أسرع انسدالها، ويأمرهم بالإصغاء إلى النغمات، وما كان أقرب أن تصم الآذان، وهم في الحزن خاشعون، فسألت صديقي: ما هذا المنظر العجيب؟ فقال: هذه القبة مثال هذا العالم الذي خُلقتم فيه، فإنه عند أولي الألباب، مصوغ من الجمال والحكمة والبهاء، وما يعقلها إلَّا العالمون، فصور للجاهل، وعبر عنهُ للغافل بالنور والموسيقى وأنتم في الأرض غافلون عن جماله، معرضون عن نظامه، فإن الجمال يحيط بكم، فمن فوقكم نور ونظام، ومن جوانبكم ترتيب وبهاء وجمال، وأما هؤلاء الذين أعينهم في غطاء، فهم أبناء جنسكم الآدميون، فإن هذا نبأ عظيم وبهاء أنتم عنهُ معرضون، وأما هذا الشاب، فإنه مثال الحكماء الذين أدركوا مزايا الجمال، وفهموا بعقولهم ما حولهم من الحسن والبهاء، فهم في الحياة فرحون، وبربهم واثقون، ولإخوانهم راحمون ومعلمون. فقلت: فصِّل ما أجملت، وأوضح ما ذكرت. فقال: اسمع الحكمة مني وخذ العلم عني.

(١) الزهرة والنَّحلة

شاهدنا نَحلة وقعت على زهرة. فقلت: ماذا تعني؟ فقال: أليس من العجب أن جَمُلت الزهر، المسماة «بالقزالية»، وصَغُرت النحلة، وأُلهمت العلم، فاشتارت العسل من تحت الأنابيب! ثم أنشأ يقول:

عجبتُ لنقش الزهر كيف تنوعت
بدائعه فيما يسمى قزاليه
محكمة الزوجين فيها غرائب
مدورة الصفين بالنظم حاليه
نقوش بديعات تريك دوائرا
بها نضرات بالمحاسن باهيه
دوائر بيضًا فوق سود كأنها
نجوم سماء بالعشيات زاهيه
وترنو إلى الشمس المنيرة بالضحى
وتغمض عينًا بالأصائل ساهيه
تقول وقد تاهت بفرط جمالها
من الشفق الغربي صِيغ جماليه
فما لرجال العلم عني أعرضوا
ومفتاح عقل العالمين ببابيه
وما لكمُ لا تفقهون محاسني
وقد أدرك الأعلام سر طباعيه
ثغور ابتسام في جمال وبهجة
وإسداء معروف لراجي عطائيه
وكم حشرات طائف طاف وفدها
فكان قِراها الشهد في سُوح داريه

(٢) البستان والسماء

ثم قال: ما أجهلكم بالجمال، وما أبعدكم عن الحكمة، وما أقربكم للجاهلين، خبرني رعاك الله، لو أن امرأً منكم خُيِّر بين النظر في السماء وجمالها، وبين التمتع بالنظر في البساتين وأزهارها، فأي المنظرين أجمل لديه؟ فقلت: البساتين. فقال: أتدري لماذا استبدلتم الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ قلت: كلا. قال: لأنكم لا تعرفون النعم إلَّا بامتناعها، ولا تحبون إلَّا ما كنتم عنهُ مبعدين، ثم نظر نظرة إلى السماء والنجوم وأنشأ ما ترجمته من الإنجليزية:

أضئ يا أيها النجم الصغير
فشأنك في غرابته كبير
وفوق رءوسنا أبدًا تسير
كمثل الماس رصع في السماء
إذا ما الشمس غابت في دجاها
وبلَّ النبت في الدنيا نداها
تُرينا الضوء يلمع في رُباها
أضئ يا نجم في غسق الدجاء
ظهرت بموكب وسط السماء
وتزجي النور منك على البناء
بناظرك المصوغ من السناء
فلا تخبو بغير سنا ذكاء
تضيء الأرض من أعلى سماها
وتهدي من يسافر في فناها
فماذا أنت يا باهي سناها
أضئ فالله خصك بالضياء

(٣) الهواء والغذاء

ثم قال: إنكم لا تعقلون نعمة الهواء، وتفهمون نعمة الغذاء، وخيرهما أولهما، وما حمدتم الله على الهواء، وحمدتموه على ما أعطاكم بعد منعٍ من الغذاء، فما أجهل أكثر العالمين!

(٤) الأطباء والمرضى

وعلى هذا المثال، الأطباء والمرضى، فترى الناس لجهلهم بالطب، وحكم هذا العالم البديع، يحقرون ما لا يعقلون من المنافع العجيبة في العقاقير الطبية التي تحيط بهم عن أيمانهم وشمائلهم وفي دورهم وحقولهم، فاضطر أطباؤكم أن يكتبوها بلغة لا يعقلها المرضى الجاهلون، وزينوا لهم أغشيتها، وزوقوها، ليقبلها أولئك الغافلون.

(٥) العلماء والجهال

وهكذا الجهال، لا يعقلون الحكم فيما يحيط بهم، وفيما يسمعون من الأحاديث والحكايات في سمرهم. فيضطر العلماء أن يسندوا القول لعظمائهم، ويرووه عن كبرائهم من سائر الملل والنحل، والأمم والأجناس، ثم يصوغونه في مقال جميل.

(٦) الأمم المغلوبة

وترى بعض المتعلمين من الأمم المغلوبة، يصمون آذانهم عما لم يسمعوه من الغالبين، كأن المدافع والعلم مقترنان، وتراهم يقلدونهم في حركاتهم وسكناتهم، وخمرهم ولهوهم، ولعبهم، يظنون أن غلبتهم لهم نتيجة هذه الشناعات، وعلوهم عليهم من أجل هذه المخزيات، فتبًّا لقوم لا يعقلون، وأفٍّ وتف لمن لا يفهمون.

(٧) الأصنام

كانت تنصب التماثيل وتقام الصور، رموزًا على المعاني، ودلالة على الفضائل، فجهل الناس مقصودها، واتخذوها آلهة فعبدوها، واجتمعوا حولها وقدسوها.

(٨) الرسل

فجاءت لكم رسل، نكسوا الأصنام، وأزالوا تلك الأعلام، ووجهوكم للتعقل والتفكير، والتعليم والتهذيب، فطالت عليكم الآماد، وقست القلوب، فعلقتم بالألفاظ فحفظتموها، وظننتم أنها تنجي في الدارين، وأنتم لا تعقلون لها معنى، ولا تفهمون لها مغزى، وصار أكثركم يدور كما يدور الحمار في رحاه، لا يجد عن المدار به محيصًا، وما من أمة إلَّا تداوت بكلمات كتابها المقدس فظنت مجرد التلاوة بلا تفكير منجية، وتعليق كتابها على الرأس شافية، وغفلتم عن شفاء عقولكم بالمعاني وسعادتكم في الدنيا بالتفكير.

(٩) الحكومات

ولَكَمْ نظمت لكم الحكومات، لتحفظ أمنكم، وترفع شأنكم وتَرْتُق فتْقكم، فظننتم في الملوك مثل ما كنتم تظنون في الأصنام، وانقدتم انقياد العميان، وخضعتم للظالمين، فأُفٍّ لهذا الإنسان.

•••

جهل الناس عجائب الرموز، وحكمة الظلمة والنور، والظل والحرور، جهلوا مزية الديانات ووقفوا عند ظاهر الكلمات.

ومَن جهل هذه الكائنات، وضل عن هذه المخلوقات، فأَحْرِ به أن يجهل سر نظام الحكومات، ألا فليعمَّ التعليم والتعقل في أنحاء الكرة الأرضية.

ألا فليعقل الناس ما حولهم، إن حياتكم اليوم عار وألف عار، أزيلوا ما لديكم من النظامات العتيقة الفاسدة، واستبدلوها بخير منها، فالعلم عجيب، والله سميع قريب، ونظام هذا العالم بديع، والعقل الإنساني شريف رفيع.

(١٠) الخمر والخراب

هل قرأت ما سطره الفرنسي هنري في الخمر، وعلاقته بالشرقيين؟ قلت: بلى إنهُ يقول: إن الخمر أمضى سلاح يحصد به نسل الشرقيين، وأنكى جيش يبيد الوثنيين والمسلمين، إنهُ ضعف الجسد، وموت العدد، وفقد المدد، وضياع البلد، ورِقُّ الولد، وذل الأبد، ثم أخذ بيدي وانطلقنا إذا رجل بيده زجاجتان إحداهما مملوءة بالنار، والأخرى بالماء. فقلت: ما هذا؟ فقال: هذا مثال الحاكم الأجنبي في الأمم الجاهلة، يسقي من زجاجة الماء أبناء بلاده، ومن زجاجة النار أبناء الأمة المحكومة، فيذيع الخمر، ويبيح الميسر لعلهم ينقرضون ويقلون، فما أجهل الرجلين، الغاش والمغشوش، هلا عرف هذا الحاكم الجهول أن الناس إخوان، هلا عرف أن الناس كجسد واحد، فتبًّا لجهال بني الإنسان، إنهم قوم طاغون، أنتم جهال بالجمال، وأكثر الناس في غفلة وجهل عظيم، صم، بكم، عمي، فهم لا يعقلون، ما أقبح سيرتكم وأضلكم يا بني آدم في العالمين.

(١١) الحروف الكبيرة والصغيرة

الناس لا يعقلون إلَّا الحروف الصغيرة، ولا يفقهون الكبيرة، لضعف فطنهم، وقلة فهمهم، وموت نفوسهم، الشمس والقمر والنجوم، والجبال والشجر والدواب، والبحار والسحاب والأنهار، وما فوقها وما تحتها، هذا لعمرك هو الحروف الكبيرة. لمَّا ضعف تعليمكم، قصرت عقولكم على الحروف الأبجدية، وكلماتها الرسمية، وظننتم أنكم بِالكون عالمون، وبما في الأرض والسماء محيطون، ولكن أكثركم عن الحقائق معرضون.

(١٢) الغراب والعود

ثم قال: انظر، فنظرت، إذا غراب يحمل عودًا يطير به في الجو إلى عش في شجرة في أعلى أغصانها، حيث الهواء جميل، والنسيم عليل. فقلت: ماذا تعني؟ فقال: هذه الطيور اتخذت من الأعواد والنسالة ودقائق الأشياء التي يحقرها الناس بيتًا مزخرفًا محصنًا بديعًا ناعم الباطن، أسكنت فيه أبناءها. فقلت: ماذا تريد بهذا؟ فقال: لو أن الناس عقلوا لبنوا لأنفسهم، وشيدوا لأرواحهم بيوتًا من الحكمة والفضيلة، فمرت عليها الحوادث مرور العواصف على عش هذا الطائر وأفراخه، الغراب في حرز حريز. فقلت: لكن المصائب مُرَّة المذاق كالفقر والفراق.

(١٣) الليل والنهار

فقال: ألست ترضى بنظام الليل والنهار، والظل والحرور، والموت والحياة، والحيوان والجماد، والزرع والحصاد، والبرِّ والبحر، والصحو والمطر، والسفر والحضر؟ فقلت: بلى، إني أعرف بعض حكمها. قال: مثل النفوس مثل الآفاق، تجمع الضدين، وتولد النقيضين، كالقبض والبسط، والحزن والفرح، والضيق والشدائد، والآلام واللذات، فارضَ نظام نفسك كما رضيت بما في الآفاق.

(١٤) السِّرْجِين والحدائق

قلت: ما أغمضَ هذا المقال! وما أبعد هذا المثال! فقال: سر بنا في هذا الصراط المستقيم، فلما سرنا رأيت نخلًا يميس في وسط مزارع نضرات، وأشجار خضرات، وأعناب وجنات:

كأن النخيل الباسقات وقد بدت
لناظرها حسنًا قباب زبرجد
وقد علقت من حولها زينة لها
قناديل ياقوت بأمراس عسجد

فقال: لعلك أعجبت بهذا الجمال؟ قلت: بلى، ما أجمله! قال: فانظر فيما حول هذه الجنات، فنظرت إذا تلال من السرجين، وآكام من القاذورات، فأحسست بانقباض. فقال: ماذا ترى؟ قلت: منظر عريَ من الجمال، وتسربل بالوبال. فقال: لقد حكَّمت حاسة البصر، وعزلت قوة البصيرة، ولو أنك فكرت، لعلمت أن هذه النخلات وأثمارها، والأشجار وجناها، والمزارع وبهاها، ثمرات تلك التلال، بل تلك البلحات الحمر والصفر، والرطب الأسود، والتفاح الملون، البهي العجيب، هي نفس تلك الآكام المنبوذة، والتلال المركومة، صنعتها اليد الإلهية، وزوقتها الحكمة الربانية، وصاغتها ودورتها ولونتها ومزجتها بالحلاوة، فهذا المكروه هو المحبوب، وهذا المنبوذ هو المطلوب، وفي الأرض أمم عريقة في الجهل والوحشية كما تزعمون، وسيقرءون العلوم كما تقرءون، وترون منهم منظرًا جميلًا، كهذه التلال صارت بالصنعة والاعتناء ثمرًا جنيًّا.

وهكذا فلتعلموا أن الشر والمصائب في بني الإنسان، أشبه الأشياء بهذه التلال والآكام، فإذا رويتموها بماء العلم، وبذرتم فيها بذور الحكمة أثمرت لكم ثمرًا طيبًا، وجني دانيًا، فمن هذه التلال صنعت الأثمار، وبالعبرة نمت العقول وصحت الأفكار.

ثم انطلقنا حتى أشرفنا على بستان جميل بديع، خلفه سهل منبسط، وراءه نهر تجري فيه المنشئات كالأعلام، ومن ورائه جبل شاهق صعب المرتقى، طامس الأعلام.

فقال: انظر، فنظرت إذا ست مناظر تجلت لعيني بغتة، أشبه شيء بما رآه الحكيم قابس اليوناني في العصور القديمة، والدهور البعيدة، قبل دولة الرومان والعرب والإفرنج المعاصرين.
  • المنظر الأول: نساء جميلات كأنهن مومسات.
  • المنظر الثاني: نساء قبيحات الوجوه. قالصات الأهدام، عاريات الرءوس، مسكينات، يخمشن وجوههن، ويضربن صدورهن، وينتفن شعورهن.
  • المنظر الثالث: نساء أديبات، مجردات عن الزينة، ساكتات ساكنات، وهن مشيرات إلى الجبل.
  • المنظر الرابع: ثلاث نساء كاللاتي في المنظر الثالث.
  • المنظر الخامس: السفن الجاريات، تغدو وتروح في النهر ولها شرع تزجيها الرياح وآلات دائرات بالبخار، في باطنها منتظمات.
  • المنظر السادس: نساء جميلات، بهيات المناظر، حسان الوجوه، محليات بالدرر كأنهن شموس مشرقات فوق الجبل واقفات بأيديهن تيجان بهيات، بالجواهر مرصعات، فلو رأيتهن لقلت: شموس في أيديهن بدور، وهناك أناس يهرولون في ذلك السهل يشير إليهم أولئك النساء بأيديهن.

فعجبت من هذه المناظر، وجهلت مرجع تلك الضمائر.

فقال: أما النساء الجميلات الواقفات في أول الحديقة، فإنهن تصوير لحال الشهوات الإنسانية، إذ يظن الناس أنها سعادات، وما هي بسعادات، فالأغذية والتزوج، وما أشبهها شملت الإنسان والنبات والحيوان، فهي ليست حقيقة السعادة، وإنما هي أشراك نصبت لقوام الأبدان وولادة الولدان، فمن ظن أنها غاية السعادة وأنهك فيها قواه صار لها عبدًا خاضعًا، وصارت نفسه كما ترى في المنظر الثاني.

وأما هؤلاء النساء اللاتي يخمشن الوجوه، ويضربن الصدور، وينتفن الشعور، فذلك مثال أولئك الذين ملكتهم الشهوات حتى ظنوها سعادات، فأنفقوا أموالهم، وأصبحت ديارهم قاعًا صفصفًا، خوالي من الدرهم والدينار، فصاروا لصوصًا سارقين، أو مزورين أو لأوطانهم خائنين، أو لأصدقائهم خادعين، أولئك هم الفجار الآثمون.

وأما هؤلاء النسوة اللاتي تراهن خاليات من الزينة وهن يشرن إلى ما فوق الجبل فهن مثال العلوم التي يقرأها الناس في المدارس الشرقية والغربية، كالرياضيات والطبيعيات، والآداب والشعر، والموسيقى والتنجيم، وأكثر الفنون العلمية، يظنها الناس سعادات وما هي بسعادات، إن هي إلَّا مقدمات والسعادات نتائج.

فقلت: لئن سلمنا لك أن الشهوات بعيدة عن السعادات لأنها تستعبد الجهال، فما بالنا نصدق أن العلوم ليست سعادات؟ فقال: لا تعجل وتربص شرح المنظر الرابع.

فأما ما تراه في السهل المنبطح من تلك النساء الثلاث اللاتي تجردن من الزينة، وهن ساكنات ساكتات، فتلك مثال العفة والصبر، وقوة العزيمة، إنهن لشديدات على الأنفس، بالعفة تصان الشهوات، وبالصبر تُنال أعلى الدرجات، فإذا أحكمتم آدابكم، وصنتم شهواتكم، ارتقيتم إلى أوج السعادة.

فأما ما تراه في المنظر الخامس من السفن الجاريات في البحر كالأعلام، وما فيهن من الأدوات التي تتحرك بالكهرباء والبخار، وما عليهن من الشُّرُع المنتفخة بالرياح الهابَّات، فلتعلم أن المال والجاه والملك والولد وسائر ما تملكونه من أعراض الدنيا وكذا العلوم والمعارف من الحساب والهندسة والطب والآداب والموسيقى والشعر والتصوير وغيرها كالتجارة والزراعة وسائر الصناعات، منزلتها منزلة هذه الشُّرع المزجية لهذه السفن الجاريات الممثلات لأجسامكم.

إنكم يا أهل الأرض لم ترضوا بالرياح الهابَّة أن تتحكم في سفنكم بل عمدتم إلى الماء فأسخنتموه وإلى بخاره فأثرتموه، وهكذا مزجتم العناصر واستخرجتم منها الكهرباء فجرت السفائن بأمركم، وسارت بتقديركم.

فما أحراكم ألا تقفوا عند المال، ولا تشغلوا بالعرض عن الجوهر، وأن تعمدوا إلى الفضيلة والحكمة حتى تنفتح أعين بصائركم، وتشرق الحكمة من قلوبكم، حتى إذا عصفت عواصف الحدثان، وتقلب الجديدان، وذهب الأطيبان، وتألبت المؤتفكات، رجعتم إلى قلوبكم، ونلتم سعادتكم، كما سيرتم السفن بأمثال هذه الصنائع.

فقلت: إذن لا قيمة للمال، ولا فضيلة في العلوم، ولا خير في البنين والأصحاب؟ فقال: يا هذا، كل ما ذكرته عون على السعادة عند ذي الفضيلة، فمن حُرم الفضيلة كانت كل هذه وبالًا عليهِ، ومن حازها كانت مددًا لسعادته، وزيادة في جماله وبهجته؛ فالجاهل قليل الثمرات. والفقير عديم المَبَرَّات. املأ القلب والعقل علمًا، واليد مالًا، واستعن بالأصحاب وكن كما تشاء في الدنيا، على شريطة أن تتم حكمتك، وتبقى عفتك، وتظهر شجاعتك، فالمال والعلوم والجاه والولد، تصلح لخيرك وشرك، ونفعك وضرك، وكما يحزن العِنِّين لحرمان الولدان، يشقى الوالد بابنه الكسلان.

وكما ترى في الجهلاء من هم لإخوانهم خادعون، ولأوطانهم خائنون، فهكذا ترى في الشعراء والأدباء والعلماء من ينافقون، ويمكرون، ويخادعون إخوانهم وهم في الشقاء خالدون، وكما ترى الصعلوك يحزن لذلته، ويشقى لرثاثة حالته، كذلك ترى الملوك والأمراء في شقاء دائم، فإذا اتسمت نفسك بالفضيلة فالمال والجاه والعلوم بها أولى لتكون شجرة جميلة الأزهار غزيرة الأثمار نضرة الجمال.

أما هذا المنظر السادس وهو النساء اللاتي تراهن فوق الجبل فإنهن يمثلن الحكمة والفضيلة التي أشارت لها تلك العلوم وسهلت سبيلها الأخلاق، ويقطع السبيل عنها الشهوات، فاسعَ إليها، ولا تنم بالجهل عنها، فإنك إذن تكون من السعداء المصلحين.

وما العلوم الأدبية إلَّا كالترجمان يفهم الحكمة، وما أقل العاقلين!

وكما أن معرفة اللغات الأجنبية وسيلة للعلوم لا مقصودة بالذات، فهكذا العلوم مقصودة لغيرها، وهي الحكمة والسعادة والفضيلة، فمن أصغى إلى نصائح تلك النساء المشيرات لقمة الجبل الممثلات للعلوم، رقى إليه وحظي بالتاج والجمال، وما أقل السعداء سعادة حقة في العالمين.

ألا وإن السعادة سعادتان، سعادة وقتية، وسعادة دائمة، فسعادة الجهلاء وقتية، كالذي يتخطى عقبة إلى عقبة، ويعبر خندقًا فيقابله خندق، وذلك بالحظوظ الوقتية من المال والجاه والعبيد والسلطان وأمثالها، وأما السعادة الدائمة فهي التي نصبوها من أنفسهم وخبئوها في عقولهم وأودعوها في أرواحهم، وهناك سعادة عامة تجمع الأمم جمعاء وهي أن تتعاون الأمم على عمارة الأرض، وسيصلها نوع الإنسان في مستقبل الأزمان.

(١٥) النفس

ثم انطلق بي حتى علونا الجبل بعد ما كادت نفوسنا عند الغَلْصَمَة، وشاهدنا من آيات الجمال والبهاء والحسن ما لا يحلم به أكثر العالمين، ولبسنا التاجين، ونلنا الحُسنيين، ورأيت جنة خضراء زينة للناظرين، لا أستطيع وصفها، ولا أعلم كنهها، قد ازَّيَّنت للمدكرين وأعدت للعاقلين المفكرين، فلما سرنا بجانب خليج من خلجانها، ماؤه لُجين، ذي ضفتين خضراوين زبرجديتين نظر إلى بخار مائه يصعد في الجو بحرارة الشمس، فتبسم ضاحكًا كالمستهزئين، ثم لوى كشحًا كالساخرين. فقلت: مم تضحك؟ فقال: انظر البخار، إذ علا في الجو وطار، فإن بعض علماء النفس عندكم يزعمون أنها نفثة من نفثات الجسم، وعَرَضٌ عَرَضَ لامتزاج العناصر، ومزاج الذرات المتفاعلات، فكأنه هذا البخار المتطاير، ولو صح ما قالوه لنسي العاقل اليوم ما قرأه أمس، ولمحيت سطور لوحه بالطمس، وكيف ينام الرجل ويستيقظ ثم يتذكر ما فعله في أمس الدابر، ويحصر في عقله ما وعاه من أيام صباه، ويجمع القديم والحديث في بخار ضعيف، ومن تذكر بعد النوم ما عمل من قبله، فسوف يذكر عند الموت وبعده، ما سطر في لوح عقله، ولو كان ذلك اللوح كهذا البخار، ما بقي يومًا أو بعض يوم، وكيف يبقى أمدًا طويلًا والجسم يتبدل في بضع سنين؟ فما أكثر الجاهلين من الآدميين.

الماء أكسوجين وأودروجين، والحرارة الشمسية أخرجت بخاره، والجسم أجزاء وعناصر تتقد نارًا بالتفاعل، وتعرض لها عوارض بالتمازج، وأعراض الأجسام من الحرارة الغريزية والمفاعلات الكيماوية، كأعراض الماء بالحرارة الشمسية، فإذا تجدد أول العرضين بالمشاهدة والعيان فما أحرى ثانيهما بالتجدد وما أحقه بالدثور، وكيف تبقى آراؤكم وعلومكم وأخلاقكم ومحباتكم طول الحياة والجسم دائم التحليل والتركيب وأعراضه متجددات على أعداد اللحظات؟ إن في ذلك لآيات للمتفكرين.

النفس شقيقة المادة، إنهما أختان تارة تجتمعان وأخرى تفترقان، ولكل منهما صور وأعراض، فليعتبر العقلاء، وليتذكر أولو الألباب.

ثم قال: إننا نضرب لأطفالنا الأمثال بمثل ما شاهدت الآن. ثم أبصرت آسادًا كآسادنا وأسلاك التلغراف ممتدة على الأعمدة الخشبية. فقال: إن هذه عندنا كمحالِّ الآثار عندكم، فإذا أردنا تدريب أبنائنا على الاستنتاج في أحوال كوكبنا أو الكواكب الأخرى، أريناهم أشكالها، ونصبنا لهم آثارها، وقلنا لهم: اكتبوا عليها بأسلوب كما سأريك الآن، تطبيقًا على المشاهدة والعيان، ألا فاسمع الحكمة مني، وخذ العلم عني، واعلم أنه ضل ابن آدم بخصلتين؛ فضْل المنطق، وفضل السلاح، فأما فضل المنطق، فإنه إذا رام اهتضام حق، أو غصب ملك، عمد إلى الأقوال فزينها، وقصد إلى الكتابة فنمقها، ولبس الحق بالباطل، وأبرز الكذب في صورة الصدق، وزخرف القول زورًا، فيرفع من شأن نفسه، ويحط من حق غيره، في المجالس والطرقات، والمعابد، وعلى صفحات الجرائد، وينشر ذلك فيما شاء من دولة، ويفيض به فيما أراد من أمة، حتى يخيل للسامع أنه حق، فيعطف على القائل، ويذعن للقول، لا سيما في هذا الزمان، الذي تفرعت فيه فروع البريد البخاري، والبرق السلكي، والبريد الأثيري، بتلغراف «مركوني».

واعتبر ذلك في الأمم الغالبة، فتراها تكذب وتنشر الأقاويل المنفرة عن الأمم الضعيفة، لتستمرئ ابتلاعها، وتسوغ هضمها، ظلمًا وزورًا، وما أسرع تصديق الناس، وما أكثر خطأهم، وما أشد جهلهم، فإن أكثر الناس لا يعلمون.

فأما فضل السلاح، فذلك أن ابن آدم دافع عن نفسه قديمًا، تارةً بالحجر، وأخرى بالعصا، وآونة بالمدر، وطورًا بالحديد، ووقتًا بالرصاص، فظن ذلك الأمر الاضطراري جِبِلَّة راسخة، والعارض مَلَكة ثابتة، فتوغل فيه، وأخذ يتفنن في السلاح والكراع، جعل ذلك مقدمًا على غيره من الأغذية والأدوية والملابس.

جهل الإنسان أصله، إن الإنسان لكثير النسيان، كانت الحرب للمدافعة، فاتخذها للمطاردة، وقام المدني على نهج الوحشي، فهو ظلوم وابن ظلوم، جهول وابن جهول، كفور وابن كفور، كان الكلام للإفهام، فجعله للخصام، واهتضام الحقوق، وخراب المدن، وإخافة الآمنين، فلعمرك لقد ضل ابن آدم بخصلتين؛ فضل المنطق وفضل السلاح.

هذا ما أردت أن تعتبر به من الآساد والأسلاك البرقية وهو المنظر الثاني والعشرون، ثم انظر إلى هذه الأسلاك من وجه آخر وهو:

(١٦) وحدة الإنسان

نوع الإنسان كرجل واحد، ودليلنا على ذلك أسلاك التلغراف الممتدة في الهواء، ألا ترى أنها أشبه شيء بتلك الأسلاك الشعرية، التي تنوف على ثلاثة آلاف عصب شعري، تبتدئ من تجويفي الأذنين، وتتصل برملات صغيرات قد لا ترى بأكبر المجاهر المعظمة، وجميعها واصلة إلى الدماغ، فإذا ورد على الأذن صوت التقطه عصب من تلك الأعصاب الدقيقة المتصلة برملة من تلك الرملات وأوصله إلى الدماغ فأحس به الإنسان، ولكل صوت سلك عصبي من تلك الأعصاب يوصله إلى الدماغ، وما أكثر أنواع الأصوات في العالم، وما أكثر الأسلاك العصبية. فلكل صوت من تلك الأصوات عصب من تلك الأعصاب، كما أن لكل عرق من عروق النخلة عملًا خاصًّا في التغذية، إذ تجتلب العناصر الأرضية، وتوصلها إلى أجزاء النخلة العلوية.

ولما كانت أجزاء النخلة كثيرة من أغصان وألياف وجمار وبلح ونوى وجذع، كثرت الفروع ودقت، ووزعت الأعمال عليها توزيعًا متقنًا، واتصلت عروقها الأرضية بطوائف من الأنابيب الدقيقة الممتدة في جذع النخلة الواصلة إلى الأغصان والألياف والجمار إلى آخره، هكذا كانت الأصوات الواصلة إلى آذان الإنسان السارية في الأسلاك العصبية، المبثوثة في الأذن الواصلة إلى الرأس، وهكذا كانت أسلاك التلغراف، توصل الأخبار من أمة إلى أمة، ومن قرية إلى قرية، ومن إنسان إلى إنسان.

فوضح أن الإنسان كله شخص واحد، له أسلاك خارجية تشابه الأسلاك الداخلية، وهل الحيوان له في هذا نظير، وهل له وحدة تجمع أشتاته كما جمعت الإنسان.

لا جرم أن الإنسان أقرب للاتحاد، فقتاله وحربه جهل فاضح وظلم واضح وغفلة عن الصراط المستقيم.

(١٧) الماديات والمعنويات

ثم قال: الجنس البشري الأرضي تردد بين عاملين، المادة والروح، فأما البوذيون والبرهميون ومن على شاكلتهم من الصين والهند، ومن نحا نحوهم من بعض متأخري المسلمين وقدماء المسيحيين، فإنهم أحبوا التجرد عن المادة، والتخلي عن الشهوة، والانقطاع إلى العقل والتبتل، والدخول في باحات الأرواح وساحات الخيال، ومن كانت هذه حالهم، تألبت عليهم الأمم، وغلبتهم الطاغية.

وأما الماديون من الرومان وبعض فلاسفة الإفرنج الذين جنحت هممهم إلى تقوية المادة، فأولئك الذين يرقبون غفلة غيرهم، وينكلون بهم، ويؤذونهم أذى شديدًا، ويعذبونهم عذابًا أليمًا ثم تدور الدائرة عليهم، إذا طغوا وبغوا فيصبحون في ديارهم جاثمين.

ألا وإن طريقنا الذي نختاره أن تأتلف القلوب وتتحد النفوس وتتعاشق الأرواح ويصبح الإنسان كله كإنسان واحد ناظم أمر الجسم والروح، ثم ليتحدوا في أعمالهم.

(١٨) الوحشية

ثم قال: الوحشية في العالم صنفان، طبيعية وصناعية، فوحشية الآساد والصقور اقتضتها الطبيعة الكونية، والحكم النظامية، لتزاحم الناس والحيوان، لإزالة الرمم، ودفع الغمم، المعفنة للهواء، المميتة للأحياء. ووحشية الإنسان صناعية جاهلية، أكسبته إياها عوائد الجاهلين ولصقت به لصوق العار للفاسقين، وعادات السوء للغاوين، إنكم يا معشر أهل الأرض جهال ضعاف العقول، أوَلا ترى كيف تدليتم إلى الحضيض الأسفل عن السباع والضباع والذئاب والكلاب، إذ صرفتم قواكم إلى القوى الدفاعية والهجومية، ألم ترَ كيف كان مجموع دَين ممالك أوروبا سنة ١٨٧٠: ٤٠٠٠٠٠٠٠٠٠ أربعة بليون جنيه، وقد بلغ الآن ٦٠٠٠٠٠٠٠٠٠ ستة بليون جنيه صرفتموها على الجيوش الجرارة، والسيوف البتارة، والمدافع الضرارة. وانظر إلى هذا الجدول تعرف عدد الجيوش وما يصرف عليها كل سنة:

الممالك عدد الجنود ما يصرف سنويًّا
بريطانيا ٤٢٠٠٠٠ ٦٥٠٠٠٠٠٠
روسيا ١١٥٠٠٠٠ ٤٦٥٠٠٠٠٠
ألمانيا ٦٦١٠٠٠ ٤٣٨٠٠٠٠٠
فرنسا ٦٢٠٠٠٠ ٤١٠٠٠٠٠٠
النمسا والمجر ٣٨٤٠٠٠ ١٩٤٠٠٠٠٠
إيطاليا ٣٠٥٠٠٠ ١٧٠٠٠٠٠٠
إسبانيا ١٠٠٠٠٠ ٦٧٠٠٠٠٠
السويد والنرويج ٧٣٠٠٠ ٥٥٠٠٠٠٠
تركيا ٣٧٠٠٠٠ ٤٨٠٠٠٠٠
هولاندا ٣٥٠٠٠ ٣٦٥٠٠٠٠
بلجيك ٥٠٠٠٠ ٢٥٠٠٠٠٠
برتغال ٣٤٠٠٠ ٢٦٠٠٠٠٠
سويسرا ١٤٨٠٠٠ ١٣٠٠٠٠٠
اليونان ٢٣٠٠٠ ١٢٠٠٠٠٠
دانمارك ١٤٠٠٠ ١٢٠٠٠٠٠
بلغاريا ٤٣٠٠٠ ١٠٠٠٠٠٠
الولايات المتحدة ١٠٧٠٠٠ ٤٠٠٠٠٠٠٠

أليست تلك المبالغ وأولئك الجند خسارة وحسرة على الإنسان؟ أفليس ذلك دليلًا على أنكم تنزلتم عن الحيوانية، وابتدعتم أقصى الوحشية، وجهلتم أنفسكم، وتربصتم، وارتبتم، وغرتكم الأماني، وغركم الغرور؟

لقد حق القول عليكم، فأصبحتم لا تعلمون من الإنسانية إلَّا الوحشية، ولا تفقهون من الحكمة إلَّا البهيمية.

فامتعضت لهذا القول وأنكرته واستهجنته. فقال: أوَتُنكر الشمس في رابعة النهار، أوَتُكذب ما صدقه العيان، ثم قال: أين أنتم من الحكمة المقدسة، والحكمة الذهبية، والحكمة العالية، والحكمة الزاهرة، والحكمة الجميلة، والحقيقة المحزنة؟ فقلت: وما الحكمة المقدسة، والحكمة العالية، والحكمة الذهبية، والحكمة الزاهرة، والحكمة الجميلة، والحقيقة المحزنة؟

الحكمة المقدسة

فقال: لقد ضل أكثر الفلاسفة والسُّوَّاس في أرضكم، إن للناس شهوتين، إحداهما للطعام والشراب، والأخرى لحب الزواج، ثم شهوة الغضب حافظة لهما، والعقل مدير للجميع.

يا عجبًا لهذه الحكمة، المعدة بها الحياة من الولادة للموت، إذا عدمت عدم الحيوان، أما حبه للزواج فإنما يستطير شرره، ويظهر أثره، إذا تبدى نور الشباب، وازدهرت أزهاره، فبهر الجمال، وضاء أنواره.

ولا شوق للزواج في حالي الصغر والكبر، فليس له في الحالين من خبر، فشهوة الطعام للحياة، وحب الزواج لبقاء الأنواع لا الأشخاص، كيف لا وقد عاش الخصيان بدونها، وبقي العِنِّين والمجبوب ولا أثر من تلك الشهوة عندهما، ولا خامر حب الاقتران قلبهما.

وهل يعيش المرء بلا معدة؟ كلا. فقلت في نفسي: يا رب، ما هذه المقدمات؟ وما علاقتها بسياسة الأمم؟ لا جمال إلَّا حيث مظنة الحمل، فإذا ضعفت غاض ماء الجمال، وأعقبه نور الجلال، حب الزواج تسخير للناس في المنافع العامة، ألا إنما يخدمون غيرهم، ويضعون في الأرض أممًا تخلفهم، ويا عجبًا كيف استحالت الشهوة والعشق جيوشًا وجنودًا، وعظماء وقوادًا! إن الناموس الطبيعي سخركم، بل سحركم لفعلين اثنين، حياة أنفسكم، وحياة غيركم المسمين بالبنين، أعمالكم إذن نصفان، نصف لكم، ونصف لغيركم، وأنتم مدفوعون مرغمون بقاهر يسمى حب الزواج، ولم تحرصوا على هذا إلَّا حيث صح منكم الولد حال القوة، فكان لغيركم لا لأنفسكم مقصودًا.

ليس حب التناسل مقصودًا لذاته كالسماع، فسماع الأغاني محبوب لجماله، وسر الاقتراب والشهوة مرغوب لإنجاب البنات والبنين، ألا إن لذة الإنسان بها سياسة قهرية، وشهوة سخرية، إنكم تخدمون الأبناء لنفس الأبناء، ولا حظ في الحقيقة للأمهات والآباء إلَّا الفضيلة العالية، والهمة الراقية، إذا قصد أحدكم منفعة نفسه من ابنه، فذلك لضعف فطنته، وقلة خبرته، ألا ترى الدجاجة والحمامة وسائر الحيوان يخدمن أبناءهن، ولا يبتغين المنافع منهن، إنهن يسعين في مصالحهن لنفس الذرية، لا للمنافع الذاتية، وكثير من الناس يموتون قبل أن ينالوا حظًّا من أبنائهم.

فالقضية الصادقة: أن الحيوان والإنسان يخدمان الأبناء لنفس الأبناء وسعادة الذرية.

الأمة كإنسان، وجمعية الحيوان كحيوان، قد ألفت الغربان جمعية، وكلاب البحر قرية، والنحل والنمل لها نظامات حسب حاجتها، جماعات جماعات، على مقدار حاجتهن، فعمل الواحد في النمل والنحل للمجموع كعمله لنفسه، الإنسان اليوم لم يرتق عن الحيوان في الجمعية، وإذا كان الحيوان ساعد أبناءه ونظم جمعياته، فما امتياز الإنسان عن الحيوان إلَّا الخدمة العمومية للجمعية الإنسانية.

لو أن الأمم عرفت استعداد الإنسان لخدمت الأمم كلها خدمة واحدة، ولعملت لأنفسها قسطًا ولغيرها قسطًا، كما رأينا الفرد يعمل لنفسه نصفًا ولغيره المسمى ابنًا نصفًا آخر، غفل الناس غفلة عظيمة.

أوَّاه، يا ليتهم قرءوا علوم النحلة، هذه النحلة الصغيرة الضعيفة اندمجت في مجموع الكوارة العسلية، ودخلت في زمرة الجمعية، فتصور أنها كبرت فصارت إنسانًا وأعطيت مواهبه، وأخذت في الكون مراتبه، فأقسم بالعلم وشرفه، والفضل وتاجه، إنها تكون جمعية كلية، في سائر الكرة الأرضية، ولكانت خير من عمر الأرضين، ووالله يا بني الإنسان، إن لم تقلعوا عن أعمالكم، وترجعوا عن غيِّكم، لتبتلعنكم الأرض أجمعين، ويخلفكم عليها قوم آخرون، فلستم للخلافة صالحين، ولا في عمارة الأرض بمصلحين.

ألا لا ينتظم حال الإنسان، إلَّا بمثل هذا الميزان، الأمم اليوم جاهلة، يعوزها الحكماء المصلحون، والقادة الراشدون، ولمثل هذا فليعمل العاملون، فلما أتم مقالته سألته: وما الحكمة الذهبية؟

الحكمة الذهبية

فقال: ألستم مغرمين بالفضة والذهب، عاشقين لجمالهما، هائمين بحسنهما ونضارتهما، وحسن نقشهما، ورقشهما؟ فقلت: بلى. فقال: أوَليست الشمس أنضر وجهًا من الدينار والجنيه، وأبهى ضوءًا، وأبهر لألاء، أوَليس القمر والكواكب أحسن أشكالًا وأجمل بهاءً وأزهى نورًا من الفضة وبريقها، فكيف استبدلتم حب الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ فتعجبتُ من هذا الاعتراض البديهي البطلان، وقلت: يا ليت شعري، أي هاوية أراد أن يقذفني فيها، وأي حفيرة يرديني بقاعها. فقلت له: ما عشقنا جمال الذهب الشمسي، ولا بريق الفضة القمري، وإنما هيامنا بمنافعهما، وقضائهما حاجاتنا، وكم جميل ظاهره نبذناه إذا ساء مخبره، فنحن إن راقنا جمالهما فذلك لمعنى مخبوء فيهما وجمال باطني مغطى بسناهما، ولقد جرت العادة أن الجمال الظاهري يغلب أن يصحبه الجمال الباطني، ففي أكثر الأحوال، جمال الشكل دليل الاعتدال. فرأيته يتهلل وجهه، ويشرق سناه. فقال: إذن أنتم لا تحبون الأشياء إلَّا لحقائقها، ولا تراعون إلَّا فضائلها؟ قلت: نعم. قال: كلا والله، لم تصلوا قرب الكمال، ولا تزالون عن الحكمة مبعدين، وعلى الجهل في الحب عاكفين، يا هذا، إن الفرس ليحب من قدم له العلف أكثر من حب سيده الذي اشتراه، وأغدق عليهِ النعم وواساه، وإذا قذفت الكلب بحجر أخذ يعضه ويعاقبه لقصر نظره وضعف فطنته، لقد قلت إنكم تحبون النقدين لقضاء الحاجات، فممن تقضون حاجاتكم، ومع من تستبدلون نقودكم؟

فقلت: مع أفراد الإنسان. فقال: وماذا تشترون؟ فقلت: الأغذية النافعة، والملابس الدافعة، وغيرها مما له الحاجة داعية. فقال: ومن يصنع ذلك؟ فقلت: الإنسان، بالعلوم والعرفان. فقال: إذن المحبوب في الحقيقة نوع الإنسان. ما أجهلكم! لو لم تكن العلوم والصناعات العامة في الإنسان، فممن تبتاعون، لولا الإنسان ما كان للنقدين معنى معقول، ولا لقضائهما حاجاتكم سبيل مسلوك.

يا هذا، أحببتم الذهب، أحببتم منافعه، أحببتم ما ينفعكم، أحببتم عمل الإنسان، أحببتم الإنسان، من كره الإنسان فقد كره عمله، كره ما ينفعه، كره نفسه، ومن أجهل ممن أبغض نفسه.

ألا إن ذلك نقص شائن، وجهل فاضح، وعذاب أليم، وتناقض غريب، أين المناطقة، أين الفلاسفة، أين الحكماء، أين العلماء، أين العقول، قد ثبت بالبرهان أن الأمة من أممكم تحب نفسها وتكرهها، وهذا التناقض أمره عجيب، نظركم قصير وعقلكم ضئيل.

الذهب والفضة سحاب حال دونكم ودون شمس الإنسانية، فالإنسان معشوق الإنسان، الإنسانية شمس أضاء نورها في الخافقين، فحجبتها سحب الطمع، وكسفتها بدور الفضة، وغطاها النضار. المحبوب من الشمس ضوءها، ومن الإنسان علمه وعمله، فإن رأيتم أن تكونوا أحرارًا، فلا تعبدوا درهمًا ولا دينارًا، ولتعلِّم أمةٌ أمةً العلم والحكمة والصناعة إعلانًا وإسرارًا.

حبكم الذهب والفضة رمز عجيب لسر غريب، رمز لكم كي تحبوا من تعاملون، كما أن حب الزوجين رمز لما سيكون بينهما من ولد محبوب، ونسل مرغوب. فما أحبت الفتاة الفتى، ولا هام الفتى بالفتاة، إلَّا لمعنى مستور عنهما، ونور واضح في جباههما، ألا وهو الولد، الذي خبأه القدر هناك، وطواه الغيب وأسدل عليهِ الستار. فإذا قبل الوجنتين فإنما يستخرج بفيه ما كنزته الحكمة في الجثمان، من الإناث والذكران، ثم يبقى بين الزوجين صافيًا لا شية فيه، وحقًّا لا باطل يعتريه، ونورًا لا شهوة تخالطه، إذا داما أزمانًا، وأنجبا أولادًا.

هكذا فليكن حب النقدين. فالمحبوب بالتحقيق ما وراءهما من نوع الإنسان، وتحليه بالعلوم والعرفان، أفليس من العجب أن تجمعوا بين الضدين، وتسلكوا سبيل النقيضين، تحابَّ الزوجان، فولدا الغلمان وعمرا البلدان، فلتتحاب الأمم الإنسانية، ليلدن سعادة الإنسان.

فلما فرغ من مقالته أجبت: إن نوع الإنسان متحابون، وإذا تجاذبت الكواكب بأجرامها، وعشقت السيارات الشمس، والأحجار وكل ما فوق الأرض عشقتها وانجذبت إليها، فإن عشق الإنسان للإنسان روحي معنوي، ولا جرم أن عشق الروح أرقى من عشق الجثمان. فقال: هذه أقوالكم المعروفة، ولكن أين الأعمال؟ إنما تحاب الأفراد يعطي الأمم وتحاب الأمم يمنح السعادة.

فقلت: وما الحكمة العالية؟

الحكمة العالية

فقال: «النَّحلية»، انظر يعسوب النحل، كيف يدبر النحل في بيوته الشمعية، وقصوره العسلية، لذريته الكامنة في البيض المفرق على البيوت، وما يصنعه من اصطفاء ألذ العسل وأنقاه، وأخلصه وأشهاه، وأحسنه وأبهاه، للذي سيكون ملكًا للذرية، وكيف خصص له خدمًا وحشمًا، وجعل له من العناية والرعاية ما ليس لسواه من السوقة والرعايا، من الخناثي والذكور النحلية، التي لكل بيت من بيوتها نحلة واحدة تخدمها، وعسل معد لحياتها.

كل ذلك يفعله النحل وأنتم عنهُ غافلون، وهل ذلك لشهوة من الأبناء يبتغيها، أو ثمرة يجتنيها، أو حاجة يقضيها؟ كلا والله، فعل ذلك بغريزته، إنهُ عبرة لكم وتعليم، الإنسان أضعف في ذلك غريزة، وأكبر عقلًا، فهلا رفع نفسه إلى مرتبته، وترقى إلى درجته، فاعتبر كل أمة من أممه شخصًا، وحلت الأمم في الإنسان، محل الأفراد في الحيوان، وحاطت الأمة غيرها برعايتها، وعطفت عليها عطف النحلات على أبنائها، وإلا فما الفارق إذن بينكم وبين النحلات، تلد وأنتم تلدون، وتربي وأنتم تربون، الفرق أنكم أوسع إدراكًا، وأرقى شأنًا، فلتربوا الأمم كما تربون الذرية، وليكن سائر الإنسان على سطح الكرة الأرضية، ككوارة واحدة، وإلا فلتكبروا على عقولكم أربعًا لوفاتها.

النحل بلغت النهاية في الرعاية، ورقَت أعلى صفة في الهندسة، ووكل لغريزتها تشكيل أبنائها، وبناتها، ونظام ذريتها. والإنسان حرم هذه الغريزة، ومنع هذه الفضيلة. وتكفلت الفطرة بتشكيل الذكران والنسوان، ونظام عددهما، وتقارب مقدارهما، وقيل للإنسان: ضع كل امرئ في درجته، وأقم كل أمة فيما أعدت له. قسمنا لك الذكران والنسوان، وعدلنا في تعدادهما، وتقسيم الغرائز النافعة على أفراد نوعهما، ففتش عن الغرائز، وابحث عن الطبائع، واستعن بكل من الأفراد والأمم على ما خصص له بفطرته، وما هيئ له بغريزته، تقول الحكمة الإلهية للإنسان: وكلنا للنحل أمر بدايته، وعليها أعناه، ولم نبح له أن يتخطى حدها ويتعداه، وقد أحكمنا لك أمر البداية، فتولَّ أنت شأن النهاية. فقلت له: وما الحكمة الزاهرة؟

الحكمة الزاهرة

فقال: لقد أحسن علماء التشريح والنفس، عرفوا تقسيم الأعمال الإنسانية، والحركات الحيوانية، فألفوها موزعة على أجزاء المخ، منظمة مرتبة، والناس عنها غافلون.

للعين مرآتها في مؤخر الدماغ، وللأذنين مرآتاهما في الصدغين متخالفتين بحيث ترتسم آثار الأذن اليسرى جهة اليمين، وآثار اليمنى جهة اليسار.

عرفوا أن أعصاب الحركة أقرب إلى المقدم والجبهة حول الشق الداخل في الدماغ، الذي اكتشفه العلامة «رولاندو» الألماني، ومعها الأعصاب المحركات للسان، أدركوا كيف كان للغات لوح منقوش نحو وسط الدماغ، وللحروف المكتوبة لوح محفوظ نحو أعلاه، لوح الكتاب مخلوق وهو عند العامة غير مكتوب، وعند المتعلمين مكتوب.

كل ذلك عرفه العلماء بالتجربة، وأدركوه بالتمرين، هكذا بحثوا في أنواع الحيوان، من سمك يعوم، وحمام يطير، وصقر يصيد، وقرد ذي تقليد، وإنسان ذي بيان.

لو زل المخيخ الذي خلف المخ لاختل سير الإنسان، وزاغ، ودار على نفسه في مشيته، وضل في أعماله. رتبت أحوال الإنسان على الدماغ، فمؤخره لنظام العين، ومقدمه لسائر الحركات، عجب عجاب، حقيقة أدركها الطبيعيون، فيا ليت شعري، ماذا فعل الحكماء والسياسيون، أنتم والله نائمون غافلون.

يا حكماء الأمم، ماذا فعلتم، ماذا أدركتم، ماذا فهمتم، حرام عليكم حرام، لكم عقول فأين نتائجها، وآذان فأين مدركاتها، وأبصار فأين غاياتها، الإنسان غافل نائم ساهٍ مسكين. يا حكماء الأمم، يا عظماء الرجال، خبروني أليس الإنسان كله كشخص واحد؟ وهل الفطرة التي نوعت الأعمال في الدماغ، ووزعت الإدراك، والحركات على أنحاء المخ، يغفل مبدعها، ويأنف صانعها أن يقسم الأعمال الإنسانية، على سائر الآدميين، من سكان الكرة الأرضية؟

جَهِل الناس! إن جَهْل أمة، أو ضعفها، راجع بالضعف على الباقين، إنما الأرض كالجمجمة، والناس على سطحها موزعة عليهم الأعمال، توزيع القوى على سطح الدماغ، تعاونت قوى الدماغ، فهل تعاونت الأمم على أديم الأرض تعاون قوى الدماغ على ظاهر المخ، ألا إن الناس صالحون فرادى، ضالون جماعات. فقلت: وما الحكمة الجميلة؟

الحكمة الجميلة

قال: وهل أتاك نبأ الحكمة الجميلة، والجوهرة البديعة، واليتيمة الفريدة؟ إن الناس يحبون من أغدقوا هم عليهم النعم، وليس المنعم عليهم بأشد حبًّا لمن أسداهم المعروف من المحسنين لهم. فقلت: أوضِح المقال. فقال: الوالد والمعلم والحكيم والنبي أشد حبًّا للولد وللمتعلم وقارئ الحكمة والمؤمن من الآخِرين للأولين. فقلت: زدني إيضاحًا. فقال: الوالد يحب ولده أكثر من حب الولد له، وهكذا المتعلم مع الأستاذ، وسائر المحسنين، ألا ترى أن أولئك المحسنين يرون في إبقاء صنائعهم إحياءً لمجدهم، وتخليدًا لذكرهم، وشرفًا عظيمًا لهم، ولا جرم أن رب الدَّيْن يحب بقاء المدين ليستوفي دَيْنَه.

ألا إن أولئك أشبه بالمدينين، والأولون أشبه بالدائنين. ولو أن الأمم عرفت النافع والضار لأحبت بقاء جاراتها، وسَرَّها تعميرها الأرض، ورقيها وحضارتها، لا سيما إذا أدركن ما بينهن من التضامن في المنافع، وعملت كل منها لغيرها عملًا مقصودًا بالذات، مخلصة في نفعها، دائبة على إخلاصها، فيصبح الناس أجمعون محبين محبوبين، وترى كل أمة محسنة لغيرها مدينة لها، ولكن أكثر الناس لا يحبون إلَّا بالرياء، ولا يعملون لسواهم إلَّا وهم يخادعون. فقلت: إن الإنسانية سائرة على هذا النهج القويم، فالتجارة متبادلة، والحياة مشتركة، والصنائع موزعة، والأسواق آهلة نافعة، والمدارس عامرة. فقال: كلا، ولكنها الحقيقة المحزنة. فقلت: فأفدني ما الحقيقة المحزنة؟

الحقيقة المحزنة

قال: الأمم الإنسانية اليوم تحسن لغيرها طمعًا في ابتلاعه، وحبًّا في اقتناصه، فعلها مع الشياه المعلوفة، والبقر السائمة، والجمال السارحة، يربي الرجل الشاة ويذبحها، فيذهب شرهه برحمته، وحرصه بشفقته، وطمعه بعطفته، قد غلبت شهواته رحماته، وأمات حرصه وجدانه، إذا ساغ هذا مع الشياه فكيف يسوغ مع الإنسان.

هكذا فعل مع الإنسان، وقرنه في عقله مع الخرفان، فلا فارق عنده بين الحيوان والإخوان، وإذا أطعم أخاه فإنما يطعمه ليكون له طعامًا، والأمم الراقية لا تمتاز عن الهمجية في هذه القضية، فإن خدموا غيرهم، وأصلحوا أرضهم، وساعدوا أبناءهم فإنما ذلك ليكونوا لهم مسخرين، الخراف عندهم والإنسان سواء، جهل الناس عقولهم، وإذا اجتمعت طائفة من العقلاء وتشاورت، فإنما يتبعون أخس الآراء، كمثل السباع الضارية، ذلك لأن كل فرد يسند الرأي للمجموع ويحمل بهم على الجموع، إن الإنسان لظلوم كفار جهول.

ثم أومأ إلى غلمان وراءه، وكلمهم بما لا أفهم، إذا كتاب مطبوع بالتصوير الشمسي بحروف إنجليزية، وهو كتاب اللورد أفبري The Peace and Happiness فأراني في صفحة ٢٩٢ عبارة في فصل تحت عنوان The Peace of Nations فقرأت ما ترجمته: قال أحد السياسيين اليابانيين: لما كانت اليابان لا تهتم إلَّا بالصناعات القيمة، والفنون الجميلة، والأعمال الشريفة، كانت أوروبا تعدُّهم نصف متوحشين، وتسومهم سوء الذم والمقت أجمعين، فلما أن أهلكوا خميسًا عرمرمًا من الروس، وأزاحوا عن أبدانهم الرءوس. قالت أوروبا: إنهم قوم متمدينون، وأناسي صادقون. ثم تناول مني الكتاب، وقال: وهل تريد برهانًا على ضعف قواكم العقلية، وملكاتكم الإنسانية أقوى من هذا البرهان.

مساكين يا أهل الأرض، إذا رجعت إلى قومك أيها الإنسي فخبرهم أنهم للعذاب معرضون، وللهوان مسارعون، إذا داموا على ضلالهم المبين فتلقَّ نصيحة السيد «جامون» بقلب واعٍ، وفؤاد حافظ، وبلغها لأهل الأرض لعلهم يعلمون.

فرجعت إذا السيد «جامون» متربص قدومي، منتظر رجوعي، فلما رآني واستقر بنا الجلوس. قال: يا ابن آدم الأرضي لا تحزن، فسألقي عليك درسًا فانشره بين الأمم، وقل لهم ينعموا النظر وليشرحوه، وليفكروا فيه بعقولهم، ولترسله إلى مشارق الأرض ومغاربها. فقلت: لك الشكر، وعليَّ السمع والطاعة. فقال: وإني سائلك قبل نصيحتي عن أممكم العظيمة، هل داووا جراح الحرب؟ فقلت: نعم، بمحكمة «لاهاي» يحكمون فيما اختلفت فيه الأمم من صغائر الأمور. فقال: وهل هذا دواء؟

ألا إنما مثلهم مثل الطبيب المأجور الذي لا يبالي بالمريض، إذا آنس فيه أمراضًا ظاهرة، لها أصل خفي في الأعضاء الباطنة، داوى القروح بالمراهم، وترك الباطن، فلم يستأصل داءه، ولم يستقصِ أصله، ويقطع جذوره من أعماق الجسم، ذلك مثلكم.

فقلت: هناك أطباء يداوون الجرحى، من وخز الأسنة، وطعن الرماح، وفتك المدافع. فقال: وما منعهم أن يقتلعوا المرض بالحكمة، والفلسفة، وهلا دعت أمة منهم العلماء المغرمين بمنفعة النوع الإنساني، فاصطفت من كل أمة رجلًا، سواء في ذلك أمم المشارق والمغارب، لينظروا في التحاب والتواد، والتعليم العام بين الأمم. وإني سأضع لكم مباحث، تدور عليها محاور أبحاثكم وآساسًا تبنون عليها قصور علمكم، وتشيدون حصون حكمتكم، وترفعون بنيان مجدكم، ولا أدعكم على غير هدى، وإننا الآن بما وصفنا وما سنصف نريد من الأمم أن تكون كالرجل الذي يحفظ صحته بقانون حفظ الصحة، بالسير على منواله، وإقامة وزن حياته، حتى لا يقع في التهلكة المرضية ولا تنتابه الأسقام، إلَّا مما يفاجئه من حوادث الجو، فيلجأ إذن للدواء.

وخير الأطباء من نصح بحفظ صحة الأصحاء، وشرهم من تركهم وشأنهم، بحيث يتخبطون في أمراضهم، حتى يدوم احتياجهم لدوائه، أكثر أيام حياتهم. ثم قال: وقد آن أن أوجز لك ما أردت في مقال، أخاطب به أمم الأرض أجمعين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤