الفصل الثالث

أخلاق الإنسان

أفدني كيف حال نوع الإنسان، وكيف أخلاق الطبقات المختلفة؟ قل لي ألست أنت الذي حكمت على الإنسان بأن فيه خيرًا وشرًّا، وكمالًا ونقصًا، وجهلًا وعلمًا، وقوة وضعفًا، وإنك خالطت سائر طبقاتهم، ودرست جميع أخلاق وأحوالهم، تارة بالمجالسة، وأخرى بالمكاتبة، وآونة بالنظر في الأخبار والجرائد وكتب الآفاق؟ عشت مع الفلاحين، وزرعت مع الزارعين، وتخللت صفوفهم، وخالطتهم في حقولهم، فرأيت نفوسًا خاملة، وعقولًا قابلة، ومنهم البررة المتقون، ومنهم الطالحون، ومنهم من يمكرون كالثعالب، ومنهم من يختانون كالذئاب، والمعظم فيما بينهم ذو الجاه والمال، ومن كان أكثر مكرًا، وأقدر على النميمة، وأتم في الحيل، وهم يحبون العلماء، ويودون الأولياء، ووجدت طبقة الفقهاء فريقين، فريقًا سبَّح وصلى بكرة وعشيًّا، فكان قوله صدقًا، وحكمهُ عدلًا، والآخرون جعلوا العلوم حيلة محتال، وشبكة صائد وبهتان دجال، فأكسبهم قوة بها على الجهال يصولون، وأعطاهم قدرة على المكر والدهاء فهم لا يرحمون، فخالطت أهل الآداب والفضائل، ومن اتسموا بالعلم وسار ذكرهم في الآفاق، فعاشرتهم وخالطتهم، فرأيت صفات العامة كامنة في أخلاقهم، وغرائز الجهلاء باقية في أوصافهم، ولكنهم يمتازون بالقول الخالب، والمكر السيئ، فلما رأيت الخبيث والطيب، والجيد والرديء فيما حولك، رجعت البصر إلى العوالم المتمدينة، العالية الرأس، السامية الذرى، فألفيت فيما بينهم سياسات العامة، وعلوم الخاصة، إنك قلت أن النوع الإنساني ما زاده العلم إلَّا زيادة القوة الحيوية، بالعلوم الرياضية، ودرس المسائل الطبيعية، والمهارة الصناعية، هذه هي العلوم الحقة الصادقة.

أما في الأخلاق والإخلاص والصدق وحب نوع الإنسان، فذلك قليل في الأمم، ولم يقم بهذه الخصلة الشريفة، والخلة الحميدة، إلَّا أناس نبغوا في كل أمة يتخللون ثنايا الزمان، كالنجوم الزواهر، في أكناف السماء. فقلت له: أيها السيد النبيل، نَبُل قدرك، وجَزُل رأيك، ونطقتَ بالحق، وخبرت بالصدق، لقد عبرت عن بعض ما يختلج قلبي من المعاني، وإني لأزيدك إيضاحًا؛ إن الطبقة المتنوِّرة في سائر الأمم والممالك، تخضع لزخرف القول، وتستنيم للأكاذيب، ويغرها البهتان، ويسحرها الكلام الخالب، فحال الناس في سياساتهم ومعاشراتهم كحال المحامين أمام القضاء، والشعراء المادحين، يعمدون إلى طلاء القول وما يؤثر في الوجدان والضمائر، وما يستفز النخوة ويبعث النجدة، كما ترى في جرائدهم وأخبارهم، فشأن أكثر الناس إلَّا قليلًا أن ينخدعوا بالطلاء الكاذب، والزخرف الباطل، وما مثل المخادعين والمزخرفين إلَّا كمثل من رمى شبكتهُ ليصطاد، فهو يرتقب صيدًا لا محالة، ولقد شهدتُ أهل الرأي في مجالسهم يخدعون وينخدعون، ويقتطع زيد من كلام عمرو جملة بتراء، لينفذ فيها سهم نقده، ويقدح فيها زناد فكره، ويتجاوبون بالباطل، ويفعلون فعل العامة. ولقد نجحت بعض الأمم في تهذيب الشعب كما يروى عن أهل سويسرا، ولكن التهذيب والتأديب في سائر الأمم والممالك قاصر على الفضل فيما بينهم، واقتسام الرحمة عندهم، وهم حرب على من سواهم، من الأمم والممالك، لا سيما أئمة السياسة، وأكابر الأمم، فأولئك بأممهم وحدها مغرمون، وعلى حياتهم وحياتها يحرصون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤