وطنية لا نزق

حل البارودي محل شريف وفي البلاد ما فيها من أثر تلك المذكرة التي جاءت في تلك الظروف التي بيَّنّا دليلًا على سوء تدبير واضعيها وعلى قصر نظرهم ورعونتهم، ولكن لما لنا نشير إلى قصر نظر الدولتين فيما فعلتا ونحن لا يتداخلنا شك في أنهما كانتا تريان عاقبة فعلهما، وأنهما إنما أرادتا إثارة الخواطر وزيادة أسباب الخلاف بين الخديو وزعماء البلاد المدنيين منهم والعسكريين، فبهذا يتيسّر لهما الوصول إلى الغرض المرسوم …

وكان طبيعيًّا أن يسير البارودي على نهج غير الذي سار عليه شريف، فهو بحكم مركزه بين الزعماء العسكريين، وبحكم الظروف التي أدت إلى استقالة شريف، لم يكن ليستطيع أن يحمل نفسه على الهوادة والملاينة، وإلا ففيمَ كان إحراج شريف ثم إخراجه من الحكم؟ … والأمر قبل كل شيء أمر كرامة الوطن تلقاء تحدي الأجانب وتحرُّشهم السخيف الآثم بحريته …

ومن ذلك يتبيَّن لنا أن البارودي لم يكن له منتدح عن السياسة التي جرى عليها، وأن مردها في الحق إلى مسلك الدولتين، وعلى ذلك فمن الظلم أن نرجع باللوم كله على تلك الوزارة فيما أبدت من تطرُّف، فإن جانبًا كبيرًا من اللوم، بل لعل اللوم كله، يقع على الذين دفعوا الوزارة بقبح تدبيرهم وسوء نيتهم في تلك الطريق التي ما لبثت أن رأت نفسها فيه تخرج من أزمة لتدخل في أزمة غيرها …

وهكذا تدفع الدولتان البلاد في طريق الثورة دفعًا، ثم تتهمانها مع ذلك بالفوضى، وتجعلان من مبررات تدخلهما القضاء على الفتن والقلاقل الداخلية وإنها لمن صنعهما … ولن يكون في صور الظلم أبلغ وأوجع من أن يُضرب مضعوف فوق رأسه فإذا تأوَّه ونفر من ألم الضرب عُدّ تأوهه جموحًا ونفوره ثورة!

كان على وزارة البارودي من بادئ الأمر أن تواجه أزمة الميزانية، وقد نجمت هذه الأزمة كما رأينا من تجني الدولتين على البلاد ومن غضب نوّاب الشعب لكرامة بلادهم واستمساكهم بحقهم تلقاء باطل أعدائهم، وكان من الطبيعي أن تعمل وزارة البارودي، أحد الزعماء العسكريين، والتي كان عرابي نفسه أحد وزرائها، على تحقيق آمال البلاد، بل لقد كان أمرًا حتميًّا على هذه الوزارة أن تفعل ما كانت مقدِمة على فعله، فعلى هذا الأساس كان قيامها بالحكم …

وما أسخف كلام المبطلين وأرذله تلقاء هذه الحقيقة التي تنهض الحوادث دليلًا عليها! أجل ما أرذل أن تُرمَى وزارة البارودي بالنزق والعناد والرغبة في إثارة الفتنة، كالذي يأخذ على شخص طريقه في غير مبرر فإذا طلب إليه أن يخلي سبيله انتهره وتوعده، فإذا خطا خطوة ليتقدم رماه بالشطط والجنون وخوفه عاقبة أمره!

لقد قامت وزارة البارودي على إرادة الأمة، لا مراء في ذلك، فإن النواب حينما أظهروا لشريف أسفهم أن يكون المجيب لمطالبهم رجلًا غيره، وحينما ذهبوا إلى الخديو يشكون إليه حالهم كانوا معبِّرين في ذلك عن مشيئة الأمة، وآية ذلك أن الخديو لما سألهم بأي حق يطلبون إقالة شريف قالوا: هذه إرادة الأمة.

ولم يَسَعِ الخديو إلا أن يذعن، ولكن على طريقته في الإذعان ريثما تسنح الفرصة، فدعا شريفًا والقنصلين الأجنبيين وعرض عليهما الأمر، فلم يكن أمام شريف غير الاستقالة، ثم إن الخديو سأل زعماء النواب عمن يرضون لرئاسة الوزارة، فبعد أن بيّنوا له أن ذلك من حقه اختاروا البارودي واشترطوا أن يكون قيام وزارته على أساس إجابة مطالب النواب.١

ولقد أضاف الخديو إلى أخطائه خطأً جديدًا بقبوله هذا الوضع، فمن حقه وحده اختيار رئيس وزرائه، ولكنه خطا حتى هذه الخطوة بإشارة القنصلين، فلقد أوهماه أن في هذا خيرًا له، فبه يخلو من التبعة ويلقيها على عاتق النوّاب والزعماء … ولكنهما كانا في الواقع يريدان أن يوسعا مسافة الخلاف بين الخديو ونواب البلاد، ومن السهل عليهما أن يوحيا إليه على لسان أعوانهما بعد ذلك أنه أصبح وليس له من الأمر شيء.

على أنّ مالت وكلفن وأشياعهما ما لبثوا أن راحوا يذيعون المفتريات في مصر وفي أوربا عن الوزارة، ويرمونها بكل أباطيل الاتهام، فهي وزارة عسكرية لا تعرف سياسة أو تنظر في عاقبة أمر من الأمور، وإنما قوام أعمالها العنف والثورة، وهي وزارة لا تحسب لأي سلطة غيرها حسابًا، فليس للخديو وجود فعلي بإزائها، وليس للأجانب على ما لهم من ديون في مصر حق أو شبه حق إلى غير ذلك من اللغو والإفك …

أما عن عرابي فقد خرج بأوفر نصيب من التهم الباطلة، ومن هذه التهم ما نسبته إليه جريدة التيمس من أنه تهدد شريفًا، وأنه شهر سيفه في وجه سلطان وهدده بتيتيم أطفاله في صدد الخلاف على مسألة لائحة المجلس، ولقد كان مالت من مروجي هذه الإشاعة ومن المتمسكين بها، بل لقد ذهب مالت إلى أكثر من هذا فأثبت في يومياته كذلك أن الخديو ما قبل استقالة شريف إلا تحت تأثير تهديد لا يقلُّ عن هذا …

ويذكر بلنت أنه يرجح أن الخديو هو مصدر هذه الفِرْية لما كان يبدو منه يومئذ من بالغ الحقد على الوزارة، وقد أصبح لهذه الفرية خطرها حين أرسل مراسل روتر إلى أوربا يزعم ضغط العسكريين على شريف.

قال بلنت: «ومع ما يبدو من سخف هذه القصة فقد غضب منها سلطان غضبًا شديدًا، ولما كنت يومئذ معروفًا لدى النواب بأني صديقهم طلب إليَّ سلطان لقاءه، وسألني أن أحمل إلى مالت إنكاره القصة كلها إنكارًا تامًّا، وعلى ذلك توجهت إلى بيت سلطان باشا حيث جمع عددًا كبيرًا من النواب ومن علية القوم ومن بين هؤلاء المفتي الأكبر العباسي وعبد السلام المويلحي بك وأحمد السيوفي بك وأحمد محمود أفندي وهمام حمادي أفندي وشديد بطرس أحد كبار نواب الأقباط. وقد أنكر هؤلاء جميعًا مع سلطان أنهم عملوا تحت أي إكراه، وتكلم سلطان في غضب عن سخف القصة فيما يتصل به قائلًا: إن أحمد عرابي بمثابة ابن لي، وهو يعرف ما هو من حقي وما هو من حقه، فمكاني في البرلمان ومكانه في وزارة الحربية. وجدير به أن يطلب نصحي لا أن يجرؤ على أن ينصحني فيما يعنيني من الأمور، وأما عن شهره السيف في حضوري فإنه لا يفعل ذلك إلا تلقاء عدو يهاجمني، وهذه قصص لا يصدقها من يعرفنا كلينا، وإنها لباطلة كل البطلان، وتستطيع أن تأخذ على اليقين أن أقل عضو هنا ممن يمثّلون الشعب أحسن حكمًا على مطالبه من أكبر جندي. إننا نحترم عرابيًّا لأننا نعرفه وطنيًّا ورجلًا ذا فطنة سياسية لا لأنه جندي.

وقد أثبتُّ كلمات سلطان باشا هذه في حينها، وقد اشتكى إليَّ هذا الشيخ من سياسة مالت وتعضيده مخترعي الأباطيل، وطلب مني أن أطلعه على الحقائق وأن أبرقها إلى جلادستون وأذيعها في الصحف الأوروبية، وقد فعلت ذلك على خير ما يدخل في وسعي، فأرسلت نصًّا كاملًا منها إلى «التيمس»، ومع ذلك فإنها على ما أذكر لم تنشره لسبب ما، وكذلك أرسلت تلغرافًا بالمعنى نفسه إلى مستر جلادستون، ثم كتبتُ إليه كتابًا مطولًا أشرح فيه الموقف كله.

وذهبتُ من فوري إلى مالت وناقشته في شدة، ولكنه أصر على صدق قصته التي استقاها كما أخبرني أول الأمر من سلطان نفسه، والتي عاد يقول إنه استمدّها ممن يمكن الاعتماد عليه، ولما ألححت عليه أن أعرف من هو المصدر غضب وقال إنه ليس لي من حق أن أستجوبه على هذه الصورة.»

هذا هو كلام بلنت عن هذه الفرية، وما أجمل ما وصف به سلطان عرابيًّا فهو لا يحترمه لأنه جندي، ولكنه يوقره لوطنيته ولمقدرته السياسية، ومثل هذا الكلام لا يصدر عن مثل سلطان عن خوف أو تملق، فقد كان أكبر من أن يخاف أو يتملق، وهو بطبعه شديد الكبر كثير المباهاة بجاهه والاعتزاز بثروته، بل إن صدور هذا الكلام عن رجل هذه صفاته إنما يزيد في قيمته، ويجعل منه وثيقة خطيرة ندعو الذين يجهلون حقيقة عرابي إلى قراءتها في رَوِيَّة وحسن طَوِيّة …

ويذكر بلنت أن التيمس لم تنشر تكذيبه لسبب ما، والأمر واضح لا يحتاج إلى طويل شرح، فالتيمس وأمثالها من الصحف الإنجليزية تخدم قضية الاستعمار أبدًا، وهي خير من يدرك نيات الساسة في بلدها، وأول من يطلع على حقائق الأمور، فلم تكن تجهل يومئذ ما كانت تبيِّته إنجلترا لقضية الأحرار في مصر، بل وما كانت تنتويه السياسة الإنجليزية العليا من الاستيلاء على مصر قبل أن تستولي عليها، ولذلك فما كانت لتنشر رأيًا مثل هذا الرأي يأتي على لسان رجل مثل بلنت، فيكون به من الإنجليز شاهدًا من أنفسهم عليهم …

•••

في مثل هذا الجو الذي كدرته دسائس الماكرين والطامعين، راحت وزارة البارودي تعالج ما كانت تشكو منه البلاد، ومن ورائها نواب الأمة يشدُّون أزرها، وإنهم ليعلمون ما كان يحيط بوطنهم من الكيد والإعنات.

وأحسَّ البارودي من أول الأمر بتزايد الجفاء بينه وبين الخديو، فما كان ليسيغ توفيق أن يصبح الأمر بينه وبين الوزارة قائمًا على غير ما ألف من مبادئ السيطرة ونوازع الاستبداد، ولكن الوزارة استعاضت عن معونة الخديو بمؤازرة البلاد …

وكان أول ما واجهته الوزارة تلك المشكلة التي خلقها الكائدون، وهي مسألة الميزانية، أو بعبارة أخرى لائحة المجلس التي استقال بسببها شريف أو أجبر في الحق على الاستقالة …

ويجمل بنا أن نأتي بالحديث على سرده في هذه المسألة لنتبين إلى أي مدى كان افتيات الدولتين على البلاد، وليرى الذين رموا حركتها الوطنية ورجلها بمختلف التهم مبلغ ما في مزاعمهم من جهل أو عدوان …

جاء في خطاب شريف باشا الذي تقدم به إلى المجلس بعد انعقاده قوله: «فإنه لم يحجر عليكم في شيء ما، ولم يخرج أمر مهم عن حد نظركم ومراقبتكم، إنما لا يخفاكم الحالة المالية التي كانت عليها مصر مما أوجب عدم ثقة الحكومات الأجنبية بها، ونشأ عن ذلك تكليفها بترتيب مصالح، وتعهدها بالتزامات ليست خافية عليكم، بعضها بعقود خصوصية، والبعض بقانون التصفية، فهل يتيسر للحكومة أن تجعل هذه الأمور موضعًا لنظرها أو نظر النواب؟ حاشا لأنه يجب علينا قبل كل شيء القيام بتعهداتنا وعدم خدشها بشيء ما، حتى نصلح خللنا، وتزداد ثقة العموم بنا، ونكتسب أمنية الحكومات الأجنبية، ومتى رأت منا تلك الحكومات الكفاءة لتنفيذ تعهداتنا بحسن إخلاص بدون مساعدتها فنتخلّص شيئًا فشيئًا مما نحن فيه!»

بهذه الكلمة مَهَّد شريف لخطته فيما يتعلق بلائحة المجلس، أو ما نسميه دستوره، وبخاصة فيما يتَّصل بالميزانية، ثم جاءت اللائحة تحرِّم على المجلس النظر في الميزانية …

ولقد كان المجلس يطمع في أن ينظر في الميزانية ما دام هو القيِّم على حقوق البلاد، ولكن الحكمة قضت عليه أن يتواضع فيقبل كما أسلفنا النظرَ في نحو نصف الميزانية وهو القدر الباقي بعد الجزية وما يقتضيه قانون التصفية، ففعل ذلك، ولكنه لم يفد وا أسفاه من حكمته شيئًا، فقد كبر على الدولتين أن ينظر المجلس حتى في هذا القدر؛ فرمتاه بالمذكرة المشئومة التي كان من نتائجها ما رأينا من تطرف المعتدلين وثورة المتطرفين والتقائهما جميعًا، وتمسكهم بالنظر في الميزانية مهما يكن من العواقب، الأمر الذي أطاح بوزارة شريف وأحل محلها وزارة البارودي …

وجاءت وزارة البارودي، فلم يكن أمامها إلا طريق واحد، هو السير وفق رغبة النواب والرأي الوطني العام في البلاد، فخطت هذه الخطوة معتمدة على حقها مستندة إلى مؤازرة الأمة إياها، فكان ما قررته في مسألة الميزانية ما يأتي: «لا يجوز للمجلس أن ينظر في دفعيات الويركو المقرر للآستانة أو الدين العمومي أو فيما التزمت به الحكومة في أمر الدَّين بناءً على لائحة التصفية أو المعاهدات التي حصلت بينها وبين الحكومات الأجنبية.»

«وترسل الميزانية إلى مجلس النواب فينظرها ويبحث فيها، بمراعاة البند السابق، ويعيّن لها لجنة من أعضائه مساوية بالعدد والرأي لأعضاء مجلس النظار ورئيسه، لينظروا جميعًا في الميزانية ويقرروها بالاتفاق أو بالأكثرية.»

ووافق المجلس على اللائحة الجديدة التي تقدمت بها إليه وزارة البارودي، وكان هذا الرأي الأخير، أعني تكوين لجنة من أعضاء المجلس مساوية في العدد لأعضاء مجلس النظار قد عرض كحل من الحلول على وزارة شريف، فأبت الدولتان قبوله، فلما قضت وزارة البارودي في الأمر حسب مشيئة النواب، ثارت ثائرة الدولتين اللتين جاءتا لنشر روح المدنية والحرية في الشرق …

ولقد جعلت الوزارة الأمر للأمة فيما إذا وقع خلاف بين المجلس والوزارة، فنصّ في دستور المجلس أو لائحته الأساسية ما يأتي: «إذا حدث خلاف بين مجلس النواب ومجلس النظار، وأصر كل على رأيه بعد تكرار المخابرة وبيان الأسباب ولم تستعف النظارة فللحضرة الخديوية أن تأمر بفض مجلس النواب وتجديد الانتخاب على شرط ألا تتجاوز الفترة ثلاثة أشهر من تاريخ يوم الانفضاض إلى يوم الاجتماع، ويجوز لأرباب الانتخاب أن ينتخبوا نفس النواب السالفين أو بعضهم.»

«وإذا صدق المجلس الثاني على رأي المجلس الأول الذي ترتب الخلاف عليه ينفذ الرأي المذكور قطعيًّا.»

وقد فرح النواب، وفرح الناس جميعًا من وطنيين وعسكريين لصدور اللائحة أو الدستور، وأخذت مصر تستقبل عهدًا دستوريًّا كان يعدُّ بداية طيبة جدًّا للديمقراطية في مصر، بل وفي الشرق كله …

ويتجلَّى فرح مصر في تلك الحفلات التي أقيمت غداة صدور الدستور، ومنها حفلة جمعية المقاصد الخيرية، وكانت بالغة الروعة والجلال. وقد شهدها البارودي، وعرابي، وجمهور كبير من العلماء والأعيان، ورجال الجيش، وتبارى الخطباء وفي مقدمتهم السيد عبد الله نديم في بيان مزايا الدستور وإعلان ابتهاج النفوس به، والشيخ محمد عبده الذي دعا إلى نشر التعليم ليقوم الدستور على أساس سليم قوي.

ومن تلك الحفلات حفلتا نائبي البحيرة الشيخ أحمد محمود وإبراهيم أفندي الوكيل، ثم حفلة أحمد بك أباظة وحفلة أحمد بك يكن وغيرهم، وتدل هذه الحفلات دلالة بينه على أن روح الحرية والدستور كانت متغلغلة في نفوس مثقفي الأمة، وأن البلاد كانت تنهض فيها حركة قومية حرة لو أنها حدثت في بلد غير مصر لم يرزأ بالاحتلال لكان لها في سجلّ الحركات القومية العالمية شأن جليل، وما يضيرنا اليوم ما فعل الاحتلال بتاريخنا القوميّ، وقد خطونا خطوات لن يكون بعدها نكوص …

رأينا الحل الذي عالجت به وزارة البارودي مشكلة الميزانية، ذلك الحل الذي من أجله حقت عليها لعنة الدولتين، وحق عليها عقابهما، مع أنه لا يمكن أن يكون هناك تساهل في مثل هذا الأمر وفي مثل هاتيك الظروف أكثر من هذا التساهل الذي جرت عليه الوزارة …

هؤلاء نُوّاب شعب يجتمعون باسمه للنظر في صالحه، فكيف يتسنَّى لهم ذلك إن لم يكونوا قوامين على ماليته وهي أساس كل شيء ودعامة كل إصلاح؟ وكيف يكون الحكم قائمًا على أساس ديمقراطي إذا حيل بين نواب الأمة وبين النظر في الأموال التي تُجْبَى من أفرادها؟

وإذا كانت لمصر ظروف خاصة ناشئة من ديونها التي لم يكن لأهلها يد فيها، فأي شيء كان يطمع فيه من نوابها أكثر من أن يتركوا ما يتعلق بالدين دون تدخل فيه؟

ولكن الدولتين كانتا تحاربان المجلس فحسب مهما بلغ من اعتداله وحكمته، كانتا تحاربانه فتحاربان فيه الوطنية المصرية؛ لأنها إن ازدادت قوة ضاعت الفرصة وخرجت مصر سالمة مما كان يُدبَّر لها. انظر إلى الاحتجاج الذي كتبه المراقبان الأجنبيان في ١٢ يناير سنة ١٨٨٢ عندما علما بنية النواب في وزارة شريف قالا:٢ «يظهر أن مجلس شورى النواب يتهيأ لأن يطلب حق تقرير الميزانية، ولهذا نرى من واجبنا أن نقول: إن إعطاء النواب هذا الحق ولو اقتصر على الإدارات والمصالح التي تخصص إيراداتها للدين يفسد الضمانات المعطاة للدائنين؛ لأنه سيكون من نتائجه الضرورية أن تنتقل إدارة البلاد من يد مجلس النظار إلى يد مجلس النواب.»

ولا تسل عن مبلغ غضب هؤلاء الطامعين الكائدين لمصر على وزارة البارودي حينما حلت المشكلة على النحو المتواضع الذي بيَّنَّاه، فلقد انطلقت ألسنة الساسة منهم مع ألسن السفهاء من مراسلي الصحف بكل فاحشة وجارحة في الوزارة والنوّاب جميعًا على نحو خليق بأن تخجل منه الإنسانية، فهذا نظام موضوع بأسره تحت سيطرة جيش ثائر كما صوره كلفن في تقريره، وهذه وزارة جامحة تسوق مصر إلى الخراب، وهؤلاء نواب لا يعرفون من معاني الوطنية إلا التعصب الأعمى فضلًا عن جهلهم وضيق عقولهم …

كتب مالت يصف النواب قائلًا:٣ «إن ما يتظاهرون به من طموح إلى العدل والحرية قد انتهى بأن حلت سلطة الجيش الغاشمة محل كل سلطة مشروعة.»

وقال كوكسن يصف قانون الانتخاب الذي وضعته الوزارة السامية: «إن الغرض منه في هذا البلد أن تكون كل المزايا الانتخابية لمن رشحتهم السلطة الحاكمة الآن وهي سلطة الجيش.»

وليس بعجيب أن يبلغ حنق هؤلاء على الحركة الوطنية القومية هذا المبلغ، ذكر الشيخ محمد عبده في مذكرات متتابعة مرقمة أثبتها في ورقة لعله كان يجمع فيها عناصر فصل يكتبه وأوردها بنصها مترجمة الشيخ رشيد رضا٤ … قال الأستاذ الإمام: «مجلس النواب قرر تعيين لجنتين للتحقيق في بعض الشكاوى التي رفعت على مصلحة المساحة وعلى إدارة الجمارك، وظهرت وجوه الخلل في أعمال الموظفين الأوربيين، وتحقق ما كان يخشاه المراقبون من مقاصد المجلس، وقد رفض مسيو كاليار مدير الجمارك أن يحضر جلسات التحقيق وعارض في أعماله …»

«وقف المجلس على تقرير قُدِّمَ للمراقبين من أحد موظفي الدومين المسمى «روفسل» يطلب فيه مراقبة المجلس حيث أعطى الفلاحين آمالًا في أن يصلوا بالطفرة إلى ما يقال من حريتهم، واشتكى من أن المدير لا يحبس في الحال من يطلب منه حبسهم لتوقفهم عن العمل، ومن أن كل شخص يحبس بغير أمر قضائي يرسل بالتلغراف إلى نائبه، وعلى ذلك يسأل المدير عن السبب في الحبس، وهذا تظاهر من الأهالي بالأحوال الجديدة التي يبنون عليها حريتهم وخلاصهم …»

وأوعز مالت إلى وكلائه في الأقاليم أن يكتبوا تقارير عن مبلغ ما وصلت إليه الحال من سوء في البلاد، وأرسل هذه التقارير إلى حكومته، وبلغ من الجرأة على الحق، بل بلغ من صفاقة أحد هؤلاء الطامعين أن كتب يندِّد بإلغاء الكرباج فقال: «وما أعجب وما أسخف ما قال:٥ «إن الحاكم الشرقي إذا حرم كرباجه، وحظر عليه أن يسجن من يشاء عجز عن سياسة قوم اعتادوا منذ القدم أن يخضعوا لحكومة فردية قوية، إن الطريق الذي سارت فيه الحركة منذ عام، جعل الفلاح يعتقد أنه يستطيع الوصول طفرة إلى ما يسمونه له حرية. في حين أن ما اكتسبته هذه الحركة من قوة جديدة بإسلام أزمّة الأمور إلى طائفة من الخياليين النظريين. جعل أثرها في السلطة على وجه العموم أثر الماء تصبّه على قطعة من السكر.»

هذا ما قاله ذلك الإنجليزي الذي تفتخر دولته بأنها سبقت الدول إلى الحرية، والتي ما فتئت منذ عهد كرومر في مصر تفاخر بأن معتمدها هو الذي أبطل الكرباج في هذه البلاد!

وإنا لنسأل الذين يقرأون هذه المفتريات وأشباهها، والذين تتبعوا أساليب إنجلترا وفرنسا في الكيد لمصر، نسأل هؤلاء السادة الذين يعلمون هذا، ومع ذلك يعيبون على عرابي وزملائه تطرفهم، أكانوا يفعلون غير ما فعل عرابي وأصحابه إذا كانوا يحبون أوطانهم حقًّا، وكانوا يعيشون في مصر في تلك الأيام؟

أما الذين كانوا يجهلون هذه الدسائس التي تبثها إنجلترا في مصر، وحملوا لجهلهم بها على عرابي ما حملوا مجاراة منهم لما أشيع عنه، فحسبنا أن نريهم حقيقة الأمر ونكل المسألة بعد هذا إلى فطنتهم وضمائرهم.

وما ندافع عن عرابي إلا لأننا نعتقد أنه ظُلم، وأن الذين ظلموه هم أعداء البلاد الذين استباحوا ذمارها وألحقوا بها الذل والهوان …

وما يجدر بمصري وبلاده فقيرة فقرها هذا في الإبطال أن يشايع الذين حاولوا أن يطمسوا بالباطل تاريخ رجل كانت البطولة في مقدمة صفاته، فيصفون وطنيته ووطنية أصحابه بأنها نزق وفوضى …

ولقد جعل الكائدون لمصر الجيش هدفهم فيما راحوا يُشِيعونه من مفتريات، انظر إلى قول مالت في تقرير له عن «تزايد اختلال الأمن في البلاد لقلة اكتراث الأهالي بأولياء الأمور الملكيين، ويُعزى ذلك إلى سلوك رجال الحزب العسكري الذين لا يعاملون زملاءهم الملكيين بالاحترام الضروري لإدارة البلاد، وقد أخذت الرِّشوة تعود إلى سابق عهدها بين الموظفين، ومما يساعد على انتشارها كثرة التغيير والتبديل في كبار الموظفين.»

ثم يقول في وصف ما زعمه من ضيق وقع فيه الفلاحون في سبيل الحصول على المال «ويعزو الملاك قلة رؤوس الأموال وما هم فيه من الضيق إلى سياسة الحكومة الحاضرة التي لا تبعث على الثقة بها، ويجهرون بأنهم إذا عجزوا عن دفع الضرائب فالتبعة واقعة على الوزارة.»

وليس بعجيب أن يسلك كلفن ومالت وأشياعهما هذا المسلك في الطعن على الوزارة، وقد أدركا ما كانت تنويه حكومتهما من العمل على تمهيد السبيل للتدخل المسلح بعد هذا التدخل السياسي …

ولقد كانت تلك المذكرة المشئومة خطوة واسعة نحو هذا الغرض المرسوم، فكان لابد أن تتفاقم الحوادث بسببها لتصل بالبلاد إلى كارثة الاحتلال …

كتب قنصل فرنسا إلى حكومته يوم ٢٩ يناير يقول: «إن الرغبة البادية على مجلس النواب من جانب، في أن يصير برلمانًا، والخطة القوية التي رأت الدولتان من جانب آخر، أن تختاراها، والتي كانت مذكرة ٧ يناير تعبيرًا عنها هما السببان الجوهريان اللذان اصطدم كل منهما بالآخر فأوجدا الموقف الحالي.»

وكتب كذلك يقول: «يمكن أن يقال إن الانقلاب الذي أحدثه مجلس النواب المصري هو جواب منه على مذكرة ٧ يناير، فلقد أعلنا في هذه المذكرة أننا نحتفظ بالنظام الحالي ضد الجميع، فأجاب المجلس على ذلك بأنْ غيَّر هذا النظام تغييرًا جوهريًّا، وبذلك وضعنا أنفسنا في موضع صارت الضرورة قاضية علينا فيه بأن نتدخل أو نعدل سياستنا.»

وهذا الذي ذكره ذلك القنصل يصوِّر الحال تصويرًا صادقًا، وما كان موقف الدولتين يخفى على أحد من الوطنيين، وعلى ذلك يقضي الإنصاف على الذين يحكمون على أعمال رجال ذلك العهد وفي مقدمتهم عرابي أن يضعوا في أذهانهم قبل كل شيء أطماع هؤلاء الساسة، وأن يصوروا تلك الأعمال على هذا الأساس …

•••

مضت الوزارة في سبيلها غير عابئة بصراخ أعدائها لا تتخاذل من دون غايتها، ولا تستبعد الشقة، وذلك على الرغم من أنها كانت لا تجاوز عقبة إلا قامت في سبيلها عقبات.

ولقد قبع الخديو في زوايا العزلة، وجعل الخوّانون الغدارون بينه وبين وزرائه حجابًا من الأباطيل التي أحكموا نسجها …

والواقع أن الخديو لم يكن على شيء مما كان يجب أن يتصف به من يضطلع بأعباء الحكم في مثل هاتيك الظروف، فلقد كان مستطار القلب حائر اللبّ مما يجري حوله، فهو لا يسيغ الحركة الوطنية ولا يستطيع أن يصالح عليها طبعه، وهو مستريب في نيات الحكومة العثمانية نحوه ونحو عرشه، وهو فزع مما يشاع من دسائس الأمير عبد الحليم، بل ودسائس أبيه ومساعيه في مصر والآستانة على يد أعوانه، ثم هو فضلًا عن هذا كله قد بات تحت سيطرة الأجانب، وبخاصة الإنجليز منهم، فما يقطع أمرًا حتى يوافقوا عليه، بل لا يخطو خطوة حتى يرى رأيهم فيها …

ومن كان هذا شأنه في موقف كهذا الموقف الدقيق الذي كانت تقفه مصر من أعدائها يومئذ كان مثله مثل الراعي أحاطت الضواري بقطيعه فما يرجو أكثر من أن ينجو هو بنفسه ولو هلك القطيع جميعًا …

وكانت الدولتان كما سلف القول تراوغ كلتاهما الأخرى، وتغافلها بغية الظفر بالفريسة وحدها، وهذه هي حقيقة السياسة الخارجية التي لا تُفهم تلك السياسة على وجهها الحق دون الانتباه إليها.

وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد ما كتبه ريناخ أحد أصدقاء جمبتا عن سياسة الدولتين قال:٦ «إن الرأي العام في إنجلترا قد وقع تحت تأثير بعض رجال حزب الشورى الذين اعتقدوا أن خير ما يعمل هو استعجال الحوادث جهد الطاقة أملًا في إيجاد فرصة لدخول وادي النيل دون فرنسا.»

حسبنا تلك العبارة التي حاول كرومر أن يفندها، فلم يستطع أن يأتي بدليل أو شبه دليل على صحة رأيه، وما ملك غير أن ينفي، وما كان مجرد النفي مما ينهض دليلًا يؤخذ به في أمر من الأمور …

وكان جمبتا من أشد أعداء مصر، بل من أشد أعداء الإسلام قاطبة، وكان هذا اليهودي على صلة برجال المال من الدائنين، وكان يحيط به في باريس ريفرز ولسون ونوبار يُوحِيان إليه بما يريان، وكان بطبعه ممن يميلون إلى اللجوء إلى القوة في كل ما يتعلق بالشرق والشرقيين.

وكان هذا الوزير كما بيَّنَّا يحاول أن يدفع إنجلترا لتأخذ بسياسته، ولكن جرانفل راح يراوغه مظهرًا له أن خيرهما في أن يتفقا، وفي الوقت نفسه كان يحذره عاقبة التدخل المسلح في شؤون مصر، سواء أكان ذلك من جانب إحدى الدولتين أم من جانبيهما معًا؛ لأن ذلك العمل كان من شأنه أن يجرّ في أعقابه كثيرًا من المشاكل.

ولقد رأينا مبلغ تشدده في وجوب إرسال المذكرة المشتركة، ثم إصراره بعد ذلك على عدم تخفيف وقعها بأي وجه من الوجوه، ولقد كانت كل من الدولتين تحرص على ألا تنفرد فتنكشف، لذلك كانت تجاري إحداهما الأخرى وإنها لمستكرهة أشد الاستكراه وأقبحه. وكانت إنجلترا تأخذ نفسها بالصبر حتى تحين الفرصة فتقتنصها.

على أن جمبتا لم يلبث في الحكم طويلًا فسقطت وزارته في أول فبراير سنة ١٨٨٢، أي قبل تأليف وزارة البارودي بخمسة أيام، وحل محله في الوزارة دي فريسنيه، وكان هذا من أول الأمر يرى في المسألة المصرية ما لا يتفق وسياسة جمبتا …

ولكن الأمور كانت قد تحرجت في مصر بما فعل جمبتا، وفقدت العناصر الوطنية في البلاد كل ثقة في الدولتين جميعًا، حتى أصبح من أصعب الأمور التفاهم على السياسة العامة …

•••

لقد ارتخص هؤلاء الساسة من دعاة المدنية الناقمين على أهل الشرق ما كانوا فيه من تأخر كل كرامة ابتغاء الوصول إلى أغراضهم، وانقلبت عندهم الأوضاع التي تعارف الناس عليها، فلقد عزّ على هؤلاء السادة الذين راحوا يدلّون بمدنيتهم ويتطاولون بما فعلوا في سبيل حرية الإنسان أن يروا أهل مصر ينزعون حقًّا إلى الحرية، ويعملون على الرقي بوطنهم جادِّين غير متوانين، يتعاونون على الحق ويتناسون ما بينهم من دواعي الخلاف ويطرحون الأثرة ويحرمون على أنفسهم الطيبات ليتمّ لهم ما أرادوا …

وذعر هؤلاء الكائدون لمصر الطامعون فيها أن أفاق أهلها على هذا النحو، وقد كانوا يظنونهم أمواتًا أو كالأموات، وهالهم أن يروا فريقًا من هؤلاء الفلاحين يستلبون سلطة الخديو شيئًا فشيئًا، ويحاولون أن يضعوا أنفسهم بحيث تكون الأمة وهم نائبون عنها مصدر كل سلطان …

وأدركوا أن هذا البعث الذي أفاقت عليه مصر من نومها الطويل هو الصبح الذي يهتك أسدالهم ويبدد آمالهم، فما ونوا يومًا كما بينَّا عن محاربة مصر وزعماء مصر ورميهم بكل فاحشة، وفي مقدمة هؤلاء جميعًا ذلك الرجل الذي خطا نحو الحرية الخطوة الأولى، وصرخ في وجه الظلم الصرخة الأولى …

ولم يَرَ هؤلاء لوزارة البارودي حسنة واحدة، ولكن هذه الوزارة كانت لا تعبأ بما يرجف المبطلون، فمشت إلى غايتها على الشوك، وقد عقد أعضاؤها النية على إنقاذ بلادهم من طمع الطامعين وكيد الكائدين، وعلى تعهُّدها بضروب الإصلاح في شتى مرافقها حتى تقوى فتعز على كل باغ ظلوم من خصومها …

وما كان في الوزارة من عوامل الضعف سوى جهل رئيسها وأعضائها باللغات الأوربية، إلا وزير الخارجية مصطفى فهمي باشا، وقد ضم إلى الوزارة ليكون لسانها في الصلة بالأوربيين، ولكنه كان من رجال العهد القديم على حد قول مؤرخي الثورة الفرنسية، فلم يكن ينظر إلى الوطنيين نظرة الاحترام والتوقير، وإنما كان يرى فيهم فريقًا من الفلاحين يتطلعون إلى ما ليسوا أهلًا له، شأنه في ذلك شأن الشراكسة وأشباههم من سادات مصر وكبرائها في ذلك العهد … وعلى ذلك فقد كان وجود هذا الرجل في وزارة الخارجية عبئًا يضاف إلى أعباء الوزارة، وذلك أمر لم تفطن إليه إلا بعد فوات الوقت …

وفيما عدا ذلك كانت وزارة البارودي وزارة وطنية حقًّا تعمل صادقة مؤمنة على تحقيق آمال البلاد والنهوض بها على الرغم مما كان يحيط بها من دسائس وما كان يملأ أسماع رجالها من نباح وعواء.

انتهى دور انعقاد مجلس النواب في السادس والعشرين من شهر مارس سنة ١٨٨٢ فقضى بذلك في العمل نحو ثلاثة أشهر، وهي مدة قصيرة كان يشغل الأعضاء فيها ترتيب أعمالهم، ولكن المجلس على الرغم من ذلك قد قسم أعضاءه إلى لجان مختلفة أخذت تتصل بالوزارات وتبحث معها ما يهم البلاد من الشؤون العامة …

جد المجلس في دراسة نصوص المعاهدات والتعاقدات العامة والخاصة المبرمة بين الحكومة المصرية والحكومات الأجنبية ورعاياها …

وأخذت الوزارات تعد مشروعات الإصلاح المختلفة لعرضها على المجلس في دور انعقاده القادم، فكانت تنظر فيما يتطلبه النهوض بالتعليم، وتفكر في إنشاء مصرف زراعي ينتشل الفلاحين من وهدتهم، وتعمل على إصلاح المحاكم المختلطة واختصاصاتها، كما تناولت قانون الانتخاب بالدراسة لتعد قانونًا جديدًا يجعل للمحكومين الرقابة الفعلية على الحاكمين … وقد أشرنا إلى ما أبدى عرابي من همة في إصلاح شؤون وزارته وبثِّ روح النهوض فيها …

ولكن الوزارة كانت كلما تقدّمت خطوة في إصلاحها ازدادت لهجة الصحف الأوربية في العيب عليها والطعن فيها، واشتدت وطأة الساسة في نقد أعمالها، ونشطت دسائسهم من حولها، وكان على رأس هؤلاء كلفن ومالت اللذان أدركا الآن — أو على الأصح وجّها — إلى أن مهمتهما في مصر أصبحت استعجال الحوادث تمهيدًا للتدخل العسكري …

•••

والحقيقة التي لا يماري فيها إلا المغرضون المبطلون أن البلاد كانت تشيع فيها روح الوطنية الصادقة التي تبرهن على صدقها بالأعمال لا بالأقوال، ولو أنه قدر للوزارة السامية أن تسير على هذا النهج لكان أثرها بعيدًا في تاريخ مصر، بل وفي تاريخ القرن التاسع عشر كله، فلقد كانت تعدُّ المسألة المصرية من كبريات المسائل في ذلك القرن …

وليس أبلغ في الدلالة على وجود الوطنية العاملة في مصر مما نهض به أعضاء مجلس الشورى من جليل الأعمال في تلك المدة القصيرة التي عقد فيها جلساته «فإن أعمالهم في المجلس ومناقشاتهم تدل على مستوى ممتاز في الكفاية والغيرة الوطنية، وسداد الرأي، فقد طرقوا في مقترحاتهم ومناقشاتهم كل أبواب الإصلاح الذي تحتاج إليه البلاد في التعليم والقضاء والريّ والزراعة والمالية والاقتصاد والإدارة والمواصلات، وكانت خطبهم ومناقشاتهم وجيزة واضحة المعنى، بعيدة عن التطويل المملّ والعبارات الجوفاء، وكانت لهم نظرات صادقة في كثير من الشئون وآراء صائبة تدل على سلامة المنطق والإلمام بالنظام النيابي وحسن الإحاطة بالشئون الحيوية، اعتبر لهم ذلك في مناقشتهم الخاصة بانتخاب الوكيلين والأغلبية المطلقة والأغلبية النسبية، وبحثهم في علاج الخلل الذي كان موضع شكوى الجمهور في مصلحة المساحة، ومناقشتهم في علاج غلاء الأسعار وتضخم المعاشات واستعجال إصلاح القضاء، ومقترحاتهم في نظام الريّ. وتأمل في الاقتراح الخاص بمشروع خزان أسوان وملاحظاتهم السديدة على مشروع قانون امتيازات العرب ومناقشاتهم في مشروع تعميم التعليم، تجد أنهم على قصر المدة التي اجتمع فيها المجلس قد بذلوا أقصى ما أمكنهم من الجهد لأداء واجبهم، وبدت منهم رغبة صادقة في أن يتابعوا البحث والدرس في فترة عطلة المجلس، وبرهنوا على أريحيتهم بما تعاهدوا عليه من أن ينشئ كل نائب مدرسة في بلده على نفقته، فبرهنوا على روح طيبة في تقرير العلم والبذل في سبيل الصالح العام.»٧

•••

وكذلك نستدل على وجود الروح الوطنية في مصر يومئذ بهاتين العبارتين اللتين نوردهما وندعو القارئ أن يتدبر فيهما.

أما أولاهما فهي ما كتبه دي فرسنيه في كتابه «المسألة المصرية» حيث يقول معلقًا على مجلس النواب واختصاصاته: «إن كُتَّاب ذلك العصر اجتهدوا في أن يسخروا من طلب الذين كانوا يطلبون توسيع اختصاص المجلس، حتى ليخيل إلى الذي يقرأ خطابات بعض الخطباء أن الوطنية المصرية كانت في ذلك الوقت تلفيقًا، وأن وادي النيل لم يكن يحتوي إلا على فلاحين تحني العصا ظهورهم. فكل ما نرد به على هؤلاء الكتاب والخطباء، هو أن آباءنا كانوا أقل من هذا امتهانًا للوطنية المصرية في عهدهم، وذلك أن نوابنا في سنة ١٨٤٠ لم يترددوا في أن يتكلموا في خطبهم عن الرعاية الواجبة للوطنية المصرية الناشئة. فقد كانت هناك إذن وطنية مصرية ناشئة تستحق الرعاية في سنة ١٨٤٠، ولست في هذا مبالغًا ولا أنا ممن يحبّون المبالغة، ولكن لا ريب في أنه كانت توجد في قلوب المصريين من أربعين سنة مضت مطامح كان من الممكن أن تراعى في حدود معتدلة. تلك حقيقة لا تحتمل جدلًا، غير أن الذين كانوا يقبضون على حظِّ مصر لم يكونوا يرون من المصريين غير قوم مدينين، فلم يكونوا يعرفون في معاملتهم إلا مصلحة واحدة، هي مصلحة الدائنين الأوربيين التي يجب أن تقدم على ما عداها. وبذلك لم ينتبهوا إلى أن مثابرتهم على اعتبار مصر رهنًا، وتدخلهم في شؤونها تدخلًا أدى بحكومتها إلى أن تصير في أيدي الأجانب كانا قد انتهيا على طول الأيام بأن يجرحا شعور الشعب المصري الذي هو شعب حي مهما يقل القائلون في تعوُّده الطاعة والخضوع من أجيال.»

•••

وأما ثانية العبارتين فهي ما كتبه من باريس سنت هيلير إلى قنصل فرنسا العام في مصر في السابع من أكتوبر سنة ١٨٨١ قال: «ليس من السهل علينا أن نقرر من هنا قوة هذه المطامح الشرعية ولا كيف يمكن إرضاؤها، ولكن هذه المطامح حقيقية إلى أعظم حدٍّ، ومبرَّرة من بعض الوجوه إلى أعظم حدٍّ أيضًا، فلا يمكن إهمالها ولا يمكن على الخصوص التفكير في خنقها.»٨

ليتدبر القارئ في هاتين العبارتين، وليتدبر فيهما كذلك من يريد أن يحكم على رجال ذلك العهد وفي مقدمتهم عرابي، وليشفق على أنفسهم الذين يرمون عرابيًّا ورجاله بالفوضى والجهل والأنانية، ليشفق هؤلاء على أنفسهم فلن يجدر بهم أن يظلوا يجهلون تاريخ هذا الرجل فيحملون الذين يعلمون حقيقة هذا التاريخ على الاستخفاف بهم والزراية عليهم، فليس أدعى إلى الاستخفاف بعقل رجل من أن تراه يجهل أمرًا من الأمور ثم إذا هو يدلي فيه برأي قاطع في لهجة يتردد في اتِّباعها الراسخون في العلم …

ونضيف إلى هاتين العبارتين قول كرومر: «ليس هناك ريب في أن حركة عرابي كانت من بعض الوجوه حركة قومية. وليس من شك كذلك في أنه لو ترك عرابي وأتباعه في القيام على الشئون من غير مراقبة، فإن حالة من أشد حالات الاضطراب كانت تنشأ في مصر، وإن تدخلًا أجنبيًّا مسلحًا من نوع ما كان يصبح ضرورة من الضرورات.»

•••

وغنيٌّ عن البيان ما تكشف عنه عبارته الأخيرة مما يريد به أن يمحو أثر اعترافه بقومية حركة عرابي، فهذا المؤرِّخ الإنجليزي الذي كان من أكبر أساطين الاحتلال لا يستطيع إلا أن يمحو بشماله ما أثبته بيمينه …

ما كان عرابي طائشًا ولا داعية فوضى، ولكن كان زعيمًا مخلصًا يعمل بوحي من وطنيته ويصيب ويخطئ كما يصيب الزعماء غيره ويخطئون كلٌّ على قدر ما اجتمع له من الكفاية والمقدرة!

والخطأ والصواب من خصائص البشر ومردهما إلى العقل وسعته أو ضيقه، أما الصدق والإخلاص وما إليهما من صفات الزعامة والبطولة فلا تسامح فيها ولا تهاون، بل لا يصح أن تكون هذه أمورًا يجوز فيها التفاوت إذا عقدت المقارنة بين زعيم وزعيم وبين بطل وبطل! وكيف يجوز في عقل أن يكون هناك صدق ونصف صدق وإخلاص ونصف إخلاص؟ إن هذه أمور جلالها وجمالها بل وجوهرها في أن تكون غير قابلة لزيادة أو نقص. وعلى الذين لا يزالون يخاصمون عرابيًّا أن يأتوا بدليل واحد على كذبه أو مروقه، أما الخطأ والصواب فليقولوا فيهما ما يشاءون، وليس ما نُعْنَى به خطأ عرابي أو صوابه فليخطئ عرابي أو فليصب، ولكن لو أنه كما زعم خصومه كان مدعيًا أو مداجيًا ولو في موقف واحد من مواقف حياته السياسية ما استطعنا أن نكتب عنه كلمة واحدة …

ومع ذلك فبيننا وبين خصوم هذا الرجل حوادث هذه الثورة الوطنية على قدر ما علمنا من أمرها، وهي كفيلة بأن ترينا مبلغ ما في مزاعمهم من خطأ …

١  مقدمة كتاب «التاريخ السري» ترجمة البلاغ، والمقدمة بقلم الأستاذ عبد القادر حمزة …
٢  تعريب الأستاذ عبد القادر حمزة عن كتاب دي فرسنيه «المسألة المصرية».
٣  المسألة المصرية لروثستين.
٤  تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده الجزء الأول. ص٢٤٠.
٥  المسألة المصرية لروثستين.
٦  Modern Egypt—Cromer.
٧  الثورة العرابية للأستاذ عبد الرحمن الرافعي.
٨  العبارتان من تعريب الأستاذ عبد القادر حمزة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤