التل الكبير

كانت التل الكبير مركز الميدان الشرقي في جهاد الثورة كما كانت كفر الدوار مركز الميدان الغربي، ولقد دارت في هذا الميدان الشرقي معارك في مجال أوسع وفي أعداد أكبر مما كان في كفر الدوار، وكانت في هذه المعارك الشرقية صفحات مشرقة يطرب لها قلب كل مصري وتتهلل أسارير وجهه وصفحات مظلمة يندى لها جبين كل مصري وتتلون صفحة محياه … كانت فيها البطولة الباهرة إلى جانب الخيانة السافرة الغادرة، وكان فيها الإخلاص المتين للوطن المستصرخ أحاط به العدو من كل ناحية إلى جانب الأثرة الحقيرة على حساب هذا البلد المسكين، نُكِبَ بفريق من الخائنين كانوا أشد عليه من أعدائه، والحق أنه قلما نجد في تاريخ الحروب معركة جمعت بين النقيضين كهذه المعركة التي لم ير فيها العدو طريقًا توصله إلى غرضه إلا سلكها مهما كان فيها من عدوان على الفضيلة والحق، ولم يتورع فيها الخونة المستضعفون على اقتراف كل ما ينزل بالإنسان عن مرتبة الإنسانية …

في هذه المعركة استشهدت الحركة القومية، ووضعت الأغلال في عنق الحرية وفيها اختتم أسوأ خاتمة جهاد زعيم أحاط به من الخيانة ما لم يحط قط بزعيم من قبله ولا من بعده، أجل … ولكن ترك فيها الأحرار من دمائهم ومن أشلائهم ما قدموه مهرًا غاليًا للحرية الزهراء، وما وضع به التاريخ حركتهم — وإن غلبوا — في صف الحركات التي طبعها بطابع الخلود والمجد والتضحية والفداء …

•••

كان أكبر أخطاء عرابي وأركان حربه فيما أعتقد إهمالهم هذا المنفذ الشرقي إلى مصر إهمالًا قل أن نجد له نظيرًا، وصرف همهم كله إلى كفر الدوار، ولعل مرد ذلك فيما أفهم من حوادث هذه الحرب إلى خطأ آخر لا يقل خطره عن هذا الخطأ الأول ألا وهو اطمئنان عرابي وأصحابه إلى حيدة قناة السويس وحرصهم على إرضاء الدول بالمحافظة عليها … ولنأتِ بالحديث على سرده حتى يتبين لنا في هذه القضية وجه الحق …

ما كاد الإنجليز يفرغون من ضرب الإسكندرية حتى أخذوا يخوفون الدول بما زعموا من خطر محدق بقناة السويس، وتأهبوا ليلعبوا نفس الدور الذي لعبوه في ضرب الإسكندرية …

وكانوا يريدون من إثارة المخاوف — كما أسلفنا — أن يزعموا أمام دول المؤتمر أن الظرف القاهر الذي يستلزم التدخل الحربي في شؤون مصر لا يزال قائمًا على الرغم من رحيل الأوربيين …

وهم من جهة أخرى يتخذون من إذاعة هذه المخاوف المزعومة ذريعة لخطوات يخطونها في الناحية الشرقية تتصل بخطتهم الحربية العامة، دون أن يظهروا تلك الخطة؛ إذ إنهم لا يزالون يموهون على الدول أنهم لا يبتغون تدخلًا بمفردهم وأنهم ينتظرون رد تركيا على قرار المؤتمر الذي زعموا أنهم يحترمونه كل الاحترام …

وهكذا توصل الإنجليز إلى السير في خطتهم الحربية المرسومة عقب ضرب الإسكندرية في غير إبطاء؛ إذ كانت سياسة الأمر الواقع هي معولهم الذي حرصوا عليه ليواجهوا بها الدول والوطنيين على حد سواء …

والواقع أن إنجلترا بدأت تظهر ما تزعمه من مخاوف عن القناة منذ أواخر شهر يونيو، كما يتبين فيما أرسله جرانفل إلى سفير إنجلترا في باريس في الرابع والعشرين من يونيو ليخبر فرسنيه بأن «حكومة جلالة الملكة تلقت أنباء مزعجة لديها من الأسباب ما يحملها على تصديقها مؤداها أن خططًا وضعت ضد القناة نفسها».١
وزادت إنجلترا في إثارة المخاوف عقب ضرب الإسكندرية مباشرة؛ فقد أرسل جرانفل في الثاني عشر من يوليو إلى سفراء إنجلترا في كل من باريس وبرلين وروما وفينا وبطرسبرج والقسطنطينية ليخبر كل منهم الدولة المقيم فيها بما يخشى من خطر على القناة، ويسألها ماذا تراه من «علاج لحالة قد تفضي إلى كارثة بالتجارة الدولية».٢

ودارت بعد ذلك الاتصالات بين فرنسا وإنجلترا للنظر في اتحاد الدولتين على ما يُعمل لحماية القناة، حتى استقالت وزارة فرسنيه عل نحو ما ذكرنا من قبل، بعد أن أظهرت من التردد حيال هذه المسألة مثل ما أظهرت حيال ضرب الإسكندرية.

وكذلك اتصلت إنجلترا بإيطاليا، وطلبت معونتها في هذا الأمر حتى نفضت إيطاليا يدها من المسألة المصرية كلها …

ومهدت إنجلترا بهذه التعمية المقصودة لانفرادها بالعمل هنا كذلك على نحو ما فعلت في ضرب الإسكندرية، وفي الثاني والعشرين من يوليو عادت إنجلترا إلى نغمتها السمجة في الشكوى من تحصينات تقام على الساحل غربي بورسعيد، في طابية الجميل على مدخل بحيرة المنزلة، ومن ثم أصدرت الحكومة الإنجليزية أمرها إلى الأدميرال العظيم بوشامب سيمور فاتح الإسكندرية باحتلال بورسعيد والإسماعيلية.

وفي السادس والعشرين من يوليو اخترق الإنجليز قناة السويس غير مبالين بشيء ولا حاسبين لقانون حسابًا، أوليسوا يدافعون عن القناة مما يحدق بها من خطر لينقذوا التجارة الدولية من كارثة محققة؟!

اقتحمت القناة في هذا اليوم من الشمال السفينة الحربية أوريون بقيادة فتزوري، وفي اليوم التالي وقفت في بحيرة التمساح على ٨٠٠ متر من الإسماعيلية.

وفي التاسع والعشرين منه، وصل إلى السويس على مقربة من مدخل القناة من الجنوب الأدميرال هوت يقود أربع سفن حربية ووصل إلى بورسعيد على مقربة من مدخل القناة من الشمال الأدميرال هوسكن، وكان فتزوري كما رأينا في بحيرة التمساح على مرأى من الإسماعيلية …

وفي اليوم الثاني من أغسطس أنزل الإنجليز عساكرهم في السويس واحتلوا ثكناتها التي أخلاها الجيش المصري بغير مقاومة …

ولا ريب أن إخلاء السويس على هذه الصورة كان من أكبر العيوب في هذا الميدان، على أنه جزء من العيب الشامل ألا وهو إهمال تحصين المدخل الشرقي إلى مصر، كله …

وأرسل جرانفل إلى دوفرين في السابع من الشهر يقول: «في حالة ما إذا سئلت عن شرح لاحتلال السويس يمكنك القول إن حكومة جلالة الملكة لم ترسل تعليمات بهذا الشأن، ولكن أدميرال سير و. هوت، وكانت لديه السلطة أن ينزل جنودًا حيثما وجد الضرورة تدعو إلى ذلك، ولقد فعل ذلك بناء على ما تعرضت له المدينة من خطر ووافقته حكومة جلالتها على ما فعل، وقد كان يعمل لصالح الخديو الذي أعطى قائد القوات البحرية البريطانية السلطة ليتخذ من الخطوات ما يراه ضروريًّا لحماية القناة باسم سموه».٣

ولينظر القارئ مبلغ ما في هذه البرقية مما يشبه حال اللص؛ إذ تعوزه الحجة ومبلغ ما فيها من استغلال اسم الخديو واتخاذ الإنجليز انضمامه إليهم وسيلة لتحقيق خطتهم في التهام مصر …

•••

ومما يعجب له المرء أن الإنجليز كانوا بعد هذا الذي بلغوه من سيطرة على القناة يزعمون أنهم لم يعتدوا عليها بشيء وإنها لفي قبضتهم الآن في واقع الأمر وإن لم يمنعوا دخول السفن فيها بعد كما سيفعلون، تجد هذا الزعم في قول جرانفل في آخر هذه البرقية: «وأحب أن أشير إلى أن مدينة السويس تعد خارجة عن القناة» …

يفسر موقف عرابي من قناة السويس إهماله وأركان حربه تحصين الميدان الشرقي، ونقصد بموقف عرابي من القناة أنه ارتكب خطأ من أكبر أخطائه بإحجامه عن ردم القناة حتى ضاعت الفرصة واحتلها الإنجليز، ونحن نوافقهم كل الموافقة على رأيهم هذا في غير تردد فما كان غرضنا من كتابة هذه السيرة إلا وجه الحق مجردًا من كل محاباة، ولكنا نحالفهم كل المخالفة في أمور أحاطوا بها هذا الخطأ فأسرفوا فيها إسرافًا شديدًا وخاصة كتاب الإنجليز ممن دافعوا عن الاحتلال.

نخالفهم في أن دي لسبس كان يخدع عرابي وأن عرابي جازت عليه الخدعة ونخالفهم في أن عرابي لم يفطن بسبب جهله إلى أهمية ردم القناة كوسيلة من وسائل الدفاع، ونخالفهم في أن عدم ردم القناة كان السبب الأساسي للهزيمة، ونخالفهم في أن عرابي أحجم بسبب جبنه عن ردم القناة، ونخالفهم في أن العمل كان من السهولة كما يصفون … أجل، نخالفهم في ذلك كله مستندين إلى ما نقدم من أدلة نثبت بها ما نقول …

ومن الصعب على المرء أن يمحو من الأذهان فكرة استقرت فيها بفعل السنين منذ أن أذاعها خصوم عرابي مهولين في الأمر قبل يوم الناس هذا بنيف وستين عامًا، ولم نجد ردًّا عليها طوال هذه المدة كأنها من الحقائق المقررة التي لا تحتاج إلى نظر، وإنك لتتحدث إلى الناس في سيرة عرابي فتسمع فيما تسمع قولهم: لقد كان عرابي ساذجًا خدعه دي لسبس وغرر به فصدقه، أو على حد تعبيرهم العامي: «ضحك عليه» فلم يردم القناة …

ولكن الخطب يسير إذا نظر المرء في هذا الأمر نظرة مجردة من المزاعم السالفة جاعلًا غايته الوصول إلى الحق في غير محاباة لعرابي ولا تجنٍّ عليه …

في التاسع عشر من يوليو ذكر كارتريت فيما أبرق به إلى جرانفل قوله: «أتشرف بإبلاغكم بوصول المسيو دي لسبس إلى الإسكندرية، ويظهر أنه في مقابلته للخديو لم يتحدث كثيرًا عن الموقف السياسي، ولكن مجيئه إلى مصر الآن يعد من سوء الحظ».٤
وفي الثلاثين من الشهر أبرق جرانفل إلى سفير إنجلترا بباريس يقول: «إيماء إلى الطريق الذي يسلكه المسيو دي لسبس فيما يتصل بحماية قناة السويس، أرغب أن تبسط للمسيو دي فرسنيه أن حكومة جلالة الملكة ترى من المسلم أن المسيو دي لسبس لم يُعط سلطة ليتكلم أو يعمل باسم الحكومة الفرنسية، وعليك أن تطالب برد سريع بحقيقة الأمر ويسر حكومة جلالة الملكة أن تتلقى الضمان قبل أن ينفض يديه كلية من مقاليد الحكم».٥
وفي الرابع من شهر أغسطس أبرق جرانفل البرقية الخطيرة الآتية إلى نفس السفير يقول: «أرغب أن تبسط للحكومة الفرنسية أن حكومة جلالة الملكة وصل إلى علمها أن المسيو دي لسبس يعارض معارضة قوية أعمال حكومة جلالة الملكة في مصر، وذلك بتهديده بتعطيل القناة إذا أنزلت جنود بريطانية في أي مكان في القناة أو على مقربة منها، وحكومة جلالة الملكة لا ترغب الآن أن تتخذ شيئًا لقاء ما حدث منه؛ نظرًا لأنه من رجال فرنسا ذوي المكانة؛ ولأنه رئيس مجلس إدارة الشركة، إلا إذا ألجأتها الضرورة الملحة إلى ذلك، وأن الحكومة لتأمل أن تتجنب هذه الضرورة وذلك بما تبسطه الحكومة الفرنسية للمسيو دي لسبس مما يصرفه عن مسلكه، وأن حكومة جلالة الملكة لواثقة من أن لها أن تتوقع هذا من الحكومة الفرنسية؛ نظرًا لما بين الدولتين من علاقات الصداقة ولاتفاق مصالحهما في القناة وفي شؤون مصر بوجه عام».٦
وفي الخامس من أغسطس عقد مجلس إدارة الشركة اجتماعًا غير عادي وكان مما أعلنه فيه تمسكه بحياد القناة وانضمامه تبعًا لذلك إلى رئيسه فيما يدافع به عن حقوق الشركة المهددة ووجه الثناء إلى هذا الرئيس وقد خالف هذا القرار العضو الإنجليزي مستر ستاندن.٧

من هذا يتبين أن دي لسبس كان جادًّا في المحافظة على حيدة القناة، وأنه كان يخشى من سياسة الإنجليز أن تؤي إلى سدها أو تحطيمها بأيدي الوطنيين، ولذلك كان شغله الشاغل أن يحمل بمعارضة الإنجليز حكومته على التدخل لحماية القناة …

وإذا رجعنا إلى سياسة فرسنيه وجدنا أن دي لسبس كان على حق في انتظار تأييد حكومته، ولذلك وقف من الإنجليز موقف الجد والصرامة، فإن فرسنيه وإن لم يوافق على التدخل في مصر إلا أنه كان لا يعارض في مشاركة إنجلترا في حماية قناة السويس كما بينا؛ إذ إنه فصل المسألتين إحداهما عن الأخرى وقد خطا فعلًا خطوات في هذا السبيل واعتمد له المجلس التشريعي المال اللازم، وأرسلت التعليمات إلى الأدميرال الفرنسي ببورسعيد ليتفق مع هوسكن على ما ينبغي عمله.٨

لكن سقوط وزارة فرسنيه في آخر يونيو ذهب بهذه السياسة؛ إذ كان برنامج خلفه الابتعاد عن المسألة المصرية كلها ومن ثم ضعف دي لسبس، وتنمرت الحكومة الإنجليزية وأبلغت فرنسا التهديد الذي أشرنا إليه.

ولا يمكن مع هذا الذي ذكرناه من الحقائق أن يكون دي لسبس مخادعًا لعرابي، فليس في الأمر خديعة وإنما غلب دي لسبس على أمره بسياسة الأمر الواقع …

والحق أن عرابي لم يحج عن ردم القناة منخدعًا بأقوال دي لسبس وإنما كان هناك اعتبار على قدر عظيم جدًّا من الأهمية يشغل ذهن عرابي، وذلك هو ما كان يحيط به من ظروف …

كانت إنجلترا تصور عرابي وأنصاره أنهم عصاة مخربون، وإن لم يعملوا شيئًا ما يبرر هذه التهمة النكراء، فكيف يكون الحال لو أن عرابي أقدم على ردم القناة والمؤتمر منعقد بالآستانة، ومجلس إدارة الشركة خائف يترقب؟ ولقد رأينا كيف خوفت إنجلترا الدنيا مما زعمته من خطر محدق بالقناة قبل أن يحدث أي شيء …

للقارئ أن يصور لنفسه مبلغ ما كان يصيب الحركة القومية في مصر من سوء السمعة، الأمر الذي كان ينفر عرابي منه أشد النفور؛ لأنه كان شديد الحرص على أن يظهر للملأ أن حركته عادلة سليمة وأن لا يبدأ بالعدوان أحدًا وإن كان لا يحجم عن رد ما يوجه إليه من عدوان.

وليت الأمر كان يقتصر على سوء السمعة، بل إن الدنيا كلها كانت تصبح عدوة لعرابي وحركته، وحسبه ما كان يلاقيه من إنجلترا التي لم تدع وسيلة لتشويه حركته إلا أذاعتها …

وليس لأحد أن يقول: وماذا صنع المؤتمر بإنجلترا وقد خرجت على قراره وضربت الإسكندرية؟ لأن هذا قياس مع فوارق بينة، فإنجلترا فعلت فعلتها الآثمة بحجة الدفاع عن مصالح الأوربيين في مصر وأرواحهم، وإنجلترا تستند إلى قوتها وأسطولها ونفوذها السياسي، وإنجلترا تزعم أنها تعمل عملًا مشروعًا لتأديب قوم تعدهم من العصاة، وأين هذا كله من عرابي الذي لم يجد أحدًا يعطف عليه وهو المظلوم، فكيف إذا ظهر بمظهر الطاغية الذي يردم القناة ويعطل تجارة الدنيا؟!

ولسنا نريد بذلك أن نبرر عدم ردم القناة وإلا فما كان هناك مجال لأن نناله باللوم، وإنما قصدنا أن نبين سبب تردده وإحجامه وأن ننفي أنه كان في ذلك ساذجًا جازت عليه خدعة دي لسبس التي زعمها المبطلون أو الجاهلون …

وقد أحسن جون نينيه تلخيص هذه القضية في كتابه «عرابي باشا» في قوله: «فلما حل موعد المعركة لم تركن إنجلترا إلى قوانين القتال وقواعد الحرب، ولم تأبه بحيدة القناة التي تضمنها الدول بل أسرجت خيول سان جورج،٩ وأطلقتها في ميدان السبق لتحرز نصرًا قائمًا على الغدر والخيانة ومستندًا إلى الدسيسة والرشوة … وقد وقع نزاع خطير في فرنسا حول الدفاع عن قناة السويس؛ وذلك لكى ينفذ دي لسبس ما وعد به عرابي، فإنه تعهد لزعيم الثورة المصرية وقائد الجيش المصري بأن تقاوم قوة حربية إلى جانبه إذا نزلت جنود إنجلترا في الإسماعيلية أو اعتدت على حياد القناة الدولية … ولم يكن دي لسبس كاذبًا، ولكن السياسة عرضة للكذب؛ فقد تقدم مسيو دي فرسنيه إلى المجلس التشريعي بفتح اعتماد لإعداد الحملة الحربية للدفاع عن القناة فلم يجبه المجلس إلى طلبه فاستقال في أول أغسطس سنة ١٨٨٢».١٠

وقال عن عرابي بعد أن أشار إلى نصحه إياه بردم القناة: فلم يجبه المجلس إلى طلبه فاستقال في أول اغسطس وذوو عقول مدبرة وعلى جانب عظيم من فنون الحرب والهندسة، ولكن عرابي باشا لم يستمع لنصحهم، فكان يخشى بالوهم ما يسميه الرأي العام الأوربي، ولطالما أفهمته أن هذا الرأي العام حديث خرافة، وأن أوربا طامعة في الشرق كله» …

ونحب أن نورد ما كتبه الشيخ محمد عبده في هذا الصدد وما ذكره بلنت في تعقيبه على رسالة من رسائل عرابي إلى دي لسبس، قال الأستاذ الإمام: «عرابي اعتمد على دي لسبس في حماية القنال، وكان يظن أن مس القنال يهيج عليه جميع الأمم لهذا ترك هذه الناحية عوراء، وعندما أحس دي لسبس بأن الجيش المصري قد يتحرك ناحية القنال كتب تلغرافًا لعرابي يقول له: من المستحيل أن عساكر الإنجليز تمر من القنال … وبعد واقعة مهمة في ناحية كفر الدوار جاء الخبر عقبها بأن اثنتين وثلاثين سفينة توجهت إلى القنال فورد تلغراف من دي لسبس يقول: لا تسرع في شيء يمس القتال، لا يمر عسكري إنجليزي إلا ومعه فرنسي، أنا مسؤول عن كل ما يحدث. فأجيب بأن هذا غير كاف وتقرر إرسال جيش، ثم أرسل الجواب ببطء، وقبل أن يتحرك عسكري إلى ناحية القنال، كان الجيش الإنجليزي قد احتله؛ وذلك لتأخر الجيش ١٥ ساعة في إبلاغ دي لسبس، ويظهر أنه كان في الحاضرين خونة نقلوا الأخبار وأخطأوا في التبليغ».١١

وأوجه نظر القارئ إلى قول الأستاذ الإمام: «وكان يظن أن مس القنال يهيج عليه جميع الأمم لهذا ترك هذه الناحية عوراء» وإلى قوله: «فأجيب بأن هذا غير كاف وتقرر إرسال جيش» ففي هاتين العبارتين ما يلخص المسألة كلها ويقطع بأن الأمر أمر تردد له سببه الوجيه لا أمر خدعة طال فيها كلام العائبين …

أما بلنت؛ فقد أورد في كتابه أحد ردود عرابي على دي لسبس وهذا نصه: «لما كنت أحترم حيدة القنال احترامًا كليًّا وخاصة أنها عمل من الأعمال العظيمة ولأن اسم سعادتكم سوف يقترن بها في التاريخ، فإني أتشرف بإبلاغكم أن الحكومة المصرية سوف لا تعتدي على هذه الحيدة إلا عند الضرورة القصوى وفي حالة ما إذا ارتكب الإنجليز بعض الأعمال العدوانية في الإسماعيلية وبورسعيد أو في أي جزء آخر من القنال».

ويعقب بلنت على ذلك بقوله: «هنا نجد المبدأ قد وضع وضعًا طيبًا في وضوح ولكن موضع الضعف فيه يرى في أنه يدع للعدو أن يقترف أول خطوة عدائية بدل أن يحول بينه وبين ذلك من قبل ويمنعه».

وأين الخديعة في كلام عرابي مع هذا التحفظ الذي يبديه في كتبه وفي كلامه؟ إلا أن العيب كله ينحصر في التردد الذي أضاع الفرصة وهو ما استحق عليه عرابي اللوم بلا مراء، لا في الغفلة التي حاول زورًا أن يلصقها به المغرضون …

أما قصته مع دي لسبس فأمرها هين وإن ألقى عليها المغرضون شبهات من الأهمية والخطر … يقول عرابي في مذكراته: «في ١٤ يوليو سنة ١٨٨٢ ورد لنا تلغراف من المسيو دي لسبس مدير شركة القنال المذكور يستعلم عن رأينا في القنال بالنسبة للحركات الحربية فأجبته في التاريخ المذكور بالتلغراف أيضًا: إننا نعتبر القنال حرًّا للمنافع العامة الدولية، ولذلك فإننا لا نتعرض له بضرر إذا أمكنه منع السفن الحربية الإنجليزية من خرق حرمة الحياد واحترامها لقانون الشركة وإلا فنكون أحرارًا في مقابلتهم بالمثل …

فوَرَد تلغراف في اليوم المذكور يفيد أنه ضامن ومتكفل بمنع الإنجليز عن اختراق القنال ما دام فيه عرق ينبض؛ ظنًّا أن فرنسا تدافع عن حقوقها وتحافظ على حرية القنال ولا تلدغ من جحر مرتين».

واستمرت الرسائل بين عرابي ودى لسبس، ونكتفي منها بما أرسله عرابي في ٢٧ يوليو و٤ أغسطس و٢٥ منه، و٣ أخرى بغير تاريخ، وكلها تبين لدي لسبس ما يقف عليه عرابي من حركات الإنجليز العدوانية في منطقة القنال، وقد تساءل عرابي في بعضها: أهذا ما يريده دي لسبس بحياد القنال؟ … ومعنى ذلك أن عرابي كان على بينة من ضعف دي لسبس أمام الإنجليز وأنه لم يخدع بأنه قادر على منعهم من دخول القنال، وأنه إنما تردد لذلك الاعتبار الدولي الذي بيناه …

وقد حصل بلنت على هذه المكاتبات من دي لسبس أثناء المحاكمة وأثبتها في آخر كتابه، وقد أرسلها إليه دي لسبس مع كتاب منه جاء فيه: «إني أرسل إليك الترجمة الفرنسية لتلك الرسائل التي من شأنها أن تشرف متهمًا يحملك كرمك على الدفاع عنه».١٢

وأخيرًا، لما لم يجد عرابي بدًّا من العمل خرج من تردده وأصدر أمره بردم القناة ولكن بعد أن ضاعت الفرصة وهو ما عددناه من أكبر أخطائه بلا جدال …

ولم يكن عرابي يجهل أهمية هذا العمل في الدفاع عن مصر كما زعم خصومه؛ فقد نصح به محمود باشا فهمي في خطته التي ذكرناها، ونصح به جون نينيه إلى عرابي أكثر من مرة كما ذكر في كتابه؛ إذ قال: «فأحجم عرابي عن سد القناة في حينه وتمسك برأيه على الرغم مما كانت تقضي به الخطط الحربية الفنية، وعلى الرغم مما ذهب إليه زملاؤه وما ذهبت إليه أنا وكررته له عشر مرات، تارة بشديد الكلام، وتارة بالكتابة … على الرغم من ذلك كله ظل عرابي على رأيه فمهد للجنرال ولسلي نصرًا من أسهل ما عُرف في تاريخ الحروب»١٣ حيث قال في موضع آخر: «لن يجد الإنجليز صعوبة في احتلال القناة فهم لا يبالون بالمعاهدات والقوانين ولا يعنيهم إلا مصالحهم، وإذا بلغوا الإسماعيلية فمعنى ذلك أن الحملة بلغت النهاية».١٤
ومما يزيدنا ثقة في أن عرابي كان يدرك أهمية هذا العمل أنه صرح به لمراسل إحدى الصحف بالإسكندرية قبل ضربها قائلًا: «سوف نحترم القناة ما دام العدو يحترم استقلالنا، ولكن إذا نشبت الحرب فإننا سنهدم القناة مؤقتًا عند أول طلقة من مدفع، وسأفعل ذلك آسفًا؛ لأن القناة من طرق التجارة المحايدة».١٥
وكذلك نجد دليل على هذا في ذلك الكتاب الذي أملاه عرابي على صابونجي ليرسله إلى بلنت كي يحمله إلى جلادستون والذي ذكرنا طرفًا منه في الفصل السابق؛ فقد ذكر فيه عرابي أن «الحرب تجعل مصر في حِلٍّ من الالتزام بالعهود والمعاهدات وأنها سوف تحطم جميع القنوات وتعطل كل المواصلات».١٦

وأما قول القائلين: إن عدم ردم القناة كان السبب الأساسي للهزيمة، فينفيه ما حدث في معركة القصاصين الثانية؛ إذ كان المصريون على قاب قوسين من النصر، ولولا الخيانة كما سنبينه في حينه لتغير وجه الحرب كلها … ولكان اليوم لعرابي تماثيل في كبرى العواصم … وكل ما يمكن أن يقال هو أن دخول الإنجليز من القناة قد سهل عليهم إلى مدى عظيم النجاح في خطتهم بوجه عام.

وأما أن عرابي أحجم عن ردم القناة لجبنه فرأي سخيف؛ لأن تردده لذلك الاعتبار السياسي الذي فصلناه فسر بالجبن، وفرق بين أن يجبن الإنسان عن تحمله تبعة فعل من الأفعال وبين أن يقارن بين فعله وتركه فيرى حينًا أن تركه أجدى عليه وعلى قضيته من فعله فيقف زمنًا موقف الحيرة بين الرأيين …

وأما أن ردم القناة كان من السهولة كما يصوره خصوم عرابي في نعيهم عليه أنه لم يفعله في الحال، فذلك ما ينفيه الواقع؛ وذلك أن الإنجليز ما كادوا يفرغون من ضرب الإسكندرية حتى اتجهوا إلى حماية القناة، وكان على عرابي أن ينشئ خطوط كفر الدوار ليصد الإنجليز الذين دخلوا الإسكندرية فعلًا، فإذا ذكرنا أنهم فرغوا من ضرب الإسكندرية في اليوم الثاني عشر من يوليو، وأنهم سيطروا على مدخلي القناة قبل نهاية الشهر، واحتلوا السويس في اليوم الثاني من الشهر التالي، وأن جانبًا من أسطولهم كان يستطيع الانتقال فورًا إلى بورسعيد — إذا ذكرنا ذلك كله أدركنا مقدار ما كان يواجه عرابي ورجاله من صعوبة إذا هم أقدموا على عمل جبار كردم قناة السويس.

وليس معنى ذلك أنه كان يستحيل عليهم هذا العمل وإلا سقط عنهم اللوم وذلك ما لم نقله، وإنما كان الأمر صعبًا وقصاراهم أنهم كانوا يستطيعون أن يوزعوا جهودهم بين كفر الدوار وقناة السويس، ولا يخفى ما يكون في ذلك من خطر على الميدان الغربي.

والواقع أن سرعة الإنجليز ورسمهم خطة محكمة من زمن بعيد هو الذي أوقع المصريين في الحيرة، ولا يصح أن يقال: إن عرابي ملوم على كل حال؛ لأنه كان عليه أن يبادر بالعمل من قبل ذلك، ولقد رددنا على مثل هذا الكلام عما وجه إليه من لوم بشأن حصون الإسكندرية.

والقضية كلها تتلخص في كلمة، فطالما كان عرابي وزيرًا في وزارة يملك الخديو إسقاطها في أي وقت، وطالما كان الخديو في صف الإنجليز، فلن يستطيع عرابي أن يتأهب للحرب فضلًا عن إقدامه على عمل كردم قناة السويس، وما كان يستطيع عرابي أن يفعل شيئًا إلا بعد سقوط الوزارة وبعد عجز توفيق عن إقامة وزارة غيرها واضطراره إلى إبقاء عرابي في وزارة الجهادية، والمدة بين عودة عرابي إلى الوزارة وبين ضرب الإسكندرية هي شهر ونصف انشغل فيها عرابي بالأمن وقضيته، ومأساة الإسكندرية وما جرته في أعقابها، ودرويش وبعثته ودسائسه مما لم يدع له مجالًا للاستعداد ولو سرًّا، هذا إلى أن عملًا كردم القناة لا يكون إلا في موقف له مبرراته، أعني لا يكون إلا عند نشوب الحرب أو توقع نشوبها بين حين وحين وهو ما لم يخطر ببال أحد في مصر على هذه الصورة من السرعة وخاصة بعد انعقاد مؤتمر الآستانة …

•••

ولم يقتصر نشاط الإنجليز في المنطقة الشرقية من مصر على ما فعلوه بشأن قناة السويس، وإنما لجأوا كذلك إلى أسلوب فيه أقوى الأدلة على مبلغ ما للشرف البريطاني عندهم من رعاية واحترام، ويتضح هذا فيما فعله الأستاذ بالمر وشريكه الكابتن جل … وفيما استعان به الإنجليز بعد ذلك من رشوة خسيسة ودس دنيء …

كانت إنجلترا تدرس خطة احتلال مصر منذ أوائل سنة ١٨٨٢، أي قبل نفاذها فعلًا بنحو ستة أشهر، وقد أشرنا إلى حديث جرى بين مستر بلنت والجنرال ولسلي في ١٥ مارس تحدث فيه ولسلي عن أسهل الطرق إلى القاهرة وأبدى اهتمامًا بالصحراء الشرقية.

وفي منتصف شهر يونيو، أي عقب مذبحة الإسكندرية قررت وزارة الحرب بالاتفاق مع الأدميرالية تمهيد السبيل للحملة وذلك بالاعتماد على رشوة واسعة النطاق وخاصة بين البدو في المناطق الشرقية.١٧

واستدعت إدارة الأدميرالية البريطانية إدوار بالمر أستاذ اللغات الشرقية في كمبردج، وقد رأت في هذا الرجل خير من يصلح لأداء العمل المراد لمعرفته اللغة العربية ولخبرته بالمنطقة المقصودة؛ إذ تصادف أنه كان من قبل عضوًا في جمعية كشف فلسطين.

وتحدث إليه اللورد نورثبروك وعرض عليه أن ينهض بهذا العمل الوطني المشرف — كما قال — ألا وهو ضمان انضمام البدو شرقي القناة إلى الجيش الإنجليزي وذلك بالإفادة من قابليتهم للرشوة، وقدم له نورثبروك ٥٠٠ جنيه غير نفقات الرحلة ووعده بمكافآة عظيمة إذا اتفق له النجاح …

وكان المستر بالمر معسرًا فقبل الاضطلاع بهذا العمل الوطني المشرف، وتهيأ للسفر وهو يرجو لعمله هذا النجاح، ويقول بلنت: إنه مر به قبل سفره وتظاهر أنه عُين مراسلًا لجريدة «أستاندارد» وطلب منه أن يزكيه لأصحابه من رجال الحزب الوطني في مصر، وكان ذلك ليخفي — كما يذكر بلنت — العمل الذي كلف بأدائه.

أما التعليمات التي ألقيت إليه فهي أن يذهب إلى الإسكندرية حيث يتشاور في خطته مع سيمور، وبعد ذلك عليه أن يذهب في غير إبطاء إلى يافا حيث يتنكر في زي عربي ويزور الصحراء جنوبي غزة وغربيها، ويتصل بقبيلتي الطياحة والطرابين …

وقد اطلع بلنت على يوميات بالمر وأورد منها بعض فقرات كقول الأستاذ: «أعطاني الأدميرال مسدسًا وبندقية وكثيرًا من الطلقات» وقوله عن الأدميرال: إنه قال: «يهنأ الوطن بوجود رجل قدير مثلي يضطلع بمثل هذا العمل الصعب».

وانطلق بالمر إلى يافا على ظهر قارب بخاري فوقه العلم البريطاني وكان معه في القارب بحاران، وهناك اتصل بالقنصل الإنجليزي، وأرسل القنصل ابنه إلى غزة ليمهد السبيل للرحلة، واشترى بالمر الملابس العربية المطلوبة وبدأ بعد ذلك رحلته الصحراوية متظاهرًا أنه من تجار الإبل …

واستمر بالمر في رحلته وقد ذكر في يومياته أنه اتصل ببعض مشايخ الطرابين وأنه تعاقد مع الطياحة، وأنه قطع شوطًا كبيرًا صوب النجاح، وأن البدو كانوا يحبونه ويقبلون عليه ويدعونه عبد الله أفندي، وكان يسمعهم الشعر العربي فيطربون له وقد أكل معهم الخبز واللحم كعهد بينهم وبينه أن يحمي كل منهما الآخر حتى الموت.

وفي أول أغسطس بلغ بالمر السويس واشترك مع الجند الذين احتلوها ثم خرج إلى الصحراء ثانية؛ ليعمل على قطع أسلاك التلغراف وإحراق الأعمدة؛ لتنقطع المواصلات بين عرابي وتركيا …

وبعد ذلك بيومين التقى بالكابتن جل وقد أعطاه هذا عشرين ألف جنيه لتوزيعها على البدو ولقي بالمر حتفه في السابع من أغسطس هو وجل وإنجليزي آخر؛ إذ صادفهم في صحراء سيناء عدد من البدو من قبيلتي الحوايات والحويطات، فعرفوا أن معهم مالًا كان يحمله بالمر إلى الطياحة، فأوثقهم البدو وأخذوا المال وقتلوهم رميًا بالرصاص في وادي صدر.

ولم يقل نشاط جل غربي القناة عن نشاط بالمر شرقيها؛ فقد اتصل باثنين من أكبر مشايخ البدو، هما سعود الطحاوي في جهة الصالحية ومحمد البقلي في وادي الطميلات كما جاء في يومياته، ويذكر جل في هذه اليوميات أنه تلقى هذين الاسمين من الخديو نفسه وقد كتبهما الخديو بخط يده، وكان آخر ما كتبه جل في اليوم السادس من أغسطس، أي قبل مصرعه بيوم، قال: «يسرني أني تخلصت من العشرين ألف جنيه؛ إذ إنني أعطيت هذا المبلغ لبالمر ليوزعه على البدو» …

•••

ونرى قبل أن نتكلم عن وقائع الحرب في الميدان الشرقي أن نذكر ما كان من سعي الخديو واتصالاته في هذه الجهة، وذلك لما كان لفعله هذا من عظيم الأثر في نتيجة الحرب …

كان من أكبر أعوان الخديو في هذا الميدان أولًا الكابتن جل؛ فقد أرسله توفيق إلى الشيخين البدويين الطحاوي والبقلي وكان الإنجليز يعينون رسل الخديو من المصريين كذلك ويمدونهم بما يطلبون من سلاح ومال …

ويلي الكابتن جل في هذا المضمار محمد سلطان باشا الذي كان رئيس الحزب الوطني قبل رئاسة عرابي إياه والذي لقب يومًا ما أبا المصريين، والذي نراه اليوم يسعى سعيه جنديًّا متحمسًا للخديو وللإنجليز …

قال الشيخ محمد عبده في مذكراته: «مركز الدسائس والمخابرات كان في الإسكندرية في مكتب يسمى قسم المخابرات العسكرية اجتمع فيه كثير من الإنجليز من موظفي الحكومة المصرية ومن المقيمين بمصر، وكان روح الجميع سلطان باشا، عرف سلطان باشا أن توزيع النقود باسم الإنجليز لا يفيد، وعرف مقدار سلطة النقود على الأرواح، فأخذ في التوزيع باسم الخديو والسلطان واختار لبث الأفكار الحاوي الطحاوي أحد ثقاة عرابي».

وقال أيضًا: «في ٢٧ أغسطس جاء بلاغ بأن فارسين خرجا من الإسكندرية وتوجها من الناحية الشرقية من البحيرة وهما بدويان من قبيلة أولاد علي من عائلة مشهورة بالفيوم فقبض عليهما عند مرورهما من قرب معسكر كفر الدوار ووجد معهما منشورات من سلطان باشا، ورسائل منه إلى رؤساء القبائل وبعض الضباط يدعوهم إلى ترك عرابي والالتحاق بالجيش العثماني الذي جاء لإخضاع العصاة … استجوبا فاعترفا بكل شيء، وذكر أن جنديًّا بحريًّا إنجليزيًّا يسمى جيل حمل ٣٠ ألف جنيه من سيمور ليلحق بالأستاذ بالمر يستميل معه عرب غزة وحمل معه رسائل من توفيق ومن سلطان باشا إلى رؤساء العرب في الشرقية، وأن مبلغًا لا يقل عن المبلغ السابق سيصحب القائد الإنجليزي إلى الزقازيق، وبعد أن سلم الضابط أوراق المرور إلى القائد ذهب إلى السويس لمقابلة بالمر وقد قطع سلك التلغراف الذي يصل بين مصر والآستانة».

وقال بلنت: «ولم يكن ذلك الشخص غير زعيم حركة الفلاحين القديم الذي لم يساوره الخجل وقد ألقى بنفسه في أحضان الإنجليز كلية، أن يبذر بذور الشقاق بين أولئك الذين لا يزالون يتمسكون بوطنيتهم، ولقد يبدو من الصعب على الجيل الحديث في مصر أن يفهم كيف يهوي رجل اتصف بصفة عالية هي صفة الوطنية إلى ذلك السبيل الوضيع … وقد أرسل كتبًا إلى عدد من أصدقائه السابقين في القاهرة يشرح لهم فيها أن التحالف بين الخديو والإنجليز إنما هو ضرورة مؤقتة، ويقول: إن الجنود الإنجليز لن تبقى بمصر بعد إعادة سلطة الخديو، وإن عرابي قد فقد ثقة السلطان، وأن المقاومة المستمرة في القاهرة أمر ينقم عليه المسلمون … وقد أحدثت أثرها هذه الكتب التي أحكم توزيعها، ولعب المال مرة ثانية دوره القوي …»

وقال في موضع آخر: «لقد وجدت هذا مكتوبًا في يومياتي عن سنة ١٨٨٧١٨ ١٣ فبراير، زارني عبد السلام المويلحي من مؤسسي الدستور وعضو مجلس سنة ١٨٨٢، وأخبرني أنه كان صديقًا حميمًا لسلطان باشا ومن أعوانه وأنه كان أحد الذين انضموا إليه في خصومته لعرابي، ولكن الأسف يتملكهم جميعًا الآن أن لم يتحدوا، وهو لا يقر مسلك سلطان أثناء الحرب؛ فقد خدع مالت سلطانًا الذي غرر به ليفعل ما فعل واعدًا إياه وعدًا واضحًا أن حقوق البرلمان المصري سوف تحترم، وقد وعد مالت هذا الوعد شفويًّا وطلب سلطان أن يكتب له هذا ولكن الخديو صرفه عن الإلحاح في هذا الطلب قائلًا: إن كلمة الوكيل الإنجليزي لها قيمة الصك، ولما رأى الرجل الشيخ بعد الحرب مبلغ ما خدع به حزن حزنًا شديدًا ومات وهو يأمل أن يسامحه عرابي وألا ينتقل اسمه في الأعقاب موصومًا بالخيانة لوطنه».

وقال نينيه في كتابه: «وكان بجانب الأمناء في جيشنا بالشرقية فريق من الخونة يسوقهم الإنجليز ويمدونهم بالمال ويحرضهم توفيق باشا ويعدهم، وفريق من الشراكسة الباشوات الذين يحقدون على الفلاحين المصريين، ومن هؤلاء علي يوسف الشهير بخنفس، وقد زعم البعض أنه من صميم المصريين والحق أنه من حثالة الأتراك، وكان مع الأسف الشديد قائد قلب الجيش المصري وهو الذي اشترى سلطان باشا ذمته للإنجليز، فانسحب بفرقته فأفسح الطريق لجيش ولسلي».

وكان سلطان باشا أثناء القتال يرافق الجيش الإنجليزي نائبًا عن الخديو؛ فقد أصدر الخديو أمرًا بتعيينه نائبًا عنه لمرافقة الجنرال ولسلي في زحفه على العاصمة.١٩

من هذا الذي ذكرناه عن سلطان، يتبين لنا مبلغ ما بذل من نشاط في صفوف المدنيين والعسكريين، ومبلغ ما أدى من خدمة لجيش الاحتلال على حساب وطنه؟ ولقد كوفئ بعد الحرب بلقب السير من الإنجليز وبعشرة آلاف جنيه قبضها من الخديو … ألا بئس ما باع به نفسه ووطنه …

أما من اشتراهم سلطان بالمال، فمن أشهرهم سعود الطحاوي من البدو، وعلي يوسف خنفس، وعبد الرحمن حسن قائد فرقة الاستطلاع السواري، وراغب ناشد، وهو قائمقام في المقدمة، وسيأتي من عظيم الأسف والخجل الكلام على خيانة كل من هؤلاء في موضعها.

وممن عمل غير سلطان من المصريين مثل عمله عثمان بك رفعت ياور الخديو الذي وصفه بلنت بالمهارة والذكاء وقال: إنه أحدث تأثيرًا كبيرًا في نفوس عدد كبير من الضباط وخاصة من كانوا من أصل شركسي؛ إذ راح يريهم أن لا فائدة من المقاومة وأن الخير للشخص منهم أن يتجنب سوء العاقبة قبل فوات الوقت وسبيل ذلك هو الولاء للخديو، وكان عثمان بك يعرف فريقًا من الضباط فاستطاع أن يتصل بهم سرًّا ويغريهم …

ومما يبعث على الأسف أن بعض الضباط المصريين من الموالين للخديو غير من اشتراهم سلطان من الذين أخفوا خيانتهم في أنفسهم حتى يحين الوقت، قد رافقوا الجيش الإنجليزي وأرشدوه وأعانوه بالاستطلاع والتجسس بأمر الخديو؛ وهم: الأميرالاي زهراب بك، والقائمقام يوسف ضيا بك، واليوزباشي توفيق أفندي.٢٠

وسوف نرى أن السبب الأساسي للهزيمة كان مرده إلى هذا السعي الأثيم الذي قل أن يوجد له نظير في تاريخ بلد من بلاد العالم …

كانت الخطة الأساسية للحملة الإنجليزية غزو مصر من الشرق كما ذكرنا، وكان ذلك يقتضي اقتحام قناة السويس واتخاذ الإسماعيلية قاعدة للزحف على القاهرة.

وقد رأينا ما كان من نشاط الإنجليز في هذه المنطقة حتى أوائل شهر أغسطس وما كان من إهمال المصريين إياها حتى ذلك التاريخ، وفي اليوم التاسع عشر من أغسطس أبحرت الحملة الإنجليزية من الإسكندرية إلى بورسعيد تحت قيادة سيمور وكان الإنجليز قد حصنوا مدخل الإسكندرية تحصينًا قويًّا؛ خشية أن يدخلها الجيش المصري من كفر الدوار وربطوا بينها وبين بورسعيد من البحر بأسلاك التلغراف.

وفي الأسبوع الأول من أغسطس كان عرابي قد أرسل محمود فهمي باشا لبناء ما يمكن بناؤه من الاستحكامات عند التل الكبير والصالحية، وبعض المواقع الأخرى، كما أرسل بعض القوات فرابطت على مقربة من الإسماعيلية.

وفي العشرين من أغسطس بلغت السفن الإنجليزية المقلة للحملة بورسعيد، وكان عدد رجال الحملة نحو ٣٠ ألفًا، وفي هذا اليوم احتل الإنجليز بورسعيد واقتحمت السفن الحربية قناة السويس رغم أنف القانون وعلى حيادها ألف سلام، ومنعت السفن التجارية من دخول القناة من الشمال ومن الجنوب …

واحتلت جنودهم الإسماعيلية كذلك في هذا اليوم، وشرعوا في إنزال عتادهم بها ليتخذوها قاعدة لزحفهم على القاهرة، وتحقق لهم بذلك خطوة هامة من خطوات حملتهم، فبين الإسماعيلية والقاهرة ما لا يزيد عن ١٥٩ كيلو مترًا في حين أن بين الإسكندرية والقاهرة نيفًا ومائتي كيلو مترًا … هذا؛ وإن الطريق في الصحراء أسهل منه في الدلتا حيث الترع التي تعوق سير الجيش وحيث يخشى قطع الجسور وتهديد مؤخرة الجيش الزاحف، من القرى والمدن.

وأرسل عرابي إلى دي لسبس في هذا التاريخ يقول: «حيث إن الإنجليز اعتدوا على حياد القناة؛ فقد صارت مصر مضطرة إلى سدها وتعطيلها لمنع عدوانهم عليها».

وحاول الجيش تنفيذ هذا العمل فلم يستطع؛ إذ حرس الإنجليز بسفنهم ومدفعيتهم شواطئ القناة فكان كلما قرب العمال من مكان أبلغت طلائع الإنجليز عنهم فأقبلت القوارب بمدافعها تصليهم نار قذائفها فيولون الأدبار، ولم يتسنَّ للمصريين إلا سد الترعة العذبة فمنعوا وصول الماء إلى السويس والإسماعيلية …

وكانت السفن الإنجليزية منذ وصولها لا تزال تضرب نفيشة أول معسكر للمصريين بقنابلها لتشغلهم عن العمل في ردم القناة ولتلقي الرعب في نفوسهم، ولا تبعد نفيشة عن الإسماعيلية إلى الغرب إلا بنحو ٣ كيلو مترات …

بلغ ولسلي الإسماعيلية في ٢١ أغسطس، وبدأ يعد العدة للزحف على الصحراء، وفي هذا اليوم وصلت القوات الهندية إلى السويس …

يقول عرابي في مذكراته: «في ٢١ أغسطس توجه الفريق راشد باشا حسني إلى الخط الشرقي ومعه فرق من البيادة والطوبجية والسواري تحت قيادة خالد باشا نديم، ومحمد عبيد بك الميرالاي، وعبد القادر بك عبد الصمد الميرالاي، ثم صار وضع أورطة في محطة فايد، وأخرى في نفيشة، وجعلوا المركز العمومي في المسخوطة بواسطة الأهالي المتطوعين وسد الترعة الحلوة».

وفي ٢٣ من الشهر التحم الإنجليز والمصريون أول التحام في الميدان الشرقي، وبعد قتال شديد ارتد المصريون عن نفيشة فاحتلها الإنجليز …

وفي اليوم التالي هاجم الإنجليز موضع سد الترعة الإسماعيلية وكان يسمى المجفر واحتلته جنودهم …

ودارت معركة عنيفة بين الجيشين في المسخوطة في ٢٥ أغسطس، وقد أبلى راشد باشا بلاءً حسنًا في هذه المعركة، ولكن تكاثر العدو عليه اضطره إلى الانسحاب فسقطت المسخوطة.

وفي هذه المعركة أصيب الدفاع الوطني بضربة من أشد الضربات وخسر خسارة كبيرة وذلك بأسر رئيس أركان حرب الجيش وكبير مهندسيه محمود فهمى باشا كأنما قدر على الجيش المصري أن يصادفه النحس في أولى خطواته.

وبيان ذلك أنه خرج في المساء وكان يرتدي ملابس مدنية ومعه ياوره فترك الياور في قرية هناك وسار وحده حتى بلغ قمة تل غير مرتفع على الجانب الآخر من وادي الطميلات ليلقي نظرة على الصحراء في اتجاه الإسماعيلية وتصادف أن كانت ثلة إنجليزية صغيرة بهذا المكان فأحاطت به وظنته يتجسس، ولكنه أوهم هؤلاء أنه مالك من أصحاب الأرض في القرية القريبة وكادوا يصدقونه ويطلقونه، ولكن رئيس هذه الثلة رأى أن يأخذه إلى معسكر الإنجليز، ربما كان في الأمر شيء، وبقي الياور في القرية لا يدري ماذا وقع لرئيس أركان حرب الجيش؟ وهكذا لحقت الجيش المصري خسارة فادحة في أيسر صورة.

ولهذا ظن عرابي الظنون بمحمود فهمي باشا وحسب أنه فعل هذا ليقع أسيرًا في يد الإنجليز؛ فقد قال في مذكراته: «وأما محمود فهمي باشا فإنه لم يرد أن يرجع مع العساكر وآثر الوقوع في الأسر على البقاء في الجيش لشدة ما هاله من منشور السلطان بعصياننا٢١ وطمعًا منه في قبوله لدى الخديو بسبب استسلامه إلى الإنجليز ولذلك خالف خالد باشا وثبت على موقفه مع خادمه حتى قبض عليه الإنجليز بصفة كونه نفر بسيط».

واستولى الإنجليز على المحسمة في نفس اليوم الذي استولوا فيه على المسخوطة وهي على مسافة ٢٢ كيلو مترًا من نفيشة ونحو ٢٤ كيلو مترًا من التل الكبير، وكانت خسائر المصريين في المحسمة ٧ مدافع كروب وكمية كبيرة من البنادق وقطار محمل بالذخيرة …

ودخل الإنجليز القصاصين بعد مقاومة صغيرة، فأصبحوا على مسافة ١٥ كيلو مترًا من التل الكبير وعند ذلك رأى عرابي أن ينتقل إلى الميدان الشرقي فسافر إلى هناك من كفر الدوار بالقطار يصحبه عدد من الضباط وقوة من الحرس، وكان معه عبد الله نديم خطيب الثورة وكاتبها وقد جاء يستنهض الهمم بأحاديثه وخطبه بين صفوف الجيش.

واستقبل عرابي في الزقازيق استقبالًا حارًّا؛ فقد خف للقائه الأعيان والعمد والموظفون وأرباب الطرق الصوفية وحيته الجموع المتزاحمة لرؤيته بالدعاء المعروف: «الله ينصرك يا عرابي» وكانت النساء والصبية على خط السكة الحديد يرددون أغنية أولها: «يا مولانا يا عزيز، أهلك عسكر الإنجليز!» ثم يهتف أحد الشباب قائلًا: «الله ينصرك» فتردد جموع الشباب قائلة: «يا عرابي» وتألف من هذا مظاهرة شعبية جميلة فيها الدعاء وفيها الرجاء …

وأقيمت لعرابي بالتل الكبير خيمة سعيد باشا التي كان يقيم بها في كفر الدوار، وأحيطت بالحرس؛ خوفًا من كيد الكائدين.

وتشاور عرابي وكبار رجاله في الموقف الحربي فتقرر اتخاذ خطة الهجوم في الحال، وقد وصل إلى الميدان الشرقي من القاهرة علي فهمي باشا يقود الآلاي الأول من المشاة، ثم وصل بعد ذلك عيد محمد بك بآلايه من كفر الدوار، وكذلك أحمد عبد الغفار بك، وعبد الرحمن بك حسن ومعهم الفرسان، ووصل من دمياط خضر بك خضر ومعه أورطتان من السودانيين.

على أن مجموع هذه القوات لم يكن يزيد في الميدان الشرقي عن ١٣ ألفًا من الجنود النظامية، أما المتطوعون والأنفار والعمال فكان عددهم يزيد كثيرًا عن ذلك.

وفي ٢٨ أغسطس تهيأ المصريون للهجوم وقد اشتعلت الحماسة في نفوسهم على الرغم مما انبث فيها من أسف على أسر محمود فهمي باشا …

يقول عرابي في مذكراته: «ثم عقد مجلس حربي تحت رئاستنا تقرر فيه الهجوم على العدو، وعرف الرؤساء كيفية ترتيب الجيش وسيره وأعطي لكل واحد منهم رسم الشكل الحربي مبينًا فيه الدقيقة التي يلزم أن توجد الفرق فيها على خط النار أمام العدو؛ حيث كان معسكرًا في القصاصين، وكان الترتيب على هيئة شكل مقعر يكتنف العدو من كل جهة فكانت أورطة محمد أفندي الرملاوي في الجناح الأيمن للترعة الحلوة، ومعه أورطة من السواري ومدفعان وجانب من العربان، وفي هذا الجناح من يسار الترعة أجى آلاي بيادة حكمدارية أحمد فرج بك وخلفه مدفعان، وفي القلب ثلاث أرط يتقدمها ٨ مدافع من الكروب وخلفها أورطة من البيادة و٦ مدافع والجميع تحت حكمدارية علي فهمي باشا، والطوبجية تحت حكمدارية حسن رأفت بك، وفي الجناح الأيسر ٦ أرط من السواري تحت حكمدارية أحمد بك عبد الغفار، وأورطتان من البيادة ومدفعان تحت حكمدارية عيد بك، وقومندان هذا الجيش هو راشد باشا حسني، وكذلك محمود باشا سامي حكمدار الجيش المعسكر في الصالحية وهو مكون من ١٢ ألف عسكري، يقوم بجيشه ليلًا بحيث يصل إلى يسار جيش رأس الوادي عند مطلع الفجر، ويحيط بميمنة العدو والقوة التي على يمين الترعة تحيط بميسرته والعربان يقتحمون الترعة من خلفه وتقطع عليه خط الرجعة، وبذلك لا يتمكن العدو من الفرار، وقد كان مع العدو الدوق أوف كنوت ثالث أنجال ملكة الإنجليز، وانفض المجلس على ذلك».

وهي خطة محكمة كما نرى، وقد نفذت كذلك بإحكام فهجم المصريون على مواقع الإنجليز في القصاصين في ٢٨ أغسطس بقيادة راشد باشا حسني الشهير بأبي شنب فضة، ودار قتال شديد جدًّا وتحمس المصريون وقويت روحهم المعنوية وكأنما تذكروا المبادئ التي يحاربون في سبيلها، فشدوا على الإنجليز مستبسلين، وعظمت قوة هجومهم، فأجلوا الإنجليز عن مواقعهم الأمامية واستولوا عليها …

واستعاد الإنجليز قوتهم وهجم فرسانهم بقيادة الجنرال لو، وبعد تلاحم شديد استردوا مواقعهم من المصريين، وقد هبط الليل والحرب سجال بين الجانبين، وقتل من الإنجليز في المعركة ٨ منهم ضابط وجرح واحد وستون، منهم ١٠ من الضباط … وهذا هو إحصاء الإنجليز أنفسهم٢٢ وتعرف هذه المعركة بمعركة القصاصين الأولى.

أما التقرير الرسمي الذي أعلنه وكيل الجهادية بناء على ما ورد إليه من ميدان القتال، فيقول: إن المصريين أسروا ٧٠ إنجليزيًّا، وإن جثث الإنجليز في ساحة المعركة بلغت ٨٠٠ «وجدوهم مجندلين بأسلحتهم وألبستهم وذخيرتهم، وهم غير الذين سيعثر عليهم فيما بعد، وغير الذين تمكن العدو من حملهم إلى مراكزه أو إحراقهم؛ فقد ورد إلينا من علي فهمي باشا أنه رأى حريقًا في جهة الكبرى فأرسل إلى تلك الجهة من يستكشف خبر هذا الحريق فظهر أنه حريق قتلى الهنود من جيش الإنجليز وقد استشهد من عساكرنا في هذه المعركة ٦٠ شهيدًا، وجرح ٨٥».

أورد عرابي في مذكراته تقريرين للإنجليز عن هذه المعركة، ومما جاء في أولهما: «وكان العرابيون بعدد عظيم لم تقوَ عليه الفرق الإنجليزية فوردت إليها نجدة من المحسمة، ثم اشتد القتال واستمر إلى أول الليل فتشتت شمل العرابيين وتكبدوا خسائر جسيمة منها عدة مدافع غنمها الإنجليز … أما خسائر الإنجليز فكانت قتيلًا واحدًا و٦ جرحى من الضباط و١٩ قتيلًا و٥٢ جريحًا من الجند».

ومما جاء في التقرير الثاني وهو للجنرال جراهام قائد هذه المعركة: «ففي الظهر أطلق العصاة علينا نارًا شديدة من مدافع العيار الأول فلم يلحق بنا أقل ضرر وفي الساعة الثالثة بعد الظهر أمرت رجالي بالرجوع إلى مراكزهم، فعادت فرقة الخيالة إلى المحسمة وكانت قد وفدت علي إمدادات ونجدات، وفي الساعة الرابعة تقدمت نحونا فرقة من المشاة من الأعداء وحاولت التغلب على ميمنة الجيش وإكراهه على التسليم» … ولم يشر هذا التقرير إلى القتلى والجرحى …

ويتبين من هذه الروايات على كل حال، تكافؤ الجانبين في المعركة، ولا نجد أحسن من هذا نرد به على الذين يتحدثون عما ليس لهم به علم، أو الذين أضلهم الاحتلال فقالوا: إن المصريين لم يحاربوا فما هو إلا أن رأوا الإنجليز حتى فروا هاربين! وليت شعري ماذا يريد هؤلاء بترديد تلك الأباطيل عن جيش أمنهم؟! هل لكي ينكروا الجهاد على عرابي؟ ألا ما أشد ما لقي هذا الرجل من نكران للجميل؟!

ويجدر بنا أن نلاحظ أمرًا على جانب عظيم من الأهمية؛ وهو أن الإنجليز الذين كانوا يوالون الزحف إلى الأمام قد توقفوا بعد هذه المعركة أيامًا، ولم يستأنف القتال إلا بعد أن هجم المصريون عليهم مرة ثانية في ٢٩ سبتمبر؛ وذلك لأن دسائس سلطان وأعوانه لم تكن قد نجحت بعد، فخشي الإنجليز التقدم دون أن يستعينوا بهذا السلاح الدنيء … سلاح الرشوة والخيانة والغدر، كما أنهم كانوا يعدون لعرابي الضربة القاصمة وهي إعلان قرار عصيانه، وحسبنا هذا دليلًا على خوف الإنجليز من خطوط المصريين وعلى أنهم قد عرفوا ثبات المصريين واستبسالهم في هذه المعركة؛ حيث تبين لهم أن الأمر جد وما هو بالهزل.

والحق أن المصريين منذ معارك كفر الدوار حتى نهاية معركة القصاصين الأولى، قد خلا جهادهم المشرف من كل شائبة، وهو حتى هذا الطور خليق بكل ثناء وإعجاب فحسب المرء أن يبذل ما في وسعه في سبيل النجاح وفي سبيل الشرف، أما إدراك النجاح فعلًا فقد يفلت من أعظم القواد كفاءة ومن أقوى الجيوش بأسًا لأمور لم تجرِ لأحد في حساب …

لا بد لنا قبل أن نتتبع أدوار الحرب، من أن ننظر فيما كان من أمر تركيا والمؤتمر الحربي بينها وبين إنجلترا، ومساعي الإنجليز كي يصدر السلطان قراره بعصيان عرابي …

أرادت تركيا أن يظل المؤتمر العام منعقدًا؛ أملًا في أنه ربما جد خلاف بين الدول، ولذلك لم توافق على التأجيل وأعلنت احتفاظها بحقها في دعوة المؤتمر في أي وقت، ولكن مساعيها ذهبت هباءً، وذهب كذلك المؤتمر إلى غير رجعة …

ووجهت تركيا همها إلى المؤتمر الحربي الثنائي بينها وبين إنجلترا، وكان السلطان يتحرق شوقًا إلى اليوم الذي تنجح فيه مساعيه للاشتراك مع إنجلترا في الحملة على مصر وذلك بالسماح له بإرسال جنود إلى مصر التي هي جزء من سلطنته!

واستغلت إنجلترا هذا الاهتمام الشديد لتظفر ببغيتها ألا وهي «قرار العصيان» وراح دوفرين يتوعد تارة، ويصانع تارة أخرى أثناء المناقشة في الشروط المقترحة للعمل المشترك، وهو في الحالتين إنما يمثل على الحكومة التركية ويعاملها معاملة الشيخ الخبيث الماكر، لحدث لا يحيط بشيء مما حوله؛ بغية اكتساب الوقت والظفر «بقرار العصيان» فحسب …

وكان السلطان راغبًا عن هذا القرار؛ لما يكون من سوء أثره في العالم الإسلامي، ولأنه يوقن أن عرابي إنما يدافع عن حقوقه في مصر، وأراد السلطان أن يظهر شيئًا من الغضب فمنع إرسال عدد من البغال اشترتها إنجلترا لجيشها في مصر، ولكن ما كاد دوفرين يحتج على ذلك في عنف حتى تراجع السلطان وأرسل إليه رسولًا خاصًّا يبلغه أنه يأمر بإرسال البغال المطلوبة …

واغتنم دوفرين الفرصة فأبلغ رسول السلطان بأن الحالة في مصر تستدعي عملًا حاسمًا وهو يشير بذلك إلى القرار المطلوب، وفي ٢٣ أغسطس زار دوفرين سعيد باشا، وبعد مناقشة في أحد بنود المؤتمر المطلوب عقده؛ إذ كان السلطان يريد أن تنزل جنوده بالإسكندرية بينما كانت إنجلترا — ضياعًا منها للوقت — تقترح غير جادة أن يكون ذلك في أبي قير، ورشيد، ودمياط، أشار دوفرين إلى قرار العصيان، وأجاب سعيد باشا بأن حكومته ترى أنها خطوة ليس من الميسور اتخاذها لأول وهلة، وتريد أن تستبدل بها قرارًا آخر يقوم على النصح لعرابي ومناشدة ولائه مناشدة أخيرة، وإذ ذاك نهض دوفرين غاضبًا معلنًا أنه من المستحيل أن يعود ثانية إلى التحدث مع تركيا بشأن المؤتمر أو في أي أمر آخر.٢٣

وأحدثت هذه الغضبة أثرها؛ إذ رافقه سعيد باشا، وقاسم باشا إلى أسفل الدار ثم إلى الشارع معتذرين، وقالا: إنهما تقدما بهذا الاقتراح على غير مشيئتهما، ورد دوفرين في صلف: إنه لن يوقع على قرار عقد المؤتمر إلا إذا وصله قرار العصيان باللغتين العربية والفرنسية.

وفي ٢٥ أغسطس أرسل دوفرين إلى حكومته يقول: إن السلطان عاد يضع العقبات في سبيل ما يعده التجار لإمداد الإنجليز بما يريدون إرساله إلى جيشهم في مصر وإنه يهدد بالسجن أي تركي يرافق الحيوانات المزمع إرسالها بقصد المحافظة على حياتها …

وفي اليوم نفسه أبرق مالت إلى جرانفل يشكو من أن عمل السلطان من شأنه ألا يجعل العصاة يصدقون أنه سوف يساعد الحملة؛ لذلك فإن الحملة لن تحصل منه على التأييد الأدبي المطلوب، ويقول: إن شريف ورياض يعارضان في مجيء جنود تركية إلى مصر ويخشيان مما ينجم من المتاعب بسبب ذلك فيما بعد.٢٤

وفي ٢٧ أغسطس عاد سعيد باشا يلح وقد أفضى إلى دوفرين بأن تركيا مستعدة لقبول الشروط التي تراها إنجلترا لعقد المؤتمر وأن قرار عصيان عرابي يصدر عقب التوقيع على الاتفاق الأخير …

ووافقت إنجلترا على شرط أن يعلن قرار العصيان حالًا وهو في الواقع ما كانت تبتغيه إنجلترا بهذه الاتصالات وعلم ذلك في مصر في ٣١ أغسطس على إثر برقيته إلى مالت، وعاد السلطان يبذل آخر محاولة لأن تنزل جنوده بالإسكندرية وذلك في ضراعة وتوسل يدلان على مبلغ ما انحدر إليه هذا الطاغية المستبد في قومه أمام الإنجليز من هوان؛ فقد أرسل دوفرين يقول: «إن السلطان جاث على ركبتيه وإني لأجرؤ على أن أتقدم إلى حكومة جلالة الملكة في إخلاص أن تقبل تضرعاته»٢٥ وزاد دوفرين على ذلك: «إن السلطان يعد في نظير ذلك أن يعمل كل شيء تريده إنجلترا بشأن القرار ضد عرابي، وأن يأمر الصحف بتغيير لهجتها».

وعلى الرغم من هذه المذلة في الرجاء لم تقبل الحكومة الإنجليزية نزول الأتراك بالإسكندرية التي هي من أملاك السلطان! وفي اليوم السادس من سبتمبر أعد السلطان القرار ونشر في الصحف قبل أن يرسل إلى دوفرين.

وما إن ظفرت إنجلترا بتوقيع السلطان على القرار، حتى راحت في لؤم، ليس له مثيل، تتنصل من وعدها بقبول المؤتمر بحجة أن قرار العصيان لم يكن في الصيغة التي أرادتها إنجلترا تمامًا!

واستؤنفت بعد ذلك الاتصالات بين الدولتين في صورة مملة حسبنا منها هذا القدر لنعود إلى الحرب في مصر.

•••

في ٩ سبتمبر وقعت معركة القصاصين الثانية وكانت آخر معركة أثبت فيها المصريون شجاعتهم وكاد جيش مصر رغم قلته يظفر بالجيش الإنجليزي رغم كثرته، ولكن وا أسفاه، كانت الدسائس قد أفرخت؛ فحيل بين المصريين وبين الظفر وهم منه على خطوة، ولذلك كانت هذه في الوقت نفسه أول معركة سجل فيها نفر من المصريين على أنفسهم عار الخيانة في أقبح صورها وأشنعها، وبسبب هذه الخيانة الغادرة حلت الهزيمة السوداء حين التمعت بوارق النصر …

كانت لا تخرج خطة هذه المعركة في جوهرها عن خطة المعركة الأولى، وكان المصريون هنا كذلك البادئين بالهجوم على الإنجليز، وهي ظاهرة تسجل لهم بالحمد؛ إذ كان عمل المصريين في كفر الدوار قاصرًا على الدفاع …

وقد وصف بلنت هذه المعركة بقوله: «إنها كانت أفضل فرصة أتيحت للمصريين لصد تقدم الإنجليز وآخرها، ولم تكن بعيدًا جدًّا من النجاح» …

ويقول بلنت: «ولو أنها نجحت فليس يعرف ما كانوا لا يحصلون عليه من الاعتراف بهم ومصالحتهم؛ وذلك لأن الرأي العام في إنجلترا كان قد تغير فعلًا في هذا الوقت بالذات وأخذ الناس يشعرون بالخجل من حرب تشن على الفلاحين الذين يحاربون؛ ليخلصوا حريتهم من استبداد قديم».

وكان قد وصل في ٣١ أغسطس كما ذكرنا إلى مصر، نبأ موافقة السلطان على إصدار قراره بعصيان عرابي، ونشرت صحف الآستانة هذا النبأ وتناقلته الصحف الإنجليزية والصحف المؤيدة للخديو، وقد طرب لهذا النبأ توفيق باشا وأعوانه أيما طرب، وهرول سلطان باشا إلى الإسماعيلية؛ ليعمل على الاتصال ببعض ضباط الجيش المصري بعد معركة القصاصين الأولى، ورأى أن الفرصة سانحة ليوهم بعض المستضعفين أن حياتهم تتوقف فيما بعد على ما يفعلون الآن …

قال عرابي في مذكراته: «ولما بلغ الخديو هول هذه الواقعة أرسل وفدًا إلى الإسماعيلية مؤلفًا من محمد سلطان باشا، وعمر لطفي باشا، وفريد باشا، وزكي بك ابن أخت يعقوب باشا سامي، وعثمان بك رأفت، ومعهم مقادير عظيمة من نسخ الجوائب المندرج فيها منشور السلطان بعصياننا، ومنشور الخديو القاضي بمساعدة الإنجليز وإنه لا مطمع لهم في بلادنا، وقد انضموا إلى زهراب بك المعين مع الجيش الإنجليزي من قبل ليبثوا العيون والجواسيس على جيشنا وليتفقوا مع بعض الضباط المصريين الذين فسدت ضمائرهم، وضعفت عزيمتهم ويوزعوا عليهم تلك المنشورات … وقد كلف بعض رجال الوفد المذكور بالتنقل في البلاد الريفية لدعوة العمد والأعيان لطاعة الإنجليز ومساعدتهم وفقًا للمنشور الخديو وقد انخدع وانضم إليهم في هذه الخيانة السيد أفندي الفقي من مديرية المنوفية وأحمد أفندي عبد الغفار عمدة تلا، وغيرهم من المصريين الذين انخلعت قلوبهم من منشور السلطان المندرج بالجوائب المشار إليها».

أحكم مستر بلنت: أن السير شارلز ولسن أحضر لي خطة المعركة حين كنت بالسجن في القاهرة وسألني عما إذا كانت من رسم يدي؟ فأجبته: نعم. فأخبرني كيف حصلوا عليها، ثم قال: إنها خطة جيدة وربما كنتم بها تنتصرون علينا».

ولكن ما جدوى إحكام الخطة مع الخيانة في أشنع صورها وقد أحدثت دسائس سلطان أثرها في بعض صغار النفوس فهووا إلى موضع يتندى وايم الله جبيننا خجلًا إذ يذكره! وأي شيء يخجل منه مصري يتحدث عن تاريخ وطنه هو أشد وأفظع من أن يقول: إن مصريًّا من بني وطنه أرسل — وا أسفاه — خطة المعركة بحذافيرها إلى العدو، بل لقد سرق النسخة الأصلية التي رسمها عرابي بيده فأضاف إلى جريمة الخيانة فضيحة السرقة فكانت خيانة على خيانة؟ وكان هذا المصري الخائن هو علي يوسف خنفس الذي وقف بآلايه في ميسرة خط القتال، وأي فضيحة في تاريخ الحروب أفظع من هذه الفضيحة الفاضحة؟

قال عرابي فيما تحدث به إلى بلنت: «إن الخطة أفشيت للعدو على يد علي يوسف خنفس الذي أرسل الرسم الأصلي الذي رسمته بيدي إلى الجنرال ولسلي، وكان هو وغيره من رجال الجيش قد أفسدهم أبو سلطان الذي كان يعمل لصالح الخديو».

وقال الشيخ محمد عبده: «في واقعة القصاصين كان الرسم كما ينبغي وكانت العساكر المصرية يجب أن تزحف في الساعة الثانية بعد منتصف الليل على الجيش الإنجليزي، وما راع القوادَ المصريين إلا وجودُ الفرق الإنجليزية زاحفة وأخذة جميع الطرق في الساعة الواحدة وكانت الخيانة وصلت والنقود قد وصلت إلى قلب الجيش وإلى كثير من الضباط بسعي سلطان باشا ومراسلة العربان».

وليس فيما يذكره المتحدثون عن فنون القتال من شيء هو أشد خطرًا على جيش محارب من أن تكون خطته معروفة لعدوه؛ ذلك لأنه بنى هذه الخطة على أساس مفاجأة العدو وأخذه من حيث لا يدري، فإذا عرف العدو الخطة انقلب الوضع وفوت على عدوه قصده وكان هو المباغت، هذا فضلًا عما يحدثه انكشاف الخطة في النفوس من ذعر وقت القتال …

قاد الجيش المصري في المعركة الفريق راشد باشا حسني، وقد بدأ الهجوم في الثلث الأخير من الليل، والتحم الجيشان والعدو على علم بالهجوم فلم يباغت وإن كان قد فوجئ بابتداء المعركة؛ لأن علمه بخطتها ساعد على ثباته حتى ينجلي النهار، وأسفر الصبح والمعركة حامية بين الجيشين، والمدفعية من الجانبين ترسل قذائفها في سرعة وقوة، وتكافأ الفريقان على الرغم من تفوق الإنجليز في العدد …

وتلفت قواد المصريين يتوقعون دخول محمود باشا البارودي الميدان قادمًا بجيشه من الصالحية ليكر على ميمنة العدو، ولكنه تأخر عن موعده فلم يدخل في غبش الفجر كما كانت تقضي به الخطة، ولما كان الإنجليز على علم بمقدمه؛ فقد رصدوا له قوة من المدفعية حالت بينه وبين الوصول إلى موضعه من المعركة، ومما يذكر مع عظيم الأسف أن رجال سعود الطحاوي هم الذين أضلوه عن وجهته في الصحراء فتأخر وصوله …

ومضت ساعات ونار الحرب مستمرة، وقد توالى الجزر والمد بين الجيشين، وثبت كل من البطلين المصريين علي فهمي باشا وراشد باشا حسني بطولة فذة طول النهار ومن حولهم الجيش المصري لا يتزحزح ولا يهن …

ولكن المعركة قد انقلبت من أولها بسبب الخيانة إلى معركة دفاعية بعد أن كانت خطتها هجومية، قال مستر بلنت: «بناء على أقوال الجانب المصري عن المعركة قد فوجئ العدو بالهجوم، وظلت المعركة زمنًا طويلًا غير معروفة العاقبة، وأوشك دوق كنوت في وقت ما أن يقع أسيرًا». ثم أشار بلنت إلى تأخر البارودي وسببه بما لا يخرج عما ذكرناها إلى أن قال: «ومن المؤكد أن أحد القواد المصريين وهو علي بك يوسف قد خان رفقاؤه عن قصد».

وظل القتال على أشده طول النهار، ولكن القدر أبى إلا أن يصيب المصريين بمصيبة لا تقل شأنًا عن أسر محمود فهمي باشا، كأن لم يكفه ما أحاط بهم من خيانة، وذلك أن كلًّا من بطلي المعركة: علي فهمي، وراشد حسني قد تلقى رصاصة في جسمه أقعدته، الأول في ساقه، والثاني في قدمه، فخرجا من المعركة، وبخروجهما ضعف هجوم المصريين وانقضى اليوم ولم يظفر بالنصر هؤلاء ولا هؤلاء.

قال عرابي في مذكراته: «وأما راشد باشا حسني وعلي باشا فهمي ومن معهما من الجيش، فقد ثبتوا ثبات الأبطال إلى آخر النهار، حتى إذا جُرح راشد باشا حسني في قدمه برصاصة، وعلي باشا فهمي برصاصة أيضًا في ساقه، وخسر كل من الجيشين خسارة كبيرة من ضرب البنادق والمدافع التي كانت مقذوفاتها كالمطر المنهمر في الميدان، وكانت هذه المعركة أشد حرب نشبت بيننا وبين الإنجليز؛ إذ كانت قوة الجيشين عظيمة وثباتهم نادر المثال، تراجع الجيشان بانتظام».

قال الأستاذ محمد رفعت بك في كتابه تاريخ مصر السياسي في الأزمنة الحديثة: «وقد أبلى المصريون بقيادة الفريق راشد حسني باشا — المعروف بأبي شنب فضة — في هذه الواقعة بلاءً حسنًا، فأوقعوا خسائر جمة بصفوف الإنجليز وزحزحوهم عن مواقعهم، وكادوا يظفرون بالنصر إلى أن جُرح راشد حسني جرحًا بليغًا، فذاع الخبر بين المصريين وبدأوا يتقهقرون».

وإن وقفة المصريين على هذه الصورة الرائعة في معركة القصاصين الثانية على قلة عددهم بالنسبة لعدد الإنجليز؛ إذ كان هؤلاء يقربون فيها من ضعفهم، لتجعلنا نعتقد في غير تردد أنه لولا الخيانة لأحاط المصريون بجيش ولسلي فهزموه في صحرائهم، وهم القادرون على شمسها وحرها في شهر سبتمبر، ولولد في هذا المكان عصر جديد في تاريخ مصر، ولازدانت ميادين عواصمنا بتماثيل عرابي منقذ مصر …

•••

أُرسل البطلان الكبيران علي فهمي وراشد حسني إلى القاهرة مع جرحى المعركة في القطارات الخاصة التي أقلتهم، وهكذا خلا الميدان الشرقي من ثلاثة رجال هم من أعظم قواد عرابي خبرة وبسالة.

وأخذ ذلك يُحدث أثره في نفوس المصريين، فليس بالأمر الهين غياب رجال من المعركة تعقد عليهم الآمال في النصر، وليس يخفى ما يكون لشهرة القواد ولأسمائهم من وقع في نفوس الجند، تشتد به عزائمهم وتنتعش آمالهم.

على أن أعظم ما أثَّر في النفوس وبث فيها التردد الذي هو مقدمة الهزيمة، إنما هو ما سعى به سلطان وأعوانه من تخويف الجند والضباط من عاقبة بقائهم على الولاء لعرابي، وقد جاءوا في ساعة الفصل يوهمونهم أن النصر للإنجليز، ولن يشفع لأحد بعد ذلك شفيع، وسبيل الخلاص من العقاب الشديد هو ترك جانب عرابي على الفور قبل أن يحصى العصاة الثائرون على الخديو، وأن حسابهم في الغد لعسير …

ومن أكبر ما كفل النجاح لسلطان هو إذاعة قرار الخليفة بعصيان عرابي، ذلك القرار الذي بذلت إنجلترا ما بذلت من جهد للحصول عليه من عبد الحميد الذي يعد بفعلته هذه شريكًا فيما وقع من خيانة؛ فقد طعن بهذا القرار عرابي من وراء ظهره بعد الذي أبداه من عطف عليه وعلى حركته، ولئن كان بالأمس قد أنعم عليه بالوسام المجيدي الأكبر، فها هو ذا اليوم يثبت في ظهره الخنجر …

ولقد نشط سلطان ومن أخذ مأخذه من أعوان الخديو في نشر أنباء القرار بمجرد أن وافق عبد الحميد على إصداره، وراحوا يوزعون على الجند والضباط، كما بينا، أعدادًا من الصحف التي نشرت هذا النبأ منذ نهاية أغسطس، بل لقد أرجفوا به قبل ذلك، وما زالوا يرجفون حتى أصبح إرجافهم حقيقة، فلما نشر القرار في اليوم السادس من سبتمبر، وأذاعت نصه جريدة الجوائب، استحضر الإنجليز آلافًا من نسخ هذه الجريدة، وشمر سلطان وفريقه سواعدهم فوزعوا هذه النسخ على الجيش قبيل معركة التل الكبير …

ومن السهل أن ندرك مبلغ ما كان لهذا القرار من أثر في نفوس الجند الذين كانوا يعتقدون أن جهادهم كان وطنيًّا دينيًّا في وقت واحد، فهم جند مصر وجند السلطان خليفة المسلمين الذي يعتدي الإنجليز الكفرة على حقوقه.

وكان نص هذا القرار ما يأتي: «إن الدولة العلية السلطانية تعلن أن وكيلها الشرعي بمصر هو حضرة فخامتلو دولتلو محمد توفيق باشا، وأن أعمال عرابي باشا كانت مخالفة لإرادة الدولة العلية، ثم التمس من جناب الخديو العفو فعفا عنه، ونال أيضًا من الحضرة السلطانية العفو العام، وأن الشرف الذي ناله أخيرًا من الحضرة العلية السلطانية، إنما كان من تصريحه بالطاعة لأوامر السلطان المعظم الخليفة الأعظم.

وقد تحقق الآن رسميًّا أن عرابي باشا رجع إلى زلاته السابقة واستبد برئاسة العساكر بدون حق، فيكون قد عرض نفسه لمسؤولية عظيمة لا سيما أنه تهدد أساطيل دولة حليفة للدولة العلية السلطانية …

وبناءً على ما تقدم يحسب عرابي باشا وأعوانه عصاة ليسوا على طاعة الدولة العلية السلطانية.

وأن تصرف الدولة العلية السلطانية بالنظر إلى عرابي باشا ورفقائه وأعوانه يكون بصفة أنهم عصاة، ويتعين على سكان الأقطار المصرية حالة كونهم رعية مولانا وسيدنا الخليفة الأعظم أن يطيعوا أوامر الخديو المعظم الذي هو في مصر وكيل الخليفة وكل من خالف هذه الأوامر يعرض نفسه لمسؤولية عظيمة، وأن معاملة عرابي باشا وحركاته وأطواره مع حضرة السادات الأشراف هي مخالفة للشريعة الإسلامية الغراء ومضادة لها بالكلية».٢٦

والواقع أن هذا المنشور كان ضربة شديدة لعرابي، بل إنا لا نسرف إذا قلنا: إنه قد فعل وحده بجيش عرابي ما لم تفعله الجنود الإنجليزية مجتمعة …

قال عرابي: «ولما نشر منشور السلطان بعصياننا ومن معنا بجريدة الجوائب؛ إرضاءً للإنجليز أرسل منه مئات الألوف إلى الهند والأفغان والحجاز والعراق والترك ومصر والمغرب الأقصى وجميع بلاد الإسلام بواسطة أبي سلطان باشا ومن معه من المخدوعين — كما أسلفنا — وتذمر بعض أمراء العسكرية وقالوا: إننا إذن عصاة على السلطان مخالفين لكتاب الله وسنة رسوله كما فعل محمد علي باشا رأس العائلة الخديوية وابنه إبراهيم باشا ومن مات منا مات عاصيًا لا أجر له مثل الذين ماتوا من المصريين في قتال الدولة العلية، فنصحناهم بأن هذا المنشور مخالف لأحكام الدين الإسلامي؛ لأننا إنما نقاتل أعداء المسلمين الذين يريدون أن يستولوا على بلادنا الإسلامية، وأن الجهاد في سبيل حماية الدين والمال والوطن فرض واجب علينا وأن سلطان المسلمين لا يسمح بمثل هذا المنشور وإنما هو دسيسة إنجليزية تمكنوا من إنفاذها بواسطة الرشوة، ولو فرض وصدر مثل ذلك من سلطان المسلمين لوجب على المسلمين خلعه لمخالفته لأحكام الدين …

إلا أن تلك النصائح لم تؤثر في الذين يجهلون أحكام الدين مثل أحمد بك عبد الغفار قومندان السواري، وعبد الرحمن بك حسن حكمدار ٢ جي آلاي سواري وعلي بك يوسف ميرالاي ٣ جي بيادة، ولكنهم أظهروا قبول ما أوضحناه لهم وأسروا الغدر والخيانة، والحساب على الله».

•••

واشتدت حيرة عرابي بعد إصابة علي فهمي وراشد حسني، من يخلفهما على القيادة، وكان عبد العال حلمي خير من يصلح لهذا، ولكنه كان بدمياط مع الآلاي السوداني للدفاع عن هذا الموضع العام؛ مخافة أن ينزل الإنجليز به فرقًا بقصد تطويق التل الكبير …

واستدعى عرابي علي باشا الروبي من مريوط، فكان حضوره قبل معركة التل الكبير بيوم واحد، ولذلك لم يستطع أن يدرك حقيقة الحال في الميدان إدراكًا تامًّا، ولم يكن له في الواقع مثل منزلة علي فهمي أو راشد حسني في القيادة ولكنه كان من أكبر المخلصين لعرابي.

لم تكن خطوط الدفاع في التل الكبير متينة كخطوط كفر الدوار؛ لأنها أنشئت على عجل، وقد عمل في إنشائها آلاف الفلاحين بإشراف محمود باشا فهمي قبل أسره، وكانت عبارة عن خنادق جافة تمتد نحو ستة كيلو مترات من الجنوب إلى الشمال وتتراوح أعماقها بين متر ومترين واتساعها بين مترين وثلاثة أمتار.

وكان مركز الجيش المصري على هضبة وراء هذه الخطوط يبلغ ارتفاع قمتها نحو ٣٠ مترًا وتنحدر انحدارًا بطيئًا نحو الشرق والشمال، وعلى المنحدر الشرقي للهضبة وراء مركز الجيش أقيمت خيمة عرابي على بعد أربعة آلاف متر من الخطوط الأمامية.

وكان جيش عرابي لا يزيد عن ١٢ ألف جندي من الجنود النظامية٢٧ وكانت بقية الفرق النظامية في كفر الدوار بقيادة طلبة عصمت وفي دمياط بقيادة عبد العال حلمي … على أن عرابي استحضر أورطتين من الآلاي السوداني بدمياط فانضمتا إلى جيش التل الكبير … وكانت مدفعية هذا الجيش تتألف من نحو ٧٠ مدفعًا.

أما جيش ولسلي فكان يتألف من ١٣ ألف حسب ما جاء في تقريره الذي أرسله إلى حكومته عن الواقعة وكان معه نحو ٦٠ مدفعًا.

وكان سعيد الطحاوي لا يفتأ يُلقي في روع عرابي أن الإنجليز لم يعدوا العدة للزحف بعد، وكان كلما سأله عرابي عن حركات الجيش الإنجليزي أملت عليه خيانته أن يُهوِّن أمرها، ويوحي إلى عرابي أن بين الإنجليز وبين الزحف أيام. ويقبض ثمن هذا الكلام، ثم يذهب إلى المعسكر الإنجليزي فيطلع ولسلي على كل ما يهمه معرفته ويبسط يده لذهب الإنجليز ولا ينسى نصيبه كذلك من سلطان …

وفي اليوم الثاني عشر من سبتمبر أرسل علي يوسف من المقدمة إلى عرابي يقول: إن الإنجليز لن يتحركوا اليوم، فركن الجيش إلى الراحة بأمر قواده …

وإن بعض المؤرخين ليعيبون على عرابي أنه لم يضع في مقدمة الجيش طلائع ترشده عن حركات العدو، وأنه يحق للمرء أن يعجب من إنكار الحقائق على هذه الصورة، فهل كان هؤلاء يريدون أن ينسبوا الخطأ إلى عرابي، أم كانوا يريدون أن يخفوا خيانة علي يوسف؟

وفي مساء ذلك اليوم نفسه ١٢ سبتمبر تأهب ولسلي للزحف، واختار الليل كي يتقي حر النهار وكي يتخذ من الليل ستارًا لخطته القائمة على المباغتة التي هيأ لنجاحها سعيد الطحاوي وعلي خنفس!

وزحف الجيش في سكون بعد منتصف الليل بساعتين، وقد شدد ولسلي التحذير وأمر بألا يرتفع صوت أو توقد نار، إلا نار المعسكر الإنجليزي التي تركوها وراءهم؛ إيهامًا للجيش المصري بأنهم لا يزالون قائمين في خطوطهم لا يتحركون …

وكان يرشد الجيش الإنجليزي في الصحراء ضباط من بحارة الأسطول ممن يعلمون الاهتداء بالنجوم، ولكن علمهم لم يغنهم شيئًا فكان اعتماد ولسلي على نفر من الضباط المصريين الموالين للخديو تقدم ذكرهم، وعلى فريق من عرب الهنادي اشترى الإنجليز ذممهم بالمال، إن كان لهم ثمة من ذمم …!

وتقدم جيش ولسلي مطمئنًّا لا يتهيب طلائع الجيش المصري، ولكن فيم التهيب وقد كان في مقدمة الطلائع عبد الرحمن حسن قائد فرقة الاستطلاع السواري، ثم يليه من ورائه خنفس؟ وكان عبد الرحمن قد انضم إلى الإنجليز والخديو، كما انضم خنفس، وقبل الرشوة كما قبلها خنفس، ولم يعرف مقدار ما أخذ عبد الرحمن، أما خنفس فإنه بعد الحرب لم يخجل من أن يشكو؛ لأنه لم ينل سوى ألف جنيه ولأنه لم يُمنح ما وعد به، وهو عشرة آلاف جنيه،٢٨ كأنما كان يريد أن يكون نصيبه مثل نصيب سلطان نفسه كبيرهم الذي علمهم الخيانة!

وكان عبد الرحمن يحرس الطريق الآتي إلى الصحراء من الشرق، فاتجه بفرقته إلى الشمال، وترك الجيش الإنجليزي يمر في سلام وأمن وليت شعري كيف تبلغ خيانة هذا الإنسان مبلغها هذا، وفي أي معارك الدنيا نعثر على مثيل لها؟!

ومر الجيش الإنجليزي حتى كان على مقربة من موضع خنفس، فكان هذا أعظم خيانة من سلفه فإنه لم يكتف بترك الجيش الإنجليزي يمر، بل وضع له الفوانيس على المسالك التي يخترقها في يسر، وإنا لنحتقر أن نعقب على ما فعل خنفس بكلمة …

وكان المصريون نائمين في خطوطهم فما راعهم إلا أصوات البنادق والمدافع والرصاص يحصدهم في صورة وحشية مروعة، وكان ذلك في الساعة ٤ والدقيقة ٤٥ صباحًا …

وكان هجوم الإنجليز على نصف دائرة فأحاطوا بميمنة المصريين وميسرتهم وتقدمت فرقة من المدفعية حتى صارت وراء خطوطهم وفتكت بنادق الإنجليز ومدافعهم بالمصريين فتكًا ذريعًا، ولم تكن هذه في الواقع معركة ولكنها كانت قرصنة في الصحراء لا ندري كيف يجعلها الإنجليز من مفاخر ولسلي فينعمون عليه من أجلها بلقب اللورد وكان خليقًا بهم أن يدركوا أنها من مخازيهم ومخازيه، فهذا السطو القائم على الخيانة والغدر أقرب إلى عمل اللصوص منه إلى عمل الجند، وإن تبجح العسكريون بأن الحرب تبرر كل شيء …

وفر أكثر الجيش المصري مذعورين، ولكن الميدان في هذه المحنة وفي هذه المباغتة التي تطيش فيها الأحلام لم يخلُ من نفر من المصريين حفظوا شرف قومهم من الانهيار، فأثبتوا في مستنقع الموت أرجلهم والهول محيط بهم والموت يأتيهم من كل مكان، وإن جلال عملهم هذا ليمحو من النفوس شيئًا كثيرًا مما تركته فيها خيانة خنفس ومن حذا حذوه من الخزي والألم، وهؤلاء الأبطال الميامين البواسل هم: الشهيد البطل الميرالاي محمد عبيد، وأحمد بك فرج، وعبد القادر بك عبد الصمد، وحسن أفندي رضوان.

وقف هؤلاء الأربعة بفرقهم مستبسلين وكان مجموعها لا يزيد عن ثلاثة آلاف، وكان أكثرهم بسالة وإقدامًا، محمد عبيد بطل الهجوم على قصر النيل يوم أن أخرج عرابي وصاحبيه من سجنه؛ فقد صمد هنا للإنجليز برجاله السودانيين وأوقف زحفهم وقاتلهم قتالًا شديدًا مات فيه معظم رجاله فتقدم واستقبل الموت راضيًا مرضيًّا، وذهب شهيد وفائه وبطولته.

ويلي محمد عبيد في البسالة حسن رضوان قومندان الطوبجية الذي أصلى الإنجليز نارًا حامية بمدافعه وأوقع بهم رغم تفوقهم خسائر جسيمة حتى سقط جريحًا في الميدان، ولما حُمل أسيرًا إلى ولسلي وأقبل يقدم له سيفه لم يشأ أن يأخذه منه؛ احترامًا له، وأثنى على بسالته.

واستمرت المعركة بين هؤلاء البواسل وبين الإنجليز نحو ٤٠ دقيقة، وكان القتلى من المصريين نحو ألفين، أما الجرحى فلم يحصَ عددهم لفرارهم، وأما الإنجليز؛ فقد قتل منهم ٥٧، منهم ٩ ضباط، وجرح ٢٠٤، منهم ٢٧ من الضباط.

وأما غنائم الإنجليز فكانت مدافع الجيش المصري ومهماته وذخائره ومؤونته جميعها …

وأما عرابي فكان يؤدي صلاة الفجر فانتبه على صوت المدافع وكانت خيمته على نحو ألف متر من المعركة، وأرسل إليه علي الروبي لينتقل إلى موضع آخر حيث إن الإنجليز أوشكوا أن يحيطوا بالجيش …

وأدى عرابي الصلاة ولبس ملابسه العسكرية وركب جواده واتجه إلى حيث كان يوجد نحو ألفين من الرجال على مقربة من خيمته فدعاهم ليذهبوا معه صوب المعركة ولكن كان أكثرهم من الاحتياطي فولوا الأدبار خائفين، فاتجه صوب المعركة إلى حيث كان يقف محمد عبيد، فرأى الفارين قادمين في ذعر، وعبثًا حاول أن يحملهم على الوقوف، وكانوا يلقون أسلحتهم وما منهم إلا من يجري على ساقي نعامة!

واقترب الإنجليز حتى صاروا على نحو ٦٠٠ متر من خيمته وأطلقوا عليها قذيفة اقتلعتها وأطاحت بها في الهواء، وألح على عرابي خادمُه محمد سيد أحمد٢٩ أن ينجو بنفسه؛ إذ لا فائدة بعد ذلك من القتال ولوى عنان فرسه بالقوة وما زال يتوسل إليه حتى أطاعه.
ويذكر جون نينيه في كتابه أن الذي حمل عرابي على طلب النجاة هو طبيبه لا خادمه قال: «ونجا كل الخونة؛ لأنهم دبروا فرارهم قبل خوض غمار المعركة الصورية المزيفة ليعلنها الإنجليز نصرًا مؤزرًا، وهم يعلمون أنها كانت تكون لهم هزيمة منكرة لو لم يلجأوا إلى الخيانة والرشوة … وكنت بجانب عرابي وبيدي بندقية، ولما أوشك الإنجليز أن يطبقوا على عرابي رجوته في الثبات فاستعدَّ للموت والاستشهاد، ولكن طبيبه الدكتور مصطفى بك نصح له بالفرار على صهوة جواده».٣٠

وفي قول جون نينيه أبلغ رد على الذين يقولون: إن عرابي ما كاد يعلم نبأ ما حدث في المعركة حتى ركب جواده ولاذ بالفرار …

أما بعض من لا تمتلئ قلوبهم سخيمة على عرابي، فيقولون: إنه كان خيرًا له لو أنه استشهد في معركة التل الكبير، ونحن نميل إلى رأيهم هذا فلو أنه قتل في المعركة؛ لتخلص من السجن ومن النفي إلى سيلان ومما تقوَّل عليه المبطلون من الفرار والجبن وما إليهما، كما كان خيرًا لنابليون لو أنه قتل في وترلو ولم يذهب إلى سانت هيلين …

ولكن نعجب أشد العجب من جرأة الذين يجترئون على الحق بقولهم: إنه فر من خوف ويأس، فإن من الحقائق الثابتة بالأدلة كما سنبين ذلك في موضعه أنه عجل بالذهاب إلى القاهرة ليدافع عنها قبل فوات الوقت وقبل أن تؤثر في نفوس أعضاء المجلس العرفي أنباء الهزيمة.

وأدعى من هذه الجرأة إلى العجب إنكار الذين ينكرون عليه محاولته الدفاع عن القاهرة، وأن هؤلاء لمن الذين يكتبون التاريخ كما تشاء أهواؤهم لا كما حدثت حوادثه؛ وذلك لأنهم يريدون بالكتابة غرضًا في أنفسهم.

يقول عرابي عن معركة التل الكبير ما يأتي: «وطلبنا علي باشا الروبي قومندان مريوط ليتولى قيادة جيش رأس الوادي فحضر في عصر يوم الثلاثاء الموافق ٢٨ شوال سنة ١٢٩٩ / ١٢ سبتمبر سنة ١٨٨٢ وتوجه توًّا إلى المقدمة فأمر بانتقال آلاي علي بك يوسف (خنفس) وعبد القادر بك عبد الصمد من الجناح الأيسر الذي كان مائلًا إلى الوراء على شكل زاوية منفرجة ليحمي العسكر من هجوم العدو، ووضعهما على استقامة الخط المستحكم الممتد من الترعة الحلوة إلى الجهة الشرقية، وأمرهما باتخاذ دروة خفيفة من التراب في أثناء الليل، فعمل عبد القادر بك عبد الصمد خط استحكام خفيف بعساكره حيث كان في نهاية الجناح الأيسر، وأما علي بك يوسف فإنه جمع عساكر آلايه في هيئة القول، ولم يجر عمل شيء يقيهم قاذفات العدو إذا هجم على الجيش، وتقدم أحمد بك عبد الغفار وعبد الرحيم بك حسن بعساكر السواري إلى الأمام على بُعد ألفي متر ليمنعوا تقدم العدو إذا أراد الهجوم على معسكرنا، ولكن وا مصيبتاه خاب الأمل فيهما.

وفي يوم ٢٩ شوال سنة ١٢٩٩ / ١٣ سبتمبر سنة ١٨٨٢ كنت في صلاة الفجر؛ إذ سمعت ضرب بالمدافع والبنادق بشدة، فخرجت ونظرت فوجدت ضرب النار على طول خط الاستحكام، ورأيت بطارية طوبجية سواري على مرتفع من الأرض تبعد عن الخيمة التي كنت فيها بنحو ٦٠٠ متر صبت مقذوفاتها على مركزنا العمومي، وكان مركزنا المذكور خلف الاستحكامات بأربعة آلاف متر ولم يكن هناك إلا الأهالي المتطوعون مع الشيخ محمد عبد الجواد وأخيه الشيخ أحمد عبد الجواد، وجابر بك من بندر ببا بمديرية بني سويف، وكانوا نحو ألفي نفر فدعوناهم للهجوم معنا على تلك البطارية فامتنعوا، ودهشوا، فذكرناهم بحماية الدين والعرض والشرف والوطن، ولم يُجْدِ ذلك نفعًا، بل تفرقوا فرارًا، فجاء ضابط من طرف علي باشا الروبي القومندان الجديد يخبرني باتخاذ مركز آخر، ثم نظرت فوجدت الميدان مزدحمًا بالخيل والجمال والعساكر، مشتتين ومولين ظهورهم للعدو، فذهبت إلى القنطرة التي على الترعة هناك لأمنع العساكر عن الفرار، وصرت أناديهم وأحرضهم على الرجوع والثبات والصبر على قتال العدو، وأذكرهم بالشرف الإسلامي والعرض والوطن، فما كان من سميع ولا بصير، فألقوا بأنفسهم في الترعة وسبحوا إلى البر الغربي، فذهبت إلى بلبيس لجمع المنهزمين هناك واتخاذ مركز آخر لمنع العدو من الوصول إلى القاهرة، وكان معي أخي السيد صالح عرابي وخادمي محمد إبراهيم وجاويش بررجي يدعى عطية محمد، فقط، وكان قاذفات الطوبجية السواري تتساقط علينا من كل جهة حتى تركنا حدود التل الكبير، فلما وصلت إلى بلبيس وجدت علي باشا الروبي سبقني إليها، فسألته عما دهاهم؟ فلم يزد على قوله: إنه خذلان، وكان على أثرنا فرقة من خيالة العدو فهجوما علينا، فأرخينا للخيل العنان حتى وصلنا إلى محطة أنشاص، فوجدنا هناك قطارًا فركبناه وذهبنا إلى القاهرة لاتخاذ الوسائل اللازمة لحفظها من الأعداء قبل وصولهم إليها، وأسباب هذا الخذلان هو أنه في خلال تلك الأيام كانت الرسائل تبعث من قِبل الخديو إلى كبراء الضباط بالوعد والوعيد معلنة لهم أن الجيش الإنجليزي لم يحضر إلى مصر إلا بأمر من السلطان خدمة للخديو وتأييدًا لسلطته وكانت توزع تلك الرسائل بواسطة محمد باشا أبي سلطان رئيس مجلس النواب ومن معه الذين هم مع الإنجليز، في الإسماعيلية بأمر الخديو وبواسطة الجواسيس من المصريين كأحمد عبد الغفار عمدة تلا والسيد الفقي العضوين في مجلس النواب عن مديرية المنوفية، وأثروا على قلوب علي بك يوسف قومندان الآلاي الثالث، وأحمد بك عبد الغفار قومندان السواري؛ لشدة ضغط ابن عمه عليه، وعبد الرحمن بك حسن حكمدار آلاي السواري الثاني وحسن بك رأفت قومندان الطوبجية.

واستمر ذلك إلى أن كانت ليلة الأربعاء ١٣ سبتمبر سنة ١٨٨٢، فأشاع علي بك يوسف أنه علم من الجواسيس أن الإنجليز لا يخرجون في هذه الليلة من مراكزهم، ولذلك لم يفعل ما أمر به علي باشا الروبي من عمل خط استحكام من التراب، وجمع عساكره في نقطة واحدة في شكل قول وكانت العساكر الإنجليزية قد سارت من أول الليل وفي مقدمتها بعض ضباط أركان حرب من المصريين الذين انحازوا إلى الخديو بطرف الإنجليز، وأمامهم عربان الهنادي يرشدونهم إلى الطريق واستمروا سائرين إلى أن بلغوا المقدمة في آخر الليل، وكانت من السواري تحت حكمدارية أحمد بك عبد الغفار وعبد الرحمن بك حسن، فبدل أن تناوش العدو القتال وتوقف سيره رجعت أمامه كأنها تقوده إلى أن بلغوا محل آلاي علي بك يوسف الذي كان خاليًا من عساكره فمروا بين العساكر بلا مانع يمنعهم، وأطلقوا النار على الاستحكامات من الخلف والأمام، وأوقعوا بالجند على حين كان راقدًا، فدهشت العساكر وتولاها الذهول، حيث رأوا ضرب النار عليهم ومن خلفهم وأمامهم، فألقوا أسلحتهم وفروا طالبين النجاة لأنفسهم، إلا آلاي المشاة الأول حكمدارية أحمد بك فرج وآلاي محمد بك عبيد وآلاي عبد القادر بك عبد الصمد، فإنهم ثبتوا في مراكزهم وقاتلوا أعداءهم حتى النهاية فاستشهد منهم من استشهد وجرح من جرح، وصار الميدان ظلامًا من دخان البارود، واختلط الجند المنهزم بالحيوانات المنتشرة في تلك الصحراء الواسعة، واشتعلت النار بعربات السكة الحديد التي بها الذخيرة الحربية وما جاورها من عربات المؤونة من قاذفات الطوبجية السواري التي عمدت إلى ضرب المركز العمومي … وهكذا تم استيلاء الإنجليز على مركز التل الكبير ومهماته وذخائره، وبه كانت نهاية الحرب والخسارة عظيمة بسعي الخديو ومَن انحاز إليه من المصريين الذين نشأوا تحت ضغط الاستبداد، واستمرأوا عيش الاستعباد، وبمساعدة المنافقين من عمد وأعيان المنوفية وعرب الهنادي بالشرقية الذين كافآهم الخديو، خصوصًا الشيخ أحمد أبو سلطان وإخوته من عربان الهنادي القاطنين بالشرقية، فإن الخديو أقطعهم خمسة آلاف فدان في رأس الوادي مكافآة لهم على خيانتهم للدين والوطن الذي نشأوا فيه» …

وقال في حديثه الذي أفضى به إلى صديقه بلنت بعد عودته من المنفى: «أديت الصلاة وأسرعت بجوادي إلى حيث كان يوجد الاحتياطي، وناديتهم ليذهبوا معي، ولكنهم كانوا جماعة من الفلاحين فحسب، وكانت القذائف تتساقط بينهم فولوا هاربين، فاتجهت وحدي بجوادي إلى الأمام ولم يكن معي إلا خادمي محمد، فحينما رآني وحيدًا وأدرك أني ذاهب إلى الموت المحقق أمسك بجوادي وتوسل إلي أن أرجع، ولما رأيت أننا خسرنا المعركة وأن الجميع كانوا يفرون، رجعت ومعي محمد، وعبرنا الوادي عند التل الكبير وسرنا في محاذاة ترعة الإسماعيلية حتى بلغنا بلبيس، وهناك كونت معسكرًا جديدًا ورأيت عليًّا الروبي قد سبقني إلى هناك، فاتفقنا على الوقوف في بلبيس، ولكن ما إن وصل فرسان دروري لو، حتى هم الجميع بالفرار ولم يرض أحد أن يقف، فتركنا كل شيء وركبنا قطارًا إلى القاهرة».

•••

من مهازل السياسة حقًّا أن تركيا كانت حتى ذلك اليوم — يوم التل الكبير — لا تزال تفاوض إنجلترا في شروط إرسال جيش عثماني إلى مصر، وكان السلطان في نفس هذا اليوم قد دعا إليه دوفرين في قصره فمكث عنده ١١ ساعة في أخذ ورد …

ولما بلغتْ أوربا هزيمة التل الكبير كانت فرنسا أول من أشار على إنجلترا بأنه لم تعد ثمة حاجة إلى ذلك المؤتمر الثنائي المزمع عقده، وكانت فرنسا لا تميل إلى وجود جند عثمانيين بمصر؛ وذلك جريًا وراء ميلها من أول الأمر …

وأفضى الخديو إلى مالت «أنه إن كان ثمة شيء من شأنه أن يزيد قيمة النصر، فذلك أنه قد قضى على كل حجة للتوقيع على مؤتمر مع تركيا، وإنه لينظر إلى الماضي والحزن ملء نفسه؛ إذ يفكر فيما كان عسى أن يحيق بمصر من خطر لو أن السلطان استطاع بجنوده أن يتدخل في شؤون مصر».٣١

لذلك أبرق جرانفل عصر ذلك اليوم المشؤوم إلى دوفرين يقول: «إن حكومة جلالة الملكة ترى — وقد قضي الأمر — أن صاحب الجلالة السلطان لم يعد يجد هناك حاجة لإرسال جند إلى مصر»، وانقطعت بذلك المفاوضة بين الدولتين، وأسدل الستار هنا كذلك على مهزلة من أسخف مهازل السياسة.

وبادر المسيو تيسو سفير فرنسا بلندن إلى مقابلة جرانفل وهنَّأه باسم الحكومة الفرنسية على هذا الانتصار، ولم تدر فرنسا أن هذا الانتصار هو خيبة كبرى لسياستها في مصر، أو لعلها كانت تتبع مثل أسلوب النعامة، ورد جرانفل بقوله: «إن واقعة التل الكبير إنما هي انتصار لأوربا؛ فلو أن الجيش الإنجليزي قد هُزم فيها لكان ذلك كارثة على جميع الدول التي يقلقها التعصب الإسلامي».٣٢
وهنَّأ مسيو دوكلرك رئيس وزراء فرنسا السفير الإنجليزي بباريس قائلًا: «إن انتصار الإنجليز على العرب في مصر أمر طيب النتائج لفرنسا في كل من تونس والجزائر».٣٣
والمسألة كلها من جهة فرنسا مسألة جشع استعماري لا أقل ولا أكثر، والحق أن المرء قلما يقع على ما هو أقبح وأرذل من جشع فرنسا في الاستعمار؛ تلك الدولة التي تزعم أنها موطن الحرية وبلد الديمقراطية، إلا أنها أوهام انخدع بها الشرق زمنًا فسهل التهامه، ثم أخذ يتعلم المدنية والحرية على أيدي آكليه! عقَّب روثستين في كتابه المسألة المصرية على انتصار إنجلترا بقوله: «وهكذا صدقت الأحلام، إننا إذا جرينا على رأي أنصار الاحتلال قلنا: إن مصر إنما صارت إلى الإنجليز مصادفة واتفاقًا، ولكن الذين يكونون قد قرأوا هذه القصة بشيء من التنبه والالتفات يقولون معنا: إن السياسة البريطانية والجمهور البريطاني لم يهملوا قط الانتفاع بكل حادث من شأنه تسليم مصر إلى إنجلترا، وإنهم كانوا إذا ما أعوزتهم الحوادث خلقوها بالكيد والاحتيال، وإن إنجلترا في جميع علاقاتها بمصر لم تخفف عنها الوطأة لحظة واحدة، بل كانت — على العكس — تجتهد في شد الوطأة عليها ما استطاعت وفي إحلال نفسها محل فرنسا التي كانت تنافسها وتباريها، وإنه لم يكن من سبب لجميع عدائها لإسماعيل باشا، ثم لعرابي من بعده غير خوفها بحق أن مصر إذا كانت دستورية سهَّل عليها الإفلات من قبضتها، وإنها لم يمنعها أن تغلظ على مصر ويضطرها إلى استعانة الباب العالي غير ظنها أن كل محاولة منها لضم مصر توقعها في حرب مع أوربا، أو على الأقل في مشاكل لا يستهان بها، وإنها عندما رأت أن هذه المخاوف لا أساس لها اغتبطت بتلك المفاجأة اللذيذة. ولا يفوتنا أن نذكر أنها هي نفسها إلى هذا كله كانت عاملًا فعالًا في الأمر؛ فقد سعت إلى تلك «المفاجأة» عندما برزت إلى حومة الوغى وتحدت بضربها الإسكندرية دون أوربا كلها.٣٤
١  مصر رقم ١٧ ص٩.
٢  مصر رقم ١٧ ص١٣٣.
٣  مصر رقم ١٧ ص٢٩٨.
٤  مصر رقم ١٧ ص١٦٥.
٥  مصر رقم ١٧ ص٢٩٤.
٦  ص١٥٤.
٧  ص٢٨٥.
٨  M.E. Cromer p. 235.
٩  عبارة مجازية معناها الجنيهات الإنجليزية الذهبية.
١٠  الواقع أن المجلس وافق على الاعتماد وكانت الاستقالة لسبب آخر كما ذكرنا.
١١  تاريخ الأستاذ الإمام ص٢٥٧.
١٢  S.H. Blunt p. 571.
١٣  جون نينيه ص١٠٥.
١٤  جون نينيه ص١٠٥.
١٥  جون نينيه ص١٠٥.
١٦  S.H. B. P. 371.
١٧  S.H. Blunt p. 400.
١٨  يلاحظ أن بلنت نشر كتابه سنة ١٩٠٧.
١٩  مصر رقم ١٨ ص٣٩.
٢٠  مصر رقم ١٨ ص٤٢.
٢١  لعل عرابيًّا يقصد موافقة تركيا على طلب إنجلترا بشأن هذا المنشور وذيوع هذا النبأ؛ وذلك لأنه لم يصدر إلا في ٦ سبتمبر.
٢٢  الحملات الإنجليزية في إفريقيا للكيرنال سبتان ص٣٠٩.
٢٣  M.E. Cromer p. 244.
٢٤  المصدر نفسه ص٢٤٥.
٢٥  المصدر السابق صفحة ٢٤٦ وفي الأصل الإنجليزي «صلواته».
٢٦  من مذكرات عرابي المخطوطة.
٢٧  حسب إحصاء بلنت وقد استقاه من عدة روايات مصرية.
٢٨  S.H. Blunt p. 421.
٢٩  S.H. B. p. 422.
٣٠  العبارة من تعريب الأستاذ محمد لطفي جمعة.
٣١  M.E. Cromer p. 248.
٣٢  الكتاب الأصفر سنة ١٨٨٢–٨٢ وثيقة رقم ٦٤.
٣٣  الكتاب الأزرق رقم ١٨ وثيقة رقم ١٣٣.
٣٤  العبارة من تعريب الأستاذين العبادي وبدران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤