قضى الزعيم نحبه

على تلك الحال التي ذكرنا قضى عرابي أيامه في مصر بعد عودته من المنفى، يتلقى أصحابه في منزله ويزورهم في منازلهم، وكانوا يتجاذبون ذكريات الماضي ويألمون مما آلت إليه مصر من حكم المستعمرين لها وقضائهم على دستورها، وكان هؤلاء الإخوان يحدثون عرابي عن عباس وكيف أخذ يناهض الاحتلال حتى أذله كرومر وأرغمه على مصانعة الاحتلال، وعن تخاذل النفوس أيام أن كان عرابي في منفاه، وكان الأسى يرمض جوانح هؤلاء الذين خاضوا غمار الثورة وشعروا بالعزة القومية قبل الاحتلال، وهم لا يملكون اليوم إلا أن يسألوا الله أن يجعل لمصر مخرجًا مما هي فيه …

وكان عرابي في أواخر أيامه يكثر من تلاوة القران، ويحرص على أن يؤدي أبناؤه الصلوات في أوقاتها، وكان يؤمهم ويحرم على الذكور منهم التحلي بأية حلية ذهبية ويحفظهم القرآن الكريم، وقد قرأ عليه أحدهم نهج البلاغة وهو غلام، وكان يحبذ لهم الجد والاحتشام، ومن ذلك أنه غضب على أكبر أبنائه؛ لأنه حلق لحيته ولم يرضَ عنه حتى أطلقها مرة ثانية …

وكان عرابي يتألم كلما سمع الناس يثنون على حركته القومية ويعدونها الخطوة الأولى لما بعدها من نهوض، كما كان يتألم جدًّا إذا علم أن الجيل الناشئ يجهل هذه الحركة التي لم تجد دفاعًا عنها، والتي عمل الاحتلال على أن يصورها صورة بعيدة كل البعد عن حقيقتها …

حدثني أحد أبنائه أن أباه قال له ذات مرة غاضبًا لما رآه من جهل الجيل الجديد بحركته: إن هذه الحركة سوف يقيض الله لها من يفهمها حق الفهم من أبناء الجيل القادم الذين يفطنون إلى ألاعيبِ الاحتلالِ وتثور نفوسُهم عليه وحينئذ يعرفون ما فعلناه من أجل الوطن ويعملون على هذا الطريق …

•••

والحق أن الاحتلال قد أضل الناس كثيرًا عن ثورة عرابي، وساعد الاحتلال عدة عوامل، منها الخوف، والجهل، وعدم التمكن من نشر شيء عن هذه الثورة بقصد الدفاع عنها؛ لأن هذا يغضب الاحتلال من جهة، ويغضب الخديو من جهة أخرى؛ إذ كان عباس يحقد أشد الحقد على عرابي معتقدًا أنه أراد يومًا أن يخلع أباه ويقيم حليمًا بدله.

وكان الاحتلال ينشر في مدارسنا أن عرابي جاهل، أحمق، مغرور، ساق البلاد إلى الفتنة والخراب.

ولم ينصف عرابي إلا صديقُه بلنت حين نشر سنة ١٩٠٧ كتابه «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر» ولكن هذا الكتاب لم يقرأه إلا عدد من الإنجليز، فلم يكن له أثر يذكر في مصر …

وكل ما استطاع عرابي أن يفعله للدفاع عن نفسه وعن قضية الوطن هو أنه كتب لبلنت — بناءً على طلبه — تاريخًا موجزًا لحياته وحركته سلمه إليه الشيخ عبيد في ٢٦ مارس سنة ١٩٠٣ فنشره بلنت في آخر كتابه عند طبعه …

ظل عرابي حتى السنوات الأخيرة من عمره مرتفع الهامة منتصب القامة حتى أشرف على السبعين وهو قوي البدن جم النشاط، إلى أن أصيب بمرض أقعده؛ ذلك هو السرطان الذي أصابه في المثانة …

وتولى علاجه ثلاثة من الأطباء هم: أحمد بك عيسى ومحجوب ثابت، وأنيس أنسي، ولكن هذا الداء قد استعصى على العلاج …

وكان عرابي قد دون مذكراته عن الثورة في ثلاث كراسات كبيرة١ تكلم فيها عن حوادث الثورة جميعًا، فلم يترك ناحية منها إلا ذكرها … وقد حرص على كتابة ثلاث صور منها، إحداها محفوظة بدار الكتب المصرية، والثانية والثالثة لدى أبنائه …

•••

وفي ٢٦ يوليو سنة ١٩١٠ فرغ من كتابة هذه المذكرات وقد اختتمها بذكر جميع من فتحوا مصر وتغلبوا عليها منذ عهد الفراعنة حتى الاحتلال البريطاني ووضح كيف تخلصت مصر منهم جميعًا، ثم قال: «فعلى الجيل الجديد أن يجدَّ ويجتهدَ ويعمل ليلًا ونهارًا على استرداد مجده واستقلاله وحريته المسلوبة منه ومطالبة الإنجليز بالجلاء حتى ينكشف عنه هذا البلاء، ثم إني أدعو الشعب المصري ألا يقلد التمدن الأوربي المزيف حتى لا يرتكب المنكرات التي نهى الله عنها وأن يأمر بالمعروف الذي أمر الله به، وأن يترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأن يقيم شعائر الدين الحنيف ويحيي مناسكه، فلا عز ولا انتصار بغير الدين وهو وحده يكفل لمن اتبعه بإخلاص هناء الدنيا وثواب الآخرة، ثم أناشدهم أن يشدوا أواصر الإخاء بين أبناء وطنهم وينزعوا ما في قلوبهم من غل وضغينة ويعملوا يدًا واحدة وقلبًا واحدًا لرفع شأن بلادهم وإعزاز كلمة دينهم، فإذا فعلتم كل ما ذكرت وأرهفتم آذانكم للسمع وأصختم إلى نصائح حكيم مجرب، عندئذ يخرج الله أعداءكم ويولي عليكم خياركم والله على كل شيء قدير» …

وفي ٢٠ سبتمبر سنة ١٩١١ اشتدت وطأة المرض على الزعيم الشيخ وكان قد انتقل إلى منزل في المنيرة فأوصى أولاده بنشر مذكراته مهما قابلهم من عقبات؛ ليعلم الناس حقيقة أعماله وما أراده من الخير لوطنه، وأن يلحوا على المطالبة بحقهم حتى ينالوه …

•••

وغاب الزعيم الشيخ عن وعيه ٣٦ ساعة لم يتكلم فيها أو يفتح عينيه أو يدري شيئًا مما حوله، ثم وافاه الأجل المحتوم في ٢٢ سبتمبر سنة ١٩١١ الموافق ٢٧ رمضان سنة ١٣٢٩، فأصبح في ذمة الله وسجل التاريخ.

ولم يكن لدى أولاده من المال ما يكفي لتجهيزه ودفنه فاضطروا إلى عدم إعلان نبأ وفاته حتى اليوم التالي، حتى قبضوا معاشه؛ إذ صرفت وزارة المالية المرتبات والمعاشات في هذا اليوم بمناسبة عيد الفطر المبارك …

ولم يشيعه إلى مقره الأخير رجل رسمي واحد، أو يحضر في مأتمه، ولكن مصر الوفية التي طغى عليها الاحتلال فتباعدت عنه في حياته، أبت إلا أن تكرمه ميتًا فأحاط بنعشه الألوف من أبنائها وتألفت من هؤلاء جنازة شعبية عظيمة سارت في صمت وخشوع من داره بالمنيرة حتى قبره بالإمام الشافعي؛ حيث أهيل عليه التراب، بين ترحم المترحمين وبكاء الباكين …

وستنقضي العصور والأعوام، ويبقى في أذهان بني الأجيال القادمة أن أحمد عرابي كان زعيم القومية المصرية الأول وكان الفلاح المصري الأول الذي دعا إلى حرية قومه وحارب في سبيلها ونفي وذاق ألم الفاقة والحرمان من أجل مصر، وكان صاحب الصيحة الأولى وصاحب الخطوة الأولى في سبيل الكرامة القومية والنهوض بمصر على أساس الدستور والحرية، جزى الله عرابي جزاء المحسنين عن أمته وأسكنه فسيح جناته …

١  طبع الجزء الأول منها بعنوان: كشف الستار عن سر الأسرار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤