المسألة المائة

ما السبب في أن إحساس الإنسان بألم يعتريه أشد من إحساسه بعافية تكون فيه؟ حتى لو شكا يومًا لأَنَّ أيامًا، وهو يَمُرُّ في لِبَاس العافية فلا يجد لها وقْعًا، وإنما يتبينه إذا مسه وجع، أو دهمه فزعٌ؛ ولهذا قال الشاعر:

والحادثاتُ وإن أصابك بؤسها
فهو الذي أنْبَاكَ كيف نعيمها

ومما يُحقِّق هذا أنك تجد شكوى المُبْتَلَى أكثر من شكر المُعافى؛ وإنما ذلك لوجدان أحدهما ما لا يجده الآخر.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

السبب في ذلك أن العافية إنما هي حالٌ ملائمةٌ موافقةٌ للحال الطبيعي من المزاج المعتدل الموضوع لذلك البدن.

والملاءمة والموافقة لا يُحَسُّ بهما، وإنما الحسُّ يكون للشيء الطارئ الذي لا موافقة فيه.

والسبب في ذلك أن الحس إنما أُعطِيَ الحيوان ليتحرَّز به من الآفات الطارئة عليه وليكون ألمه بما يَرِد عليه مما لا يوافقه سببًا لتلافيه وتداركه قبل أن يتفاوت مزاجه ويسرع هلاكه، فأُنْشِئَتْ لذلك أعصابٌ من الدماغ، وفُرِّقَت في جميع البدن ونُسِجَتْ بها الأعضاء التي تحتاج إلى إحساس، كما بُيِّنَ ذلك في التشريح وفي منافع الأعضاء، فكل موضع من البدن فيه عصبٌ فهناك حسٌّ، وكل موضع خلا منه فلا حسَّ فيه؛ ولم يخلُ منه إلا ما لا حاجة به إلى حس.

وإنما وُفِّرَتْ الأعصاب على الأعضاء الشريفة لتصير أذكى حِسًّا، ولتكون بما يَرِد عليها من الآفات أسرع إحساسًا، وكل ذلك ليبادر إلى إزالة ما يجده من الألم بالعلاج ولا يغفل عنه بتوانٍ ولا غيره.

ولو خلا الإنسان من الحس ومن الألم ومكانِه لكان هلاكه وشيكًا من الآفات الكثيرة.

وأما الحال الملائمة فلا يحتاج إلى إحساس بها، وهذه حال جميع الحواس الخمس في أحوالها الطبيعية، وأنها لا تُحِسُّ بما يلائمها، وإنما تُحِسُّ بما لا يوافقها.

أقول: إن حس اللمس الذي هو مشتركٌ بجميع البدن، إنما يدرك ما زاد أو نقص عن اعتداله الموضوعِ له؛ فإن البدن له اعتدالٌ من الحرارة مثلًا، فإذا لاقاه من حرارة الهواء ما يلائمه ويوافقه لم يحس به أصلًا؛ فإن خرج الهواء عن ذلك الاعتدال الذي للبدن إما إلى برْدٍ أو حرٍّ أحسَّ به فبادر إلى تلافيه وإصلاحه، وكذلك الحال في البرد والرطوبة واليبوسة، فأما سائر الحواس فلكل واحد منها اعتدالٌ خاصٌّ به لا يُحِسُّ بما يلائمه وإنما يُحِسُّ بما يضادُّه ويزيله عن اعتداله، كالعين فإنها لا تُحِسُّ بالهواء وبكل ما لا لون له ولا كيفية تزيلها عن اعتدالها، وكذلك السمع وباقي الحواس، وهذا باب مستقصًى في مواضعه من كُتُب الحكمة فليُرْجَع إليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤