المسألة الثالثة والمائة

لِمَ قيل: لولا الحَمْقَى لخرِبت الدنيا؟
وما في حياة الحمقى من الفائدة على الدِّين والدنيا؟
وهل الذي قالوه حق؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

قد تبيَّن أن الإنسان مدنيٌّ بالطبع، وأنه لا يعيش متوحِّدًا كما تعيش الطير والوحش؛ لأن تلك مكتفيةٌ بما خُلِقَ لها من الرِّياش والهداية إلى مصالحها وأقواتها، والإنسان عارٍ لا طاقة له ولا هداية إلى قوته ومصلحته إلا بالاجتماع والتعاون، وهذا الاجتماع والتعاون هو المدنية.

ثم إن المدنية لها حالٌ تُسمَّى بالأَوْلى عمارة وبالإضافة إلى الأولى خرابًا، فأما حال عمارتها فإنما يتم بكثرة الأعوان وانتشار العدل بينهم بقوة السلطان الذي يُنظِّم أحوالهم ويحفظ مراتبهم ويرفع الغوائل عنهم، وأعني بكثرة الأعوان تعاون الأيدي والنيات بالأعمال الكثيرة التي بعضها ضروريةٌ في قِوَام العيش، وبعضها نافعةٌ في حُسْن الحال في العيش، وبعضها نافعة في تزيين العيش؛ فإن اجتماع هذه هي العمارة.

فأما إن فات المدنية واحدةٌ من هذه الثلاث فإنها خرابٌ.

وإن فاتها اثنتان — أعني حُسْن الحال والزينة جميعًا — فهي غايةٌ في الخراب؛ وذلك أن الأشياء الضرورية في قِوَام العيش إنما يتبلَّغ بها الزُّهاد الذين لا يَعْمُرُون الدنيا وليسوا في عدد العُمَّار.

وعمارة الدنيا التامة وقِوَامها بثلاثة أشياء هي كالأجناس العالية، ثم تنقسم إلى أنواع كثيرة.

وأحد الأشياء الثلاثة: إثارة الأرض وفلاحتها بالزرع والغرس، والقيام عليها بما يصلحها ويستعد لِمَا يُراد منها، أعني الآلات المُستخرجَة من المعادن، كالحجارة والحديد المستعمَلة في إثارة الحرث والطحن وإساحة الماء على وجه الأرض من العيون والأنهار والقُنِي والدوالي وغير ذلك.

والثاني: آلات الجند والأسلحة المستعملة لهم في ذَبِّ الأعداء عن أولئك الذي وصفناهم ليتم لجماعتهم العيش ويقام غرضهم فيما اجتمعوا له بالمعاونة، وللجند أيضًا صُنَّاعٌ وأصحاب حِرَف، فهم يُعِدُّون لهم الخيل بالرياضة، والجُنَنَ للوقاية، وسائر الأسلحة للدفع والذَّب.

والثالث: الجلب والتجهيز الذي يتم بنقل ما يعِزُّ في أرض إلى أرض، وما يكون في بحر إلى بر.

وهذه الأحوال الثلاث زَيْنٌ وجمالٌ يزيد في حُسْن أحوالها، ولها أصحابٌ يختصُّون بجزء جزء من أقسام الأحوال الثلاثة التي ذكرناها.

وينبغي أن تعلم أن العيش غير جودة العيش، وحُسْن الحال في العيش، لتعلم أن العمارة متعلقة بجودة العيش وحُسْن حاله.

وقد عُرِفَ أن هذه الأمور لا تتم إلا بالمخاطرات الكثيرة، وركوب الأهوال، واحتمال المشاق، والتعرض للمخاوف.

ولو تبلَّغ الناس بضروراتهم، وطرحوا فضول العيش، وعملوا بما يقتضيه مجرد العقل لصاروا كلهم زهادًا، ولو كانوا كذلك لبَطَلَ هذا النظام الحسن والزَّيْن الذي في العالم، وعاشوا عيشة قَشِفَة كعيشة أهل القرى الضعيفة القليلة العدد، أو كعيشة سكان الخيم وبيوت الشَّعر وأظلال القصب، وهذه هي الحال التي تُسمَّى خراب المدن.

•••

فأما قولك: هل يُسمَّى القُوَّام بعمارة الدنيا حمقى؟ فأقول: إنه لا يجوز أن يُسمِّيهم بذلك كل أحد، وذلك أن الذين وصفنا أحوالهم من سكان القرى وأطراف الأرض، والذين لا يَكْمُلون لتحسين معايشهم هم أولى بهذا النَّبْز من الذين استخرجوا بعقولهم، وصفاء أذهانهم، ودقة نظرهم هذه الصناعات الكثيرة الجميلة، العائدة بمنافع الناس.

وإنما يسُوغ ذلك لمن اطَّلع على جميع العلوم والمعارف، وميَّزها ونزَّلها منازلها فترك ما ترك منها عن خُبْرٍ وعِلْم، وآثر ما آثر منها عن روية وبعد يقين؛ فإن الحكماء إنما تركوا النظر في عمارة الدنيا؛ لأنها عائدةٌ بعمارة الأبدان، ولما اطَّلعوا على شرف النفس على البدن، ورأوا لها عالمًا آخر، وجمالًا يليق بذلك العالم، وصناعاتٍ وعلومًا ومسالك ركوبها أشق وأعسر من ركوب مخاطرات الدنيا، ولزوم مَحَجَّتها والدُّءوب فيها بالنظر والعمل أصعب وأكثر تعبًا من الدُّءوب والعمل في الدنيا — آثروا التبلُّغ، وتبلَّغوا بالقُوت الضروري من الدنيا على أنهم هم الذين عملوا لهؤلاء أصول الصناعات والمهن، وتركوهم وإياها لما لم يَكْمُلوا لغيرها، ثم اشتغلوا وشغلوا من جالسهم بالأمر الأعلى الأفضل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤