المسألة الخامسة والأربعون والمائة

ما السبب في خجل الناظر إليه، وحياء الواقف عليه، خاصةً إذا كان منه بسبب، وضمَّهما نسب، ورجعا إلى حالٍ جامعة ومذهبٍ مشتركٍ، وما الفاصل من المنظور إليه إلى الناظر؟ وما الواصل من المتكلم إلى السامع حتى يُغضي طرْفه حياله ويَسُدُّ أذنه؟ هذا شيء قد شاهدته بل قد دُفِعْتُ إليه، وإنما التأمت المسألة بالحادثة؛ لأن التعجب تمكَّن، والاستطراف ثبت إلى أن وُقِفَ على السبب الجالب، والأمر الغالب، وعند ظهور العلة يثبُت الحكم، وبانكشاف الغطاء ينقطع ولوع المستكشف.

فسبحان من له هذه اللطائف المطوية، وهذه الخبيئات الملوية عن العقول الزكية، والأذهان الذكية.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

ينبغي أن نعيد ذِكْر السبب في الحياء والخجل ذِكْرًا مجمَلًا فنقول:

إن الحياء هو انحصار يلحق الناس خوفًا من قبيح، فإذا كان هذا هو الحياء؛ فإن الإنسان إذا كان بسبب من المتكلم لَحِقَ نفسه من العارض قريبٌ مما يلحق المتكلم؛ لأنه يخشي من وقوع أمرٍ قبيح منه أو كلامٍ يُعاب عليه مِثْلَ ما يخشاه المتكلم.

وقد كنا أومأنا فيما سبق إلى أن النفس واحدةٌ وإنما تتكثَّر بالمواد، ولولا ذلك لَمَا كان لأحد سبيلٌ إلى أن ينقل ما في نفسه إلى نفس غيره بالإفهام، وفيما مر من ذلك فيما مضى كفايةٌ؛ لأن ما يُحتاج إليه ها هنا هو أن يظهر أن القبيح الذي يختص بزيد يعُمُّ عمرًا أيضًا من جهة وإن كان عمروٌ غريبًا من زيد فكيف إذا ضمَّه وإياه سببٌ أو نَسَبٌ.

وليس يُحتاج أن ينفصل من المنظور إلى الناظر شيء؛ لأن أفعال النفس وآثارها لا تكون على هذه الطريقة الحسية والجسمية، لا سيما واستشعار كل واحدٍ من المتكلم والسامع استشعارٌ واحد في تخوُّف القبيح والحذر من الزلل والخطأ؛ فإن هذا الاستشعار يعرض منه الحياء والخجل كما قلنا.

ومتى غلب على ظن السامع أن المتكلم يُسيء ويَزِيغ صار خوفه وحذره يقينًا أو شبيهًا باليقين، فعظُم العارض له من الحياء حتى يلحقه ما ذكرتَ من الحركة المضطربة.

وكذلك حال المتكلم إذا لم يثق بنفسه أو لم تكن له عادةٌ بالوقوف في ذلك المقام والكلام فيه فإن حذره يشتد، وحياءه يكثُر، وبزيادة الحياء يزداد الاضطراب، ويمتنع القدْر من الكلام الذي تسمح به النفس عند توفُّر قوتها، واجتماع بالها، وسكون جأشها، وهدوء حركتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤