المسألة الثالثة والخمسون والمائة

حضرتُ مجلسًا لبعض الرؤساء فتدافع الحديث بأهله على جده وهزله فتحدَّى بعضهم الحاضرين وقال:

والله ما أدري ما الذي سوَّغ للفقهاء أن يقول بعضهم في فرْج واحدٍ: هو حرام، ويقول الآخر فيه بعينه: هو حلال، والفرج فرجٌ، وكذلك المال مالٌ.

نعم وكذلك في النفس وما بعدها: كلامٌ: هذا يُوجب قتْل هذا وصاحبه يمنع من قتْله، ويختلفون هذا الاختلاف الموحِش، ويتحكمون التحكم القبيح، ويتَّبعون الهوى والشهوة، ويتسعون في طريق التأويل، وليس هذا من فِعْل أهل الدين والورع، ولا من أخلاق ذوي العقل والتحصيل.

هذا، وهم يزعمون أن الله تعالى قد بيَّن الأحكام، ونَصَبَ الأعلام، وأفرد الخاص من العام، ولم يترك رطبًا ولا يابسًا إلا أودع كتابه، وضمَّن خطابه.

وهذه مسألةٌ ليس يجب أن يكون مكانها في هذه الرسالة؛ لأنها تَرِد على الفقهاء أو على المتكلمين الناصرين للدين، لكني أحببت أن يكون في هذا الكتاب بعض ما يدل على أصول الشريعة، وإن كان جُلُّ ما فيه منزوعًا من الطبيعة، ومأخوذًا من عِلْيَة الفلاسفة، وأشياخ التجربة، وذوي الفضل من كل جنسٍ ونِحلةٍ، وعلى الله تعالى بلوغ الإرادة والسلامة من طعْن الحَسَدة.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أما قول الفقهاء: إن الله تعالى بيَّن الأحكام ونَصَب الأعلام ولم يترك رطبًا ولا يابسًا إلا في كتاب مبين، فكلامٌ في غاية الصدق ونهاية الصحة، وكيف لا يكون كذلك وأنت لا تقدر أن تأتي بحكمٍ لا أصل له من القرآن من تأويلٍ يُرجع إليه، أو نصٍّ ظاهرٍ يُقطع عليه، ثم لا يخلو مع ذلك من إنباء بغيب، وإخبارٍ عما سلف من القرون، ومَثَلٍ لِمَا نُوعَد به، وإشارةٍ إلى ما ننقلب إليه، وتنبيهٍ على ما نعمل به من سياسة دنيا ومصلحة آخرة.

فأما الذي سوَّغ للفقهاء أن يقولوا في شيء واحدٍ إنه حلالٌ وحرامٌ؛ فلأن ذلك الشيء تُرِكَ واجتهاد الناس فيه لمصلحةٍ أخرى تتعلق على هذا الوجه بالناس، وذاك أن الاجتهاد لا يكون في الأحكام متساويًا، أعني أنه لا يؤدي إلى أمرٍ واحد كما يكون ذلك في غير الأحكام من الأمور الواجبة، وبيان هذا أن كل من اجتهد في إصابة الحق في أن الله تعالى واحدٌ، فطريقه واحدٌ وهو لا محالة يجده إذا وفَّى النظر حقه؛ فإن عدَل عن النظر الصحيح ضل وتاه ولم يجد مطلوبه واستحق الإرشاد أو العقوبة إن عاند، وليس كذلك الاجتهاد في الأحكام؛ لأن بعض الأحكام يتغير بحسب الزمان، وبحسب العادة، وعلى قدْر مصالح الناس؛ لأن الأحكام موضوعةٌ على العدل الوضعي، وربما كانت المصلحة اليوم في شيء وغدًا في شيء آخر، وكانت لزيدٍ مصلحةً ولعمرٍو مفسدة، وعلى أن الاجتهاد الذي يجري مجرى التعبُّد واختيار الطاعة، أو لعموم المصلحة في النظر والاجتهاد نفسه لا في الأمر المطلوب، ليس يضر فيه الخطأ بعد أن يقع فيه الاجتهاد موقعه، مثال ذلك: أن المراد من ضرب الكرة بالصولجان إنما هو الرياضة بالحركة، فليس يضر أن يخطئ الكرة ولا ينفع أن يصيبها، وإن كان الحكم قد أمر بالضرب والإصابة؛ لأن غرضه كان في ذلك الأمر نفس الحركة والرياضة، وكذلك إن دفن حكيمٌ في بريةٍ دَفِينًا وقال الناس: اطلبوه فمن وجده فله كذا، وكان غرضه في ذلك أن يجتهد الناس فيعرف مقادير اجتهادهم ليكون ذلك الطلب عائدًا لهم بمنفعة أخرى غير وجود الدفين؛ فإنه لا يضر أيضًا في ذلك أن يخطئ الدفين ولا ينفع أن يصيبه، وإنما الفائدة في السعي والطلب، وقد حصلت للطائفتين جميعًا، أعني الذين وجدوه والذين لم يجدوه.

وأصناف الاجتهادات والنظر الذي يجري هذا المجرى كثيرة، فمن ذلك كثيرٌ من مسائل العدد والهندسة وسائر الموضوعات، ليس غرض الحكماء فيها وجود الغرض الأقصى من استخراج ثمرتها، وإنما مرادهم أن ترتاض النفس بالنظر وتتعود الصبر على الروية والفكر إذا جريا على منهاج صحيحٍ، ولتصير النفس ذات مَلَكَة وقُنْيَةٍ للفكر الطويل، ومفارقة الحواس والأمور الجسمية، فإذا حصلت هذه الفائدة فقد وُجِدَ الغرض الأقصى من النظر.

فما كان من الشرع متروكًا غير مُبَيَّن فهو ما جرى منه هذا المجرى، وكان الغرض فيه والمصلحة منه حصول النظر والاجتهاد حَسْب، ثم ما أدى إليه الاختلاف كله صوابٌ وكله حكمة، وليس ينبغي أن يتعجب الإنسان من الشيء الواحد أن يكون حلالًا بحسب نظر «الشافعي» وحرامًا بحسب نظر «مالكٍ» و«أبي حنيفة»؛ فإن الحلال والحرام في الأحكام والأمور الشرعية ليس يجري مجرى الضدين أو المتناقضين في الأمور الطبيعية وما جرى مجراها؛ لأن تلك لا يستحيل أن يكون الشيء الواحد منها حلالًا وحرامًا بحسب حالين أو شخصين أو على ما ضربنا له المثل من ضرْب الكرة بالصولجان ووجود دفين الحكيم على الوجه الذي اقتصصناه.

وإذا كان الأمر كذلك فينبغي للعاقل إذا نظر في شيء من أحكام الشرع وكان صاحب اجتهادٍ، له أن ينظر — أعني أنه يكون عالِمًا بالقرآن وأحكامه، وبالأخبار الصحيحة، والسُّنن المروية، والإجماعات الصحيحة — أن يجتهد في النظر ثم يعمل بحسب اجتهاده ذلك، ولغيره إذا كان في مثْل مرتبته من المعرفة أن يجتهد ويعمل بما يؤديه إليه اجتهاده، وإن كان مخالفًا للأول، واثقًا بأن اجتهاده هو المطلوب منه، ولا ضرر في الخلاف، اللهم إلا أن يكون ذلك الأمر المنظور فيه من غير هذا الضرب الذي حكيناه وضربنا له الأمثال، مثل الأصول التي غاية النظر فيها هو إصابة الحق لا غير؛ فإن هذا مطلبٌ آخر وله نظرٌ لا بد أن يؤدي إليه.

وكما أن الرياضة المطلوبة بضرب الصولجان وإصابة الكرة إنما كانت لأجل الصحة ثم لم يضر بعدَ حصول الرياضة التي حصلت بها الصحة كيف جرى الأمر في الكرة: أصبناها أم أخطأناها، فكذلك الحال في الوجه الآخر، أعني الذي لا بد من إصابة الحق فيه بعينه؛ فإن مَثَلَه مثل الفَصْد الذي لا بد في طلب الصحة من إصابته بعينه، وإخراج الدم دون غيره، ولا ينفع منه شيءٌ غيره.

وإذا حصَّلت هذين الطريقين من النظر وأعطيتهما قسطهما من التمييز لم يعرض لك العجب فيما حكيته من مسألتك، وخرج لك الجواب عنها صحيحًا إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤