المسألة العشرون: مسألة اختيارية

لِمَ فَزِعَ الناس إلى الوسائط في الأمور مع ما قالوه في المسألة الأولى من فساد الشركة والشركاء، حتى إن جماهير الأمور ومَعَاظِم الأحوال، في الشريعة والسياسة، لا تتم ولا تنتظم إلا بوسيط يُلْحِم ويُسْدِي، ويرتُق ويفتُق، ويُحسِّن ويُجمِّل؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

لما كانت ضرورات الناس داعيةً إلى شركة الأحوال التي قدَّمنا ذِكْرها في المسألة الأولى، وكان كل إنسان يحب نفسه، ويحب لها المنفعة ويحرص على الاستئثار بها دون صاحبه، ظهر الفساد وحدث التظالم الذي ذكرته في المسألة المقدَّمة، ولم يثق أحد المشاركين في الأمر بصاحبه؛ لأنه ذو نصيب فيه، ومحبة للمنفعة العائدة منه لنفسه، وكان للهوى تطرُّق إليه وتسلُّق عليه، فاحتاجا إلى واسطة تكون حالُه في ذلك الأمر بريةً من حالهما؛ ليعتدل حكمه، ويصح رأيه، ويعطي كل واحدٍ قِسطه ونصيبه من غير حَيْفٍ ولا هوًى.

وليس يجب إذا كانت الشركة مذمومةً أن يخلو منها الإنسان؛ لأنه يضطر بالضعف البشري إليها كما ضربنا له المثل من الحمل الثقيل، أو كثرة أجزاء الشيء المنظور فيه.

فإن تُرِكت الشركة في مثل هذه الأمور، وأُهمِلَت المعاونة، فات ذلك الأمر دفعةً، وفي فوته فوت منافع عظامٍ، فكان تحصيله على ما يقع فيه من الخلل أولى من تركه رأسًا.

وأكثر أمور البشر لا يتم إلا بالمعاونة والتشارك لعجزهم عن التفرد ونقصهم عن الكمال وظهور أثر الخلق والإبداع فيهم، فلما كان المتشاركون في الأمر أكثر عددًا، والآراء أشد اختلافًا، والأهواء أغمض مدخلًا، كانت الحاجات إلى الوسائط أصدق، والضرورة إليهم أشد.

والسياسة من هذه الأمور، أعني التي تكثر فيها الأهواء، ويُحتاج فيها إلى الاشتراك والتعاون فيُحتاج فيه إلى من يصدق رأيه ويسلم من الهوى والعصبية؛ فإن أمكن أن يكون الوسيط خلوًّا من ذلك الأمر كان أجدر بالحكم العدل والرأي الصائب، وإن لم يكن ذلك اجتهد أن يكون حظه في الأمر أقل من حظ المختصمين، أو يكون أكثر ضبطًا للنفس وأقمع للهوى وأكثر رياضةً من غيره، وكل ذلك ليسلم من داعي الهوى والميل معه والانصباب إليه؛ لتتفق الكلمة، ويحدث العدل الذي هو سبب التآحد وزوال الكثرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤