المسألة الثالثة والخمسون

لِمَ صار الحصيف المتمكِّن واللبيب المبرِّز يُشاوَر فيأتي بالفِلْق والداهية حتى يدع الشَّعر مشقوقًا والغيث مرهوقًا، فإذا انفرد بشأنه، وانتصر لنفسه، وتعقَّب غاية منافعه عاد كسرابٍ بقيعةٍ، لا يُحْلِي ولا يُمِرُّ، حتى يفتضح عند من كان يثني الخنصر عليه بِنُكْرِه ودهائه ويشير إلى صواب رأيه؟

ما الذي أصابه ونزل به؟

وما الذي بدَّله وتحيَّف عليه؟

وما هذا الأمر الذي وسمه بما وسمه وأداه إلى ما أداه؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

سبب ذلك شيئان:

  • أحدهما: محبة الإنسان ذاته وتخوُّفه على نفسه من خطأ يُنسَب إليه أو غلط يقع منه فتعرِض له الدهشة والحيرة.
  • والآخر: ميله إلى الهوى، والهوى عدو العقل، والخطأ أبدًا مع الهوى، فإذا حضر الهوى غاب العقل، وحيث يغيب العقل يغيب الخير كله؛ فالإنسان أبدًا أسيرٌ في يد الهوى، والهوى يُريه ما يقبح جميلًا والخطأ صوابًا.

ولإحساس الرجل المميِّز الفاضل بذلك من نفسه لا يأمن أن يكون رأيه لنفسه من قبيل ما يُريه الهوى دون العقل فيضطرب فكره ولا يصح رأيه لنفسه.

فأما إذا رأى لغيره فهو سليم من الحالين جميعًا، فلذلك يأتي بالرأي الصحيح السليم كالقِدْح لغيره.

وربما كان له هوى في غيره أيضًا فيعرض له من الخطأ مثل ما عرض له في نفسه.

وهذا يدلك على صحة ما ذكرناه من السبب في خطئه على نفسه وسداده في أمر غيره.

وإذا احترز العاقل لنفسه أيضًا وتجنَّب الهوى، صح رأيه لنفسه، وقلَّ خطؤه إلا بمقدار ما جُبِلَ عليه المرء من محبة نفسه، واشتباه الهوى في بعض المواضع اللطيفة بالرأي الصحيح؛ فإنه حينئذٍ يغلط غلطًا يُعذَر فيه ويَسْلَم من تبعته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤