المسألة الثانية والستون

ما علة افتتان بعض الناس في العلوم على سهولة من نفسه وانقياد من هواه واستجابة من طبعه، وآخر لا يستقل بفن مع كد القلب ودوام السهر ومواصلة المجالس وطول المدارسة؟

ولعل الأول كان من المحاويج والثاني من المَيَاسِير.

وقال بعض الناس: هذه مواهب.

وقال آخرون: هي أقسام.

وقال قائلون: هي طبائع مختلفة، وعروق نزاعة، ونفوس أبَّاءة.

وقال آخرون: إنما هي تأثيرات علوية، ومقابلات سُفْلية، واقترانات فلكية.

وقال آخر: الله أعلم بخلقه وبفعله، ليس لنا إلا النظر والاعتبار؛ فإن أفضيا بنا إلى البيان فنعمة لا يقوم بشكرها إنس ولا جان، وإن أديا إلى اللبس فتسليم لا عار فيه على الإنسان.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

إن النفس وإن كانت في ذاتها كريمة شريفة فإن أفعالها إنما تصدر بحسب آلتها، فكما أن النجار إذا فقد الفأس واستعمل المِثْقَب أو المِنْشَار مكانه لم يصدر فعله الذي يتم بالفأس كاملًا ولم تحصل له صور المَنْجُور تامًّا، ولم يكن ذلك لتقصير منه بل لفقد الآلة، فكذلك حال النفس إذا ثارت إلى معرفة ونهضت نحو علم ثم لم تجد آلته فإنها حينئذٍ بمنزلة النجار الذي ضربناه مثلًا؛ وذلك أن بعض العلوم يُحتاج فيه إلى تخيُّل قوى، والتخيل إنما يكون باعتدال ما في مزاج بطن الدماغ المقدم.

وبعض العلوم يُحتاج فيه إلى فكر صحيح، والفكر الصحيح إنما يتم باعتدال ما في مزاج بطن الدماغ الأوسط.

وبعض العلوم يُحتاج فيه إلى حفظ صحيح جيد، والحفظ الجيد يحصل باعتدال ما في مزاج بطن الدماغ المؤخر.

وبعض هذه المزاجات يُحتاج في اعتداله الخاص فيه إلى رطوبة ما، وبعضه يُحتاج فيه إلى يبوسة ما، وكذلك الحال في الكيفيتين الأُخريين.

ولما كانت هذه البطون متجاورة أدى بعضها إلى بعض كيفيتها؛ فإن رطوبة أحدها ترطب الآخر بالمجاورة، وإن كان غير محتاج إلى الرطوبة في اعتداله الخاص به؛ فلذلك قلَّ من يجتمع له الفضائل الثلاث من صدق التخيل وصحة الفكر وجودة الحفظ.

وإذا غلب أحد هذه كانت سهولة العلم الموافق لذلك المزاج على الإنسان بحسب ما رُكِّب فيه وأُعطي القدرة عليه.

ومن فَقَدَ الاعتدال فيها كلها فَقَدَ الانتفاع بالعلوم أجمعها.

وربما حصلت الفضائل في التركيب من صحة المزاج ثم أهمل صاحبها نفسه بمنزلة النجار الذي يجد الآلة ثم لا يستعملها كسلًا وميلًا إلى الراحة والهُوَيْنَى وشغلًا باللعب والعبث، فهذا هو المذموم المضيع حظه الذي خسر نفسه، قال الله تعالى فيه قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.

فأما من استعمل آلته بحسب طاقته وحصَّل فضيلتها بنحو استطاعته فهو معذور، وليس يكون ذلك بيسارٍ ولا فقر، بل بحصول الآلة ومواتاة المزاج وبقدر عناية الإنسان بعد ذلك.

فمن قال من الناس: إنها مواهب أو أقسام أو طبائع أو تأثيرات عُلوية أو غير ذلك فهو صادق، وليس يكذب أحد في شيء مما حكيته؛ لأن كل واحد منهم يومئ إلى جهة صحيحة وسبب ظاهر، وإن كانت جميع الجهات والأسباب مرتقية إلى سبب واحد لا سبب له، وإلى علة أُولى هي علة الباقيات، وإلى مبدع للجميع خالق للكل — تعالى ذكره وتقدَّس اسمه — ونحن نستمده التوفيق، ونسأله العصمة، ونَسْتَوْزِعُه الشكر، ونفوض إليه أمورنا، وهو حسبنا ومولانا وعليه توكُّلنا ونِعمَ المولى ونِعم النصير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤