المسألة الثالثة والستون

ما الفراسة وماذا يُراد بها؟
وهل هي صحيحة أم هي تصح في بعض الأوقات دون بعض أو لشخص دون شخص؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

الفراسة صناعةٌ تتصيد الأخلاق والأفعال التي بحسب الأخلاق من الأمزجة والهيئات الطبيعية والحركات التي تتبعها.

وهي صناعة صحيحة قوية الأصول وثيقة المقدمات، ويحتاج صاحبها ومتعاطيها أن يتدرب في ثلاثة أصول لها حتى يُحْكِمها ثم يحكم بها؛ فإنه حينئذٍ لا يخطئ ولا يغلط.

والأصول الثلاثة هي هذه:
  • أما أحدها: فالطبائع الأربع أنفسها.
  • والثاني: الأمزجة وما يتبعها ويقتضيها.
  • والثالث: الهيئات والأشكال والحركات التابعة للأخلاق.

ونحن نشرحها على مذهبنا في الإيجاز والإيماء إلى النُّكَت والدلالة بعد ذلك على مظانها.

•••

فأما قولك: فما الذي يراد بها؟ فإن المراد من هذه الصناعة تَقْدِمَة المعرفة بأخلاق الناس لِيُلابِسَهم على بصيرة.

والفراسة قد تكون في الخيل والكلاب وسائر الحيوانات التي ينتفع بها الناس، وقد تكون في الجمادات أيضًا كفراسة السيوف والسحاب وغيرهما، إلا أن العناية التامة إنما وقعت بفراسة الإنسان خاصة لكثرة الانتفاع به مما سنذكره بمشيئة الله.

•••

وأما قولك: هل تصح أبدًا أم في وقت دون وقت ولشخصٍ دون شخص؟ فإني أقول:

إنها تصح أبدًا في كل وقت ولكل أحد، ولكن على الشريطة التي ذكرناها من إحكام الأصول التي وعدنا بذكرها مجملة والدلالة على مواضعها مفصَّلة.

وإنما قلنا إنها تصح أبدًا ودائمًا؛ لأن مقوماتها ودلائلها ثابتة غير منقلبة، وليست كأشكال الفلك التي تتبدل وتتغير، بل شكل الإنسان وهيئاته ومزاجه والحركات اللازمة له عن هذه الأشياء ثابتة باقية ما دام حيًّا؛ فالمُستدِل بها أيضًا يتصفحها فيجدها بحال واحدة.

ونعود إلى ذكر الأصول الثلاثة فنقول:

أما الاستدلال بالطبائع أنفسها فهو أن الحرارة التي تكون في قلب الإنسان — وهي سبب الحياة — من شأنها إن زادت على الاعتدال أن تزيد في النَّفس لحاجة القلب إلى الترويح بالرئة، وأن توسع التجويف الذي تكون فيه بالحركة الزائدة، وأن يكون لها دخان فاضل على القدر المعتدل بحسب زيادتها وبقدر الرطوبة الدهنية التي تجاورها، فيعرض من هذه الأحوال التي ذكرتها أن يكون الإنسان، الذي حرارة قلبه بهذه الصفة: عظيم النفس، واسع الصدر، جَهِير الصوت، كثير الشَّعر في نواحي الصدر والأكتاف إذا لم يمنع منه مانع، كما يعرض لمن يكون جلده مُسْتَحْصِفًا ومسام جلده مسدودة أو ضيِّقة.

فمن وجد هذه الصفات فحكم بأن الموجب لها حرارة غالبة فهو صادق، إلا أنه لا ينبغي أن يتسرع إلى حكمٍ آخر حتى في الأصلين الباقيين ليثق كل الثقة، وذلك أن الحرارة يتبعها الغضب والشجاعة وسرعة الحركة، ولكن على شروط وهي: أن للدماغ مشاركة في أفعال الإنسان وتعديل حرارة القلب إذا كان باردًا رطبًا، فينبغي أن يَنظر فيه؛ فإن كان صاحب هذا المزاج صغير الرأس بالإضافة إلى صدره فاحكم عليه بما قلناه.

فإن أضاف المُستدِل إلى هذه الدلالة الدلالتين الأُخريين من الأصلين الباقيين فلا أشك في صحة حكمه وصدق قياسه.

وأما الاستدلال بالأصل الثاني وهو المزاج، فقد علمنا أن لكل مزاج خَلْقًا ملائمًا وشكلًا موافقًا، وذلك الخَلْق يتبعه خُلُق للنفس؛ فإن الطبيعة تعمل أبدًا من كل مزاج خَلْقًا خاصًّا؛ فلذلك لا تعمل من نُطْفة الحمار إلا حمارًا، ومن النواة إلا النخلة، ومن البُرَّة إلا بُرًّا.

وكذلك أيضًا — أبدًا — تعمل من المزاج المخصوص بالأسد خِلْقة الأسد، ومن مزاج الأرنب خلقة الأرنب، وأن ذلك الخَلْق يتبعه خُلُق خاص — أبدًا — بموجب الطبيعة، وذلك أن الأسد لما كان مزاج قلبه حارًّا تتبعه الجرأة، ولأنه مستعد لأن يلتهب قلبه صار يُسرع إليه الغضب، ولأن مزاجه موافق لِخَلْقِه أعدَّت له الطبيعة آلة الفَرْس والنَّهْس وأزاحت علته في الأعضاء التي يستعملها بحسب هذا المزاج وأعطته الأَيْدَ والبطش.

ولما كان مزاج الأرانب مقابلًا لهذا المزاج صار خوَّارًا جبانًا ضعيفًا قليل المُنَّة، فأعدَّت الطبيعة له آلة الهرب، فهو لذلك خفيف جيِّد العَدْو لا يصدر عنه شيء من أفعال الشجاعة والإقدام، فكل أسد شجاع مِقْدَام، وكل أرنب جبان فرَّار، حتى لو تحدَّث إنسان أن أرنبًا أقدم على سبع وولى السبع عنه لكان موضع ضحك.

فإذا وجد صاحب الفراسة في مخايل الإنسان وخُلُقه مشابهةً لأحد هذين الحيوانين فحكم له بقريب من ذلك المزاج والخُلُق الصادر عنه فهو غير بعيد من الحق، لا سيما إن أضاف إليه الأصلين الباقيين.

وهذا المثالان اللذان ذكرناهما يستمر القياس عليهما على مزاج خاص بحيوان، أعني أنه يتبع كل مزاج خُلُق: كالرَّوغَان للثعلب والخِداع، والجبن للأرنب والخَتْل، وكالمَلَق للسَّنَّوْر والأُنْس، وكالسَّرق للعَقْعق والدفن.

وإنما صار الإنسان وحده لا يظهر منه الخُلُق الطبيعي ظهورًا تامًّا كظهوره من هذه الحيوانات؛ لأنه مميِّزٌ ذو روية، فهو يستر على نفسه مذموم الأخلاق بتعاطي ضده وتكلُّف فعل المحمود وإظهار ما ليس في طبعه ولا في جِبلَّته، فيحتاج حينئذٍ إلى أن يُستدل على خُلُقه الطبيعي بأحد شيئين: إما بطول الصحبة وتفقُّد الأحوال، وإما بالاستدلال الذي نحن في ذكره، والاستعانة بصناعة الفِرَاسة على ما يُسيِّره من أخلاقه الطبيعية.

فإن كان مزاجه وخَلْقه مناسبًا لخَلْق الأرنب حُكِم بخُلُقه، وإن كان مناسبًا للأسد حُكِم عليه بخُلُقه مع سائر دلائله الأُخر.

•••

فأما الاستدلال بالأصل الآخر، وهو الهيئات والأشكال والحركات، فهو أن كل حال من حالات النفس من غضب ورضًا وسرور وحزن وغير ذلك هيئات وحركات وأشكالًا تتبع تلك الحال أبدًا، وظهورها يكون في العين والوجه أكثر، وأصحاب الفراسة يعتمدون العين خاصة، ويزعمون أنها باب القلب، فيتصيَّدون من شكلها ولونها — وأحوالٍ أُخَر لها كثيرة يضيق موضعنا عن ذكرها — أكثر الأخلاق والشِّيَم، وتحسُن إصابتهم، ويصدُق حكمهم لا سيما إن أضافوا إليه الأصلين الباقيين، وذلك أن عين المسرور مثلًا وعين الحزين ظاهرتا الهيئة والحركة، فإذا وُجد الإنسان وهو بالخِلْقة والطبيعة على أحد هاتين الحالتين من هيئة عينه وحركتها حَكَمَ عليه بذلك الطبع، وكذلك من ظهر في وجهه في حال سكوته قُطُوبٌ وغُضُون في الجبهة وعبوس حَكَمَ عليه بهذا الطبع وأنه سيئ الخُلُق.

فهذه هي الأصول الثلاثة التي اعتمدها أصحاب الفراسة وهي قوية طبيعية كما تراها.

وقد عمِل فيها أفْليمون كتابًا، ويُقال إنه أول من سبق إلى هذا العلم ممن انتهى إلينا أثره وعرفنا خبره، ثم تبعه جماعة صنَّفوا فيه كُتبًا، وهي مشهورة، فمن أحب الاتساع في هذا العلم فليأخذه من مظانه.

•••

وها هنا نوعٌ آخر من الاستدلال — وإن لم يكن طبيعيًّا فهو قريب منه — وهو العادات؛ فإن المَثَل قد سبَق بأن العادة طبيعة ثانية، وقد علمنا أن من نشأ بمدينة وفي أُمَّة وطالت صحبته لطائفه تشبَّه بهم وأخذ طريقتهم، كمن يصحب الجند وأصحاب الملاهي أو سائر طبقات الناس، حتى يُظَن بمن صحب البهائم طويلًا أنه يحدث فيه شيء من أخلاقها، وأنت تتبين ذلك في الجمَّالين والرعاة الذين يسكنون البر وتقل مخالطتهم للناس، وفي القوم الذين يعاملون النساء والصبيان، كيف ينحطون إلى أخلاقهم ويتشبهون بهم.

فهذه جملة من القول في الفِرَاسة.

وينبغي أن تحذر الحكم بدليل واحد، وتتوخى جميع الدلائل من الأصول الثلاثة لتكون بمنزلة شهود عدول لا يتداخلك الشك في صدقهم، فيكون حكمك صادقًا وفراستك صحيحة، وذلك بحسب دُرْبَتِك بالصناعة بعد معرفتك بالأصول.

وما أكثر الانتفاع بهذا العلم وأحْضره! فإني أرى في الجَوَلان الذي يتفق لي في الأرض وكثرة الأسفار أن أرى ضروبًا من الناس وأخالط أخياف الأمم وأشاهد عجائب الأخلاق، فأستعمل الفراسة فيعظُم نفعها وتتعجل فائدتها.

والفراسة ربما تخطئ في الفيلسوف التام الحكمة، ووجه ذلك أنه ربما كان ذا مزاج فاسد وخُلُق — بالطبع — مُشَاكِل له فيصلحه ويهذبه بطول المعاناة وتَعَاهُد نفسه بدوام السيرة الحميدة ولزوم السجايا الرضية، كما يُحكى عن أفْليمون، وهو أول من سبق إلى هذا العلم؛ فإنه حُمِل إلى أبقراطيس وهو متنكر، فدخل إليه وهو لا يعرفه، فلما تأمَّله حكم عليه: زانٍ، فهمَّ أصحابه بالوثوب عليه، فنهاهم أبقراطيس وقال: قد صدق الرجل بحسب صناعته، ولكني بالقهر أمنع نفسي من إظهار سجيتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤