المسألة الثامنة والثمانون

حدثني عن مسألة هي مَلِكة المسائل والجواب عنها أمير الأجوبة، وهي الشَّجَا في الحَلْق، والقذى في العين، والغُصَّة في الصدر، والوَقْر على الظهر، والسُّل في الجسم، والحسرة في النفس، وهذا كله لعِظَم مادَهَمَ منها وابتُلِيَ الناس به فيها، وهي حرمان الفاضل وإدراك الناقص؛ ولهذا المعنى خلع ابن الرَّاوَنْدِي رِبْقَة الدِّين، وقال أبو سعيد الحصيري بالشك: وألحد «فلان» في الإسلام، وارتاب «فلان» في الحكمة.

وحين نظر «أبو عيسى الوراق» إلى خادم قد خرج من دار الخليفة بِجَنَائِبَ تُقَاد بين يديه، وبجماعة تركُض حواليه، فرفع رأسه إلى السماء وقال: أُوحِّدك بلغات وألسنة، وأدعو إليك بحجج وأدلة، وأنصر دينك بكل شاهد وبينة، ثم أمشي هكذا عاريًا جائعًا نائعًا، ومثل هذا الأسود يتقلب في الخز والوشي والخدم والحشم والحاشية والغاشية!

ويُقال هذا الإنسان هو «ابن الراوندي»، ومن كان؛ فإن الحديث في هذا الباب بيِّن والإسناد فيه عالٍ، والبحث عن هذا السر واجب؛ فإنه باب إلى روح القلب، وسلامة الصدر، وصحة العقل، ورضا الرب، ولو لم يكن فيه إلا التفويض والصبر حسبما يوجبه الدليل لكان كافيًا.

والمنجِّمون يقولون: إن الثامن من مقابلة الثاني، فكأن المناظر والمقابل يدلان على العداوة.

وحدثنا شيخ عن «ابن مجاهد» أنه قال: الفضل معدود من الرزق، كما أن الخفض معدود في جملة الحرمان.

وقال لي شيخ مرة: اعلم أن القسمة عدل، والقاسم منصف؛ لأنه بإزاء ما أعطاك من الأدب والفضل واللسان والعقل أعطى صاحبك المال والجاه والكفاية واليسار، فانظر إلى النعمة كيف انقسمت بينكما، ثم انظر إلى البلاء كيف انقسم عليكما أيضًا: أبلاك مع الفضل بالحاجة، وأبلاه مع الغنى بالجهالة، فهل العدل إلا في هذه العِبرة، والحق إلا بهذه الفكرة.

ولعمري إن هذا المقدار لا يصبر عليه «الدَّهْرِي» ولا «التَّنَاسُخِي» ولا «الثَّنَوِي»، ولكن على كل حال فيه تبصرةٌ من العمى.

•••

ولو قد أفردنا الجواب عن مسائل هذه الرسالة لكان للمعترض والمتشكك في ذلك مَشْبَعٌ ومَرْوَى، والله المعين على ما قد اشتمل الضمير عليه وانعقدت النية به.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

هذه المسألة كما حكيتَ ووصفتَ من صعوبتها على أكثر الناس، والتباس وجه الحكمة فيها على أصناف أهل النظر، حتى صار الكلام فيها مشبَّهًا بقائم الشطرنج الذي يتنازعه الخصمان إلى أن يقطعهما الكَلال والسآمة، فيطرحونها قائمة ثم يعودون فيها مجلسًا بعد آخر، فتكون صورتهم فيها واقفةً بحالها.

وكنت أحب أن أُفْرِدَ فيها مقالة تشتمل على جملة مستقصاة تشفي وتكفي عندما سألني بعض الإخوان ذلك؛ فإن أمثال هذه المسائل المتداولة بين الناس المشهورة بالشك والحيرة ليس ينبغي أن يُقنَع فيها بأمثال هذه الأجوبة، التي سألت أنت فيها الإيجاز الشديد، وضَمِنْتُ أنا فيها الإيماء إلى النُّكَت، لا سيما وأنا لا أعرف في معناها كلامًا مبسوطًا لأحد ممن تقدَّمني حتى إذا أومأتُ بالمعنى إليه أحَلْتُ بالشرح عليه، ولكنني لما انتهيت إليها بالنظر لم يجُز أن أخليها من جواب متوسط بين الإسهاب والإيجاز، وأنا مجتهد في بيانها وإزالة ما لحق الناس من الحيرة فيها، ومن عند الله أستمد التوفيق وهو حسبي، فأقول:

إن من الأصول التي لا منازعة فيها، وهي مسلَّمة من ذوي العقول السليمة، أن لكل موجود في العالم — طبيعي كان أو صناعي — غايةً وكمالًا وغرضًا خاصًّا وُجِدَ من أجله وبسببه، أعني أنه إنما أُوجِد ليتم به ذلك الغرض، وإن كان قد يتم به أشياء أُخَر دون ذلك الغرض الأخير والكمال الأخير، وقد يصلح لأمور ليست من الغرض الذي قُصِدَ به وأُرِيدَ له في شيء، ومثال ذلك المِطْرَقة؛ فإنها إنما أُعِدَّت للصانع ليتم له بها مد الأجسام إلى أقطارها وبسطها إلى نواحيها، وهي مع ذلك تصلح لأن يُشَقَّ بها وتُستعمَل في بعض ما تُستعمَل فيه الفأس، وكذلك أيضًا المِقْرَاض إنما أُعِدَّ للخياط ليقطع به الثوب، وهو مع ذلك يصلح لأن يُبْرَى به القلم ويُستعمَل مكان السكين، وكذلك الحال في سائر الآلات الصناعية.

وهكذا صور الأمور الطبيعية؛ فإن الأسنان إنما أُعِدَّت مختلفات الأوضاع والأشكال لاختلاف كمالاتها — أعني الأغراض التي تتم بها والأفعال التي وُجِدَت من أجلها — فإن مَقَادِيمَهَا حادة بالهيئة التي تصلح للقطع كالحال في السكين ومَآخِيرَهَا عريضة بالهيئة التي تصلح للرَّضِّ والطحن كالحال في الرحا، وقد تتم بها أفعال أُخَر.

وكذلك الحال في اليد والرِّجْل، فقد يتعاطى الناس أن يعملوا بكل واحدة منهما غير ما خُلِقَت له وعُمِلَت من أجله على سبيل الحاجة إلى ذلك أو على طريق التغريب به والتعجب منه، كمن يمشي على يده ويبطش ويكتب برِجْله.

ولكن هذه الأفعال — وإن ساغ صدروها عن هذه الآلات وتم بها غير ما هو كمالها وخاص بها — فإن ذلك منها يكون على اضطراب ونقصان عن الآلات التي تتم بها أعمالها الخاصة بها المطلوبة منها الموجودة من أجلها.

وإذا كان ذلك مستمرًّا في جميع الآلات الصناعية والأشخاص الطبيعية فكذلك الحال في الأنواع كلها؛ فإنك إذا تأملت نوعًا منها وجدته مستعدًّا لكمالاتٍ وأغراض خاصة بواحد واحد منها.

وهكذا يجري الأمر في أجناس هذه الأنواع؛ فإن الناطق وغير الناطق من الحيوان ليس يجوز أن يكون غرضهما وكمالهما واحدًا، أعني أنه لا يجوز بوجه ولا سبب ألا يكون للإنسان — الذي مُيِّزَ بهذه الصورة، وأُعطي التمييز والروية، وفُضِّل بالعقل الذي هو أجلُّ موهوب له وأفضل مخصوص به — غرض خاص وكمال خُلِقَ لأجله ووُجِدَ بسببه.

وإذا كان هذا الأصل مُوَطَّأ ومُقَرًّا به، وكان على غاية الصحة وفي نهاية القوة كما تراه، فهلُمَّ بنا نبحث بحثًا آخر عن هذه الآلات الصناعية والأشخاص الطبيعية؛ فإنَّا نجدها قد تشترك في أشياء وتتباين في أشياء، أعني أن المطرقة تشارك السكين والإبرة والمنشار وغيرها في الصورة التي هي الحديدة ثم تنفرد بخاص صورة لها تميِّزها من غيرها، والإنسان يشارك النبات والبهائم في النمو والاعتلال وفي الالتذاذ بالمأكل والمشرب وسائر راحات الجسد ونَفْض الفُضُول عنه، ونريد أن نعلم هل هذا الاختصاص الذي لكل واحد منها بغرضه الخاص به وكماله المفروض له هو بما شارك به غيره أو بما باينه به؟ فتجده الصورة الخاصة به التي ميَّزته عن غيره وصار بها هو ما هو، أعني صورة الفأس التي بها هو فأس هي التي جعلت له خاصته وكماله وغرضه، وكذلك الحال في الباقيات.

•••

ثم نصير إلى الإنسان الذي شارك النبات والحيوان في موضوعاتها فنقول: إن الإنسان من حيث هو حيوان قد شارك البهائم في غرض الحيوانية وكمالها، أعني في نَيْل اللذات والشهوات والتماس الراحات وطلب العوض مما يتحلل من بدنه، إلا أن الحيوانية لما لم تكن صورته الخاصة به المميزة له عن غيره لم تصدر هذه الأشياء منه على أتم أحوالها؛ وذاك أنَّا نجد أكثر الحيوانات تزيد على الإنسان في جميع ما عددناه وتَفْضُله فيها بالاقتدار على التَّزَيُّد وبالمداومة وبالاهتداء، ولما كانت صورته الخاصة به التي ميَّزته عن غيره هو العقل وخصائصه من التمييز والروية وجب أن تكون إنسانيته في هذه الأشياء، فكل من كان حظه من هذه الخصائص أكثر كان أكثر إنسانية، كما أن الأشياء التي عددناها كلما كان منها حظُّه من صورته الخاصة به أكثر كان فضله في أشكاله أظهر.

•••

ثم نعود إلى شرح مسألتك ونبيِّنها بحسب هذه الأصول التي قدَّمتُها فأقول:

لعمري إنه لو كان غاية الإنسان، وغرضه الذي وُجِدَ بسببه، وكماله الذي أُعِدَ له هو الاستكثار من القُنْيَة، والتمتع بالمآكل والمشارب وسائر اللذات والراحات لوجب أن يستوفيها بصورته الخاصة به، ولوجب أن تكثر عنده، ويكون نصيب كل إنسان منها على قدر قسطه من الإنسانية، حتى يكون الأفضل من الناس هو الأفضل في هذه الأحوال من القُنْية والاستمتاع بها، ولكن لما كانت صورته الخاصة به هي التي ذكرنا، علمنا أن القصد به والغرض منه هو ما صدر عنه وتم به، كحقائق العلوم والمعارف، وإجالة الروية، وإعمال الفكرة فيها، ليصل بذلك إلى مرتبة هي أجلُّ من مرتبة البهائم وسائر الموجودات في عالم الكون والفساد، كما أنه في نفسه وبحسب صورته أفضل منها كلها، وهذه المرتبة لا يصل إليها بغير الروية وبغير الاختيار الخاصين بالعقل.

ولا يجوز أن يُقال في معارضة ما قلناه: إن هذه الروية وهذا الاختيار إنما ينبغي أن يكونا في اللذات؛ لأنَّا قد بيَّنا في هذا الموضع وفي مواضع أُخَر كثيرة أن تلك موجودة للحيوانات الخسيسة أوفر وأكثر بغير روية ولا عقل، وإنما تَشْرُف الروية وتتبين ثمرة العقل إذا استُعمِل في أفضل الموجودات، وأفضل الموجودات ما كان دائم البقاء غير داثرٍ ولا متبدِّل، وغير محتاج ولا فقيرٍ إلى شيء خارج عنه، بل هو الغني بذاته الذي فاض بجوده على جميع الموجودات ونزَّلها منازلها بقدر مراتبها وعلى قدر قبولها وبحسب استحقاقاتها.

فالروية والفكرة والاختيار إنما تكمُل بها صور الإنسانية إذا استُعمِلت في الأمور الإلهية ليرتقي بها إلى منازل شريفة لا يمكن النطق بها، ولا الإشارة إليها إلا لمن وصل إليها، وعرف إلى ما يُشَار، وعَلِم لأي شيء عُرِّض الإنسان من الخيرات، ثم هو يطلب الانتكاس في الخلق والرجوع إلى مرتبة البهائم ومن هو في عِدادها ممن خسر نفسه، كما قال الله — تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، فهذا لعمري هو الخسران المبين الذي يُتعوَّذ بالله منه دائمًا.

ولقد أعجبني قول امرئ القيس مع لوثة أعرابيته، وهمجية مُلكه، وشبابه وذهابه في طُرُق الشِّعر الذي كان متصنعًا به، وهائمًا في واديه، منغمسًا في معانيه:

أرانا مُوضِعِينَ لِحَتْمِ غيبٍ
ونُسْحَرُ بالطعام وبالشراب

فما هذا الإيضاع منا؟ وما هذا الحتم من الغيب؟

لقد أشار إلى معنى الطيف، ودل من نفسه على ذكاء تام وقريحة عجيبة، ألا تراه يقول: «ونُسحَر بالطعام وبالشراب» أي المراد منا والمقصود بنا غيرهما وإنما نُسحر بهذين.

فقد تبيَّن أن الإنسان إذا لم تكن غايته هذه الأشياء — التي تُسمِّيها العامة أرزاقًا — ولم يُخلَق لها ولا هي مقصوداته بالذات، فليس ينبغي له أن يلتمسها وأن يتعجب ممن اتفقت له، وإن كان يتشوقها ويحبها فليس ذلك من حيث هو إنسان عاقل بل من هو حيث هو حيوان بهيمي، وقد أُزِيحَت علته في الأمور الضرورية التي يتم بها عيشه ويصح منها سلوكه إلى غايته، ولم يُظلَم أحدٌ في هذا، فتأمَّله تجده بيِّنًا إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤