المسألة التسعون

الجواب أن تُفرَد مسألة الجبر والاختيار، فيُقال: ما الجبر؟ وما الاختيار؟

وما نسبتهما إلى العالم؟ وكيف انتسابهما والتئامهما؟

أعني كيف اختلافهما في ائتلافهما؟ وذلك أنك تجدهما في العالم مُضَافَين إلى الذين يجمعون بين العقل والحس، كما تجدهما مضافين إلى اللذين ينفردون بالحس دون العقل.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

إن الإنسان تصدر عنه حركات وأفعال كثيرة لا يشبه بعضها بعضًا.

وذلك أنه يظهر منه فعل من حيث هو جسم طبيعي فيناسب فيه الجماد.

ويظهر منه فعل آخر من حيث هو نامٍ — مع أنه جسم طبيعي — فيناسب بذلك الفعل النبات.

ويظهر منه فعل آخر من حيث هو ذو نفس حساس فيناسب بذلك الفعل البهائم.

ويظهر منه فعل آخر من حيث هو ناطق مميز فيناسب بذلك الفعل الملائكة.

ولكل واحد من هذه الأفعال والحركات الصادرة عن الإنسان أنواع كثيرة وإليها دواعٍ ولها أسباب، ويُنظر أيضًا فيها من جهات مختلفة، وتعرض لها عوائق كثيرة وموانع مختلفة: بعضها طبيعية، وبعضها اتفاقية، وبعضها قهرية.

ومتى لم يفصل الناظر في هذه المسألة هذه الأفعال بعضها من بعض، ولم ينظر في جهاتها كلها اختلطت عليه هذه الوجوه، والتبس عليه وجه النظر فيها فعرضت له الحيرة، وكثُرت عليه الشُّبَه والشكوك.

ونحن نبيِّن هذه الحركات ونميِّزها ثم نتكلم على حقيقة الجبر والاختيار؛ فإن الأمر حينئذٍ يسهُل جدًّا ويقرُب فهمه ولا يَعْتَاص بمشيئة الله تعالى فأقول:

إن الفعل مع اختلاف أنواعه وتباين جهاته يحتاج في ظهوره إلى أربعة أشياء:
  • أحدهما: الفاعل الذي يظهر منه.
  • والثاني: المادة التي يحصل فيها.
  • والثالث: الغرض الذي ينساق إليه.
  • والرابع: الصورة التي تتقدم عند الفاعل ويروم بالفعل اتخاذها في المادة، وربما كانت الصورة هي الفعل بعينه.

فهذه الأشياء الأربعة هي ضرورية في وجود الفعل وظهوره، وقد يُحتاج إلى الآلة والزمان والبِنْيَة الصحيحة، ولكن ليست بضرورية في كل فعل.

ولما كانت مسألتك عن الفعل الإنساني الذي يتعلق بالاختيار وجب أن نذكرها أيضًا.

ثم إن كل واحد من الأشياء التي هي ضرورية في وجود الفعل ينقسم قسمين: فمنه قريب ومنه بعيد:

أما الفاعل القريب فبمنزلة الأجير الذي ينقل آلات البناء في اتخاذ الدار.

والفاعل البعيد بمنزلة الذي يهندس الدار ويأمر بها ويتقدم بجميع آلاتها.

وأما الهَيُولَى القريبة فبمنزلة اللَّبِن للحائط والخشب للباب، والهيولى البعيدة بمنزلة العناصر الأولى.

وأما الكمال القريب فبمنزلة السكنى في الدار.

والكمال البعيد بمنزلة حفظ المتاع ودفع أذى الحر والبرد وما أشبه ذلك.

وأما أنواع الأفعال التي ذكرناها فإنما اختلفت بحسب أنواع القوى الفاعلة التي في الإنسان؛ وذلك أن لكل واحدة من القوى الشهوية والقوى الغضبية والقوى الناطقة خاصُّ فعلٍ لا يصدُر إلا عنها.

وأما الأسباب والدواعي فبعضها الشوق والنزوع، وبعضها الفكر والروية، وقد تتركب هذه.

وأما العوائق التي ذكرناها فبعضها اتفاقية، وبعضها قهرية، وبعضها طبيعية.

فالاتفاقية بمنزلة من يخرج لزيارة صديقه فيلقاه عدوٌّ لم يقصده فيعوقه عن إتمام فعله، وكمن ينهض لحاجة فيعثر أو يقع في بئر.

والقهرية بمنزلة من يَشُدُّ يديه اللصوص ليعوقوه عن البطش بهما، أو كمن يقيده السلطان ليمنعه من السعي والهرب منه.

والطبيعية بمنزلة الفالج والسكتة وما أشبههما.

•••

وها هنا نظر آخر في الفعل ينبغي أن نتذكره، وهو أنَّا ربما نظرنا في الفعل لا من حيث ذاته ولكن من حيث إضافته إلى غيره، مثال ذلك أنَّا قد ننظر في فعل زيد من حيث هو طاعة لغيره أو معصية، ومن حيث يحبه عمرو ويكرهه خالد، ومن جهة ما هو ضار لبكر ونافع لعبد الله، وهذا النظر ليس يكون في ذات الفعل بل في إضافته إلى غيره.

وإذ قد نظرنا في الفعل وأنواعه وجهاته، وحاجته في ظهوره ووجوده إلى الشرائط التي عددناها؛ فإنَّا ناظرون في الاختيار ما هو فنقول:

إن الاختيار اشتقاقه بحسب اللغة من الخير وهو افتعال منه، وإذا قيل: اختار الإنسان شيئًا فكأنه افتعل من الخير أي فَعَلَ ما هو خير له: إما على الحقيقة وإما بحسب ظنه، وإن لم يكن خيرًا له بالحقيقة فالفعل الإنساني يتعلق به من هذا الوجه، وهو ما صدر عن فكر منه وإجالة رأي فيه ليقع منه ما هو خير له، ومعلوم أن الإنسان لا يفكر ولا يجيل رأيه في الشيء الواجب ولا في الشيء الممتنع، وإنما يفكر ويجيل رأيه في الشيء الممكن، ومعنى قولنا الممكن هو الشيء الذي ليس بممتنع، وإذا فرض وجوده لم يعرض عنه محال.

ولما كانت هذه الجهة من الفعل هي المتعلقة بالاختيار، وهي التي تُخَص بالفعل الإنساني، وكانت محتاجةً في تمام وجود الفعل إلى تلك الشرائط التي قدَّمناها، كان النظر فيها — أعني في هذه الجهة — يُعرِّض للغلط والوقوع في تلك الجهات الأُخر التي ليست متعلقة بالإنسان ولا مبدؤها إليه، وربما نظر بحسب جهة من جهات الفعل وخلى النظر في الجهات الأُخر، فيكون حكمه على الفعل الإنساني بحسب تلك الجهة، وذلك بمنزلة من ينظر في الفعل من جهة الهيولى المختصة به التي لا بد له في وجوده منها ويتخلى عن الجهات الأُخر التي هي أيضًا ضرورية في وجوده، كالكاغد للكاتب؛ فإنه إذا نظر في فعل الكاتب من هذه الجهة، أعني تعذُّر الكاغد عليه، ظن أنه عاجز عن الكتابة من هذه الجهة ممنوع عن الفعل لأجلها، وهذه جهة لم تتعلق به من حيث هو كاتب ومختار للكتابة، وكذلك إن عدم القلم والجارحة الصحيحة أو واحدًا من تلك الأشياء المشروطة في وجود كل فعل إنساني، فحينئذٍ يبادر هذا الناظر بالحكم على الإنسان بالجبر ويمنع من الاختيار.

وكذلك تكون حال من ينظر في فعله من حيث هو مختار؛ فإنه إذا نظر في هذه الجهة وتخلَّى عن الجهات الأُخر التي هي أيضًا ضرورية في وجوده؛ فإنه أيضًا سيبادر إلى الحكم عليه بأنه فاعل متمكن ويمنع من الجبر.

وهكذا حال كل شيء مركَّب عن بسيط؛ فإن الناظر في ذلك المركَّب إذا نظر فيه بحسب جزء من أجزائه الذي تركَّب منه وترك أجزاؤه الباقية تَعْرِض له الشكوك الكثيرة من أجزائه الباقية التي ترك النظر فيها.

والفعل الإنساني وإن كان اسمه واحدًا فوجوده معلَّق بأشياء كثيرة لا يتم إلا بها، فمتى لحظ الناظر فيه شيئًا واحدًا منها وترك ملاحظة الباقيات عرضت له الشكوك من تلك الأشياء التي أغفلها.

والمذهب الصحيح هو مذهب من نظر في واحد واحد منها فنسب الفعل إلى الجميع وخصَّ كل جهة بقسط من الفعل، ولم يجعل الفعل الإنساني اختيارًا كله ولا تفويضًا كله؛ ولهذا قيل: دين الله بين الغلو والتقصير؛ فإن من زعم أن الفعل الإنساني يكفي في وجوده أن يكون صاحبه متمكنًا من القوة الفاعلة بالاختيار فهو غالٍ من حيث أهمل الأشياء الهيولانية والأسباب القهرية والعوائق التي عددتها قبلُ، وهذا يؤديه إلى التفويض.

وكذلك حال من زعم أن فعله يكفي في وجوده أن ترتفع هذه العوائق عنه وتحصل له الأشياء الهيولاينة، فهو مُقَصِّر من حيث أهمل القوة الفاعلة بالاختيار، وهذا يؤديه إلى الجبر.

وإذا كان هذا على ما بيَّناه ولخصناه فقد ظهر المذهب الحق، وفيه جواب مسألتك عن الجبر والاختيار.

ويُعلَم علمًا واضحًا أن الإنسان إذا امتنع عليه فعله لنقصان بعض هذه الأشياء التي هي ضرورية في ظهور فعله، أو عرضية فيه أو قهرية أو اتفاقية، فهو منسوب إلى تلك الجهة، مثال ذلك: أنه إن كان امتنع من الفعل لنقصان الهيولى أو أحد الأربعة الأشياء الضرورية فهو عاجز، وإن امتنع لعائق قهري أو اتفاقي فهو معذور من تلك الجهة وبحسبها وعلى مقدارها.

فأما من حضرته القوة الفاعلة بالاختيار، وارتفعت تلك الموانع عنه، وأزيحت علله فيها كلها، ثم كان ذلك لفعل مما يُنظر فيه على طريق الإضافة أن يكون طاعة لمن تجب طاعته، أو معونةً لمن تجب معونته، أو غير ذلك من وجوه الإضافات الواجبة، ثم امتنع من الفعل فهو ملوم غير معذور لأنه قادر متمكن؛ ولأجل ذلك تلحقه الندامة من نفسه، والعقوبة من غيره، أو العيب والذم.

وهذه الجهة التي تختص الإنسان من جهات الفعل المتعلقة بالفكر وإجالة الرأي المُسمَّى بالاختيار هي ثمرة العقل ونتيجته.

ولولا هذه الجهة لَمَا كان لوجود العقل فائدة بل يصير وجوده عبثًا ولغوًا.

ونحن نتيقن أن العقل أجلُّ الموجودات وأشرف ما مَنَّ الله تعالى به ووهبه للإنسان، ونتيقن أيضًا أن أخس الموجودات ما لا ثمرة له ولا فائدة في وجوده بمنزلة اللغو والعبث، فإذن أجلُّ الموجودات على هذا الحكم هو أخس الموجودات، هذا خُلْفٌ لا يمكن أن يكون، فليس هذا الحكم بصادق، فنقيضه هو الصادق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤