المسألة السادسة والتسعون

ما السبب في أن الذين يموتون وهم شبان أكثر من الذين يموتون وهم شيوخ؟

الشاهد على ذلك أنك تجد الشيوخ أقل، ولولا ذلك لكانوا يكثُرون؛ لأنهم كانوا يتجاوزون الشبيبة إلى الكهولة، والكهولة إلى الشيخوخة، فلما دبَّ الحِمَام في ذوي الشباب أفناهم، وتخطَّى القليل منهم فبلغوا التشيُّخ، وهو قليل.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

الحياة تابعة لمزاج ما خاصٍ بإنسانٍ إنسان، وذلك المزاج له بمنزلة النقطة من الدائرة، أعني أنه شيء واحد، والخروج عنه إلى النقط التي حواليه مما يقرُب منه أو يبعُد عنه بلا نهاية، وذلك أن لكل إنسان، وبالجملة لكل حيوان، اعتدالًا خاصًّا به بين الحرارة والرطوبة، والبرودة واليبوسة، فإذا انحرف عن ذلك الاعتدال إلى أحد الأطراف كان مرضه أو هلاكه.

ثم إن الأمور التي تُخرِجه إلى الأطراف كثيرةٌ من الأغذية والأشربة والهواء الواصل إليه بالاستنشاق وغيره، وحركاته الطبيعية وغير الطبيعية مما يُخرجه عن هذا الاعتدال كثيرةٌ، والآفات الأخرى التي تطرأ من خارج مما لا تُحتسَب كثيرة.

وإذا كانت الأسباب التي يخرج الإنسان بها عن الاعتدال كثيرةً بلا نهاية، والأسباب التي يثبت بها على الاعتدال الخاص به قليلةً يسيرة، لم يكن ما ذكرته عجبًا، بل العجب لو اتفق ضده.

ولولا أن العناية الموكَّلة بحفظ الحيوان كله — والإنسان من بينه — شديدةٌ، والوقاية له تامةٌ بالغةٌ، لكان لا يكون بين وجوده وعدمه كبير زمان.

فتأمَّل جميع ما ذكرته من الآفات الداخلة والخارجة عن بدن الإنسان وحركاتها المختلفة، أعني منازعة النارية فيه إلى حركة العلو، ومنازعة المائية منه إلى حركة السُّفْل، ثم حرص كل واحد منهما بطبيعته على إفناء الآخر وإحالته، ثم المجاهدة الواقعة في حفظ الاعتدال بينهما حتى لا تزيد قوة أحدهما على الآخر مع كثرة الشهوات والمنازعات إلى ما هو لا محالة زائد في أحدهما ناقصٌ من الآخر — تجد الأمر محفوظًا بعناية شديدة إلى أكثر مما يمكن في مثله من الحفظ حتى يأتي شيءٌ طبيعي لا سبيل إلى مقاومته، ومثل ذلك سراج يُحفَظ بالفتيلة والدُّهن، والمواد تجيئه من خارج، أعني الدُّهن الكثير الذي هو سبب إطفائه والنار العظيمة التي هي كذلك، والرياح العاصفة التي لا طاقة له بها ولا سبيل إلى حفظه معها، فإذا سلِم من جميع ذلك مدة طويلة فلا بد من الفناء الطبيعي؛ أعني أن الحرارة تستغرق لا محالةً ما يَغْتذي به على طول الزمان، فيكون الفناء به ومن أجله؛ فإن هذا مثل صحيح مطابق للمُمَثَّل به.

وإذا تفقَّدتَ الحرارة الغريزية وحاجتها إلى ما يحفظ قُوَاها بلا زيادة ولا نقصان، وإفنائها الرطوبة الأصلية مع المواد التي تأتيها من خارج، وقوتها على الإحالة وضعفها، طلعتَ على ما سألتَ عنه، وتبيَّن لك ما ضربت به المثل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤