الفصل الأول

النزعة العلمية عند قدماء الشرقيين وأثره على العلم اليوناني

تمهيد

في هذا الفصل نكشف عن النزعة العلمية عند قدماء الشرقيين؛ وذلك بأن نبين للقارئ أن أقدم الحضارات الإنسانية قد ظهرت في الشرق، وخاصة في تلك المنطقة التي نعيش فيها الآن؛ حيث ظهرت منذ عدة آلاف من السنين حضارات مزدهرة في أودية الأنهار الكبرى كالنيل والفرات، وإلى الشرق منها في أنهار الهند والصين. وتدل الآثار التي خلَّفتها تلك الحضارات المجيدة على أنها كانت حضارات ناضجة كل النضج، بالقياس إلى عصرها، ومن ثم كان من الضروري أن ترتكز على أساس من العلم. وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الحضارات مزدهرة ونامية، كان الإغريق من حيث أصولهم — كما يقول مؤرخ العلم الإنجليزي «ج. ج. كراوثر» J. G. Crowther — أقوامًا من البرابرة نزحوا من جنوب روسيا إلى آسيا الصغرى أو أيونيا، تلك التي كانت تُسمى ﺑ «أرض الرُّحل المتجولين»، وبعد استقرارهم وجدوا بلادهم تقع على طرق التجارة مع مصر وبلاد ما بين النهرين. وقد انحدر الإغريق، بشكل حديث نسبيًّا، عن الحياة الزراعية في السهول كما كانت في العصر الحجري. وكان نظامهم الاجتماعي أبسط وأقل تماسكًا من مثيله في مصر وبلاد ما بين النهرين. وقد وجد بعض الإغريق طريقهم إلى مدينة طيبة وبابيلون Babylon حيث شاهدوا بأنفسهم الأعمال والإنجازات المذهلة التي تركت في نفوسهم أثرًا عميقًا، وإن لم تُفقدهم الأمل والثقة بأنفسهم. ثم عادوا إلى بلادهم متفكِّرين ومتأملين فيما شاهدوا.١

وفي هذا الفصل نكشف عن مظاهر النهضة العلمية في حضارات الشرق القديم، ثم نبيِّن العلاقات الثقافية بين الشرقيين واليونانيين، ثم نبرز أهم ما أخذه اليونانيون عن الشرقيين في مجال العلم.

أولًا: ملامح النهضة العلمية في حضارة الشرق القديم

يقول المؤرخ الفرنسي «جوستاف لوبون»: «كان الناس منذ سنين قليلة يظنون أن اليونانيين هم أصل العلم والحضارة، وأن علومهم وفنونهم وآدابهم من مستنبطاتهم، وأنهم غير مدينين بشيء لمن سبقهم من الحضارات القديمة، ثم جاءت نتائج التِّقنيات الآثارية في مصر ووادي الرافدين والهند والصين وغيرها؛ فتغيرت هذه المفاهيم تغييرًا جذريًّا، واقتنع المؤرخون أن الشرق القديم هو منبع العلم والحضارة، ففي الوقت الذي لم يكن فيه اليونانيون الأقدمون إلا جَهَلة برابرة كانت الإمبراطوريات الزاهرة قائمة على ضفاف النيل ووادي الرافدين ومصر، وقد نقل الفينيقيون إلى اليونان منتجات الفنون والصناعة المصرية والآشورية، وبقي اليونانيون دهرًا طويلًا يقلدونها تقليدًا قليل الإحكام، وأن اليونانيين يدينون بالفضل في ازدهار حضارتهم وعلومهم وفنونهم وأنظمتهم ومعتقداتهم إلى من سبقهم من أمم الشرق، وقد كان مشرِّعو اليونان يستسقون العوائد المصرية والقانون المصري الذي يبحث فيه العلماء عن مصادر القانون الروماني الذي تولَّد منه قانون الحاضر.»٢
هذا ويقسِّم علماء الحضارات القديمة، الحضارات إلى قسمين: أصلية ومُكتسبة، والحضارات الأصلية التي اكتُشفت هي حضارة وادي الرافدين، وحضارة الهند والصين. أما الحضارة الكريتية واليونانية والرومانية وغيرها من الحضارات المعاصرة، فهي حضارات مكتسبة؛ لأنها بُنيت على أساس الحضارات الأصلية كلًّا أو بعضًا.٣
وقد تميزت كل حضارة من تلك الحضارات الأربع الأصلية بميزات خاصة مثل اللغة ونظام الكتابة والفن وأسلوب الحياة … إلخ، وذلك على الرغم من انتشار عناصر الحضارة من مركز حضاري إلى آخر، فلقد اختلف فن العمارة في مصر عنه في وادي الرافدين، على الرغم من وجود روابط قوية بين الحضارتين، فلقد اتصلتا قُبيل الأسرة الأولى (قبل ٣٢٠٠ق.م.) في أوائلها، وأُعجبت مصر بفن السومريين في ذلك الوقت وبعض مظاهر حضارتها، واقتبست منها شيئًا من طريقة رسم الحيوانات وأخذت عنها الختم الأسطواني وبعض المظاهر الفنية، ولكن العناصر الأساسية لحضارة مصر ظلت مصرية صميمة، نشأت في وادي النيل، ولهذا لم تلبث حتى تركت من تلك المظاهر ما لا يتفق مع حضارتها وذوقها وعدَّلت فيما قبلته منها.٤

كذلك لم تكن هذه الحضارات في مستوًى علمي وحضاري واحد؛ بل كان بعضها متقدمًا على الآخر في بعض النواحي، فمثلًا كان الطب متقدمًا في وادي النيل. أما أهل وادي الرافدين فكانوا أكثر تقدمًا في الحساب؛ لأنهم كانوا أكثر اعتمادًا على التجارة في حياتهم.

وفيما يلي يمكن لنا أن نعرض باختصارٍ لملامح ومظاهر النهضة العلمية في حضارات الشرق القديم. وقبل أن نعرض لتلك الملامح والمظاهر نودُّ أن نعطي نبذة تاريخية لكل حضارة من تلك الحضارات.

(أ) الحضارة المصرية

تتميز الحضارة المصرية بالسبق الزمني المبكر، حيث تعود إلى العصر الحجري القديم الأعلى؛ أي منذ أكثر من ٤٠٠٠٠ سنة قبل الميلاد. وقد ساعدت الظروف والأحوال الجغرافية على حماية واستمرار الحضارة المصرية؛ حيث تحيط بها صحراء واسعة من الشرق والغرب، والبحر من الشمال، وكان من الصعب قبل غزو الهكسوس (حوالي ١٦٥٠ق.م.) اجتياز هذه الموانع، غير أن هذه العربة الحربية والحصان التي كانت لدى الهكسوس قد ساعدت على غزو مصر.٥
وقد نشأت مجتمعات زراعية مستقرة على ضفاف النيل قبل عصر الأسرات بآلاف السنين، وقد أدى الاستقرار والرخاء الاقتصادي المصاحب له إلى ظهور قدرٍ كافٍ من المركزية السياسية. كل ذلك ساعد مع عوامل أخرى عديدة على نشأة العلم وتطوره في وادي النيل، وإن كانت هذه الوحدة السياسية لم تكن شملت بعدُ جميع أرض مصر؛ بل كانت هناك وحدات سياسية صغيرة متعددة انتهت بعد معارك وحروب طويلة إلى تكوين مملكتين؛ إحداهما في الوجه البحري (شمال منطقة الفيوم)، والأخرى في الوجه القبلي، والتي امتدت من منطقة الفيوم حتى الشلال الأول (أسوان، وهي سيتي القديمة).٦
وفي حوالَي سنة ٣٢٠٠ق.م. استطاع الملك «مينا» أو «نارمر» توحيد المملكتين «القطرين» وهو مؤسس الأسرة الحاكمة الأولى، وأصبح أول فرعون في مصر الموحدة، ولبس التاج المزدوج، وقد سمَّى نفسه سيد القطرين أو ملك الوجهين القبلي والبحري.٧
وقد مرَّت على مصر بعد ذلك عدة عصور من الاستقرار هي:٨
  • (١)

    عصر الدولة القديمة:

    وبدأت بعصر الأسرة الملكية الثالثة في حوالي عام ٢٧٨٠ق.م.، وانتهت بأواخر عصر الأسرة الملكية السادسة في خواتيم القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد.

  • (٢)

    عصر الانتقال الأول:

    وامتد من عصر الأسرة السابعة في أواخر القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، حتى نهاية عصر الأسرة العاشرة في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد.

  • (٣)

    عصر الدولة الوسطى:

    ابتدأ من عصر الأسرة الحادية عشرة في أواسط القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، حتى منتصف عصر الأسرة الثالثة عشرة، في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.

  • (٤)

    عصر الانتقال الثاني:

    وامتد فيما بين أواخر عصر الأسرة الثالثة عشرة في القرن الثامن عشر قبل الميلاد حتى نهاية عصر الأسرة السابعة عشرة إلى أوائل القرن السادس عشر قبل الميلاد.

  • (٥)

    عصر الدولة الحديثة:

    وبدأ بعصر الأسرة الثامنة عشرة في حوالي عام ١٥٧٥ق.م.، وامتد إلى نهاية عصر الأسرة العشرين في عام ١٠٨٧ق.م.، أو الأصح إلى نهاية عصر الأسرة الحادية والعشرين في منتصف القرن العاشر قبل الميلاد.

وفي أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد (زمن الأسرة ٢١ والتي حكمت من ١٠٨٠ إلى ٩٤٦ق.م.) بدأ الضعف يدبُّ في أوصال الحضارة المصرية، وتعرَّضت لغزوات الإثيوبيين والآشوريين والفرس، واستمرَّت بغزو «الإسكندر المقدوني» سنة ٣٣٢ق.م.٩

وبعد هذه النُّبذة لتاريخ مصر القديمة يمكن لنا أن نعرض لأهم ملامح النهضة العلمية للحضارة المصرية، وذلك فيما يلي:

لقد كان لنهر النيل تأثير كبير في تاريخ العلوم المصرية، فضرورة المحافظة على مجراه واستعمال مياهه علَّمَت المصريين هندسة الأنهار وما يتبعها من مساحة الأراضي؛ ولما تفقَّدوا السماء وجدوا في حركات نجومها واسطة للاستدلال بها على ميعاد فيضان ذلك النهر العظيم؛ ومن ثم بدأ اهتمامهم بالفلك واتسعت دراستهم له. ولما كان الفيضان إذا طغى على الأراضي مَحا معالم الحقول؛ لذلك تفنَّن القوم في إبداع المقاييس ومعرفة المساحة، ولما زاد اهتمامهم بالفلاحة أقنع الفراعنةُ رعاياهم بأن المحافظة على الحدود والأملاك الشخصية أمرٌ مقدَّس تجب مراعاته ويتحتم احترامه.١٠
وبديهي أن كل زوال للفيضان كانت تعقبه مشاحنات ومضاربات، ومن هنا نشأت ضرورة سَن القوانين وتوقيع العقوبات، وهكذا أُجبر سكان واديه على أن يضعوا لأنفسهم أسس العلوم والقوانين والنظم السياسية.١١
ثم بدأ القوم يشيدون العمارات الضخمة لدور الحكومة أو للتعبُّد، فعمدوا إلى النيل بوصفه الشِّريان الرئيسي للتجارة الداخلية؛ لينقلوا بواسطته تلك الكتل الضخمة التي شادوا بها آثارهم الباذخة. وبهذه الطريقة وحدها تمكَّنوا من تشييد الأهرامات ونقل الجرانيت من أسوان إلى أنحاء القُطر (مثل منف وتنيس الواقعة بالقرب من البحر الأبيض المتوسط).١٢
ومن ثَم برع قدماء المصريين منذ أقدم العصور في صناعة السفن، فابتكروا المجاديف والقلاع والقمرات، وغير ذلك من وسائل الراحة في السفر، ومساحة الأراضي وكيل المحاصيل وتوزيعها؛ مما دفعهم إلى معرفة أصول الحساب من جمع وطرح وضرب وقسمة، وكذلك فن المعمار دعاهم إلى معرفة الهندسة الفراغية. وإلى النيل أيضًا وتطوراته الطبيعية يرجع الفضل في معرفة المصريين لطريقة قياس الزمن، فقد تنبَّهوا في القرن الثالث والأربعين قبل الميلاد إلى أن السنة الشمسية تتكون من ٣٦٥ يومًا. ويُعتبر هذا الاكتشاف الميقاتي واستعماله في الشئون الدنيوية (وأهمها الزراعة وقتئذ) خطوةً كبيرة نحو الرقي وشرفًا عظيمًا للوطن الذي اكتُشف فيه. وقسَّم المصريون سَنتهم إلى اثني عشر شهرًا، والشهر إلى ثلاثين يومًا؛ وذلك حفظًا للنظام وتسهيلًا للمداولات. وهكذا أثبت سكان وادي النيل أن التوقيت شيء عُرفي يصطلح عليه القوم.١٣
ومن ناحية أخرى فقد برع المصريون القدماء في مجال الطب، حيث تقدَّموا تقدمًا هائلًا في طب التشريح وطب العيون والطب الروحاني والطب البيطري وطب الأسنان وطب العقاقير، واهتموا بعلاج الكسور والأورام … وهلم جرًّا.١٤
كما تقدموا في مجال الكيمياء، حيث كشفت معلوماتهم الكيميائية التي خلَّفتها البرديات، بأن المصريين القدماء كانوا يصبغون أنسجة ملابسهم وحوائط مبانيهم بألوان ما يزال بعضها زاهيًا حتى اليوم. كما مكَّنتهم ثقافتهم الكيميائية من تحنيط جثث ظلت سليمة لمدة تقرب من الأربعة آلاف عام.١٥

(ب) حضارة وادي الرافدين

يذكر المؤرخون أن أقدم الآثار التاريخية الخاصة بحضارة وادي الرافدين «العراق» جاءت من بلاد سومر؛ وهي الأرض التي سكنها السومريون في النصف الجنوبي من وادي الرافدين (وهي الآن المنطقة الواقعة بين الخليج العربي وشمال بغداد) وقد دخل السومريون إلى وادي الرافدين في حوالي ٣٥٠٠ق.م. نازحين من مرتفعات شرق دجلة، وهي المنطقة التي جاء منها أسلافهم قبل ذلك، وقد حلَّت حضارة السومريين محل حضارة «تل العبيد»، وأصبحت اللغة السومرية هي السائدة في المنطقة. واختلف السومريون عن الساميين الذين عاشوا في منطقة أكَّاد في شمال وادي الرافدين، وقامت بينهم نزاعات وحروب طويلة، وفي منتصف القرن الثالث قبل الميلاد أخضع الملك سرجون الأكَّادي (شاروكين) ٣٦٣٧–٢٥٨٢ق.م. «بلادَ السومريين»، وأنشأ المملكة المتحدة بين سومر وأكَّاد، وطغت على هذه المملكة عناصر الحضارة السومرية.١٦
وقرب نهاية القرن الثالث قبل الميلاد اندحرت «مملكة سومر وأكَّاد» تحت غزو العَمُوريين، الذين أتوا من شمال بلاد الشام وأسَّسوا عاصمتهم «بابل». ويرجع تاريخ الإمبراطورية البابلية إلى حوالي ٢١٠٠ق.م.، وكان سادس ملوك هذه الدولة هو «حمورابي» (١٧٢٨–١٦٨٦ق.م.) أشهر حُكامها — بل قد يكون أعظم شخصيات التاريخ القديم — قد وضع قانون حمورابي الذي كفل بنظامه درجة عالية من الحضارة البابلية.١٧
والجدير بالذكر أن البابليين قد استعملوا اللغة الأكَّادية أو البابلية، وهي لغة سامية، بالإضافة إلى اللغة السومرية، وخلال الألف الأولى قبل الميلاد تغلَّبت أقوام قوية أتت من الشرق على دولة البابليين، وأسسوا الدولة الآشورية في شمال العراق، وحل اسم آشور محل بابل، فقد أصبحت آشور عاصمة الدولة الجديدة، ثم اتخذوا مدينة «نِينَوى» عاصمة لهم بعد ذلك. وفي عام ٦١٢ق.م. سقطت الدولة الآشورية في يد «العموريين» الذين اتخذوا بابلَ عاصمةً لهم وكوَّنوا «الدولة الكلدانية»، غير أن هذه الدولة لم تعمر طويلًا؛ حيث احتلها الفرس بقيادة «قورش» في عام ٥٣٩ق.م. ثم تلاها الفتح في عهد «الإسكندر الأكبر».١٨
ومن أهم مظاهر النهضة العلمية في حضارة وادي الرافدين، نجد أنهم قد تقدَّموا تقدمًا هائلًا في علم الفلك؛ حيث برع أهل وادي الرافدين في فن الرصد، رغم بساطة الأدوات التي استخدموها لهذا الغرض مثل المزولة الشمسية والساعات المائية. ويرجع اهتمام أهل وادي الرفدين بالأرصاد الفلكية إلى اعتقادهم في تأثير الكواكب على الإنسان فيما يختص بحظه في الحياة، وقد أمكنهم أن يضعوا تقويمًا قمريًّا.١٩
كما برع أهل وادي الرافدين في مجال الطب، حيث احتوت بعض اللوحات الطينية على وصف وتشخيص بعض أمراض الجمجمة والعين والجهاز التنفسي والكبد والأذن والأعضاء التناسلية والأطراف وغيرها، ثم طريقة العلاج، ووصف الدواء، وطريقة استعماله، وعدد مرات استعماله، وأي ساعة في النهار يُتعاطى فيها الدواء.٢٠
وأما في مجال علم الرياضيات، فقد عرَف سكان وادي الرافدين كثيرًا من علوم الحساب والهندسة والجبر، ودوَّنوا الأرقام في خانات تحفظ ترتيب الأعداد في الآحاد والعشرات والمئات، وأنشئوا جدولًا للضرب من «١ × ١ حتى ٦٠ × ٦٠». وقد كان للنشاط التجاري الذي اشتهر به سكان وادي الرافدين دورٌ كبيرٌ في تطور العلوم الرياضية لديهم، وعرَفوا شيئًا عن المتواليات العددية والهندسية، وعرَفوا النسبة والتناسب، وقوانين إيجاد مربعات الأعداد ومكعَّباتها، وقسَّموا محيط الدائرة إلى ستة أقسام متساوية، وإلى ٣٦٠ قسمًا متساويًا، وعرَفوا أن الدائرة يتشكل فيها ستة مثلثات متساوية الأضلاع، ومقدار كل زاوية فيها ٦٠ درجة، وكان لديهم طرق لإيجاد مساحات المثلثات والأشكال الرباعية والمستطيلات والأجسام كثيرة السطوح والأسطوانة والمثلثات القائمة الزاوية وأشباه المنحرف.٢١
وفي مجال الصناعات الفنية عرَف أهل وادي الرافدين طريقة الشمع المفقود في صب المعادن وصناعة التماثيل، وعرَفوا الأسقف الصنمية (الجمالونات) واستخدموها في تشييد المساكن والمقابر الملكية في مدينة «أور».٢٢
وقد تأثرت حضارة وادي الرافدين بعناصر الحضارة المصرية القديمة منذ الألف الثاني قبل الميلاد، واشتد هذا التأثير خلال العهد الذي سيطرت فيه مصر على الشرق الأدنى (منذ القرن السادس عشر حتى القرن الثاني عشر قبل الميلاد)، ومعروف أن كل حضارات الشرق القديمة قد تأثَّرت ببعضها وتفاعلت ثقافتها وتزاوجت أفكارها بدرجات متفاوتة خلال اتصال هذه الحضارات ببعضها البعض؛ سواء عن طريق التجارة أو الغزوات، ونتج عن ذلك تطور العلوم والفنون، ورقي الحضارة بصفة عامة. ورغم هذا التفاعل الثقافي، فإن كل حضارة ظلت محتفظة بطابعها الخاص والمميز لها.٢٣

(ﺟ) حضارة الهند القديمة

يطلق المؤرخون على حضارة الهند القديمة — والتي ازدهرت في وادي السند — اسمَ حضارة هارابا Harappa نسبةً إلى مدينة هرابا؛ وذلك منذ حوالي «٣٥٠٠–٣٠٠٠ق.م.» وحتى «١٧٠٠–١٥٠٠ق.م.». وقد ازدهرت هذه الحضارة أيضًا في مدينة موهنجو-دارو Mohenjo-Daro. وقد تزامنت حضارة وادي السند بعض الوقت مع الحضارة المصرية والسومرية. ولا يُعرف الكثير عن حضارة وادي السند بالمقارنة مع حضارة مصر وحضارة وادي الرافدين؛ وذلك بسبب نقص السِّجلات الخاصة بهذه الحضارة.٢٤
ولم تقتصر حضارة الهند القديمة على ضفتي نهر السند؛ بل شملت منطقة واسعة مساحتها حوالي ١.٤ مليون كيلو متر مربع، وامتدت من البحر العربي في الجنوب حتى مدينة «جوجارات»، وامتدت إلى الشرق حتى «دلي»، وكانت مدينتا هاربا وموهنجو-دارو أهم المدن، وتبلغ المسافة الفاصلة بينهما حوالي ٤٠٠٠كم.٢٥
وكما هو الحال في الحضارات المزدهرة القديمة، فقد تعرَّضت حضارة السند لغزو خارجي في حوالي ١٧٠٠–١٥٠٠ق.م. قام به رعاة آريون جاءوا عَبْر الممرات من الشمال الغربي واستولوا على مدن وادي السند المحصنة. وفي القرن السادس قبل الميلاد تعرَّضت المناطق الشمالية لغزو فارس، ثم تلاه الغزو اليوناني بقيادة «الإسكندر الأكبر» في القرن الرابع قبل الميلاد.٢٦
وبالنسبة لملامح النهضة العلمية في المجتمع الهندي القديم؛ فقد تميز هذا المجتمع بنسيج ثقافي وحضاري عجيب تعدَّدت فيه اللغات واللهجات مثل تعدد الأديان والمعتقدات والمذاهب في جوٍّ لاهُوتيٍّ مُفعَم بالخوف والألم، حتى أصبحت القرابين والتمائم وقراءة الكف والعِرافة وطائفة الكُهان — التي بلغ تعدادها الملايين — ومروِّضو الثعابين بالسحر وممارسة اليوجا … إلخ، كل ذلك في جوٍّ من البؤس والفقر الذي لا يُحتمل ولا يُطاق إلا في المجتمع الهندي، وتشكَّلت صورة الهند القديمة وطبِّها مع ذلك كله؛ فظهر الفن الطبي في كتب التراث الهندية القديمة، وكأنه علم سحري يقوم على نظرية التوافق بين الجسم الذي هو العالم الأصغر والطبيعة وهي العالم الأكبر. وفي نفس الوقت عَزَوا الأمراض إلى عوامل خارجية مثل الشياطين التي تتقمَّص الأبدان ومخالفة المقدسات والقيم والعادات … إلخ.٢٧
وعلى الرغم من تحريم البراهمة لتشريح جثث الموتى، فإنَّ كثيرًا من أطباء الهنود مارسوا التشريح؛ لأجل تدريب الجراحين، ومن ثم ارتقى علم وظائف الأعضاء لدرجة أنه في القرن السادس قبل الميلاد كان الأطباء الهنود على علم جيد بخصائص الأربطة العضلية، ورَتْق العظام والجهاز اللمفاوي والأنسجة الدهنية والأوعية الدموية والأغشية المخاطية والمفصلية وكثير من عضلات الجسم، وعرَفوا أن الغذاء الذي يتناوله الإنسان ويتم هضمه يتحول إلى عدة صور آخرها الدم، وكانوا يحذرون من الزواج بين الأشخاص المصابين بأمراض معينة مثل السل أو الصرع أو ضعف الإبصار وغيرها.٢٨
واكتشفوا أن الحمل يستحيل خلال اثني عشر يومًا من موعد الحيض، ووصفوا تطور الجنين وصفًا دقيقًا وجيدًا، وزعموا أن جنس الجنين يمكن التأثير فيه — في بعض الحالات — بفعل الطعام أو العقاقير أو حتى السحر.٢٩
وأجروا العديد من العمليات الجراحية تحت مخدِّر مثل عمليات الماء في العين، والفتق، وإخراج الحصاة من المثانة، وترقيع الأذن الجريحة بقطع من جلد المصاب نفسه، وتقويم الأنف، وبتر الأطراف (والتي كانوا يستخدمونها في عقاب المجرمين، بالإضافة إلى جَدْع أنوفهم)، وأجروا الجراحات في البطن، وجبروا كسور العظام، وأزالوا البواسير، وكانوا يعقمون الجروح بالتبخير.٣٠
كما عرَفوا الطب البيطري وكان يُقسَّم إلى طب الخيول — وكانت الخيول هي الأضاحي الرئيسية في الديانة الهندية القديمة — ثم طب الفِيَلة؛ والطبان يعالجان بطرق مختلفة. كما أنشأ الهنود المستشفيات في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد تأثر الطب الهندي في رحلته الطويلة بطب الحضارات المجاورة وتأثرت به هذه الحضارات. وقد ترجم العرب التراث الطبي الهندي منذ القرن الثاني للهجرة، واستدعى «هارون الرشيد» الأطباء الهنود للعمل في المستشفيات ومدارس الطب في بغداد.٣١
وفي مجال الرياضيات، فقد عرَف الهنود المتواليات العددية والهندسية، والجذور التربيعية والتكعيبية، وتفنَّنوا في المربعات السحرية التي إذا جُمعت في خاناتها طولًا أو عرضًا كان لها مجموع ثابت، وتقدموا ببحوث الحساب شوطًا. وجاء في تراثهم الرياضي العديد من المسائل الحسابية وطرق حلها.٣٢
أما في الجبر فقد عرَفوا الأعمال الأربعة، وكانوا يضعون لكل مجهول رمزًا خاصًّا به يميزه عن المجهول الآخر، وعرَفوا الكميات السالبة وميزوا بينها وبين الكميات الموجبة، وحلوا معادلات من الدرجة الثانية، وجمعوا بين المعادلات الثلاث وهي:٣٣
أ س٢ + ب س = ﺟ
ب س + ﺟ = أ س٢
أ س٢ + ﺟ = ب س
وكوَّنوا معادلة عامة هي: «ل س٢ + ع س + ن = صفر» وحلوها بطريقة تقترب من التي نعرفها الآن، وكان ذلك في القرن السابع الميلادي، وعرَفوا أن هناك جذرين للمعادلات ذات الدرجة الثانية، والمعادلات السيالة أو غير المعينة، وابتكروا طرقًا لحلها. وفي الهندسة عرَف الهنود المربعات والمستطيلات والعلاقات بين الأقطار والأضلاع، وعرَفوا نظرية فيثاغورس، وحسبوا للنسبة التقريبية «ط» قيمة قريبة جدًّا من القيمة الحقيقية وهي ٣٫١٤١٦ وقد عبَّروا عنها بالرقم «٢٢ ÷ ٧».٣٤
وفي مجال الفلك عرَف الهنود السنة القمرية والسنة الشمسية، كما عرَفوا الكسوف والخسوف واستخدموا أدوات للرصد مثل المِزولة والساعات المائية، واعتبارًا من القرن السادس قبل الميلاد، كان الاتصال بين الحضارة الهندية والحضارات البابلية والفارسية والإغريقية، وخاصة في «العصر الهيلينستي»، وأدى ذلك إلى زيادة اختلاط وتزاوج أفكار هذه الحضارات. وبعد حقبة طويلة من هذا التزاوج ظهرت مؤلفات فلكية هندية أهمها «السيدهانتا» Siddhanta «الحلول»، وعددها خمسة حلول أهمها كتاب «سوريا سيدهانتا» Suryasiddhanta بمعنى الحل الذي قدمته الشمس، وجاءت الكتب الأربعة الباقية في كتاب الفلكي الهندي «فاراهاميهيرا» Varahamihira في القرن السادس الميلادي، وعنوان هذا الكتاب «بانكاسيدهانتا» Pancasiddhanta بمعنى حول الحلول الخمسة، وقد كتب كتاب «سوريا سيدهانتا» في القرن الرابع الميلادي، وتم تعديله بعد ذلك. وذكر «البيروني» أن هذا الكتاب للفلكي الهندي «لاتا» Latta ويتضمن جداول فلكية، وحركات الكواكب، وخسوفات الشمس والقمر، ونظام الكون وأعمال أخرى خاصة بالتنجيم، بالإضافة إلى وصف بعض أدوات الرصد كالمِزولة الشمسية وجهاز الكرة ذات الحلقات «الكرة المحلَّقة» … إلخ.٣٥
واشتُهر من فَلَكِيِّي الهنود — من القرون الأولى الميلادية — الفلكي «أربابهاته» الذي قسَّم السنة الكونية الكبرى في كتاب «سورياسيدهانتا» (٤٣٢٠٠٠٠ سنة) إلى أربع أحقاب متساوية كل منها ١٠٨٠٠٠٠ سنة. ثم الفلكي «فارهاميهيرا» وهو الذي لخَّص كتب السيدهانتا الخمسة في القرن السادس في كتابه المسمَّى «بانكاسيدهانتا»، بالإضافة إلى أعمال أخرى. أما أشهر فلكيي الهنود، والذي عرَفه العرب في العصر العباسي، فهو الفلكي «براهماجوبتا» الذي وُلد في البنجاب سنة ٥٩٨م، وفي سنة ٦٢٨م ألَّف كتاب «براهما سفو سيدهانتا» الذي ترجمه العرب باسم «السند هند».٣٦

(د) الحضارة الصينية القديمة

تُعتبر الحضارة الصينية من أقدم الحضارات التي ازدهرت في أقصى الشرق من العالم القديم، حيث قدَّمت هذه الحضارة اختراعين عظيمين: أحدهما صيني خالص هو فن الطباعة، والآخر لفن قديم وهو صناعة الورق، الذي بدأه المصريون القدماء قبلهم بسبعة وعشرين قرنًا من الزمان، حيث يرجع اختراع الورق في الصين إلى القرن الثاني بعد الميلاد.

وتمتاز الحضارة الصينية دونًا عن سائر حضارات الشرق القديم — فيما يذكر مؤرخ العلم العظيم «جوزيف نيدهام» — بوفرة ما لديها من المعلومات الخاصة بماهيتها المستفادة من مصادرها الأصلية، فهي ليست كالحضارة الهندية مثلًا حيث الجدولة الزمنية للأحداث التاريخية ما زالت مشكوكًا فيها بدرجة كبيرة. ففي الصين يمكن في أغلب الأحوال تحديد ليس العام فقط، بل الشهر، وجميعها مكتوبة بقدر من الحَيدة وشدة الانتباه؛ إلا إنه — ولسوء الحظ — لم يُترجم منها إلى اللغات الأوروبية سوى النَّزر اليسير للغاية.٣٧
ولو ألقينا نظرة موجزة لتاريخ الصين، نجد أن أوائل السكان الذين عاشوا في أرض الصين هم ذلك الجنس الذي ينتمي إلى «إنسان بكين» الذي عاش في بداية أواسط عصر «البلستومين» (حوالي ٤٠٠٠٠٠ق.م.) أي في زمن أسبق من زمن إنسان «نياندرتال»Neanderthal man الذي عاش في أوروبا وحوض البحر المتوسط، وهناك شواهد معينة على وجود سكان عاشوا في الصين في العصر الحجري المتأخر Neolithic (حوالي ١٢٠٠٠ق.م.)، أما بعد ذلك فهناك فجوة واسعة التواصل؛ حيث لا توجد سائر المراحل التالية من عصور ما قبل التاريخ إلا في منشوريا.٣٨
وفجأة، وبعد حوالي ٢٥٠٠ق.م.، تبدأ الأرض الشاغرة في استضافة عدد كبير من السكان النشطين وتظهر مئات — بل آلاف — القرى يسكنها أناس يرعون قطعان الحيوان في إطار اقتصادي زراعي، وعلى دراية بالمنسوجات والنجارة وصناعة الخزف. وتبدو الحاجة واضحة إلى العمل الأثري المكثَّف من أجل إلقاء الضوء على هذه الفجوة الغريبة بين سكان العصر الحجري ومن أعقبوهم في العصر الحجري المتأخر.٣٩
وأول حضارة صينية هامة تكشف عنها الحفائر هي حضارة «يانجشاو» Yangshao التي كانت توجد في حزام من الأرض الممتدة من الغرب للشرق يشمل المحافظات الحالية التالية: كانسو، سنسي، شانسي، هوانان، شانتونج. وكان محصول الحبوب الرئيسي غالبًا هو الدخن ثم صار الأرز في حقبة تالية، وحيث إن أيًّا من هذين النباتين ليس صيني المنشأ فمن المحتمل أنهما جُلبا من جنوب شرق آسيا، وقد عُثر على عظام الكلاب والخنازير وعظام للغنم وعظام للماشية تنتمي لحقبة زمنية تالية، كما تأكد وجود عظام الخيل أيضًا، لكنها قد تكون عظام خيل برية من النوع الذي ظل يعيش في منغوليا إلى عهد قريب. ولعل أبرز سمات حضارة «يانجشاو» هي خزفها المطلي الذي كان يُصنع حوالي ٢٥٠٠ق.م. بطريقة اللف الحلزوني لأسطوانات رفيعة من الطين لا باستخدام «عجلة الفَخَراني».٤٠
ولقد أعقبت حضارةَ «يانجشاو» في هونان وشانس حضارةٌ أخرى تنتمي للعصر الحجري المتأخر أطلق عليها «جهينج-تسو-ياي Chheng-Tsu-Yai» أو «لونج-شان Long-shan» وهما اسمان لموقعي حفائر أثريين، ومع أن أصحاب هذه الحضارة لم يعرفوا المعادن؛ فقد استخدموا أواني خزفية سوداء ناعمة الملمس ومتقنة التركيب، وجيدة اللمسات النهائية، كما أن أُناس «لونج-شان» اسْتأنسوا كل الحيوانات التي عرفتها حضارة يانجشاو، والتي من المحتمل أن من بينها الحصان، كما أن أُناس «لونج-شان» قد عرفوا المركبات ذات العجلات، وإن كان الدليل على ذلك غير مؤكد، وكان هذا أيضًا هو الوقت الذي ظهرت فيه ابتكارات شتَّى مثل «عجلة الفخراني»، واستخدام التراب المدكوك في أعمال البناء، وهما ابتكاران كانا معروفين منذ أمد طويل في الشرق الأوسط، ولكنهما كانا قاصرين على الصين.٤١
تصل بنا حضارة لونج-شان إلى عام ١٦٠٠ق.م.، وبعد ذلك — وخلال قرنٍ واحد — إذا بنا نقع فجأة على حضارة ناضجة تنتمي لعصر البرونز Bronze age هي حضارة أسرة «شانج»، وقد استمرت هذه الأسرة في الصين إلى أن غزا الإسكندر الأكبر الحضارة الصينية (حوالي ٣٢٧ق.م.).٤٢
وبالنسبة لملامح النهضة العلمية في الحضارة الصينية؛ ففي ظل عهد أسرة شانج تميزت حضارة الصين بكل سمات الحضارات القديمة، مثل: حياة المدن، واختراع الكتابة، واستخدام المعادن، والفن الزخرفي في العمارة، وانقسام المجتمع إلى طبقات، وظهور التخصص المهني، وتقسيم العمل، وازدهار التجارة، وظهور النزعة العسكرية، ونمو الصناعات المتعلقة بها، وتطور العلوم الفلكية والرياضيات والطب والدواء والتقويم … إلى آخره. ومن المرجح أن عناصر حضارة الصين قد نمت وتطورت بانتشار عناصر حضارية من الغرب وتفاعلها مع عناصر حضارة العصر الحجري الحديث في المنطقة. ويختلف نظام وأسلوب الكتابة في الصين عن مثيلاتها في مصر ووادي الرافدين، على الرغم من أنها اتبعت مبادئ متشابهة، وربما كان ذلك من خلال انتشار فكرة الكتابة من الحضارات المجاورة الأقدم.٤٣
ومن ناحية أخرى فقد تميزت حضارة الصين بنمط فني معين في صنع القوارير والمَزهريات البرونزية والأدوات المعدنية الأخرى، واستخدم الصينيون القدماء الرصاص لتزييف العملات المصنوعة من الفضة منذ الألف الثاني قبل الميلاد، مما يُعد دليلًا على معرفتهم الفائقة بخواص المعادن في ذلك الوقت.٤٤

تلك هي أهم ملامح النهضة العلمية في حضارات الشرق القديم، وهي إن دلَّت على شيء فإنما تدل على أن تلك الحضارات سبقت اليونان بأجيال عديدة من الزمن، وأن اليونانيين مدينون لتلك الحضارات، وإن كانت الأقدار لم تشأ أن يُكمل أبناء حضارات الشرق القديم مشوار العلم الذي بدءوه في شتَّى مجالات العلم والمعرفة، حيث خَبَتْ ثم انطفأت الروح العلمية لدى أبناء تلك الحضارات، فإن اليونانيين قد أكملوا المسيرة وساروا بالعالم خطوات هائلة، وذلك بعد أن تعلموا هذا الدرس من الحضارات السابقة عليهم.

ثانيًا: العلاقات الثقافية بين الشرقيين واليونانيين

في الوقت الذي نبغت فيه شعوب الشرق القديم في العلوم والفنون كانت الشعوب اليونانية مجرد قبائل رُحَّل يرزحون في نِير الجهل والهمجية ويعتمدون على الغزو والإغارة؛ وفي هذا يقول بعض المؤرخين: «… والملاحم الإغريقية تصور لنا الإغريق الأُوَل على غير علم بالحديد، صفرًا من كل معرفة بالكتابة، كما تصورهم قبل أن يؤسسوا أي مدن إغريقية في تلك البلاد التي تدل كل الدلائل على حداثة عهدهم بفتحها، فأخذوا ينتشرون جنوبًا من مواطن الآريين الأصلية، وكانوا — فيما يلوح — قومًا من الشُّقر نازحين، حديثي عهد ببلاد الإغريق؛ أي حديثي العهد بأرض كان يتملكها إلى ذلك الحين شعوب البحر المتوسط أو الشعوب الأيونية.»٤٥
وكان اليونانيون يطلقون على أنفسهم اسم الهيلينيين Hellenes، بينما أسْماهُم الرومان Graeci وهو اسم قبيلة هيلينية نزحت من إقليم بيوتيا Boeotia شمال شبه الجزيرة اليونانية إلى جنوب إيطاليا، وعُرفوا بهذا الاسم منذ ذلك الوقت، وقد اشتق العرب منه اسم الإغريق، بينما اشتُق اسم اليونان من اللغات السامية القديمة؛ من لفظ «ياوانين» ومن اسم «أيوني» نظرًا لأن المستوطنات الأيونية انتشرت في آسيا الصغرى، حيث تاخمت حدودها دول الشرق الأوسط.٤٦

وكانت جزر بحر إيجة تُعَد بمثابة جسر بحري يربط آسيا بأوروبا، كما أن جزيرتي قبرص وكريت كانتا أقرب الجزر إلى مصر وليبيا، وتُعَد المعبر الجنوبي للاتصال الحضاري والتجاري بينهما.

وقد قسَّمت طبيعة بلاد اليونان الجبلية هذه الأقاليم إلى مجموعة من الوديان والسهول المنعزلة عن بعضها؛ مما ساعد على انتشار المدن المستقلة وقيام الحروب بينها. كما ساهمت بلاد اليونان، بسبب قربها من الشرق الأوسط منبع الحضارات، سواء من مصر أو الشام، في أن تكون البوابة الشرقية لأوروبا، بحيث تدفقت الحضارة إليها. وكانت جزيرة كوركيرا Korkyra تُعَد البوابة الغربية لبلاد اليونان، حيث حمل التجار والمهاجرون الإغريق الحضارة إلى شبه الجزيرة الإيطالية، وهكذا استوردت بلاد اليونان حضارات الشرق وصدرتها لأوروبا كلها. ونشأ في الوديان الصغيرة المنعزلة في شبه الجزيرة اليونانية نظام دويلات المدن Polis (وجمعها Polies) وهو نظام عرفه السومريون منذ عام ٣٠٠٠ق.م.، وكانوا كذلك أول من أوجد نظام مجلس الشيوخ ومجلس المحاربين؛ أي المجلس الشعبي، وهو ما طبقه اليونانيون في حكمهم المسمى «ديموكراسيا»؛ أي الديمقراطية، واعتمدت كل مدينة على نفسها اقتصاديًّا وجاهدت لتثبيت استقلالها السياسي وحريتها.٤٧
واتجه الإغريق، لفقر بلادهم، إلى ركوب البحار للتجارة كوسيلة للعيش بدلًا من زراعة أرضهم الجبلية، وقويت مدينة أثينا، وأصبح أسطولها مَعْلمًا مهمًّا من معالم الحضارة والتجارة، وارتبط اسمها بالديمقراطية الأثينية؛ ولذلك سافر الإغريقي إلى كل بلاد المنطقة حوله وعاد ببذور وأفكار حضارتها، مما ساعده على تطوير حضارته.٤٨
وعن مظاهر الاتصال الثقافي بين الشرقيين واليونانيين؛ فقد شهد كثير من المؤرخين والفلاسفة اليونانيين بفضل حضارة الشرق القديم، وخاصة الحضارة المصرية، فقد أشاد الفيلسوف اليوناني «أفلاطون» بفضل الحضارة المصرية على العلم والفكر اليونانيين، وأكد أن اليونانيين إنما هم «أطفال» بالقياس إلى تلك الحضارة القديمة، وهو يصرِّح بهذا في محاورة «طيماوس» في حديث دار بين «سولون Solon»، وكاهن مصري أدركته السن العالية، قال هذا الكاهن: يا سولون، أنتم معشر اليونان لا تزالون أبد الدهر أطفالًا، لا وجود لشيخ يوناني. فلما سمع سولون هذا قال: ماذا تعني بقولك هذا؟ فأجاب الكاهن: إن روح كل منكم شابة، إذ ليس في قلوبكم معتقد واحد قديم أو مستمد من تقليد قديم، بل ليس لديكم علم واحد عريق في القدم.٤٩
ومن ناحية أخرى فقد ذكر «أفلاطون» أن المصريين هم أول من اخترع الرياضيات فهو يقول في «محاورة فايدروس»: «سمعت بضواحي نواقراطس إحدى مدن مصر — وهي تقع جنوب شرق الموقع الذي أقيمت عليه مدرسة الإسكندرية فيما بعد — أنه كان بها أحد قدماء الآلهة، يقال له «توت» وأنه هو الذي ابتدع الأعداد والهندسة والهيئة والشطرنج والنرد والكتابة.»٥٠
كما أن هناك روايات تاريخية تحكي عن اتصال كبار فلاسفة اليونان وسفرهم إلى مصر وبلاد الشرق الأخرى، وإقامتهم فيها طويلًا لتلقِّي العلم، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
  • (أ)

    قال المؤرخ اليوناني القديم «هيرودوت» في كتابه «التاريخ العام» «فقرة ٥»: «جميع الشخصيات المقدسة في اليونان تكاد تكون مأخوذة من مصر، نعم إن بحوثي الخاصة دلتني على أن هناك شخصيات مقدسة أخذتها اليونان من بلاد المتبربرة، ولكن أرى أكثر الشخصيات مأخوذة من مصر خاصة، فإنه فيما عدا «أبوزيدون، ديوسكور» اللذين أشرنا إليهما فيما مضى، وفيما عدا «هيرا، وهسيتا، وتميس، وتبربيدا» فإن جميع الشخصيات المقدسة اليونانية موجودة في مصر.»

    ثم عاد هيرودوت فأكد هذا المعنى مرة أخرى في الفقرة العاشرة قائلًا: «لقد تلقَّى اليونانيون من المصريين العادات التي أشرنا إليها، كما تلقَّوا عنهم عادات أخرى سنتكلم عنها فيما بعد.»٥١
  • (ب)
    كما يقول «ديودور الصقلي»٥٢ في الجزء الأول من كتابه «تاريخ العالم»: «جميع اليونانيين الذين اشتُهروا بعلمهم وحكمتهم زاروا مصر في العصور القديمة، حتى يتعرفوا على عاداتها وينهلوا من علومها … وأن كل الأشياء التي جُلبت لهؤلاء كانت منقولة عن مصر.»٥٣
    ويدلل ديودور الصقلي على صدق قوله في نص آخر؛ حيث يقول: «يؤكد الكهنة المصريون — استنادًا إلى كتبهم المقدسة — أنهم شاهدوا في بلادهم «أورفي»،٥٤ و«موزي»،٥٥ و«ميلامبيوس»،٥٦ و«ديدال»٥٧ ثم الشاعر «هوميروس»، و«ليكورج الاسبارطي»،٥٨ و«سولون الأثيني»، و«أفلاطون الفيلسوف». ويذكر الكهنة المصريون أيضًا «فيثاغورس» من جزيرة ساموس، و«إيودوكسوس» الرياضي،٥٩ و«ديموقريطس» ابن مدينة أبادير،٦٠ و«إينوبيد»٦١ ابن جزيرة صاقز.»٦٢
  • (جـ)
    يذكر بلوتارخ في كتابه «إيزيس وأوزيريس»، الفقرة العاشرة: «… وهذا ما يؤكده أعظم اليونانيين المتنورين وهم: سولون، وطاليس،٦٣ وأفلاطون، وإيودوكسوس، وفيثاغورس، ويؤكد أيضًا على قول بعضهم ليكورج نفسه. وذلك أن هؤلاء اليونانيين المتنورين كانوا قد زاروا مصر وعاشوا فيها على أوثق اتصال بكهنتها، فمن ذلك أنه يقال إن إيودوكسوس تلقَّى العلم على يد «شونوفيس الممفيسي» Chonophis de Menphis في ساييس «صا الحجر»، وأن فيثاغورس خاصة عظيم الإعجاب بالأساتذة المصريين الذين كانوا هم أيضًا يُعجبون به، فحاول أن يقلد طريقتهم في كتاباتهم الرمزية وتعاليمهم السرية، فأحاط نظرياته بالألغاز، وفي الواقع إنه لا يوجد أي فارق بين النصوص الهيروغليفية المصرية والكثير من التعاليم الفيثاغورية.»٦٤
  • (د)
    يحكي لنا المؤرخ كليمان الإسكندري أن ديموقريطس قال عن نفسه: «لقد طفت بمعظم أرض كل ملك من الملوك في زماني باحثًا أقصى الأنحاء، ورأيت معظم الأجواء والبلاد، وسمعت من العلماء الكثيرين ولم يفُقْني أحد فيما كتبت، ولم يفقني في بيان البراهين أحدٌ، حتى المصريون الذين يُسمَّون «مادي الحبال» Harpedananptia وهم الذين عشت معهم باحثًا غريبًا حتى بلغت الثمانين.»٦٥
  • (هـ)

    يروي أريستوكسينوس التارنتي «٣٣٥–٣٧٥ق.م.» أن الفيلسوف اليوناني «سقراط» التقى ذات يوم بحكيم هندي، وقد سأل هذا الحكيم سقراط قائلًا له: «إنك تدعو نفسك فيلسوفًا، فبماذا تشتغل؟ فأجاب سقراط إنه يدرس الشئون البشرية، فأخذ الحكيم الهندي يضحك قائلًا: إنه يستحيل للمرء أن يفهم الشئون البشرية ما لم يدرك الشئون الإلهية أولًا.»

    ويعلق مؤرخ العلم «جورج سارتون» على هذه الرواية فيقول: «هذا أحد الشواهد القاطعة على بعض الاتصال الحقيقي بين فلاسفة اليونان وفلاسفة الهنود.»٦٦
وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة، وهي أن الشاعر اليوناني «هوميروس» قد أورد في كتابه «الإلياذة والأوديسة» فقرات كثيرة تؤكد أن اليونانيين كانوا على اتصال بشعوب الشرق القديم، فمثلًا يقول هوميروس في كتاب «الإلياذة» هذه العبارة: «انطلق أوليسيز إلى «سيروس النائية» التي تكاد تكون منقطعة عن العالم، وقد حمل على ظهره العريض وكاهله القوي حقيبةً كبيرة جمع فيها من كتان مصر وأصباغها وعطورها، وحِبَر الشام وحريره وسمُّوره، وتصاوير فارس وقماقمها وسنجابها (ألوان من الفرو الثمين)، ومشرفيات الهند وتحف السند، وطُرَف الصَّقْلَب … ومن كل ما علا وارتفع ثمنه من أدق صناعات العالم جميعًا … فلما كان في حاضرة المملكة، يمَّمَ شطر قصر الملك، وكان الوقت ضحًى، ثم طفق يصيح باللهجة السيروسية معدِّدًا أسماء السلع التي: «استحضرناها حديثًا من مصر الجميلة المتفننة، والشام الصَّنَاع العبقري، وفارس الغنية الكسروية، والهند العظيمة، والسند … ونحن لا نبيع إلا للملك وأبناء الملك؛ لأن الشعب فقير لا يقدِّر بضائعنا الغالية، ونحن معروفون في مصر، لا يشتري فرعون إلا منا، وفي الشام، وفي فارس، وفي الهند حيث الأفيال العظام … وأرسلَتْ بنات الملك فأحضرن هذا التاجر المُفاخر بما معه، واجتمعن حوله يتفرَّجن ويتلهَّين؛ هذه تختار منديلًا من حرير الهند أو مِنطقة من خَزِّ الشام، وتلك تشتري من أصباغ مصر وعطورها وخرزها، وثالثة تُفتتن بتصاوير فارس فتشتري كل ما مع الرجل منها.»٦٧

مما سبق يتضح لنا أن اليونانيين القدماء كانوا مدينين بالكثير للسابقين من الشرقيين في مجال العلم، وأنهم كانوا على اتصال فعلي وحقيقي بالشرقيين، وهذا الاتصال لم يتوقف عند تلك المرحلة، فقد طوَّر المجتمع اليوناني ما أخذه عن مجتمعات الشرق الأدنى القديم، وزاد عليه وصاغ كل ذلك صياغة جديدة، وبخاصة خلال القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد لتكمل الدورة الحضارية بعد فتوح الإسكندر الأكبر في الشرق، حيث عاد اليونانيون من جديد يرجعون للشرق ويجوبون فارس والهند وبلاد ما بين النهرين ومصر بحثًا عن العلم عند الشرقيين.

وأكتفي في هذا الصدد بذكر مدرسة الإسكندرية التي كانت البَوْتقة التي انصهرت فيها كل الأجناس التي وفدت إليها، بحيث انقطعت صلتها تقريبًا بالمناطق التي جاءت منها، وكان سكانها يتألفون من الكهنة والعلماء المصريين الذين تمتعوا بمكانة رفيعة في نفوس الناس، وتعاونوا مع الحكام ذوي الشأن، وعدد عظيم من المواطنين المصريين، وجالية كبيرة من اليهود؛ بحكم أن فلسطين كانت جزءًا من المملكة البطلمية، حتى حوالي عام ٢٠٠ق.م.، وذلك فضلًا عن عدد من السوريين والعرب والهنود. وبذلك جسدت الإسكندرية بمفردها نظرية الإسكندر الأكبر في وحدة العالم التي تجمع بين الاختلافات الفكرية والعلمية والدينية في حضارة مدينة واحدة، بدلًا من النظرية اليونانية التقليدية عن المدينة الدولة، أي إن الإسكندرية لم تكن عاصمة فحسب، بل مدينة عالمية، وبذلك كانت الأولى من نوعها.

ثالثًا: ما أخذه اليونانيون عن الشرقيين في مجال العلم

في مجال الفكر الإنساني عبر عصوره المتلاحقة ثمَّة ظاهرة ضمن ظواهر عديدة تسترعي النظر وتجذب الانتباه؛ ألا وهي ظاهرة التأثير والتأثر بين الحضارات المتعاقبة، بحيث تؤثر الحضارة السابقة في الحضارة اللاحقة، وتتأثر هذه بتلك تأثرًا تتعدَّد أبعاده أحيانًا، وتختلف مجالاته وتتفاوت درجاته بين طرفي الظاهرة؛ أعني بين المؤثر والمتأثر. فتارة يكون التأثير من جانب السابق في اللاحق تأثيرًا قويًّا وعميقًا، وعلى درجة من الشمول تكاد تذهب باستقلالية المتأثر وهويته العلمية. ومن ثَم تظهر العلاقة بين الطرفين في صورة علاقة تابع بمتبوع ومقلِّد بمبدع، وتارة يكون التأثير ضعيفًا في درجته، محدودًا في مجاله، بحيث يظل كلا الطرفين المؤثر والمُتأثر محتفظًا بفردانيته واستقلال نظرته وفكره، ومن ثَم تتوارى معدلات التأثير فلا تكاد تظهر.

وإن كان الأمر كذلك؛ فإن لهذه الظاهرة — في نظرنا — دلالات تسمح بالقول بأنها ظاهرة إيجابية مفيدة ومثمرة بدرجة نعدها عاملًا فاعلًا في تحقيق ما أنجزه الفكر الإنساني من تطور وازدهار على أصْعِدته كلها، وخاصة على الصعيدين الثقافي والحضاري للشعوب والأمم التي سجل لها التاريخ ضربًا أو أكثر من ضروب التقدم والازدهار.٦٨
ولعل من أوضح الأمثلة على تجليات هذه الظاهرة في الفكر الإنساني، ما نحن بصدده الآن، وهو ما حدث من تأثير وتأثُّر بين حضارات الشرق القديم والحضارة اليونانية في مجال العلم؛ فمثلًا لم يكن المجتمع اليوناني القديم مجتمعًا مغلقًا تنحصر قيمته الثقافية والحضارية أساسًا في المنطقة التي قام بها على قسم من الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، بحيث لا تتعدى هذه المنطقة أن تتأثر أو تؤثر في غيرها إلا بشكل عابر أو جانبي، وإنما كان هذا المجتمع منفتحًا على غيره من المجتمعات التي سبقته إلى ازدهار النشاط الحضاري، تلك التي ظهرت في منطقة الشرق الأدنى في مصر وسوريا ووادي الرافدين وفي منطقة آسيا الصغرى (تركيا الحالية)، وقد تأثر بهذه الحضارات الكبيرة السابقة عليه.٦٩
ويظهر هذا التأثير الحضاري لمنطقة الشرق الأدنى القديم في المُنجزات الثقافية والحضارية للمجتمع اليوناني في أكثر من جانب، وأسوق في هذا الصدَد عددًا من الأمثلة منها: فقد أخذ اليونان عن المصريين — على سبيل المثال — مبادئ الطب والتشريح، وهي مبادئ لم يقتصر مجالها على الخبرة الناتجة عن الممارسة فحسب، وإنما دوَّنها المصريون في شكل قواعد علمية، كما يظهر لنا ذلك بوضوح في عدد من البرديات التي ترجع إلى العصر الفرعوني، والتي تم اكتشافها في أرض مصر منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، مثل بردية «إبيرس» Ebers وبردية «إدوين سميث» Edwin Smith، وهذه البرديات وغيرها من تلك التي تركت آثارها على المنجزات الطبية في المجتمع اليوناني، وهو أثر ظهر لنا جليًّا في كتابات «ديوسكوريدس» Dioskorides و«هيبوكراتس» (أبقراط) Hippocrates وجالينوس Galenus.٧٠
وعن وادي الرافدين أخذ اليونانيون المبادئ لعلم الرياضيات التي لم يقتصر فيها البابليون والكلدانيون على التجارِب العملية، وإنما توصَّلوا فيها إلى درجة التنظير، ويكفي في هذا المجال أن الأصل الذي أخذ عنه الفيلسوف اليوناني «فيثاغورس» Pythagoras نظريته توصَّل إليها البابليون والكلدانيون ومن قبلهم المصريون.٧١
كذلك أخذ اليونان عن وادي الرافدين، ومن قبلهم المصريين، مبادئ علم الفلك، فلقد سبق كلٌّ من أهل وادي الرافدين والمصريين العلماءَ اليونانيين إلى رصد النجوم والكواكب واستخدام أدوات رصد مناسبة مثل المِزولة والساعات المائية، كما سبقوهم إلى معرفة التقويم الشمسي والتقويم القمري، حيث قسَّموا السنة إلى اثني عشر شهرًا والشهر إلى ثلاثين يومًا، فتكون السنة الشمسية ٣٦٥ يومًا، في حين تكون السنة القمرية ٣٥٤ يومًا، كما رصدوا ظاهرتي الكسوف والخسوف، هذا بالإضافة إلى معلومات فلكية كثيرة.٧٢
كما نجد تأثير وادي الرافدين في مجالين آخرين؛ أولهما: هو مجال الأدب الملحمي الذي ظهر عند السومريين والبابليين في عدد من الملاحم الشعرية، أبرزها ملحمة «جِلجامِش» وملحمة «إينوما إيليش»، وأثر الملحمة الأولى يظهر في أكثر من جانب في ملحمة «الإلياذة والأوديسة» المنسوبة إلى هوميروس. والمجال الثاني: هو مجال الأساطير التي كان الإنسان في العصور القديمة يحاول عن طريقها أن يفسر ظواهر الطبيعة وظواهر الكون المحيط به، مثل ظواهر الخلق أو الحياة والموت والخصوبة والإنجاب وغيرها؛ ومن ثَم يحدد علاقته بها وموقفه منها، وهنا نجد قدرًا غير قليل من الأساطير اليونانية تكاد تتطابق فكرة وتفصيلًا مع الأساطير التي سبقتها في وادي الرافدين؛ مثل الأساطير المتعلقة بقصة الطوفان وقصة خلق الإنسان من طين وماء وروح إلهية، وأسطورة إنانا ودموزي (عشتار وتموز) البابلية ونظيرتها أسطورة «أفروديتي وأودنيس» اليونانية التي وصلت إليهم عن طريق الفينيقيين.٧٣
أما عن التأثير السومري في المجتمع، فإنه لم يقتصر على نقل التأثيرات الحضارية من وادي الرافدين ومصر، وإنما تعدَّى ذلك التأثير الإيجابي المباشر، وحسبنا في هذا الصدَد أن نذكر أن الحروف الهجائية المصرية نقَّوها — خلال هذا التطور — من آخر المقاطع التصويرية التي كانت لا تزال عالقة بها، بحيث أصبحت أبجدية تمثل القيم الصوتية فحسب، وقد نقلوها في أثناء نشاطهم التجاري في البحر الأبيض المتوسط إلى بلاد اليونان، لتصبح — بعد أن زاد اليونان عليها الحركة — أداةً طبيعية لسرعة انتشار الكتابة، ومن ثم انتشار الحركة الثقافية بكل عمقها واتساعها.٧٤
وأما عن التفكير النظري الديني، فقد أخذ اليونان ما خلَّفه لنا قدماء الشرقيين من مصريين وبابليين وهنود، وذلك من وجوه النظر العقلي في الألوهية والبعث والخير والشر، والمبدأ والمصير … وغير هذا من مجالات توصَّلوا بصددها إلى آراء تردد صداها بعد ذلك عند فلاسفة اليونان. ومنذ أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنًا من الزمان توصَّل في مصر القديمة «أمنحتب الرابع» المعروف باسم أخناتون إلى وحدانية الله مع شيوع الشرك الوثني في عصره، وتوصلت «الزَّرادشتية» الفارسية إلى الثنائية Dualism التي ارتد فيها العالم إلى إله الخير وإله الشر أو مبدأ للحياة ومبدأ للموت. كما عرَف الهنود منذ أقدم العصور حلول الله في مخلوقاته … إلى آخر ما يمكن ذكره في هذا.٧٥
وإذا كان الإغريق قد أخذوا كل هذه المعارف المتراكمة عن الشرقيين؛ فقد طوَّرها علماء وفلاسفة اليونان بعد ذلك، من أمثال طاليس وفيثاغورس وأفلاطون وإقليدس وأرشميدس وغيرهم، لتشكل — نتيجة لذلك — قسمًا أساسيًّا من التراث العلمي اليوناني، ومن ثم يكون اليونان شأنهم شأن العرب — كما يقول جوستاف لوبون؛ حيث يقول في كتابه الحضارة المصرية: «… إن العدل والإنصاف يقضيان علينا إذن بأن نقول عن الإغريق إنهم كانوا بإزاء المصريين، كما كان العرب إزاء اليونان والرومان؛ فالإغريق والعرب ساروا بعلوم لم يبتدعوها، ولهذا أُتيحَ لهم تقديمها والرقي بها بسرعة.»٧٦
١  ج. ج. كراوثر: قصة العلم، ترجمة د. يُمنى طريف الخولي ود. بدوي عبد الفتاح، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٩م، ص٢١.
٢  جوستاف لوبون: مقدمة في الحضارات الأولى، ترجمة محمد صادق رستم، المطبعة السلفية، القاهرة ١٩٢٣م، ص١٧-١٨.
٣  د. مصطفى محمود سليمان: تاريخ العلوم والتكنولوجيا في العصور القديمة والوسيطة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٥م، ص١١٠.
٤  W. T. Sedgwick and H. W. Tayler: A short History of Science, the Macmillan company, New York, 1939, pp. 15-16.
٥  د. أحمد فخري: تاريخ الحضارة المصرية، المجلد الأول «مصر ومكانتها من العالم القديم»، القاهرة، بدون تاريخ، ص٢٢.
٦  نفس المرجع، ص٢٣.
٧  نفس المرجع، ص٢٤.
٨  د. عبد العزيز صالح وآخرون: موسوعة تاريخ مصر عبر العصور «تاريخ مصر القديمة»، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٧م، ص١٤-١٥.
٩  نفس المرجع، ص١٥-١٦.
١٠  د. حسن كمال: التراث العلمي لمصر القديمة، مقال منشور ضمن مَجلة المقتطف، عدد شهر ديسمبر، ١٩٣٦م، ص١٩-٢٠.
١١  نفس المرجع، ص٢٠.
١٢  نفس المرجع، ص٢٠.
١٣  نفس المرجع، ص٢٠-٢١.
١٤  د. بول غليونجي وزينب الدواخلي: الحضارة الطبية في مصر القديمة، دار المعارف، القاهرة، ص١٥–٢٥.
١٥  د. فؤاد زكريا: التفكير العلمي، ص١٢٨.
١٦  وِل ديورانت: قصة الحضارة، الجزء الثاني من المجلد الأول «الشرق الأدنى» ترجمة محمد بدران، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، بدون تاريخ، ص٢٢١–٢٢٣.
١٧  نفس المرجع، ص٢٢٣.
١٨  إيفار ليسنر: الماضي الحي «حضارة تمتد سبعة آلاف سنة»، ترجمة شاكر إبراهيم سعيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨١م، ص٢٧–٣٠.
١٩  جورج سارتون: تاريخ العلم، ترجمة د. طه الباقر وآخرون، الجزء الأول، دار المعارف، ١٩٩١م، ص١٧٣-١٧٤.
٢٠  نفس المرجع، ص١٩٦-١٩٧.
٢١  نفس المرجع، ص١٦٣-١٦٤.
٢٢  نفس المرجع، ص١٧٩-١٨٠.
٢٣  هنري فرانكفورت: فجر الحضارة في الشرق الأدنى، ترجمة ميخائيل خوري، فرانكلين للطباعة، بيروت، ١٩٥٩م، ص٣٢٣–٣٢٥.
٢٤  د. مصطفى محمود سليمان: تاريخ العلوم والتكنولوجيا في العصور القديمة والوسيطة، ص١١٧.
٢٥  نفس المرجع، ص١١٧.
٢٦  نفس المرجع، ص١١٨.
٢٧  رينيه تاتون: تاريخ العلوم العام، المجلد الأول «العلم القديم والوسيط»، ترجمة د. علي مقلد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط١، بيروت ١٩٨٨م، ص١٢٨-١٢٩.
٢٨  د. مصطفى محمود سليمان: نفس المرجع، ص٢٢٣.
٢٩  نفس المرجع، ص٢٢٣.
٣٠  نفس المرجع، ص٢٢٤-٢٢٥.
٣١  نفس المرجع، ص٢٢٥.
٣٢  نفس المرجع، ص٣٠٥-٣٠٦.
٣٣  نفس المرجع، ص٣٠٦.
٣٤  نفس المرجع، ص٣٠٦-٣٠٧.
٣٥  نفس المرجع، ص٣٧٤.
٣٦  نفس المرجع، ص٣٧٤-٣٧٥.
٣٧  جوزيف نيدهام: موجز تاريخ العلم والحضارة في الصين، ترجمة محمد غريب جودة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة ١٩٩٥م، ص٤٨.
٣٨  نفس المرجع، ص٤٨.
٣٩  نفس المرجع، ص٤٩.
٤٠  نفس المرجع، ص٥٣.
٤١  نفس المرجع، ص٥٦.
٤٢  نفس المرجع، ص٥٩.
٤٣  د. مصطفى محمود سليمان: نفس المرجع، ص١٢٠.
٤٤  نفس المرجع، ص١٢١.
٤٥  ج. ويلز: معالم تاريخ الإنسانية، المجلد الثاني، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ١٩٥٩م، ص٣١١-٣١٢.
٤٦  د. سمير يحيى الجمال: تاريخ الطب والصيدلة المصرية، الجزء الثاني «العصر اليوناني الروماني»، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٧م، ص٢٧.
٤٧  نفس المرجع، ص٨.
٤٨  نفس المرجع، ص٨-٩.
٤٩  نقلًا عن جورج سارتون: تاريخ العلم ج٣، ص٢٠.
٥٠  أفلاطون: محاورة فايدروس، ترجمة د. أميرة حلمي مطر، دار المعارف، القاهرة، ص١١٠.
٥١  نقلًا عن د. عبد القادر حمزة باشا: على هامش التاريخ المصري القديم، ج١، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، ١٩٤٠م، ص١٣١.
٥٢  ديودور الصقلي: هو مؤرخ يوناني قديم زار مصر بين سنة ٦٠ وسنة ٥٧ق.م.
٥٣  نقلًا عن شوقي جلال: الحضارة المصرية «صراع الأسطورة والتاريخ»، دار المعارف، القاهرة، ١٩٩٦م، ص٥.
٥٤  Orphée: كان ابنًا لملك مقاطعة يونانية تُسمى تراسي، وهو أشهر موسيقي يوناني، وقد زار مصر وأقام فيها زمنًا.
٥٥  Musée : شاعر وموسيقي يوناني قديم، يُعتبر تلميذًا للمُوسيقي أورفي الذي تقدم ذكره. وهناك شاعر يوناني آخر يُسمى بهذا الاسم عاش في القرن السادس قبل الميلاد.
٥٦  Melampos: طبيب يوناني اشتُهر بالطب والسحر، وعاش في العصر الذي يُعرف في تاريخ اليونان بعصر الآلهة والأبطال الخرافيين، وقد كتب عنه هوميروس فقال إنه تعلم بعض العقائد الدينية المصرية وأنه هو الذي أدخل عبادة باكشوس.
٥٧  Dedale: مهندس بناء يوناني زار مصر وأقام فيها زمنًا، وقد اشتُهر في اليونان بأنه هو الذي بنى اللابيرنت أو قصر التيه في جزيرة كريت على مثال القصر الذي عُرف بمثل هذا الاسم للملك أمنحتب الثالث في اللاهوت.
٥٨  Lyeucrge: هو مُشرِّع القوانين لمدينة اسبرطة في اليونان القديمة، وقد عاش في القرن التاسع قبل الميلاد.
٥٩  Eudoxus: فلكي يوناني عاش بين سنة ٤٠٩ وسنة ٣٥٦ق.م.
٦٠  Démocrite d'Abdère: هو فيلسوف يوناني عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو معروف في الكتب العربية باسم ديموقريطس. وهو صاحب نظرية الجزء لا يتجزأ أو الجوهر الفرد. وأبديرا التي هو من أهلها مدينة كانت من مدن مملكة تراس، واقعة على بحر إيجة.
٦١  Enopide de chis: عالم يوناني قديم.
٦٢  نقلًا عن د. عبد القادر حمزة باشا: نفس المرجع، ﺟ١، ص١٣١-١٣٢.
٦٣  Thales: فيلسوف يوناني عاش بين سنة ٦٤٠ وسنة ٥٤٨ق.م.
٦٤  بلوتارخ: إيزيس وأوزيريس، ترجمة حسن بكري، القاهرة، ١٩٥٨م، ص ١٦٨-١٦٩.
٦٥  نقلًا عن جورج سارتون: تاريخ العلم، ﺟ١، ص٢٥٣-٢٥٤.
٦٦  نقلًا عن جورج سارتون: تاريخ العلم، ﺟ٢، ص٧١.
٦٧  هوميروس: الإلياذة، ترجمة دريني خشبة، طبعة مؤسسة أخبار اليوم، القاهرة، ١٩٩٠م، ص٥٧-٥٨.
٦٨  د. محمد حسيني أبو سعدة: الآثار السينوية في مذهب النفس الإنسانية عند الغزالي، القاهرة، ١٩٩١م، ص١٠-١١.
٦٩  د. لطفي عبد الوهَّاب يحيى: اليونان مقدمة في التاريخ الحضاري، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ١٩٩٠م، ص١٧.
٧٠  عن تأثير مصر على بلاد اليونان في مجال الطب، راجع:
• Grafton Elliot Smith, The Ancient Egyptians and Their Influence upon The civilization of Europe, New York, 1911.
د. حسن كمال: الطب المصري القديم، القاهرة، ١٩٥٩م.
إليوت سميث وآخرون: الطب والتحنيط في عهد الفراعنة، ترجمة أنطون زكري، القاهرة، ١٩٢٦م.
د. نجيب رياض: الطب المصري القديم، القاهرة، ١٩٥٩م.
٧١  عن تأثير وادي الرافدين على بلاد اليونان في مجال علم الرياضيات راجع:
• H. J. J. Winter: Eastern science, London, 1953.
• J. G. Scott, A History of Mathematics from Antiquity to the Beginning of the Nineteenth Century, London, 1956.
٧٢  عن تأثير وادي الرافدين على بلاد اليونان في مجال علم الفلك راجع:
نللينو: علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى، روما، ١٩٩١م.
كيث جوردون، إيروين: ٣٦٥ – قصة التقويم، ترجمة سعد الدين صبور، القاهرة، ١٩٦٥م.
• P. Doig: A concise history of Astronomy, London, 1950.
٧٣  عن تأثير وادي الرافدين على بلاد اليونان في مجال الأدب الملحمي، راجع:
• S. N. Kremer, Sumerian Mythology, Philadelphia, 1944.
• Murray: The Literature of Ancient Greece, University of press, 1956.
أحمد عثمان: الشعر الإغريقي: تراثًا إنسانيًّا وعالميًّا، سلسلة عالم المعرفة، عدد ٧٧، شعبان سنة ١٤٠٤ﻫ/مايو سنة ١٩٨٤م.
٧٤  عن تأثير السومريين على اللغة اليونانية راجع:
• Martin Bernal: Black Athena, the Afroasiatic Roots of Classical Civilization, vol. 1, The Fabrication of Ancient Greece 1785–1985, free Association Books, London.
٧٥  عن تأثير الشرقيين عمومًا على الفكر اليوناني راجع:
بول ماسون أورسيل: الفلسفة في الشرق، ترجمة د. محمد يوسف موسى، دار المعارف، بدون تاريخ.
جورج جيمس: التراث المسروق: الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة، ترجمة د. شوقي جلال: المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة ١٩٩٦م.
أ. و. ف. توملين: فلاسفة الشرق، ترجمة عبد الحميد سليم، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٠م.
د. محمد غلاب، الفلسفة الشرقية، القاهرة، ١٩٣٨م.
د. مهدي فضل الله: بدايات التفلسف الإنساني، الفلسفة ظهرت في الشرق، دار الطليعة، بيروت.
جون كولر: الفكر الشرقي القديم، ترجمة كامل يوسف حسين، سلسلة عالم المعرفة، عدد رقم ١٩٩، صفر ١٤١٦ﻫ/يوليو ١٩٩٥م.
٧٦  جوستاف لوبون: الحضارة المصرية، ترجمة صادق رستم: المطبعة العصرية، القاهرة، بدون تاريخ، ص٩٣-٩٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤