الفصل الثالث

الأصول الشرقية لنشأة الطب عند اليونان

تمهيد

فندنا في الفصل السابق فكرة المعجزة اليونانية التي ترى أن كل إنجازات المجتمع اليوناني وأوجه النشاط الثقافي والحضاري انبثقت من داخل بلاد اليونان فحسب، دون أن تتأثر بمؤثرات ثقافية وحضارية جاءت من مناطق أخرى خارج هذه البلاد. وقد بينا أن هذه الأقوال إذا خضعت للبحث العلمي الدقيق يتضح لنا تهافتها، فالزعم بأن اليونانيين قد أبدعوا فجأة ودون سوابق أو مؤثرات خارجية حضارة عبقرية في مختلف الميادين — ومنها الفلسفة والعلم — هو ادعاء يتنافى مع المبادئ العلمية التي تؤكد تواصل الحضارات وتأثرها بعضها ببعض، وإذا كان بعض الغربيين يفسرون ظاهرة المعجزة اليونانية في مجال العلم نتيجة الانبثاق المفاجئ للحضارة اليونانية؛ فإنه في واقع الأمر ليس تفسيرًا لأي شيء، بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير، ففي حين نقول إن العلم اليوناني كان جزءًا من المعجزة، يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا، هو أننا لا نعرف كيف نفسر ظهور العلم اليوناني. وبعد مناقشة مستفيضة لهذا، انتهينا إلى القول بأن نشأة العلم لم تكن يونانية خالصة، فلم يبدأ اليونانيون في استكشاف ميادين العلم من فراغ كامل؛ بل إن الأرض كانت ممهدة لهم في بلاد الشرق التي كانت تجمعهم بها صلات حربية وتجارية وثقافية، والتي كانت أقرب البلاد جغرافيًّا إليهم، وإذا كانت الحلقة المباشرة، فيما يتعلق بانتقال العلوم الأساسية من البلاد الشرقية إلى المدن اليونانية، هي حلقة مفقودة، فإن المنطق والتاريخ والكشوف المتتابعة تؤكد لنا أنها لا بد كانت موجودة.

وسبيلنا في هذا الفصل، هو عرض قضية الأصول الشرقية لنشأة الطب عند اليونان. وقد آثرنا أن نبدأ هذا الفصل بعلم الطب، على أساس أن الطب من أوائل العلوم والمعارف التي عرَفها الشرقيون، وخاصة قدماء المصريين. فالطب في نظرهم هو «قصة البشرية»، وقد وُلد قبل أن يولد التاريخ بزمن طويل، فهو يُعتبر فنًّا عمليًّا أملته الحاجة التي لم تنقطع قط. لقد كان قدماء المصريين أول من مارسوا الطب على أسس علمية سليمة، ولا تزال معلوماتهم الطبية الدقيقة عن إصابات الرأس والعظام والعيون وغيرها تشهد أنها لا تختلف كثيرًا عما تذكره كتب الطب الحديثة.

أولًا: النزعة العلمية في الطب عند قدماء الشرقيين

يزعم بعض المؤرخين والعلماء الغربيين، أن الطب الشرقي؛ وخاصة عند قدماء المصريين، لم يكن سوى بخور مع بعض المعرفة بالأعشاب، وبالتالي فهو مبني كله على السحر والشعوذة والخرافة، في حين أن الطب اليوناني طب علمي قائم على الملاحظة والتجرِبة.

وأصحاب هذا الرأي كثيرون، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: «جوزيف جارلند» و«دي بورج».

فأما «جوزيف جارلند» فيقول في كتابه «قصة الطب»: «إن الطب المصري علي عكس الطب الإغريقي، كان بعيدًا عن التفكير فيما وراء الطبيعة، وبعيدًا عن النظريات الافتراضية، بل اعتمد في تشييد حضارته على تكديس الملاحظات الواقعية والاستفادة منها، فأضاف بذلك خبرة عملية إلى فطنته الغريزية، فإذا كان الإنسان الأول قد أدرك بالحيلة والتجرِبة كيف يحمي نفسه من أعدائه، فإنه احتار — دون شك — في أمر تلك الأمراض الطارئة عليه، وأرجع أسبابها إلى أرواح الشر التي تتقمص جسده وتبعث فيه الفساد، فلجأ الإنسان في علاج أمراضه إلى السحر والرُّقى والتعاويذ، كما لجأ إلى الدجل والشعوذة وما توارثه من الخرافات والتجارِب الشخصية جيلًا بعد جيل.»١
وأما «دي بورج» فيزعم «أن الطب المصري أيضًا كان خليطًا من الوصفات الجاهزة والتعاويذ السحرية. وتُظهر الكتابات الطبية الأولى ملاحظة دقيقة لجسم الإنسان وعلاج الإصابات بما يمليه الحس العام، وآراء عن الوظائف الفسيولوجية، التي ربما تكون قد وصلت إلى الإغريق، وكانت الحافز للأوائل من رجال العلم الهيلينيين؛ ولكنها ظلت، إلى أن أضاءها البحث عن الأسباب والمسببات، لا أكثر من مجموعات من المعطيات السابقة للمنهج العلمي.»٢

وفي الوقت الذي يزعم فيه هؤلاء المؤرخون أن الطب المصري قائم كلًّا وجزءًا على السحر والشعوذة، نراهم ينظرون للطب اليوناني بعكس ذلك؛ حيث ينعتونه بأنه طب علمي قائم على الملاحظة والتجرِبة، وقد أفاد الطبَّ الحديث إفادة كبيرة.

فمثلًا يقول «س. م. بورا»: «انفصل الطب اليوناني عن الماضي وعن الاعتقاد بلعنة الآلهة، وطوَّر نظامًا كاملًا قائمًا على وسائل علمية، وتكشف كتابات «أبقراط» وأتباعه أن الطب اليوناني كان يحظى بعناية دقيقة في مجال فحص الأعراض المرضية.» ويقول في فقرة أخرى: «إن مبادئ الطب اليوناني، هي بعينها مبادئ العلوم الطبيعية في أيامنا هذه، ومن الملائم لطبيعة الأشياء أن اليونانيين قد حققوا هذا الانقلاب العلمي الخطير من خلال عنايتهم بالجسم الإنساني.»٣
كما يذهب أيضًا «تشارلس سنجر» فيقول: «إن الطب الحديث يصح أن يُوصَف بحق أنه في لُبه من خَلْق اليونانيين، ولن يعرف طبيعة نظام الطب عندنا إلا من يعرف شيئًا عن مصادره اليونانية، وأن يومًا ما ننسى فيه هذا الدَّيْن لليونان لهو يومُ سوءٍ للطب يكون فيه الخَسار الأخلاقي عِدْل الخَسار العقلي على الأقل. ولكن من سعادة جدنا ألا خوف هناك من هذا، فإن شخص «أبقراط» وروحه هي اليوم أقرب إلى التحقيق والحياة منهما في أي يوم منذ خرَّت العقلية العلمية اليونانية هامدة في القرنين الثالث والرابع من العهد المسيحي.»٤
تلك هي الصورة التقليدية التي كان بعض مؤرخي العلم يصورون بها الفرق بين الطب المصري والطب اليوناني باختصار، ولا شك في أن هذه الصورة تتسم بالتحيز والبعد عن الموضوعية، فليس صحيحًا أن الطب المصري يتسم بالشعوذة والسحر، في حين أن الطب اليوناني عكس ذلك تمامًا، خصوصًا وقد أكدت الدراسات الحديثة أن الطب المصري القديم ينقسم تاريخيًّا إلى مرحلتين: مرحلة قبل كشف بردية «إدوين سميث»،٥ ثم مرحلة أخرى تبعت هذا الكشف؛ إذ إن المؤرخين الغربيين كانوا يظنون في أثناء المرحلة الأولى أن الطب المصري مكون من قسط وفير من الشعوذة وتصحبه معرفة جزئية من العقاقير والنباتات والتشريح، وأن استعمال تلك الأدوية كان مبنيًّا في كثير من الأحوال على اعتبارات تتصل بالسحر أكثر من اتصالها بالطب، إلا إن هذه البردية أقامت أول دليل علمي على وجود طب منطقي عقلي أساسه الخبرة والملاحظة وعلم تشريح سليم، وهي تمتاز في أسلوبها باستعمال لغة «التخصص»، وهي لغة غنية بالتعابير والتشبيهات الدقيقة، وفي موضوعها بتبويب منطقي ومرتَّب، يدل على تقاليد طويلة أصيلة سبقت في تأليفها، وبخلوها من أية نظرية أو مظهر من مظاهر الطب الروحاني التي تزخر بها المؤلفات الأخرى، وهي تصف ثمانية وأربعين مشاهدة في جراحة العظام والجراحة العامة، مرتبة حسب ترتيب أعضاء الجسم؛ تبدأ بالرأس، وتتدرج إلى الأنف والفك، ثم فقرات الرقبة وفقرات الظهر والأضلاع والصدر والترقوة والكتف واللوح واليدين، ويحق لنا أن نتخيل أن الأصل كان يتناول بقية الجسم، كالبطن والحوض والساقين … إلخ، إذ إن آخر مشاهدة — وهي تتصل بالعمود الفقري — تُختتم بعبارة ناقصة كان كاتبها تركها ليقضي أمرًا ولم يُتم كتابتها.٦
ويلاحظ بعض الباحثين أن طريقة العرض فيها تتسم بالنظام؛ فكل مشاهدة تبدأ بالعنوان التالي: «تعليمات في شأن …» ثم يجيء الفحص: «إذا تفحَّصت رجلًا به كذا» ويتبعه التشخيص: «قل فيما يخصه إنه يشكو من …» ثم تذكر النتيجة المتوقعة وتعبر عن ثلاثة احتمالات: الشفاء المؤكد، والمشكوك فيه، والميئوس منه، بالعبارات الثلاثة التالية: «سأعالجه» أو «سأكافحه» أو «مرض لن أعالجه»، وبعد ذلك يأتي العلاج، وهو ينتهي بالتعليقات والتفسيرات، ولا شك في أن هذا النظام وهذا التبويب، وهذا الترتيب من دلائل تفكير أصيل، وتأمل دقيق، وتقاليد طويلة سبقت الكتابة.٧
ولا شك في أن طريقة العرض هنا في بردية «إدوين سميث» تؤكد أنها تخلو من طابع السحر والشعوذة، وبالتالي تتجلي واقعية هذه البردية كذلك في دقة الملاحظات التي تسردها، فقد عرَف مؤلفها — ولا شك في أنه كان طبيبًا غاية في التدقيق — قرقرةَ العظام في التمييز بين الكسر والجَزْع، وقد عرَّف الجزع بأنه إصابة الأربطة دون تغير في وضع العظام، وعلة صلة المخ بالحركة الإرادية، وتعيين ناحية الشلل بناحية الدماغ المُصابة، وإدراك علاقة الصمم بإصابة عظمة الصدغ، وأكد قيمة جس جروح الرأس، فشبه كسر الجمجمة بثقب في إناء الفخار، وصرح بسوء مآل الحالات التي لا يُشعَر فيها بنبض المخ، وتلك التي يُحَس فيها العظم منخفضًا داخل المخ، وتلك التي يُلاحَظ فيها تصلب الرقبة والنزف تحت الملتحمة ومن المنخرين أو من الأذن … كما وصف كسر العمود الفقري وما يتبعه من شلل رباعي وانتصاب واستمناء دون فقدان الوعي.٨
أما عن العلاج فإن بردية «سميث» وصفت أيضًا عملية رد الكسور والخلوع بطرائق تنم عن مهارة فائقة، فمن التعليمات الواردة بها، فيما يخص علاج كسر الترقوة: «ألْقِ المريضَ على ظهره، ثم ضع بين اللوحين وسادة حتى يبتعد جزء من ترقوته، ويرجع العظم المكسور إلى موضعه. وبعد ذلك ثبِّت وسادة من الكَتَّان على الجانب الأيسر من ذراعه واضْمده بالأمرو (مرهم مجهول)، ثم بالعسل في الأيام التالية.»٩
ويؤكد الدكتور «محمد كامل حسين» أن تلك الطريقة التي كُتبت بها بردية «إدوين سميث» لم يجد الطب الحديث أحسن منها، وأنها ترقَى إلى درجة من الكمال لا داعي عمليًّا لتحقيقها.١٠
مما سبق يتضح لنا أن هناك نزعة علمية في «بردية إدوين سميث». وهذه النزعة تؤكد لنا أن أطباء مصر القدماء، كانوا أول من توصل إلى إرهاصات المنهج الاستقرائي، ولم تكن النزعة العلمية سائدة فقط في بردية «سميث»، بل كانت توجد في سائر البرديات التي اكتُشفت بعد ذلك. ومن مظاهر هذه النزعة العلمية في مجالات الطب والأمراض عند قدماء المصريين، تقدمهم في الجراحة تقدمًا لم يسبقهم فيه سابق؛ حيث كانت الجراحة موضع عناية المصريين القدماء، إذ ثبت من البحث في جثث قدماء المصريين وآثارهم، أن أطباءهم كانوا يمارسون فن الجراحة بمهارة، فكانت تتم على أيدي كهنة الإلهة «سِخْمِت» المتخصصين عمليات جراحة كبرى وجراحة صغرى، وكان الطبيب في ذلك الوقت لا يستعمل آلات الجراحة إلا في الأحوال التي تتطلب ذلك.١١ ومن خلال تقدم المصريين القدماء في فن الجراحة استطاعوا أن يزاولوا عملية «التربنة»، وقد وُجِدَت ثلاث جماجم من العصر الفرعوني بها ثقوب حواف ملساء يُحتمل أن تكون نتيجة لهذه العمليات، والتي تتوافر فيها جميع شروط العملية وكان المُصاب يُفحص بدقة خوفًا من الوقوع في الخطأ.١٢
كما تقدم الأطباء المصريون القدماء في «طب العيون»، حيث تُمثل أمراض العيون جزءًا كبيرًا من «بردية إبيرس»،١٣ وأهمها الرمد الحُبيبي والصديدي، والتهاب القُزَحية، والتهاب الأجفان، وتقرُّح القَرْنية، وانقلاب الجَفن إلى الخارج، والشعرة، ودُمَّل الجَفن، والعمَى. والعملية الوحيدة التي عُملت للعين كانت استئصال شعر الأهداب في حالة الإصابة بمرض الشعرة. أما أغلب أمراض العين فكانت تُعالَج بالقطرات والمراهم المَعْدِنية.١٤
ويذكر «هيرودوت»: «أن قورش ملك الفرس احتاج في وقت من الأوقات إلى أطباء مهَرة لعلاج عينيه، فلم يجد في مملكته، ولا فيما يجاورها، من يثق بهم، فانتدب طبيبًا خاصًّا من مصر، وبعد أن تم له الشفاء على يديه كلفه أن يُعلِّم فنَّه لأطباء الفرس فاستجاب لطلبه.»١٥
ومن مظاهر النزعة العلمية أيضًا في الطب المصري القديم «فن التحنيط»؛ حيث يُعتبر التحنيط من أبرع الفنون التي اشتُهر بها قدماء المصريين، وتُعتبر مصر صاحبة الفضل الأكبر والأول فيه، ثم أخذته عنها بعض الدول الأخرى. وكانت النظرية التي اعتمدوا عليها في التحنيط هي تجفيف الجسم حتى لا تتمكن بكتريا «العفن» من أن تنفذ إلى أنسجته مرة أخرى، فيتعفن من جديد. وككل فن جديد بدأ التحنيط عند قدماء المصريين بسيطًا، ثم تطور وتقدم على مر الزمن، حتى بلغ درجة عظيمة من الكمال. وقد عُثر على أول تحنيط ناجح منذ عهد الأسرة الثالثة للملك «زوسر» صاحب الهرم المدرج بسقارة، وقد بلغ فن التحنيط شأوًا عظيمًا من الدقة والإتقان في عصر الأسرة الحادية والعشرين، وقد ساعدتهم ممارسة التحنيط على اكتشاف محتويات الجسم ودراسة أعضائه دراسة دقيقة شاملة وعميقة، فتفوقوا في هذا الميدان على غيرهم من الشعوب التي كانت تحرق الجثث أو تدفنها بغير تحنيط.١٦

كما برع قدماء المصريين في مجالات طبية أخرى، مثل فن «التخدير»، وتجبير الأعضاء والكسور، كما عرَفوا النبض والشرايين، واهتموا بالتشريح، كما عالجوا الحروق والجروح، وتفوقوا في استخدام العقاقير، وعلاج أمراض النساء. ويطول بنا السرد لو شرحنا كلًّا من هذه المجالات على حدة، ويكفينا هذا دليلًا واضحًا يؤكد على أن الطب المصري لم يكن طبًّا قائمًا على السحر والشعوذة كما يزعم دعاة وأنصار المعجزة العلمية اليونانية.

وثمة نقطة أخرى نود أن نشير إليها، ونحن هنا بصدد عرضنا للنزعة العلمية في الطب المصري القديم، ألا وهي «طب التخصص»، فلقد ثبت من أوراق البردي أن طب التخصص كان قائمًا فعلًا، فقد وصف «هيرودوت» مصر القديمة بأنها بلد التخصص في الطب، وفي هذا يقول ما نصه: «وفن الطب موزع بينهم (أي بين المصريين) توزيعًا مبنيًّا على الحكمة، من أن كل طبيب لا يتعاطى إلا فرعًا واحدًا من فروع الطب لا أكثر، والأطباء هنا كثيرون جدًّا؛ فمنهم طبيب للعيون، ومنهم طبيب للرأس، ومنهم طبيب للأسنان (مثل هاوي Hawi)، ومنهم طبيب لأمراض البطن (مثل أيري Iry) وما يجاوره من الأعضاء، ومنهم طبيب للأمراض الداخلية، ومنهم طبيب في أمراض النساء.»١٧

يتضح لنا مما سبق أن المصريين القدماء كانوا الرواد الأوائل لعلم الطب والتشريح، ولم تكن إنجازاتهم مجرد تطبيب تجريبي عابر، أو أساطير وخرافات موروثة، وإنما كانت إنجازاتهم قائمة على قواعد علمية صحيحة، وبذلك كان لهم فضل الريادة في وضْع أصول المنهج العلمي في مجال الطب.

وإذا انتقلنا إلى الطب في وادي الرافدين — وخاصة الطب البابلي — نجد أنه تأثر تأثرًا كبيرًا بالطب المصري، وقد كان الطب البابلي — شأنه شأن الطب المصري في أول أمره — مرتبطًا بالسحر، إلا إنه لم يأخذ مساره الصحيح إلا في عصر «حمورابي» (١٧٢٨–١٦٨٦ق.م.) الذي ازدهرت في عصره المفاهيم العقلانية في الطب البابلي؛ ذلك أن علاج المرضى قد خرج إلى حدٍّ ما عن سيطرةِ الكهنة والسحرة، ونشأت مهنة منتظمة للأطباء ذات أجور وعقبات يحددها قانون حمورابي. فكان المريض الذي يستدعي طبيبًا لزيارته يعرف مُقدَّمًا كم من المال يجب أن يؤديه نظير هذا العلاج أو ذاك، ونظير هذه الجراحة أو تلك. وقد حدَّد قانون حمورابي أجور الأطباء وَفْق مرتبة المريض الاجتماعية ونوع العملية ذاتها؛ فإذا كان المريض من الطبقات الفقيرة نقص الأجر لكي يتناسب مع فقره، وإذا أخطأ الطبيب أو أساء العمل، كان عليه أن يؤدي للمريض تعويضًا، بل لقد بلغ الأمر في بعض الحالات التي يكون فيها الخطأ شنيعًا أن تُقطع أصابع الطبيب حتى لا يُمارس خدماته عقب هذا الخطأ مباشرة.١٨
واعتمد الأطباء البابليون في علاجهم على تشخيص المرضى، ووصف الدواء وطريقة استعماله وعدد مرات استعماله، وأي ساعة في النهار يُتعاطى فيها الدواء، واستعملوا أشربة كحولية وعسل النحل والألبان والزيت والشمع والماء كسِواغٍ للأدوية والمراهم، وشمل الدواء الضِّمادات والكِمادات والمراهم واللَّبخات والأمزجة والأشربة وأدوية الاستنشاق والحقن الشرجية والمَهبِلية والتدليك، وقد ابتدعوا حوالَي ٢٥٠ عَقَّارًا نباتيًّا و١٢٠ معدِنيًّا، وعرَفوا نبات المُر واستخدموه لعلاج اليَرَقان، وعرَفوا النَّعناع والسنامَكي والسَّكَران والحنظل والحِلتِيت والزعتر والزعفران والخَشخاش وعِرق السوس والعَفْص والخردل والشمر والرمان والعَوسَج والزيتون وبصل العُنصُل والقُّنَّب (الحشيش) والثُّوم والكِبريت والشَّب وأملاح النُّحاس والحديد وغيرها.١٩
واحتوت بعض اللوحات الطينية على وصف وتشخيص بعض أمراض الجمجمة والعين والجهاز التنفسي والكبد والأذن والأعضاء التناسلية والأطراف وغيرها.٢٠
تلك نظرة سريعة إلى الطب البابلي، وإذا قارناه — على حد قول «د. غليونجي» — بطب مصر نجد أن الطب المصري يتسم دائمًا بالواقعية التجريبية، في حين امتاز البابليون بحب التقسيم والترتيب والتعامل الروحاني المجرد، ولئن كان المصريون مصنِّفين؛ فإن البابليين كانوا منظمين، وقد تجاوزوا حدود العقل في التنظيم والتبويب ومتابعة التفكير الديني، ولكن الشعبين — بما فيهما من مميزات مختلفة — كانا أستاذَي العالم؛ فللبابليين الفضل في نشأة الرياضة والفلك، وللمصريين الفضل في نشأة الملاحظة المحققة والنظرة الواقعية التجريبية إلى العلوم.٢١

ثانيًا: أثر الطب المصري في الطب اليوناني

ذكرنا قبلًا أن المجتمع اليوناني القديم لم يكن مجتمعًا منغلقًا تنحصر قيمته الثقافية والحضارية أساسًا في المنطقة التي قام بها على قسم من الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، بحيث لا تتعدى هذه النقطة أن تتأثر أو تؤثر في غيرها إلا بشكل عابر أو جانبي، وإنما كان هذا المجتمع منفتحًا على غيره من المجتمعات التي سبقته إلى ازدهار النشاط الثقافي والحضاري، تلك التي ظهرت في منطقة الشرق الأدنى وبخاصة مصر، وقد دلَّلنا على صدق ذلك من خلال شهادات مؤرخي اليونان الذين يؤكدون أن معظم اليونانيين الذين اشتُهروا بعلمهم وحكمتهم زاروا مصر في العصور القديمة، حتى يتعرفوا على عاداتها وينهلوا من علومها.

ولم تكن زيارات اليونانيين القدماء إلى مصر من أجل تحصيل العلوم والفنون فقط، بل تعدَّى ذلك إلى تبادل الهجرة والسلع، حيث يذكر المؤرخون أنه في عصر الدولة الحديثة، وخاصة إبان فترة حكم «بسماتيك الأول» مؤسس الأسرة السادسة والعشرين المصرية، الذي استعان برجال أشداء من ملَّاحي اليونان للتغلب على الأمراء الاثني عشر المتعاقدين على حكم مصر، وفي عصره قد توحد على يديه المُلك واستتبَّ له الأمر، وقد عُني بأعمال التعمير والإنشاء، وعُمرت بيوت العبادة، وأُتقنت صناعة النقش وفنون الرسم والتصوير، وجمعت التماثيل بين التناسب والاعتدال، ويشتهر بأنه جلب لمصر الأجانب ورغبهم في الإقامة بها، فأكرم معظم اليونانيين وأقْطعهم أرضًا على سواحل «بحر الطينة». وحدث في ذلك الوقت أن وَفَد على مصر أقوام من «الميليزيين» في ثلاثين سفينة، فرسَوا بها على ساحل بحر رشيد، ونزلوا هناك وأسسوا معسكرًا متسعًا، وانضم إليهم أقوام من النزلاء فكثروا وتكاثروا وقويت شوكتهم، وأرسل إليهم «بسماتيك» بعض الغلمان المصريين ليعلموهم الترجمة، فكانوا عاملًا من عوامل نشاط الاتجار، وانتهى الأمر إلى أنهم أسَّسوا مدرسة في الوجه البحري لتعليم الشبان المصريين فن الترجمة، وكان يرمي بسماتيك من وراء ذلك إلى تلقين المصريين ما اشتُهر به اليونانيون من البراعة في الصناعات، ولكن لما استقر اليونانيون بأرض مصر وشاهدوا خصبها وغزارة نعم الله عليها، ولمسوا نواحي تقدمها ومدنيتها، أُولعوا بمصر وأخذوا من علومهما وأُعجبوا بديانتها؛ فتشبهوا بالمصريين في عباداتهم، وأدخلوا تشبيهات كثيرة في معتقداتهم وطقوسهم وتتلمذوا في المدارس المصرية ليتعلموا منها العلم والحكمة.٢٢
ويرى المؤرخون أنه في عهد «أحمس الثاني»، الذي خلف بسماتيك على حكم مصر، زاد نفوذ اليونانيين؛ فقد تزوج أحمس من يونانية، وقدم يد المساعدة لليونانيين، وأهدى لهم الهدايا النفيسة من التحف المصرية، وقد بلغ عدد اليونانيين حينئذ مائتي ألف، فأعطاهم مدينة «نقراطيس» (وهي الآن قرية جعيف جنوبي دمنهور بمحافظة البحيرة) وأباح لهم دينهم وتشييد المعابد والهياكل، وقال «هيرودوت»: «إنه لما اتسعت دائرة التجارة اتخذ تجار اليونان لهم وكلاء من جنسهم، وأرسلوا إلى الجهات التي تمر منها القوافل، وصار اليونانيون ينقلون كل ما يسمعونه من أخبار المصريين إلى البلاد الأخرى، مما سبب تقوية أطماع الناس حتى كثرت الوفادة عليها؛ فكان يؤمها الفلاسفة للاطلاع والمعرفة، والتُّجار لاكتناز الثروة، والجند لالتقاط الأخبار ومعرفة الأحوال.»٢٣
ولما كانت العلاقات بين مصر واليونان على هذا النحو، فيمكن القول بأن اليونانيين قد أخذوا كثيرًا من علوم الطب عن قدماء المصريين، ومما يعزز هذا الرأي تقدير اليونانيين للطب المصري؛ فقد ذكر هوميروس في «الأوديسة» «إن رجال المهن الطبية في مصر على أعلى درجة من الذكاء الذي لم يصل إليه شعب من الشعوب.»٢٤ وذكر أيضًا: «إن كل أهل مصر عالمون بفن العلاج فهم من سلالة «بيون» طبيب الآلهة.»٢٥ كذلك يذكر أيضًا هذا النص: «إيه هيلين يا بنة زيوس، إن في نبيذهم دواءً يُذهب الألم والغضب، ويُنسي الأحزان؛ دواء مما أعطته «بوليد» زوجة «ثونيس» المصري، امرأة من مصر؛ حيث تنبت الأرض أعشابًا بعضها شافٍ وبعضها خادع، بلاد حيث كل رجل فيها طبيب ذو قدرة تفوق قدرة البشر.»٢٦
وذاعت شهرة الأطباء المصريين حتى في عهد الإغريق، إلى حد أن كاتبًا إغريقيًّا اسمه «أناخرسيس» كان يَعتب على مواطنيه تفضيلهم الأطباء المصريين على أبناء وطنهم.٢٧ وإذا كان الإغريق قد اقتبسوا الكثير من المعارف الطبية المصرية، إلا إنهم توصلوا منذ القرن الخامس قبل الميلاد إلى استنباط الكثير من المعلومات بهديهم الخاص، لكنهم لم يستطيعوا أن يبلغوا آفاق العبقرية المصرية في مجال التحنيط الذي تحدى كل عوامل الزمن.
وفي الفصل الثاني من ملحمة «الإلياذة» ذكر «هوميروس» كثيرًا من المعلومات الطبية بصفة عامة، والجراحية بصفة خاصة، فمثلًا ذكر «أسكليبيوس» Asclépios الطبيب الذي يتمثل في شخصه الأصول الدينية التي انحدر منها التعليم الطبي الإغريقي، ففي عهد هوميروس وما تلاه ازدهرت تعاليم «أسكليبيوس» في كثير من المعابد في العالم اليوناني، وهي تنص على اغتسال الطهر وحضانة روحية تتجلى فيها للمريض رؤًى تُنفِّس عن مرضه، وتساعد بتعبيراتها على شفائه، وسرعان ما رُفع «أسكليبيوس» إلى مصافِّ الآلهة، كما فعل المصريون القدماء مع «إمحوتب» من قبلُ بخمسة وعشرين قرنًا.٢٨
ومع ذلك فالحضانة الروحية ليست من ابتكار الإغريق؛ لأنها طقس مارسه المصريون قديمًا، وقد اقتبسه الإغريق منهم، وكان المرضى يتضرعون إلى الآلهة التماسًا للصحة والإخصاب، وقد يغريهم الجو الدافئ أو الحار بالنوم في قاعة المعبد، وكان الكهنة يبذلون أقصى ما في وسعهم لجعل الجو ملائمًا لتحقيق الحضانة الروحية من خلال الاسترخاء والتأمل الروحي العميق، والتخلص من كل مخاوف المرض واحتمالاته الكئيبة، وفي الصباح التالي ينطلق المرضى في الحديث الصريح عن التجرِبة التي مروا بها والرؤى التي داعبتهم في تلك الليلة العجيبة التي قضوها في المعبد المقدَّس، والتي يفسرها الكهنة على سبيل التعرف على احتياجات المريض للتخلص من المرض. وبذلك يمكننا القول بأن المصريين القدماء كانوا أول من وضعوا أيديهم على إرهاصات التحليل النفسي كما عرَفته البشرية كعلمٍ قائم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد الميلاد.٢٩
وفي اليونان كانت تفاصيل طقس الحضانة الروحية تختلف من مكان لآخر، واستخدامه لشفاء الأفراد كان يتوقف على مدى قوة تأثير القائمين على علاج المرضى، فقد تطغى الخرافة عليه في بعض المعابد، وتغلب عليه الصفة العلمية في غيرها. وقد أثبت المصريون عمليًّا أن مزاولة هذا الطقس في أفضل حالاته كان أمرًا مفيدًا، بحكم أنه يهيئ الجو لكل مقومات الإيحاء، والإيحاء الذاتي، كي تُعبأ لهذا الهدف، وكان بالفعل وسيلة ناجحة لإحياء معنويات المريض وتجديد حالته النفسية. وفي اليونان كانت التجارِب التي مُورست في المعابد تكاد تكون محصورة في حقل علم النفس، وقد يشير الكهنة ببعض العقاقير، لكنهم لم يتقدموا في شيء من عمليات الجراحة أو التوليد، أو حتى الفصد أو التدليك.٣٠
ومن مظاهر تأثر اليونانيين بالمصريين في مجال الطب أيضًا تلك الرواية التي يذكرها كثير من المؤرخين والباحثين، وهي أنه عندما وقف اليونانيون على كتابات الطبيب المصري «إمحوتب» في علوم الطب، أبوا أن يصدقوا أن مثل هذا النابغة يمكن أن يكون بشرًا كسائر الناس، فألَّهوه واعتبروه ربًّا للشفاء، كما اعتبروا أماكن عبادته من الأماكن التي يحج إليها المرضى ليُكتب لهم الشفاء، وقصة «نشتاتيس» — كما يذكر المؤرخون والباحثون — خير شاهد على هذا، فقد كان نشتاتيس هذا كاهنًا في معبد «إمحوتب» وقد استطاع «إمحوتب» أن يشفي والدته من مرض مُزمن، وقد أراد «نشتاتيس» أن يعبر عن اعترافه بالجميل، فقام بترجمة بردية منسوبة إلى «إمحوتب» إلى اللغة اليونانية.٣١
ولقد شيد له مريدو «إمحوتب» — بصفته ربًّا للشفاء في العصر الإغريقي — مقصورةً فوق السطح العلوي لمعبد «حتشبسوت» في الدير البحري بجوار السِّرابيوم (أي مدينة العجل أبيس). ولا يُوجد متحف من متاحف العالم إلا وله فيه تمثال من البرونز، وهو جالس وعلى ركبتيه كتاب مفتوح، وشبَّهوه بالمعبود الإغريقي «أسكليبيوس» راعي الطب والحكمة، ومجَّدوه لمهارته في الطب والأدب، فضلًا عن استخدامه الحجر المنحوت في البناء.٣٢
وفي سنة ٣٢٣ق.م. جلس ملوك البطالمة على عرش مصر، وقد حاولوا، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، أن يظهروا أمام المصريين كفراعنة، وتعبَّدوا للآلهة المصرية، وكان «توت» المصري واحدًا من هذه الآلهة، وقد عبدوه تحت اسم «هرمس» الإله الإغريقي، وبالتالي فقد عبدوا «إمحوتب» كصورة من صور «توت هرمس». ثم سرعان ما أدخلوا إلههم «أسكليبيوس» رب الطب إلى مصر، وتكوَّن في النهاية معبود مصري بطلمي يبلور في عقيدة الناس الهيمنة على العلوم والمعارف وهو «توت» و«إمحوتب» و«هرمس» و«أسكليبيوس».٣٣
ومن مظاهر تأثُّر اليونانيين بالطب المصري أيضًا، ما أكَّدته كثير من الروايات والنصوص على أن تعليمَ الطب عند المصريين، كان يُعد سرًّا لا يُفشى إلا لمن أقسموا اليمين، فقد روى المؤرخ اليوناني «سترابون» أن الكهنة أخفَوا عن «أفلاطون» و«إيودوكسوس» الجزء الأكبر من عِلْمهم، حتى بعد أن أمضيا ثلاث عشرة سنة. ومن مظاهر السرية التي أحاطت بتعليم الطب عند المصريين تأثر الإغريق بذلك. فهناك فقرة جاءت في «قسَم أبقراط» الذي كان يُقسم به كل من رغب في مزاولة الطب، وقد حار فيها المفسرون كما يقول «د. غليونجي» وهي: «وأشرك أولادي وأولاد المعلم لي والتلاميذ الذين كُتب عليهم الشرط، وحلفوا ذلك.» وتبدو هذه السرية كأنها من رواسب قرون سبقت أبقراط، وربما كانت من آثار الطقوس الفيثاغورية والأورفية وغيرها المستمدة من المذاهب السرية، ونحن نعلم ما يَدين به فيثاغورس وغيره من فلاسفة الإغريق للمصريين.٣٤
وعقد «د. غليونجي» مقارنة بين الطب المصري والطب اليوناني، في مقالة له بعنوان «أثر قدامى المصريين في الطب اليوناني» وذلك من خلال بعض نواحيهما وهي: فنُّ العقاقير، وأسماء أجزاء الجسم، والأوصاف الإكلينيكية، وتسمية الأمراض، والطرائق الجراحية، واختبارات الحمل والولادة، وأسلوب الكتابة والآراء الطبية. وهذه المقارنة يعقدها من خلال أوجه الشبه وليس من خلال أوجه الاختلاف، وهو يوضح هذا فيذكر مثلًا عن العقاقير هذا المثال فيقول: «ولنضرب مثلًا لعقاقير غريبة وردت في الطبَّين (المصري واليوناني) فإن «بردية إبيرس» ما تفتأ توحي باستعمال الصفرة لعلاج العينين، وقد قدم أحد الأطباء المعاصرين وهو «دوسن» Dowson حججًا قوية على أنهم قصدوا صفرة الخنزير، وقد نصح «ديوسقوريدس» باستعمال المادة نفسها في بعض الأمراض، وعزا «بلينوس» تلك الوصفة إلى «ميلتوس»، ولكن «دوسن» يرجح أنها استُمدت من بردية مصرية، وتلك الوصفة شبيهة للعلاج الذي أعاد البصر إلى «طوبيا» حسب رواية التوراة.»٣٥
والوصفة الثانية من تلك الوصفات الغريبة هي استعمال لبن المرأة التي أنجبت طفلًا ذكرًا، وهذا العلاج يتكرر في أقراباذين المصريين القدامى، حتى إنه لَيبْدو أساسًا من أُسس علاجهم؛ إما للإفادة من خواصه الذاتية، وإما لإذابة عقاقير أخرى، وهذا العلاج أوصى به أيضًا «أبقراط» ومن بعده «ديوسقوريدس» و«بلينوس»، وفسر «أرسطو» فوائده التي تميزه عن غيره من الألبان فقال: إن السيدة التي تحمل ذكرًا أقوى بدون شكٍّ من السيدة التي تحمل أنثى؛ ولذا فلا بد من أن يكون لبنها أكثر فائدة، وتلك الوصفة أصيلة في مصر، انفردت بها دون غيرها من شعوب الشرق، إذ إن اللبن في نظر الآشوريين والبابليين كان مادة ضارة.٣٦
كما يعطينا «غليونجي» بيانًا لأسماء العقاقير المتشابهة في اللغتين (المصرية واليونانية)؛ فمثلًا: عقَّار «الأنتموان» كان المصريون يسمونه «مسدمت»، وعند الإغريق يُسمَّى «ستيمي». أيضًا عقَّار «الصمغ»؛ كان المصريون يسمونه «قميت»، في حين كان الإغريق يسمونه «كومي». وأيضًا عقَّار «النطرون» كان المصريون يسمونه «نتري»، في حين كان اليونانيون يسمونه «نترون» … إلخ.٣٧
وأيضًا هناك تشابه في أسماء بعض الأعضاء والأمراض، فقد سمى الإغريق حدقة العين «كوري» أي الشابة، وسماها المصريون «شابة العينين»، وهذه التسمية لها نظير في اللاتينية وهو Pupila والإسبانية وهو Nine de les jos (صبية العينين). كما أنه يشابه الاسم الذي أطلقه العرب على الحدقة وهو «إنسان العين» أي إن الاستعارة المصرية نقلها الإغريق ثم اللاتين والعرب والإسبان في لغتهم. وهناك لفظ آخر متشابه في اللغتين، فإن النظرة الروحانية إلى المرض التي عمَّت بين بعض المصريين كانت تنسب المرض إلى أرواح شريرة على رأسها كبير سموه «النامي»، وهذا هو الذي سماه الإغريق Diabolos ومعناها كذلك «النامي» وقد اشتَقَّت منها الإنجليزية devil والفرنسية Diable والإيطالية Diavolo.
ولكن التشابه — كما يرى «غليونجي» — لم يقف عند مجرد الاقتباس اللفظي، ويعطينا مثلًا من وسائل العلاج الجراحية: وردت في كتابات «أبقراط» التحريكات التي يجب إجراؤها لرد خلع الفك: «يثبت المساعد رأس الجريح ويمسك الفك الأسفل من الداخل والخارج بالقرب من الذقن بالأصابع، ثم ينقل فجأة … إلخ» وهي ترجمة لفظية لما ورد في «بردية إدوين سميث»، وقد رُسِمَت في مؤلَّف للطبيب القبرصي «أبولونيوس» عن طريق أبقراط.٣٨
وعن أمراض النساء، فقد وصفت «بردية كاهون»٣٩ وغيرها اضطرابات وآلامًا في العينين والأعضاء ومختلف أجزاء الجسم، عزَتها إلى حالات مرضية في الرحم أو إلى انتقال هذا العضو من محله الطبيعي، وجاء الوصف ذاته في الكتاب الثاني من مؤلف «أبقراط» عن أمراض النساء، ومن تلك الاضطرابات مرض عصبي. وقد يكون من المناسب أن نذكر في هذا الصدد أن لفظ «هستريا» مشتق من «هستر» وهو الرحم في لغة الإغريق.٤٠
أما علاج تلك الأمراض فقد ورد في «بردية إبيرس» علاج لانبساط عنق الرحم، وهو مرض وصفه أيضًا «أبقراط». ويذكرنا هذا بمرض آخر غريب اشترك الشعبان في وصفه، وهو اتساع حدقة العين التي سبق أن ذكرنا تشابه اسمها المصري واسمها الإغريقي، فقد عُنيت «بردية إبيرس» بوصف علاج له، ويبدو لنا وصف علاج لمثل تلك الحالة عجيبًا، ولكن اليونان اعتبروا هذا الاتساع مرضًا، والأرجح أنهم لاحظوا اتساع الحدقة عند فقدان البصر، فظنوه سبب تلك العاهة.٤١
ثم يقارن «غليونجي» بين المنهج اللغوي الذي نهجه المصريون واليونانيون في الكتابات الطبية، فأكد أن التبادل كان مطَّردًا نشيطًا في المنهج اللغوي الذي نهجوه في الكتابات الطبية، إذ إن تعزيمة من «بردية لندن»،٤٢ كان يُشترط فيها أن تتلى بلغة كريت.
ويستطرد «غليونجي» فيقول: «وقد أظهر أحد الأطباء المعاصرين وهو «دوماس» أن تعبيرات وأساليب لغوية تكررت في الكتابات المصرية تلازم العودة في الكتابات الأبقراطية، فإن عبارات مثل «دواء آخر» و«ألوفار ماكون» بالمعنى ذاته، والعبارة التي كثيرًا ما تتكرر في الهوامش «دواء ناجع»، والتوصية بترك الدواء معرَّضًا لندَى الليل، كلها مشتركة بين الطِّبَّين المصري واليوناني.»٤٣
ثم يؤكد الدكتور غليونجي، من خلال مقارنته بين الطب المصري والطب اليوناني، أن الطبَّ المصري كان له الفضل الأكبر والأعظم على أبقراط، وأنه ليس صحيحًا ما زعمه بعض الغربيين؛ حيث أرادوا إدخال الشك في قيمة الطب المصري، وفي الفائدة التي جناها منه أمثال «أبقراط»، فبدءوا بالقول بأن «أبقراط» لم يحضر إلى مصر أبدًا، وأن الروايات عن زياراته مشكوك في صحتها؛ لأنها روايات متأخرة قرونًا عديدة بعد وفاته، ثم أضافوا أنه لم يكن على علم باللغة المصرية ولا بالهيروغليفية، فكيف تأتَّى له أن يتصل بالكهنة ويتعرف على أسرارهم؟! وانتهوا إلى القول بأن علوم المصريين كانت مزيجًا من الشعوذة والسحر والطب البُدائي، ولم يكن به غَناء لأبقراط وأمثاله.٤٤
ويفند «غليونجي» تلك المزاعم، وذلك من خلال استشهاده بما قاله العالم الفرنسي «فرانسوا دوما» بأن أبقراط تعلَّم في مصر، وقد برهن هذا العالم على صدق قوله، بأنْ أظهرَ أولًا أن أول كاتب تحدَّث عن زيارة «أبقراط» لمصر كان معاصرًا له، ثم إن علوم المصريين لم تكن على ما وصفها هؤلاء، فإنها كانت متقدمة جدًّا، وإن كنا نجهل الكثير منها لقلة المستندات التي وصلتنا عنها. ثم أتى بالبرهان على وجود تبادلٍ لغوي وكلمات مشتركة، وذكر، لتدعيم هذا، وجود مترجمين (تراجمة) في المعابد والعواصم من الإغريق والمصريين يُلمون كل الإلمام باللغتين، ليساعدوا التجار والمسافرين الزوار والسياح في معاملاتهم مع المصريين.٤٥

مما سبق يتضح أن الطب المصري كان المنهل الذي روى ظمأ الطب والأطباء الإغريق، ولا يعني هذا أننا ننتقِص من قيمة الطب الإغريقي بالبحث عن أصول له، ولكن كل نهر له منابع، وأكبر الأنهار وأجملها أكثرها روافدَ وأصولًا؛ ولذا فإن الهدف من تلك المقارنات إنما هو تأكيد وحدة الحضارة التي ازدانت بها شواطئ البحر الأبيض المتوسط منذ فجر التاريخ، والتي نشأت في مصر، ثم تناولها الإغريق فوصلت إلى قمتها عندما اجتمع المنطق اليوناني والواقعية المصرية، فظهرت معجزة الإسكندرية التي كانت البوتقة التي انصهرت فيها أصول الطب والتشريح عند قدماء المصريين مع اجتهادات اليونانيين القادمين مع الانتشار الهيليني شرقًا وغربًا، فأصبحت القاعدة التي انطلقت منها كل العبقريات والنظريات التي فتحت أبواب الكشوف الطبية والتشريحية أمام العلم أجمع عبر العصور التي تلت عصر الإسكندرية الذهبي؛ الذي وإن كان قد انتهى ماديًّا وجغرافيًّا وتاريخيًّا، فإنه لم ينته فكريًّا وعلميًّا وحضاريًّا، إذ إنه تحول إلى عصارة حيوية تسري في عروق الحضارة الإنسانية عبر العصور.

ثالثًا: إرهاصات النظريات الطبية عند قدماء المصريين

إذا كان الطب الفرعوني قد حاول على مدى العصور التي سبقت عهد الأسرات أن يتحرَّر من شرنقة السحر والتفكير اللاهوتي، ليتحول إلى فراشة العلم التجريبي؛ فهل يعني هذا أنه يمكن لنا أن نلتمس نظريات طبية عند قدماء المصريين؟

الحقيقة أنه ينبغي أن نشير، بادئ ذي بدءٍ، أن بعض العلماء قد أجابوا على هذا السؤال بالسلب مدلِّلين على ذلك بأن قدماء المصريين قد كانوا في كتاباتهم بعيدين عن النظريات الفلسفية بقَدْر ما كان الإغريق مشغوفين بها، ويرجع هذا إلى نزعتهم التجريبية في ميدان العلوم التي نأت بهم، من جهةٍ ما، عن التعقل المجرد الذي اتصف به الإغريق، والتي منعتهم، من جهةٍ أخرى، من الوقوع في الروحانية التصوفية التي اتسم بها الآسيويون، وإن كانوا قد تعمَّقوا في العبادة ونسجوا حول أساطير آلهتهم روايات لا نهاية لها، ولربما كانت تلك النزعة الواقعية التي تبدو جليًّا في الصور التي رسموها لآلهتهم، إذ وصفوهم بكل مميزات بني آدم، فاضلة كانت أم مرذولة، هي السبب في مجابهتهم للمسائل بطريقة عملية، الأمر الذي مكَّنهم من تحقيق أكثر أحلامهم طموحًا، فشيدوا الأهرامات، وروَوا الصحارِي، وحفروا القنوات بين النيل والبحار، وقادوا جيوشهم إلى حدود العالم المجهول؛ ولذا كان من غير المجدي البحث في مخطوطاتهم عن أبواب أُفردَت لنظرياتٍ منظمةٍ دقيقة أو لشروح مفصَّلة، على نقيض كتب الإغريق الطبية التي تزخر بالتأملات والاستنتاجات المنطقية إلى درجة تكييف الملاحظات لتلائم نظرياتهم الفلسفية.٤٦

غير أن هذه النظرة تنطوي على جانب كبير من التحيُّز والبعد عن الموضوعية، فلم تكن إنجازات قدماء المصريين مجرد طب تجريبي يعتمد على مجابهة المسائل بطريقة عملية فقط، وما العلم سوى محاولة الإنسان حلَّ مُعضلةٍ بطريقة منهجية وَفقًا لترتيب أو خطة سابقة، وهذا هو ما فعله المصريون القدماء؛ وبذلك كان لهم سبق الريادة في وضع أصول المنهج العلمي، فهم لم يبدءوا العلم فحسب، بل قطعوا شوطًا بعيدًا في الطريق الذي ما زال البشر يسيرون فيه، وليس من الغريب أن تضيع هذه الوثائق والبرديات؛ لأنها لم تكن تُحفظ في المقابر، بل استعملها الأحياء حتى زالوا وزالت معهم من الوجود، وربما كان هذا هو السبب في المفهوم الذي ساد العالم الغربي على مر القرون، والذي ينادي بأن العلم عامة هو اختراع إغريقي. وعندما بدأت الحضارة المصرية تكشف عن وجهها العلمي المبهر في أعقاب اكتشاف «شامبليون» لحجر رشيد، أصرَّ علماء الغرب على أن معارف المصريين ربما كانت علمًا، غير أنه ليس علمًا صِرفًا؛ أي إن تطبيق العلم على العمل ليس علمًا في نظرهم، فالعلم الصِّرف والبحث عندهم هو الذي يتعامل مع قوانين عامة، وليس مع حالات خاصة، وكأن الإنسان ابتكر العلم كهدفٍ في حد ذاته، وليس كوسيلة للارتقاء بحياته من خلال التطبيقات المتعددة، وهل كان من الممكن للمصريين القدماء أن يقوموا بكل هذه التطبيقات العلمية دون دراية بالقوانين والمعادلات والمعايير العلمية التي تهديهم سواء السبيل؟! هل يمكن لحضارة علمية مثل الحضارة المصرية أن تنهض على مجرد صدفة محضة أو تجارِب عابرة أو خبرات طارئة أو خرافات ساذجة؟!

وقد أكد «برستيد» هذه الحقيقة عندما قال في ختام بحثه الرائد حول بردية «إدوين سميث» الطبية: «إن الحقيقة تؤكد أن الرجلين — أي الجراح الأصلي مؤلف هذا الكتاب، وخليفته الذي كتب التعليقات الجامعة للشرح القديم — كِلَيْهما عاش في النصف الأول من الألف الثالثة قبل الميلاد، وهما أول المعروفين من العلماء الطبيعيين، وهما أيضًا أول رجلين نستطيع أن نراهما وجهًا لوجه أمام كثير من الظواهر التي أمكن ملاحظتها في ميدان التطور البشري المديد، فقاما بجمعها وتسجيلها على أنها نتائج استقرائية استخلصاها من حقائق ملحوظة في سبيل إنقاذ المريض في بعض الأحيان، وفي سبيل الفائدة العلمية الخالصة أحيانًا.»٤٧
إن الفصل بين العلم البحت والعلم التطبيقي أمر مُفتعل ومُقحم على جوهر العلم ذاته، فهما وجهان لعملة واحدة هي التقدم الحضاري العلمي، فليس هناك علم خالص وعلم غير ذلك، فمثلًا أدت أحوال الحياة المصرية وتيارات حضاراتها المتدفقة إلى حل المصريين لمسائل فنية كثيرة، وأدت هذه الحلول والكشوف إلى خلق وعي علمي امتد إلى ما وراء الحل الذي تطلبته حالات معينة، ولا يعني هذا سوى أن تطور العلم المصري كان أساسًا لتطور العلم بصفة عامة، فقد كانت العلاقة الجدلية المتبادلة بين النظرية والتطبيق مطوِّرة للنظرية ومفيدة للتطبيق في آنٍ واحد، وهذا أمر بديهي ليس في حاجة إلى مزيد من الجدل والنقاش.٤٨
وبالتالي فإننا نقول إن هناك إرهاصات لنظريات طبية عند قدماء المصريين، يمكن تلمُّسها من خلال تمييزهم، في نظرتهم إلى المرض، بين نوعين منه وهما: الأمراض الخارجية والأمراض الداخلية؛ حيث اعتبروا أن لكل مرض سببًا، وأن الجسم يُولَد جسمًا صحيحًا ولا يمرض أو يموت إلا بفعل فاعل دخَل عليه، ولفظ «دخيل» هذا يستعملونه بمعناه الحرفي، حيث يقصدون به تسللًا ماديًّا إلى داخل الجسم، وقد يكون هذا الدخيل ظاهرًا للعين، كالجروح والحروق والسموم والإفراط في الأكل … إلخ، وفي هذه الحال يسهل عليهم معرفة علته والتخلص منها بالطرق الملائمة. أما إذا كان الدخيل خفيًّا، ساروا وَفق افتراضاتهم المستمدة من نظرتهم إلى الحياة، كما سار من جاء بعدهم قبل نشأة علمَي الميكروبات والكيمياء الحيوية.٤٩

وسبيلنا الآن عرض أسباب الأمراض الخارجية والداخلية، والتي من خلالها يتسنى لنا فهم ملامح النظريات الخارجية عند قدماء المصريين.

الأسباب الخارجية للأمراض

(١) الهواء

يذكر «غليونجي» أن الهواء أولى العلل التي افترضها قدماء المصريين للأمراض، وقد ذكره في عبارات عدة بمعانٍ مختلفة أتى في كل منها بمعنًى، بحيث كان يحمل مدلولات شتى تشمل: الريح، والزفير، والنفث؛ أي القوى التي تنبثق مع النفَس، وهذا التعبير نفسه هو الذي أدى إلى تسمية مرض الملاريا بهذا الاسم، إذ إن هذه اللفظة Malaria معناها «الهواء الفاسد» بعد أن لوحظ انتشار هذه الآفة بالقرب من المستنقعات الراكدة حيث يفسد الهواء.٥٠

والمعنى الأول — أي الريح — نجده في عبارة: «إبعاد ريح طاعون السنة» التي وردت على ظهر بردية إدوين سميث، وهذا يوحي بأنهم فطنوا إلى أثر الهواء في نشر الأوبئة، وأنهم سبقوا — ولو في تواضع — مؤلف أبقراط عن الأهوية.

والمعنى الثاني قريب من الأول، وهو يوحي بوجود جوهر مرضي في الهواء المحيط بنا، هذا المعنى نجده في العبارة الآتية التي وردت في كتاب الجروح ببردية إدوين سميث: «إن لحم المريض التقط هواء» وإذا رجعنا إلى لغتنا الشعبية وجدنا أننا نقول: إن فلانًا أصابته «لفحة هواء» أو «استهوى» أو «أخذ هواء»، ونحجب الجروح «لئلا تشم الهواء»، ونعتقد أن «البطيخ إذا ما شم الهواء فسد» … إلخ.٥١
أما المعنى الثالث، فهو أقل واقعية من المعنيين الأولين، بل إنه ملوَّن بالطب الروحاني، ونجده في الوصفات التي ترمي إلى: «إبعاد روح شخص حي أو ميت أو ميتة أو عدو أو عدوة أو إله أو إلهة» ولا مراء في أن المقصود هنا النفس، وهذا تعبير روحاني لا يؤدي معنى العدوى بجراثيم النفَس، فإن النفَس في نظر الشعب حامل الروح، وفقدانه هو الموت، وكان أول طقس من طقوس التحنيط وإعادة الحياة إلى الميت في ديانة المصريين، هو طقس سُمِّي فتح الفم. والسحر يؤمن بقدرة النفث على إلحاق الضر، فقد جاء في كلام الله: قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (سورة الفلق). وإننا ما نزال نقول عمن يقع ضحية عمل سحري إنه «اتنفس».٥٢
وينتهي «غليونجي» إلى أنه لا شك في أن تلك التعبيرات — مع أنها مؤسسة على السحر — تحتوي على عناصر تجريبية، ربما أتت نتيجة لملاحظة واقعية، فإن الريح تحمل الأمراض لسخونتها أو برودتها أو رطوبتها، أو لفعل الجراثيم والحشرات التي قد تحملها. كما أن نفَس المرضى ينقل بعض الأمراض المُعْدية، وأن تعرُّض الجروح أو الأغذية للهواء يؤدي إلى تلوثها بالجراثيم.٥٣

(٢) عيوب التغذية

والمجموعة الثانية من الأسباب التي تؤدي إلى الأمراض التي ذكروها ترجع إلى عيوب التغذية؛ أي إما إلى عدم صلاحيتها، وإما إلى الإفراط فيها. ومن الأمثلة التي ذكروها عن الشطط في التغذية: «أكل الجميز غير الناضج، واللحم المتعفن، واللحم الذي زاد طهوه، وشرب الجِعَة الساخنة، والشرب مع أكل نوع من السمك.» أما احتساء الخمر فله أوصاف تصويرية جميلة: «إنك تجري من حانة إلى أخرى ورائحة الجِعَة تفوح من فمك، إن الجِعَة تسيطر على الروح فيصبح المرء كالمجداف المكسور لا يمتثل إلى أمر، وكمُصلٍّ بدون إله، وكبيت دون خبر.»٥٤
وفي وصف تأثير الخمر يؤكد «غليونجي» أن إحدى البرديات المصرية قالت: «من ملأ نفسه بالنبيذ أقعده ألم الشَّعر في مضجعه.» ومن الطريف أن الصداع الناجم عن احتساء الخمر يوصف أيضًا بالفرنسية بألم في الشعر.٥٥
ولا شك في أن الإفراط في الأكل والشرب كان شائعًا بين الأثرياء من المصريين، فقد وردت نصيحة في بردية «إبيرس» بوجوب اجتناب الأكل قبل عودة الشهية، وهي تذكِّرنا بما قاله النبي : «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع.» وعنه أيضًا: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه.»٥٦
ومما يؤكد أنهم كانوا يَعزُون علة كثير من الأمراض إلى الإكثار في الأكل، أو إلى تعفُّن الأطعمة في الأمعاء، أن «هيرودوت» ومِن بعده «ديودور الصقلي» رويا أن المصريين اعتادوا تناول المسهلات والمقيئات ثلاثة أيام متوالية من كل شهر، كما أن ذكر الملينات والحقن الشرجية واللبوسات يتكرر في أغلب وصفاتهم.٥٧

(٣) الغائط

كان قدماء المصريين يعدون الغائط سببًا مهمًّا من مسببات الأمراض، ويبدو أنه كان في نظرهم يسبب المرض، إما بانتقاله إلى غير مقره، وإما بتعفنه؛ حيث يذكر «غليونجي» أنهم كانوا يؤمنون بمبدأ يَعُدُّونه من المبادئ الأساسية لعلم الأمراض، وهو أن المواد أو السوائل التي تُعَد طبيعية في مقرها، تصبح سامة إذا انتقلت إلى أنسجة أخرى. وهناك نصوص كثيرة في البرديات المصرية القديمة التي اكتُشفت تؤكد أن المرض حدث نتيجة لانتقال الغائط من الأمعاء عن طريق الأوعية.٥٨
ولكن فكرة الغائط أوسع من أن تنحصر في المواد البرازية فحسب، فإن الغائط عند الإغريق كان ينتج عن هضم الأغذية Pepsis، ولم يكن التعفن في نظرهم إلا خطوة في تلك العملية، فإذا ما اجتاز حدوده الطبيعية تحولت مادة الغائط إلى مواد غير طبيعية قد تسبِّب المرض، وهي شبيهة بالتي سماها «جالينوس» «بريتوما Perittoma».٥٩
وقد ظن المصريون أيضًا أنها في تلك الحال قد تتحول داخل البطن إلى «ديدان» أو تسري في الأوعية فتتسرب عن طريقها إلى الأنسجة وتترسَّب فيها، فتتحول إلى خُراج أو ورم أو قرحة. وهناك لفظة حارَ اللغويون في تحديد معناها، وإن اتفقوا على أنها تؤدي إجمالًا معنى المادة المرضية أو الخلط المرضي، وهي لفظة «أخدو»، وهذا «الأخدو» كان مركزه — حسب البرديات — في الأمعاء، كما كان يصح أن يسري في الجسم فيسبب فيه شتى الأمراض في جميع أجزائه، فتظهر ظواهره في الأوعية والرأس والفم والأسنان وتجويف الصدر والقلب والبطن والشرج والأورام والقروح والخراريج. أما نشأة «الأخدو» فإن بعضًا من مفكري قدماء المصريين كانوا ينسبونه إلى التعفن المعوي.٦٠

تلك هي إذن المسببات المرئية للأمراض غير الجراحية التي وردت في البرديات المصرية القديمة؛ وهي خلل الهواء، والتغذية، والديدان.

(ب) المسببات غير المرئية للأمراض

لم يهتم قدماء المصريين بالأسباب الخارجية للأمراض فقط، بل اهتموا أيضًا بالأمراض الداخلية، وبالتالي كانت الأمراض الخارجية والأمراض الداخلية تمثل موضوعين من موضوعات علم الأمراض لديهم، شأنها في ذلك شأن الالتهابات والأورام، أو الأمراض العضوية والأمراض النفسية في الطب الحديث، فكان الطبيب إذا ما اقتنع بأن مرضًا ما ليس من الأمراض العضوية، أحال المريض على زميله المتخصص في الأمراض الداخلية، كما يحيل الطبيب الباطني اليوم مَن به التهاب في الزائدة الدودية إلى الجرَّاح. وقد وردت أمثلة عدة لهذا التمييز، مثل رواية أميرة «بختان» التي أرسل إليها رمسيس عالِمًا من علماء مصر لعيادتها؛ فقال هذا العالم: «إني لا أقدر على هذا المرض، استنجدوا بمن هو أقوى مني، الإله «خونسو» إنه أقوى مني.» وقد فعلوا فشُفيت الأميرة. فلا يدهشنا إذن أن نرى بعض الأطباء، وقد حملوا ألقابًا تجمع بين الطبيب والكاهن مثل «تي عنخ رع» الذي كان مفتش الأطباء وكاهن الإلهة «سخمت».٦١
ومما يدل على أن قدماء المصريين لم يهملوا الأسباب النفسية للمرض، ما جاء في البرديات من وصف الحزن والحنين إلى الوطن والحب في قصائد هي أبلغ ما تكون شاعرية. لنُصْغِ إلى ما قيل عن مرض «ساتني خامويس»: «تدثر بثيابه واضطجع وهو لا يرى له مستقرًّا، فوضعت زوجته يدها تحت ثيابه وقالت: يا أخي، ليس بك حمَّى، وأعضاؤك مرنة، إنه حزن في قلبك.»٦٢
ولندع المغترب يصف تشوقه إلى العودة إلى دياره: «ألا ترى الطيور المهاجرة تعود أدراجها إلى مصر؟ إلى متى سأظل نائيًا عنها؟» وهاكم وصفًا آخر: «ليرضى عني «بتاح» فيعود بي إلى منف … ضعفت عيناي …» وهناك صورة قاتمة لليأس من الحياة: «إن الموت أمامي كالصحة للعليل … كرائحة اللوتس … كالحنين إلى داري بعد الأيام التي قضيتها في المعتقل.»٦٣
أما المحبون فإنهم يسخرون من الطب والأطباء: «إن قدوم المحبوبة أنجع من الدواء وأجدى من الموسوعات الطبية.» أو «سأعتكف بالدار وسوف يدخل علي الجيران للزيارة، ومعهم من أحبها، وسيُزري سحرُها بنَطْس الأطباء؛ لأنها هي التي تعرف دائي.»٦٤
إلا إنهم لم يكتفوا بتفسير الأمراض العصبية بالعوامل النفسية أو الروحانية، فقد جاء في «بردية كاهون» وصف ظواهر عصبية من تلك التي ننسبها إلى الهستريا، نسبوها هم إلى اضطرابات الرحم أو انتقاله من موضعه. نجد هنا أيضًا ما يذكرنا بالإغريق؛ إذ إن كلمة هستريا مشتقة من «هستر» وهو الاسم الإغريقي للرحم.٦٥

تلك هي المظاهر الأساسية التي تدل على أن المصريين القدماء كانت لديهم إرهاصات لنظريات طبية، وأنه ليس صحيحًا ما يزعمه بعض الغربيين من أن الطب المصري القديم طب تجريبي عملي خالٍ من النظريات الطبية.

١  جوزيف جارلند: قصة الطب، دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ، ص٣.
٢  دي بورج: تراث العالم القديم، ﺟ١، ص٣٦.
٣  س. م. بورا: التجرِبة اليونانية، ص٢٥٠-٢٥١.
٤  تشارلس سنجر: الطب اليوناني، ضمن كتاب ما خلفه اليونان، ص٣٠٢.
٥  بردية إدوين سميث، هي أشهر كتب الطب المصرية ويرجع تاريخها إلى سنة ١٥٥٠ق.م.، وقد اشتراها إدوين سميث (١٨٢٢–١٩٠٦م) عام ١٨٦٢م من مدينة الأَقصر، وقد ظلت تفاصيل محتوياتها مجهولة حتى نشرها وترجم نصوصها العالم الأمريكي «هنري برستيد» سنة ١٩٢٢م، كما قام الأستاذ الدكتور محمد حسين كامل بنقل هذه البردية إلى اللغة العربية، واعتبرها نقطة تحول بين فن العلاج وفن الطب، وكان طول هذه البردية في الأصل نحو ثمانية أمتار لم يبقَ منها إلا ٤.٥٨ وتحتوي على ٤٦٩ سطرًا.
٦  بول غليونجي: الطب في مصر القديمة، دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ، ص٧٢.
٧  بول غليونجي: طب عصر الفراعنة، مقال منشور ضمن كتابه «قطوف من تاريخ الطب»، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٦م، ص٦٣.
٨  بول غليونجي: الطب في مصر القديمة، ص٧٣.
٩  بول غليونجي: طب عصر الفراعنة، ص٦٤.
١٠  نفس المرجع، ص٦٤.
١١  د. شوكت الشطي: تاريخ الطب وطبقات الأطباء، دمشق، ١٩٥٩م، ص٥١.
١٢  نفس المرجع، ص٥٢-٥٣.
١٣  بردية إبيرس، وقد عُثر عليها في الأَقصر سنة ١٨٦٢م، وحصل عليها العالم الأثري الألماني جورج إبيرس «١٨٣٧–١٨٩٨م» من إدوين سميث ثم نشرها سنة ١٨٧٥م، وتُعتبر بردية إبيرس من أطول البرديات، فهي تحتوي على ٨٧٧ وصفة طبية لأنواع متعددة من الأمراض أو أعراضها.
١٤  د. مصطفى محمود سليمان: تاريخ العلوم والتكنولوجيا في العصور القديمة والوسيطة، ص٢٢٢.
١٥  د. كامل وهيب: هيرودوت في مصر، القاهرة، ١٩٤٦م، ص١٩-٢٠.
١٦  زكي إسكندر: التحنيط في مصر القديمة، القاهرة، ١٩٧٣م، ص١٠–١٣.
١٧  د. كامل وهيب: نفس المرجع، ص٢٥.
١٨  وِل ديورانت: قصة الحضارة، المجلد الأول، الجزء الثاني «الشرق الأدنى»، ترجمة د. محمد بدران، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، بدون تاريخ، ص٢٥٢-٢٥٣.
١٩  د. مصطفى محمود سليمان: نفس المرجع، ص٢٢٨.
٢٠  نفس المرجع، ص٢٢٩.
٢١  بول غليونجي: طب بابل، مقال منشور ضمن كتابه «قطوف من تاريخ الطب»، ص٥٧.
٢٢  د. عبد العزيز صالح وآخرون: موسوعة تاريخ مصر عبر العصور «تاريخ مصر القديمة»، ص٣٢٩–٣٣٤.
٢٣  نفس المرجع، ص٣٣٩–٣٤١.
٢٤  هوميروس: الأوديسة، ترجمة دريني خشبة، مؤسسة أخبار اليوم، القاهرة، ١٩٩٠م، ص٥٣.
٢٥  المصدر السابق، ص٥٣.
٢٦  المصدر السابق، ص١٢٨.
٢٧  بول غليونجي: الطب في عصر الفراعنة، ص٦٤.
٢٨  هوميروس: الإلياذة، ص٢٩.
٢٩  د. نبيل راغب: عصر الإسكندرية الذهبي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة ١٩٩٣م، ص١٦٩.
٣٠  نفس المرجع، ص١٧٠.
٣١  د. شادية توفيق حافظ: السُّريان وتاريخ الطب، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٣م، ص٧٥.
٣٢  بول غليونجي: الطب في مصر القديمة، ص٤٥.
٣٣  د. مصطفى النشار: مدرسة الإسكندرية بين التراث الشرقي والفلسفة اليونانية، دار المعارف، القاهرة، ١٩٩٥م، ص٢١.
٣٤  بول غليونجي: أثر قدامى المصريين في الطب اليوناني، مقال منشور ضمن كتابه «قطوف من تاريخ الطب»، ص١٥٤.
٣٥  نفس المرجع، ص١٥٦.
٣٦  نفس المرجع، ص١٦٠.
٣٧  نفس المرجع، ص١٦٠.
٣٨  نفس المرجع، ص١٦١-١٦٢.
٣٩  بردية كاهون: هي من أقدم اللفائف الموجودة، ويرجع تاريخها إلى السنة ١٩٠٠ق.م.، وقد اكتُشفت في مدينة اللاهون بالفيوم في أبريل ١٨٨٩م، وهي مكونة من ثلاث صفحات، وقد اكتشفها سير فلاندرز بتري.
٤٠  بول غليونجي: نفس المرجع ص١٦٠-١٦١.
٤١  نفس المرجع، ص١٦١.
٤٢  بردية لندن، يرجع تاريخها إلى النصف الثاني من الأسرة الثامنة عشرة، وهي توجد بالمتحف البريطاني في لندن تحت رقم ١٠٠٥.
٤٣  بول غليونجي، نفس المرجع، ص١٦١.
٤٤  نفس المرجع، ص١٦٣.
٤٥  نفس المرجع، ١٦٤.
٤٦  بول غليونجي: هل لقدماء المصريين نظريات في الطب، مقال منشور ضمن كتابه «قطوف من تاريخ الطب»، ص١٢٧.
٤٧  Breasted: The Edwin Smith Papyrus, Chicago University Press, U.S.A., 1930, p. 130.
٤٨  Ibid., p. 131.
٤٩  Henary Smith Williams, M.D., LL.d.: A History of Science, vol. I, Harper and Brothers Publishers, New York, pp. 18–21.
٥٠  بول غليونجي: هل كانت لقدماء المصريين نظريات في الطب، ص١٢٨-١٢٩.
٥١  نفس المرجع، ص١٢٩.
٥٢  نفس المرجع، ص١٢٩.
٥٣  نفس المرجع، ص١٣٠.
٥٤  نفس المرجع، ص١٣٠.
٥٥  نفس المرجع، ص١٣٠.
٥٦  نفس المرجع، ص١٣٠.
٥٧  نفس المرجع، ص١٣١.
٥٨  نفس المرجع، ص١٣١.
٥٩  نفس المرجع، ص١٣٢.
٦٠  نفس المرجع، ص١٣٢.
٦١  نفس المرجع، ص١٣٣.
٦٢  نفس المرجع، ص١٣٧.
٦٣  نفس المرجع، ص١٣٨.
٦٤  نفس المرجع، ص١٣٨.
٦٥  نفس المرجع، ص١٣٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤