الصُّورَةُ الممزَّقَةُ

كنتُ غارقة في النَّوم، رأيت أبي جالسًا في الصَّالة يقرأ، رفع عينيه إليَّ واندهش قليلًا. نوال؟! متى جئتِ؟ كيف كان الحفل؟ تساءلْتُ في دهشة: أي حفل؟ قال: حفل نقابة الأطباء. عادت ذاكرتي في الحُلم أربعين عامًا إلى الوراء، قلت لنفسي: هل يذكر هذه الليلة؟! إنَّها الليلة التي مات فيها، الخميس ١٩ فبراير ١٩٥٩، أراه جالسًا في الصَّالة يُحدِّثني وأعرف أنَّه ميِّت. انتهى القرن العشرون أصبحنا في القرن الواحد والعشرين والألفية الثالثة، الرقم ٢٠٠٠ إلى جوار تاريخ اليوم يبدو غريبًا، ياه، سنة ٢٠٠٠؟! لم أكن أعرف أنني سأعيش حتى القرن الواحد والعشرين، كأنَّما أختلس من الزَّمن قرنًا جديدًا وأعود طفلة في السَّابعة من العمر أتذكر طفولتي. تبدو أقرب مما كانت، وكانت تبدو بعيدة في الماضي، كان الأمس يبدو كأنَّه العام الماضي أو القرن الماضي، ثم تَغيَّر الزَّمن مع التَّقدُّم في العمر، أصبح القرن الماضي كأنَّه الأمس، أرى وجه أبي الميت قريبًا، أكاد ألمسه بأطراف أصابعي رغم مرور نصف قرن، أكاد أسمع وقع قدميه على البلاط في الصَّالة، في المرآة يُطالعني وجهه كأنَّما لم يَغِب أبدًا. يقول لي شريف: إن الحزن على فراق أبي لم يفارقني. ربما هو يعرف حقيقتي أكثر مني، ربما كان حبي لأبي أكبر حب في حياتي، لا يفوقه إلا حبي لأمي، قلبي يَنُوء بحبها بعد أن فرَّقنا الموت، أيكون الفراق هو شرط الحب؟!

أفقْتُ من النَّوم على جرس التِّلفون، صوت سامية يقول: أنتِ نائمة والمظاهرات مشتعلة في جامعة الأزهر، وقد أذاعوا اسمك ضمن من أهدروا دماءهم من الأدباء، صوتها يأتيني كأنَّما في الحُلم، ألم يُهدروا دمي من قبل؟! ماذا تقولين يا لطيفة؟! أنا لست لطيفة يا نوال، أنا سامية، لطيفة ماتت من ثلاث سنين.

أفقت من النَّوم، النتيجة فوق الحائط مكتوب عليها التَّاريخ بخطٍّ واضح، ٩ مايو عام ٢٠٠٠، سمَّاعة التِّليفون لا تزال في يدي، صوت سامية يسري إلى أذني، وهي تقول: الشَّيخ في الجامع اللي جنب بيتنا عمل خطبة في الجمعة عليكي يا نوال، قال: إنَّ كتبك كلها كفر في كفر، والجماعات الإسلامية حركوا الطلبة في الأزهر عشان يعملوا مظاهرات ضد رواية نشرتها وزارة الثقافة، بيقولوا فيها كلام ضد القرآن، والطلبة في الأزهر هتفوا ضد وزير الثقافة وضد السَّيِّد الرَّئيس، يعني المسألة مش رواية، المسألة النظام كله، والطلبة غلابة مش عارفين حاجة، بيروحوا في الرِّجْلِين! وأنت يا نوال يُمكن يعملوك كَبْش فداء. الشَّيخ في الجامع كان بيحرَّض النَّاس ضدك، لكن تعرفي إيه اللي حصل؟ أخويا كان في الجامع بيصلي معاهم، قال لي: النَّاس خرجوا من الجامع بعد الصلاة وراحوا المكتبات يشتروا كتبك! قلت بصوت أبي الميت: رُبَّ ضارَّةٍ نافعة يا سامية. تنهدت بصوت حزين وقالت: يمكن اشتروها عشان يحرقوها مش عشان يقروها.

– يحرقوها يحرقوها، يا سامية!

– خسارة الكتب تنحرق يا نوال.

– الحريق يأكل الورق وليس الكتب يا سامية!

– الكتب مصنوعة من الورق ولا إيه؟

– أيوه في القرن الماضي، لكن إحنا في القرن الواحد والعشرين، يا سامية، والكتب أصبحت غير قابلة للحرق، تعبر القارَّات عبر الأثير دون الحاجة إلى ورق أو مطبعة.

– ممكن يحرقوا الكمبيوتر.

– الكتب ليست في الكمبيوتر.

– أمال فين يا نوال؟

– في اللوح المحفوظ من مادة غير قابلة للحرق.

– واللوح المحفوظ ده فين؟

– في السماء يا سامية.

– عند ربنا؟! (ضحكة قصيرة مكتومة تنمُّ عن عدم الإيمان في الطفولة، والإيمان في الكهولة).

– لأ يا سامية.

– أمَّال فين يعني؟

– اللوح المحفوظ ده اسمه «الديسك» من مادة صلبة قوية، وفيه ملايين النسخ، بلايين النسخ، تنتشر في الكون زي الفيروسات في الجو وتتكاثر عبر الإنترنت والويب، والقوى الإلكترونية المعروفة والمجهولة.

– وإيه القوة المجهولة؟

– فيه حاجة جديدة اسمها الكوارك أصغر من الإلكترون ويحمل طاقة أكبر، فيه قوى مجهولة داخل الذرة، وداخل خلية المخ، لا زال المخ مجهولًا يا سامية، مخ الإنسان، والخلية الحية والجينوم والذرة والكواكب والشمس والقمر والنجوم، لكن أهم حاجة إن الكتب لم تعُدْ قابلة للحرق!

•••

كانت جدتي آمنة والدة أمي ترمقني بغضب وأنا في السَّابعة من عمري، تقول عني إنَّنِي لا أطيع مثل البنات في عائلة شكري بيه. كلما كانت جدتي تقول شيئًا غير مقنع أسألها ليه؟ تلسعني بالعصا الخيزران وتصرخ: مش عاوزة أسمع منك كلمة ليه دي أبدًا يا بنت … فاهمة؟!

لم أكن أبكي كما تبكي البنات، أدق الأرض بقدمي بغضب، وأقول ليه تضربيني؟! يشتد غضب جدتي حين تراني أدق الأرض بقدمي، وحين تسمعني أُردِّد كلمة ليه، أكثر ما يغضبها أنَّها لا ترى في عيني أي دموع، إنَّها جدتي زوجة شكري بيه مدير القرعة العسكرية عاشت مقهورة وماتت مقهورة حبيسة البيت كالقصر وقبر من الرُّخام، لم يكن لها أن تُنَفِّسَ عن غضبها المكتوم إلا بلسع الأطفال بالعصا الخيزران، لم أعرف في طفولتي ماذا كان يغضبها، حتى همست أمي في أذني بالثالوث المقدس، الرب والأب والزَّوج، كنت أراها ترمق السماء بغضب وتقول: يا رب! لم تكن تنطق الكلمة الثَّانية ولا الثالثة، وسألت أمي: ليه مش بتنطق جدي، وضعت أمي يدها على فمي وقالت: اسكتي.

في الليل أصحو مختنقة بالدموع الحبيسة، تتجمع في حلقي كالغصة، أسمع شخير جدتي وهي غارقة في النَّوم، ملامحها تبدو مستسلمة بلا حول ولا قوة. في النهار تبدو قوية قاسية أتمنى موتها، في النَّوم تبدو ضعيفة مستسلمة، أكره قوَّتها بمثل ما أكره ضعفها، أود ألا تصحو وتموت وهي نائمة. أعود إلى النَّوم وأحلم أن جدي هو الذي مات، أكره جدي أكثر من جدتي، أدعو الله أن يأخذَه، أراه في الحلم نائمًا يشخر، أود أن أُطْبِق أصابعي حول عنقه. أنتفض من نومي مذعورة، أنهض من السَّرير وأمشي على أطراف أصابعي، أجلس في الفرندة الواسعة، أتذكر أن جدي مات منذ سنوات، الذي ترقد إلى جواري في السَّرير هي خالتي فهيمة، وهي التي أسمعها تشخر في الليل، وهي التي أريد أن أُطْبِق على عنقها بأصابعي.

في ضوء مصباح الشَّارع كتبت في مفكرتي السِّريَّة: حين تراودني فكرة القتل أُمْسِك القلم وأكتب، أرى كلماتي فوق السُّطور تنتفض، لولا الكتابة لأمسكت السَّاطور وقتلتها أو قتلت نفسي.

بيت المرحوم جدي، ضاحية الزيتون، ١٩ أبريل ١٩٤٥

بعد ستة وثلاثين عامًا من هذا اليوم، وجدت نفسي داخل زنزانة في سجن النِّساء بالقناطر، كانت لي مفكرة سرية أخبئها تحت الأرض كما كنت أفعل في بيت جدي وأنا في الرابعةَ عشرةَ من عمري، يدي ترتعش بالغضب وأنا أكتب هذه الفقرة في مذكرات السِّجن: تتطلب الكتابة شجاعة مثل القتل، لو لم تعرف أصابعي القلم ربما عرفت الفأس أو الساطور، يدها، فتحية القاتلة، حين أمسكت الفأس وقتلت زوجها، تشبه يدي وهي تُمسك القلم، لا شيء في حياتي أثمن من القلم، الكتابة تتطلَّب شجاعة مثل القتل وأكثر.

سجن النِّساء بالقناطر، ١٤ نوفمبر ١٩٨١

كنت جالسة أكتب تلك الليلة من شتاء عام ١٩٦٠، حين دخل زوجي إلى غرفتي. أمامي فوق المكتب تراكمت الأوراق، رواية طويلة سهرت عليها طوال الليالي والشُّهور والسنين، كانت تنمو في أحشائي كالجنين، أحوطها بذراعي، أهدهدها في سكون الليل، رأسي يسقط وينام فوقها وأنا جالسة، أهبط معها إلى بطن الأرض حيث الصمت داخل الصمت.

كانت الرِّوَاية تأخذني إلى عالم آخر، أنسى فيه نفسي وابنتي وإخوتي وأقرب النَّاس من دمي ولحمي، فما بال رجل ليس من دمي ولا لحمي ولا يربطني به شيء، إلا ورقة زواج.

حين اقتحم غرفتي فجأة لم أتعرف على ملامحه، هذا الوجه الأبيض السمين المتورِّد لم يكن يجذبني في الرِّجَال، هذا الجسم المربع الممتلئ باللحم ينفرني في النِّساء فما باله بالرِّجَال، والعينان ليس فيهما ما أبحث عنه، والأنف ليست له الارتفاعة التي أحبها، والصوت ليست فيه النبرة التي تجذب أذني، كل شيء فيه ليس ما أريد في الرجل، فما بال أن يكون زوجي؟!

لا بد أنَّها امرأة أخرى تقمَّصت جسمي واسمي وذهبت معه إلى مكتب المأذون ووقعت العقد، امرأة غيري ساخرة عابثة لا تؤمن بالحب، ترتدي معطف الأطباء دون أن تؤمنَ بالطِّبِّ، تكره الرِّجَال والأمراض ورائحة المستشفيات، لم تدخل كلية الطِّب إلا من أجل أبيها الميت وأمها الميتة، تكره الزَّواج منذ الطفولة، لم تتزوَّج للمرَّة الثَّانية إلا لتمسح من ذاكرتها المرة الأولى.

كان زوجها الأول فدائيًّا، مات بعد أن عاد من الحرب، لم يبقَ منه إلا خيال رجل، وهذا الخيال أيضًا راح وسقط في العدم. قبل الزَّواج بدأت رواية طويلة. بعد الزَّواج كفَّت عن الكتابة، رقدت الأوراق فوق مكتبها مثل جثة هامدة.

كل ليلة حين أنام أظن أنَّنِي لن أصحو، في الصَّباح تعود إليَّ ذاكرتي مع ضوء الشَّمس، أرتدي ملابس الخروج، أحمل حقيبتي الجلدية السَّوداء الَّتي تُشبه حقائب الأطباء، أتذكَّر أنَّني تخرَّجت في كلية الطِّب وأصبحت طبيبة. السَّاعة فوق معصمي تُشير إلى الثَّامنة، أسرع الخَطْو في الطَّريق إلى المستشفى، أتوقَّف لحظة ألتقط أنفاسي، أتذكَّر أنَّني تزوَّجت ولي طفلة تحتاج إلى كوب لبن وزوج يحتاج فخذ دجاجة محمَّرة.

ذاكرتي مثل جبل الثلج تحت الماء، لا أكاد أعرف الزَّوج الأوَّل من الثَّاني، كلاهما كان يُحب فخذ الدجاجة المحمرة. صديقتي بطة تكركر بالضَّحك وتقول: حين ينطفئ النُّور يتساوى جميع الرِّجَال. تعترض صفية وتقول: لا يفرق بين الرَّجل والرجل إلا الحب. لم تكن سامية تؤمن بالحب، تقول عنه رومانتيكية طفولية، الحب وهم كبير يا نوال، الحب قبل الزَّواج يفسده، والحب بعد الزَّواج ينتهي بالطَّلاق، تزوَّجيه يا نوال لأنك لا تحبينه، لا يصلح للزواج إلا رجل لا يخفق له قلبك، على الأقل حين يخونك مع واحدة ثانية لا تشعرين بالألم!

وامتلأت عيناها بدموع محبوسة، كانت تنتفض بالغضب، صوتها يتقطع وأنفاسها تلهث: تصوَّري يا نوال … تكرر هذه العبارة مع اللهاث: تصوَّري!

– أتصور إيه يا سامية؟

– شيء لا يمكن أصدِّقه!

– إيه يا سامية؟

– تصوري يا نوال …

صوتها يختنق تكفُّ عن الكلام، تنشج بصوت مكتوم، أنفاسها تتقطَّع مع كلماتها، تصوري يا نوال … مش قادرة أتصور يا نوال … تصوري رفاعة جوزي، الرجل المثالي صاحب المبادئ، الرجل اللي دخل السُّجون عشان المبادئ، تصوري رفاعة … هل ممكن حد يصدق أن رفاعة يعمل كده؟! من يوم ما مسكوه ودخل السِّجن وأنا زي النَّحلة رايحة جاية عشان يطلَّعوه.

– عمل إيه رفاعة يا سامية؟

– تصوري إنَّه له علاقة بواحدة تانية!

– وعرفتِ إزاي؟

– وقع في إيدي جواب كتبه لها باين مسكوه قبل ما يبعت لها الجواب.

– مجرد جواب يا سامية.

– رسالة حب يا نوال!

– مجرد حب عذري حب طاهر رومانتيكي.

– رفاعة رجل مادي جدلي ماركسي لا يمكن يؤمن بالكلام الفارغ ده!

حين سمعت بطة القصة أطلقت ضحكتها الساخرة وقالت: كل الرِّجَالة خائنين يا سامية يمين ويسار ووسط، وكل النِّساء خائنات، بنات حواء أو بنات مريم العذراء، الفرق الوحيد بينهم أن الرجل خيانته مكشوفة، لكن المرأة بير من جوه بير. والعلاج الوحيد إنك تخونيه زي ما خانك، وربنا قال العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم. وكمان من حظك السعيد أنه محبوس في السِّجن! ترددت صفية في التعليق، أطرقت قليلًا تفكر، ثم رفعت إلينا وجهها شاحبًا وقالت: الطَّلاق عندي أحسن من الخيانة؛ لأنك يا سامية حتخوني نفسك مش أي حد تاني.

صوت صفية كان يرتعش قليلًا، وهذا الشحوب بدا غريبًا، أتعيش صفية المأساة نفسها؟! لم تكن صفية مثل سامية وبطة، تميل أكثر إلى الكتمان. كان في شتاء عام ١٩٦٠، وكان لا بد من مرور أربعين عامًا حتى أسمع صفية تقول: خلاص يا نوال أنا قررت الانفصال عن مصطفى.

•••

كنت أقول لنفسي لا يمكن أتزوَّج دون حب، كيف يجمعني فراش واحد مع رجل لا أحبه، وتسألني بطة: وليه مش بتحبيه يا نوال، رجل محترم من رجال القانون مركزه مرموق وعنده عربية وشقة وفلوس وواقع في غرامك لشوشته، ليه ترفضيه؟ عيبه إيه يا نوال؟

هذا السؤال «عيبه إيه» ظل يحيرني نصف قرن، كنت أسمعه من أبي وأمي وجدتي وخالاتي وعماتي، عيبه إيه العريس يا نوال؟ سؤال لم أعرف جوابه، وبطة تلح في السؤال.

– مش عاوزة تتجوزيه ليه؟

– مش عارفة.

– عيبه إيه؟!

– يمكن …

– يمكن إيه؟!

– عينيه …

– ما لها عينيه؟!

– مطفية.

– حاتعملي بعينيه إيه في الجواز يا نوال؟!

تكركر بطَّة بضحكتها المتقطعة، شهقاتها ترنُّ في أذني مثل هواء محبوسٍ يندفع من عنق زجاجة ضيق، ضحكتها مُعْدِية، أضحك رغم الثقل في القلب، رغم أنني لا أحبه سأتزوجه، رغم انطفاءة عينيه، رغم أنني أكره رجال القانون، يصبُّهم القانون في قالب واحد كالأسمنت. السؤال يدور في رأسي، لماذا أتزوجه وأنا لا أريد أن أتزوجه؟ قوة في السماء أو الأرض تدفعني إلى الزَّواج رغم إرادتي؟! قوة غامضة كالوهم، كضغط الهواء الجوي، قوة إلهية أو شيطانية تدفعني إليه رغم أنفي وأنا في كامل الوعي.

تلك الليلة من شتاء عام ١٩٦٠ تأخرت في العيادة، جلست إلى مكتبي بعد أن انتهيت من آخر مريض، وضعت رأسي بين يدي الاثنتين وسقطت في ما يشبه النَّوم، هذه الحالة المتأرجحة بين النَّوم واليقظة، اللحظة التي يغيب فيها العقل الواعي، تختفي الأنا العليا تحت سطح البحر، يبرز رأس جبل الثلج من تحت الماء، يرمقني مثل عين في السماء، عين مفتوحة لا يطرف لها جفن، ساهرة طوال الليل لا تنام. أمسك القلم وأكتب كلماتي فوق الورق متقطعة أنفاسي ألهث، ذؤابة ضوء يضربها الهواء تكشف عن الشيء المتخفي في الظلام، لا ينتمي إلى طقوس اللغة أو الكتابة، يتمرَّد على كل ما هو مألوف، يخلق من حوله اضطرابًا وقلقًا وتشكيكًا في كل ما درجْتُ على الإيمان به، يفرض عليَّ القطيعة مع مفردات اللغة، والاستغناء عن الثواب والعقاب، يدفعني نحو المجهول خارج المفهوم.

أفقت على صوت سامية، كانت تمر عليَّ بالعيادة حين تشتد بها الأزمة، زوجها رفاعة في السِّجن مع أسعد شقيق صفيَّة. منذ الأحداث الأخيرة في العراق امتلأت السُّجون بكل من رأى أنَّ الوحدة الفيدرالية مع العراق أفضل من الاندماج الكامل، كان جمال عبد النَّاصر يرى أنَّ الوحدة الاندماجية أفضل، دخل السُّجون كل المعارضين في الرأي. جاءت سامية وراحت تشرح لي الفرق بين الوحدة الفيدرالية والوحدة الاندماجية. كان لصوتها نبرة خطابية تؤلم الأذن، إن ارتفع صوتها أو انخفض تظل هذه النبرة المؤلمة، إن فرحت أو ضحكت يظل لصوتها رنين متشائم يوشك على البكاء. منذ المدرسة الثانوية كانت صديقتي، يجذبني إليها اختلافها عن بطة وصفية وبقية الزميلات، وجهها النَّحيل الشَّاحب دون مساحيق، شفتاها الرَّفيعتان المزمومتان بقوة غير أنثوية، أحاديثها عن ماركس والفرق بين الدياليكتيكية المادية وغير المادية، ولينين وعبد الناصر. تغيرت سامية قليلًا قبل زواجها من رفاعة أيام الحب، بدأت تكحِّل عينيها قليلًا، تضفي على خديها وشفتيها شيئًا من اللون الأحمر الشاحب، لم تتغير نبرة صوتها بل زادت حدَّة. وتواصل حديثها، أستمع إليها ورأسي بين يدي الاثنتين: تفتكري عبد الناصر مخلص للبلد يا نوال؟ الوحدة العربية فشلت بانفصال سوريا عن مصر، والدِّيموقراطيَّة فشلت بدخول المعارضين السُّجون، والاشتراكية فشلت، لا فيه تنمية ولا فيه تذويب الفوارق بين الطبقات، والأموال اللي عادت لمصر بعد تأميم قناة السويس وتأميم الشَّركات كلها راحت في جيوب الطبقة الجديدة من ضباط الجيش وأعوانهم، لا يمكن عبد النَّاصر يكون مخلص للبلد يا نوال!

يزداد صوتها تشاؤمًا حين تنتقل من حديثها عن عبد الناصر إلى زوجها رفاعة.

– تفتكري رفاعة مخلص يا نوال؟

كنت منشغلة بسؤال آخر يدور في رأسي، لماذا أتزوج رجلًا لا أحبه؟

– هل عبد النَّاصر مخلص يا نوال؟ هل رفاعة مخلص؟ هل الإخلاص الزَّوجي منفصل عن الإخلاص الوطني؟

– إيه اللي يجبرني يا سامية إني أتجوز رجلًا لا أحبه؟ أهي خيانة له أم خيانة لنفسي؟

– المناخ العام الفاسد يؤدي إلى حياة خاصة فاسدة.

– الفساد في الحياة السِّياسيَّة والثقافية والاقتصادية يؤدي إلى فساد في الحب والجنس؟! خيانة النفس هي خيانة الآخر.

– يا خسارة يا نوال، كان بيني وبين رفاعة حب جميل قبل ما نتجوز، المشكلة في مؤسسة الزَّواج يا نوال؟

– المشكلة في النِّظام كله يا سامية.

– عشان كده الراجل منهم ممكن يكون يخون مراته، والواحدة فينا ممكن تكذب على نفسها وتقول لجوزها أنا باحبك وهي مش طايقة تشوفه، أو تقوله أنت الرجل الوحيد في حياتي وهو مش الوحيد!

أطبقت شفتي في وجوم، تذكرت أنني قلت لزوجي الأول إنه أول حب في حياتي مع أنه كان الحب الثَّاني، وسوف أقول لزوجي الثَّاني إنني أحبه مع أنني لا أحبه، قوًى غيبية تدفعني إلى الكذب، تختفي وراء سحابة في السماء، أو ربما هو عام ١٩٦٠ عام الهزيمة الصغرى، كما كان صديقي رجاء الشاعر يقول. تنبأ بوقوع هزيمة ١٩٦٧ قبل أن تقع بسبعة أعوام، وفي إحدى الندوات الأدبية بالعيادة ألقى قصيدة مطلعها هذه الأبيات:

كل شيء من حولنا ينبئ بالهزيمة،
السُّحب في السَّماء ووجوه الرِّجَال العسكرية،
لا أمل في هذه الطبقة الجديدة ولا في كتابة الشعر،
الكلية الحربية لا تخرِّج إلا الجهلاء،
إن أصبحوا هم الوزراء
فليس أمامَنا إلا الموت أو السِّجن
أو المنفى خارجَ البلاد.

قوة تشبه اليأس أو الهزيمة تدفعني إلى الموت أو الزَّواج، كان العريس صالحًا في نظر الجميع، حتى أم إبراهيم أصبحت تلح عليَّ كل يوم: إتجوزيه يا ضكطورة ده الجواز سُترة وعشان تجيبي للمحروسة بنتك أخ أو أخت. وفي حفل الزَّواج الصَّغير همست صفية في أذني: نظره سليم ستة على ستة ومش لابس نظارة نظر زي جوزي. وكركرت بطة بضحكتها وقالت: عينيه مطفية أحسن يا نوال عشان ما يشوفش حاجة! ومطَّت سامية شفتيها في امتعاض، الواقع يا أخواتي أنَّ الإخلاص انتهى من الوجود!

•••

لم يكن يتركني أكتب داخل غرفتي، لا يكف عن فتح الباب والدخول، يحاول قراءة ما أكتب، لا شيء يجهض الرِّوَاية قبل أن تكتمل إلا العين الغريبة، لا أحد يقرأ ما أكتب داخل غرفة بابها مغلق. لا أحب النور الكهربي الشديد الإضاءة، يكفيني الضوء المتسرب من المصباح في الشَّارع، أو لمبة صغيرة يسمونها سهَّارة، أو لمبة جاز حين تنقطع الكهرباء. يكفيني أن أرى حروفي فوق الورق، ويغرق بقية المكان في الظلمة. تنمو الرِّوَاية في خيالي كالظِّلال المتحركة في الأركان، تبدأ ذاكرتي تصحو حين ينام الكون. أجلس في الظُّلمة ساكنة داخل الصَّمْت، لا تصحو ذاكرتي إلا بعد ساعتين أو ثلاث ساعات أنسَى فيها مشوِّشات النَّهار. أنزع قشرة المخ، الأنا العليا والكذب، أشدها بأصابعي مثل خصلة شعر أو قطعة من فروة الرَّأس، أحسها تحت يدي مثل الندبة، أو الجرح القديم المفتوح، يلتئم في الظلمة مع مرور الزمن داخل السكون. تبدأ ذاكرتي تصحو، يتحرك القلم فوق الورق، يندفع وحده فوق السطور، صوت في أعماقي كالوحي تمليه الكلمات، تتدقق الرِّوَاية كمياه النهر الهادئ، يصبح شلالًا الساعة بعد الساعة، ينتفض القلم بين أصابعي، يسري في ذراعي تيار ساخن يصعد إلى رأسي ويهبط إلى القدمين، شحنات من الدم تتدفق إلى جسدي كالمصابة بالحمى، أنتفض وأنا جالسة في مقعدي وراء المكتب.

لم يكن يتركني لأكمل الكتابة، كأنما الرِّوَاية جنين في أحشائي من صلب رجل آخر يريد إجهاضها، يفتح الباب ويدخل، إن وجد الباب مغلقًا يدقه بقبضة يده، يفتح الراديو بأعلى صوت، يطرقع بالقبقاب فوق بلاط الحمام، يجلس في الصالة ويتحدث في التليفون بصوت يصل إلى الجيران، أو يتحدث مع الزوار في غرفة الاستقبال ويقهقه بصوت يرجُّ الجدران.

كانت أمه تزورنا كثيرًا، أسمع صوتهما من وراء الباب المغلق، يشكو لها مني: «اتجوزت يا ماما واحدة مجنونة، تصحى في نص الليل تكتب.»

تمصمص الأم شفتيها في حسرة، «معلهش يا ابني كل شيء قسمة ونصيب، وأنت اللي اخترتها، والكتابة مافيهاش ضرر، أحسن ما تخرج زي النسوان التانية في الشوارع وتصرف الفلوس على مافيش، كان لازمك يا ابني واحدة تانية مكسورة العين تكون بين إيديك وتحت رجليك، لكن خلاص أهي بقت مراتك، يمكن ربنا يهديها لما تولد، ربنا يرزقك بابن يقولك يا بابا، ويقول لي يا نينة، ياما نفسي أعيش وأشوف ابنك يا رب يا كريم، وأهي حامل في شهرين.»

– حامل في شهرين؟!

ترن الكلمات في أذني وأنا منكفئة أكتب، أرفع رأسي من فوق المكتب، أتلفَّت حولي كمن تصحو من الحُلم، أو كمن تسقط في النَّوم، صوت يتحدث عن امرأة حامل في شهرين، صوت غريب لم أسمعه من قبل، والمرأة الحامل أيضًا لا أعرفها، ليست هي أنا بالتأكيد، إن كانت هي أنا فالأمر شديد الخطورة، كارثة! كيف يحدث الحمل دون حب ودون زواج، دون أن أفقد العذريَّة؟!

ربما هو حلم، منذ الطفولة يراودني هذا الحلم، في السابعة من عمري كنت أتحسس بطني تحت الغطاء، أخشى أن يرتفع بالحمل. كانت البنات في المدرسة يتهامسن بكلمة لا أفهمها، الحمل السِّفاح، تشرحها لي البنات دون جدوى، الشَّيْطان إبليس هو وراء الحمل السِّفاح، قبل أن أنام أسد شقوق النافذة بالصُّحف القديمة حتى لا يتسلل منها إبليس، صديقتي القبطية إيزيس لم تكن تسد شقوق نافذتها، كانت تؤمن بالحمل المقدس، وليس الحمل السِّفاح، تشرح لي الفرق بينهما، ستنا مريم العذراء، تسلل إليها مندوب الله في الليل وحملت بسيدنا المسيح، هذا هو الحمل المقدس، أتحسس تحت الغطاء ارتفاعة بطني، كنت في السابعة من عمري أنشد المثالية في كل شيء حتى الحمل.

– حامل في شهرين؟!

الصوت الغريب يخرق أذني مثل رصاصة، أنتفض في مقعدي وراء المكتب، يسقط القلم من يدي، أرفع وجهي من فوق الأوراق، أرى أمامي امرأة عجوزًا تلف رأسها بطرحة سوداء، بشرتها بيضاء ووجهها سمين مستدير، عيناها صغيرتان غائرتان في اللحم، ترمقني بنظرة الحدأة، نظرة فاحصة مدققة تهبط إلى بطني تخترق جدار الرحم، تستكشف الجنين في أحشائي، تفتح فخذيه تبحث عن عضو الذكر، تريد التأكيد أنه طبق الأصل من صلب أبيه وليس من صلب رجل آخر.

منذ تزوجت كان الغثيان يصيبني كلَّ صباح، أغلق الباب وأُفرغ معدتي في الحوض. في طفولتي سمعت جدتي تقول: إنَّ الزَّواج يصد النفس عن الأكل، وقالت أمي: إنه الحمل وليس الزَّواج، عرفت أنَّ الحمل يعني انقطاع الدَّم.

حملت في الزَّواج الأول وأنجبت طفلة جميلة، كانت ابنة الحب وليس الزَّواج، لم أكن أُومِن إلا بالحب، تصورت أنَّ الزَّواج بدون حب ينتج عنه أطفال مشوهون. أتحسس بطني وأنا جالسة وراء المكتب، في أحشائي حمل غير مقدس، جنين مصنوع من الكذب، نطقت كلمة «أحبك» لرجل لا أحبه، يقاسمني الفراش تحت اسم الزَّواج، بشرته بيضاء، وجهه سمين ممتلئ مثل أمه وأنا أحب الوجوه النحيفة الرشيقة، قامته قصيرة، جسمه مربع مكتنز باللحم وأنا أحب القامة الطويلة الممشوقة، يداه صغيرتان بيضاوان ناعمتان خجولتان، أصابعهما قصيرة مضمومة، وأنا أحب اليد الكبيرة الشُّجاعة المفتوحة.

كل صباح أفتش عن قطرة حمراء في ملابسي أو فوق الملاءة، أفتح عيني كل يوم أبحث عن نقطة دم، تظل الملاءة نظيفة بيضاء ناصعة البياض، يصدمني اللون الأبيض، يذكرني بالموت والمرض والكفن الحريري ومعاطف الأطباء والأسرَّة البيضاء ورائحة المستشفى.

بدأت أرى في الحُلم مُلاءة حمراء بالدم، منذ طفولتي كرهت دم الحيض، ويسألونك عن الحيض قل هو أذًى، ولا تقربوا النِّساء حتى يطهرن. كان الغثيان يصيبني منذ الطفولة حين أرى بقعة الدم في ملابسي أو فوق الملاءة، أصبحت أنشدها في النَّوم واليقظة، أحلم بها، أستحضرها، أشدها من براثن القضاء والقدر، أضرب بطني بقبضة يدي، أقفز من فوق السور في الشرفة، كنا نسكن في الدور الأول في بيت أبيض كبير من دورين، لم يكن ارتفاع الشرفة كافيًا لإسقاط الجنين، إنه جنين شرس يتشبث بجدار الرحم كالقملة تلتصق بجلدة الرَّأس، جنين مكتنز الوجه عيناه صغيرتان غائرتان في اللحم مثل أبيه وأم أبيه.

حاولت طرد الجنين الغريب من جسدي، ابتلعت حبوبًا سامة لأقتله داخل الرحم، حقنت نفسي بعقاقير الإجهاض، قفزت من الشرفة فانكسرت ذراعي اليمنى دون أن يسقط الجنين. أخذتني بطة بسيارتها البويك إلى مستشفى قصر العيني، أصبح زوجها الدُّكتور حمدي رئيس أحد أقسام الأمراض الباطنية، صورة الأشعة كشفت عن كسر في عظمة «الريدياس»، علق الدُّكتور حمدي ذراعي في عنقي برباط من الشاش. أخذتني بطة إلى قسم الجراحة لعمل جبيرة من الجبس حول ذراعي، سرت إلى جوارها في الممر الطويل، النوافذ الكبيرة المطلة على النيل، وجوه الممرضات الشاحبة، وجوه المرضى والمريضات الأكثر شحوبًا، وجوه الأطباء ممتلئة باللحم رغم الشحوب، تعرَّفت على بعض الأساتذة وزملاء الدراسة، توقف أحدهم وهتف: مش معقول؟ دراعك ما له يا نوال؟

تذكرت صوته الناعم الرقيق، حين كان يقول عن الطالبات الآنسات الكوارير «القوارير» يقلب القاف إلى كاف كنوع من الرقة. إزيك يا ست بطة، وإزي الدُّكتور حمدي، إيه الحكاية يا نوال دراعك فيه إيه؟

كنت في حالة من الإعياء، الألم والحزن وغثيان الحمل غير المقدس. ثلاث سنوات مضت منذ جاء إلى بيتنا يطلب يدي من أبي، كان يومًا حارًّا مليئًا بالغبار، وكانت أمي في فراش المرض. في غرفة الصالون جلس مع أبي يتحدثان في السِّياسة. كانت له سيارة شيفروليه زرقاء طويلة، يرتدي بدلة بيضاء لامعة من الشاركسكن، شعره لامع، حذاؤه لامع، الدبوس في الكرافتة لامع، الفص اللامع في الخاتم حول إصبعه، النظارة الزجاجية تلمع فوق عينيه، كل شيء فيه يلمع، لا شيء فيه منطفئ إلا العينان.

كان يرمقني من تحت النظارة بنظرة فاحصة، يرمق ذراعي المعلق في عنقي برباط الشاش، لا بد أن وجهي كان شاحبًا؛ لأنه قال: إنتي عيانة ولَّا إيه يا نوال؟ تطوعتْ بطة بالرد نيابة عني، عندها كسر في الريدياس يا دكتور رشاد.

– ورايحين على فين يا بطة؟ تعالوا معايا ع القسم لازم دراعك يتجبس يا نوال؟

كان ذلك منذ أربعين عامًا، التقيت بالدُّكتور رشاد عدة مرات أخرى، في اجتماع بوزارة الصِّحَّة، أو نقابة الأطباء، أصبح له منصب كبير في الجامعة وفي الدَّوْلة وفي المجلس الأعلى للبحوث الطبية. يرمقني من تحت النظارة بنظرة مخلبية. كان من أعوان عبد الناصر، ثم أصبح من أعوان السادات. حين دخلْتُ السِّجن عام ١٩٨١ قال لصديقتي بطة: نوال تستاهل السِّجن عشان تبطل كتابة! وفي عام ١٩٩٣ حين عرف أنني أعيش في المنفى خارج مصر قال لصديقتي بطة: تستاهل عشان الكلام اللي كتبته ضد حرب الخليج! ده كلام فارغ!

منذ عامين سألتْه إحدى الصُّحفيات في حوار طويل نُشر في جريدة كبرى، سألتْه عن رأيه في كتابات بعض النِّساء، سهير القلماوي وأمينة السعيد ولطيفة الزيات وغيرهن. قال إنهن نساء عظيمات تستحق كل منهن ما حصلت عليه من جوائز. ثم سألته الصَّحفيَّة: وما رأيك في كتابات نوال السعداوي؟ وجاء رده: كتاباتها تستهين بالقيم الإسلامية والتَّقاليد الشَّرقية، نحن هنا في الشَّرق نؤمن بالروحانيات لكن القيم في الغرب مادية وإباحيَّة، وهي تكتب للغرب.

لم أقرأ هذا الحوار في الجريدة، لكن بطة قرأت لي هذه الفقرة عبر الأسلاك، ثم قالت: الدُّكتور رشاد لم يغفر لك أنك رفضتِه، الرجل لا ينسى المرأة التي رفضتْه، يظل الجرح مفتوحًا لا يلتئم. على العموم يا نوال الدُّكتور رشاد أحسن من غيره، إنتي عارفة زكريا، الدُّكتور زكريا اللي كان بيدرس لنا الفسيولوجي، الراجل ده هو الوحيد اللي أشاع إنه عمل معايا علاقة مع إني لا حبيته ولا فكرت فيه يوم واحد، كان لازم ينفِّس عن إحباطه بالإشاعات، أي راجل يعلن إنه عمل علاقة بامرأة تأكدي إنها الوحيدة اللي رفضته! والغريب يا نوال إن الدُّكتور زكريا بقى من كبار الأدباء فجأة، عملوه عضو في اللجنة الأدبية العليا أو معرفش المجلس الأعلى للقصة والرِّوَاية، حاجة زي كده مع إنه عمره ما نشر كتابًا واحدًا في الأدب أو كتب قصة واحدة! المسائل بقت كلها عك في عك؛ وأكبر دليل على العك إن الدُّكتور رشاد كمان بقى يفتي في الأدب النسائي مع إنه مالوش في الأدب ومالوش في النِّساء!

كركرتْ بطة بضحكتها المتقطعة المرحة، لكن صوتها أصبح مبحوحًا مشروخًا، تتخلله بعض الشهقات من حين إلى حين، تشكو الشيخوخة وآلامًا مجهولة السبب، وصداعًا في مؤخرة الرَّأس، فحصها زوجها الدُّكتور حمدي وقال لي: إنها مثل الحصان ولا شيء فيها مريض إلا عقلها.

– تصوري يا نوال صاحبتك بطة اللي عمرها ما عرفت ربنا سافرت مكة ورجعت لابسة طرحة وماسكة سبحة؟

•••

أمام المرآة في غرفة نومي رأيت الوجه الطَّويل الشَّاحب، الذِّراع اليمنى الملفوفة في الجبس الأبيض، مُعلَّقة في عنقي برباط من الشَّاش، البطن المرتفع قليلًا تحت الثَّوب الواسع، عادت إليَّ الذاكرة شيئًا فشيئًا، مثل قطرات الماء البارد يتساقط فوق رأسي.

هذه المرأة داخل المرآة؟ أهي أنا؟ زوجة لرجل لا تحبه، طبيبة في مهنة ليست مهنتها، تحمل في أحشائها جنينًا ليس جنينها، تعيش في بيت ليس بيتها، تخرج كلَّ يوم رغم أنفها إلى مرضى لا تطيق رائحتهم.

النتيجة فوق الحائط ثابتة عند العام ١٩٦٠، هذه الذراع الملفوفة بالجبس تعود بي إلى بداية عام ١٩٥٥، بالضبط أول يناير ١٩٥٥. صحوت من النَّوم مشرقة متألقة كالشمس في اليوم الجديد، ارتديت ثوبي الجديد بمناسبة العام الجديد ونجاحي في كلية الطب بتفوق، أصبحت طبيبة امتياز في المستشفى الجامعي (قصر العيني الجديد). أرى نفسي في المرآة داخل ثوب أبيض فيه زهور وردية، عيناي السوداوان يكسوهما البريق، قلبي يخفق بالحب، حول إصبعي خاتم الخطوبة يحمل اسمه، لمحته من النافذة قادمًا في الطريق يحمل باقة ورد، أدخلتْه الخادمة إلى غرفة الاستقبال. كان هناك باب من الزجاج يفصل الصالة عن غرفة الاستقبال، وستارة فوق الباب صنعتها أمي بإبرة التريكو. كان أبي جالسًا في الصالة يقرأ، سأل الخادمة مَنْ جاء؟ قالت الدُّكتور أحمد. كانت تعرفه من الزيارات السابقة، وحفل الخطوبة الصغير منذ عامين. خلع أبي نظارة القراءة ونهض. تصورت أنها سيدخل إلى غرفة الاستقبال ليسلِّم على الدُّكتور أحمد، لم يكن طبيبًا بعد، طلبة السَّنة النِّهائيَّة في الكلية كانوا يحملون لقب دكتور. كان أبي غاضبًا؛ تأخر أحمد عن زملائه في التَّخرُّج بسبب سفره مع الفدائيين إلى جبهة القتال في القنال.

طلب مني أبي أن أردَّ إليه خاتم الخطوبة وأطلب منه ألا يزورنا في البيت. قال ذلك بصوت منخفض لا يصل إلى غرفة الاستقبال، الباب الزُّجاجي بين الصَّالة والغرفة كان مغلقًا، أبي كان هادئًا بالطَّبيعة، صوته لا يرتفع إلا عند الغضب الشَّديد، لم يكن غاضبًا هذه اللَّحظة، أصدر قراره في هدوء كامل، ابنته الطَّبيبة لن تتزوج طالبًا فاشلًا تخلَّف عن زملائه عامين.

تطورت الأمور على نحو غريب سريع، لا أعرف ماذا حدث بالضبط، رأيت أمي تأتي إلى الصَّالة مرتدية ثوبها الأزرق، في قدميها شبشب أزرق تسميه البانتوفلي، سارت بخطوة سريعة إلى الباب الزُّجاجي وأغلقته بالمفتاح، وضعت المفتاح في جيبها ثم عادت إلى غرفتها، جاءت الخادمة وقالت: إنَّ الدُّكتور أحمد ترك باقة الورد فوق المنضدة في غرفة الاستقبال ثم انصرف.

كان لغرفة الصالون باب آخر يقود إلى الحديقة الصغيرة والباب الخارجي من دون المرور بالصالة، هل سمع صوت أبي؟ هل سمع صوت المفتاح يدور في الباب الزجاجي حين أغلقتْه أمي؟!

كنت واقفة في الصالة متجمدة، جسمي متجمد وعقلي متجمد، ارتدى أبي ملابسه وخرج، واقفة في مكاني لا أتحرك، رعدة خفيفة أصابتني من قمة رأسي إلى قدمَيَّ، كأنما ماء ساقع ينسكب من السقف فوقي وأنا واقفة، الدقات تحت ضلوعي تتصاعد، الدموع تتراكم في حلقي كالغصة، والغضب المتراكم منذ ولدتني أمي أربعًا وعشرين سنة. كنت أدق الأرض بقدمي حين أغضب في السابعة من العمر، لم أعد أدق الأرض بقدمي، لم يكن أمامي شيء قابل للكسر إلا الباب الزُّجاجي المغلق، وجدتني أندفع نحوه، أضربه بقبضة يدي اليمنى ضربة واحدة هائلة.

لم أفقد الوعي هذه اللحظة، كنت في كامل الوعي، كامل الانتباه، لم أحس بأي ألم، فقط دخلتْ قبضة يدي في الباب الزُّجاجي وخرجت من النَّاحية الأخرى.

بقي معصمي داخل اللوح المكسور، حركت ذراعي لأشد يدي خارج الزُّجاج، سقط اللوح الكبير بكل ثقله فوق معصمي مثل السِّكِّين، سقطت قبضة يدي إلى أسفل فجأة، رأيتها تتدلى لا أستطيع رفعها مهما حاولت، كفَّ قلبي عن الدَّق وتفجَّر الدَّم بلونٍ أحمر يُلطِّخ الباب الأبيض والبلاط وثوبي الأبيض.

اللون الأحمر القاني فوق السطح الأبيض أعادني إلى الحُلم الطفولي القديم، رأيت نفسي طفلة تحبو تمسك أمُّها يدها حتى لا تسقط، رأسي أثقل من جسمي لا أستطيع أن أرفعه فوق عنقي، لا أستطيع أن أرفع يدي، ذراعي ثقيلة مخدرة. شددت جفوني لأصحو من النَّوم، رأيت وجه أمي أوَّل ما رأيت يبرز وسط الضَّباب، كان شاحبًا رَماديًّا بلون الضَّباب، انفرجت شفتاها عن ابتسامة خفيفة، سمعت صوتها يأتي من بطن الأرض: الحمد لله جت سليمة يا نوال. كانت ترتدي الثوب الأزرق والبانتوفلي الأزرق في قدميها. ثم رأيت وجه أبي، كان طويلًا شاحبًا، يردد ما قالته أمي: الحمد لله جت سليمة يا نوال. من حولي معاطف الأطباء البيضاء، مرايل الممرضات، الجدران البيضاء، رائحة المستشفى، وأنا راقدة في السَّرير الأبيض، داخل ثوب أبيض، ذراعي اليمنى ملفوفة بالجبس الأبيض.

أفقت من البنج ورأيت الدُّكتور عبد العظيم، كان أستاذًا بقسم الجراحة في مستشفى القصر العيني الجديد، عاد لتوِّه من لندن بعد أن تخصص في جراحة الأعصاب والعضلات الدقيقة، طويل نحيف له وجه مبتسم، قال: مبروك يا دكتورة نوال، العملية نجحت تسعين في المائة والباقي عليكِ أنت. لم أفهم شيئًا مما يقول، في اليوم التالي شرح لي الحقيقة: العملية كانت صعبة، استغرقت أكثر من تسع ساعات، أنسجة المعصم تمزقت وأربطة العضلات، عملت كل جهدي يا دكتورة نوال عشان أرجَّع كل حاجة زي ما كانت، أنا عملت اللي عليَّ والباقي على ربنا. وسمعت أبي يقول: كان يمكن تفقدي إيدك اليمنى كلها لولا عناية الله، ومهارة الدُّكتور عبد العظيم، دي أول عملية جراحية من هذا النوع يُجريها بعد عودته من الخارج. وقالت أمي: ربنا بيحبك يا نوال، وإن شاء الله إيدك ترجع زي ما كانت مش كده يا دكتور؟

لم يكن الدُّكتور عبد العظيم متأكدًا أن يدي اليمنى سوف تعود كما كانت، كان يشك في الشفاء الكامل، النتيجة لن تُعرف إلا بعد التئام الجرح وإزالة الجبس، كان الجبس ضروريًّا حتى لا يتحرك المعصم.

بدأت أستعيد قوَّتي في اليوم الثَّالث، في اليوم الرَّابع رأيت الدُّكتور سعيد عبده واقفًا إلى جوار السَّرير، كان أستاذًا في الكلية للصحة العامة، يجمع بين الطب والأدب، يكتب عمودًا منتظمًا في الجريدة بعنوان «خدعوك فقالوا». قرأ لي بعض المقالات والقصص في مجلات الكلية، سمع كلمتي في حفل تأبين الشهيد أحمد المنيسي ومناسبات أخرى. قال الدُّكتور سعيد عبده: تقدري يا نوال تجهزي كلمة تلقيها في حفل التخرج نيابة عن الطلبة؟ أنا شايف إنك في حالة كويسة، والصوان حيكون هنا جنبك في حوش المستشفى، يدوب خطوتين، ويمكن استخدام التروللي إذا كان المشي صعب عليك، إيه رأيك؟ إنت الوحيدة بين طلبة الطب اللي عندك قلم وممكن تكتبي كلمة أدبية كويسة وتُلقيها في حفل التخرج؛ ده حفل مهم جدًّا يا نوال، عميد الكلية حيحضر ورئيس الجامعة وكمال الدين حسين وزير التعليم، غير كل الأساتذة والطلبة والطالبات.

كان ذلك منذ خمسة وأربعين عامًا، وأصبح في درج مكتبي صورة فوتوغرافية لي جالسة وراء الميكرفون على المنصة: ذراعي اليمنى ملفوفة بالجبس ألقي كلمتي في حفل التخرج بداية عام ١٩٥٥، عن يميني يجلس وزير التعليم وعن يساري رئيس الجامعة ثم عميدة كلية الطب. هذه الصورة بقيت في درج مكتبي عامين ثم تمزقت مع صورتي فوق بطاقتي الشَّخصيَّة وبطاقة نقابة الأطبَّاء، وصور أخرى في الشَّباب والطُّفولة. كانت الصُّور ضمن أوراقي التي حملتها معي من بيت أبي، ذكريات طفولتي، لحظات عمري غير المنسية ومفكرتي السرية، انقضَّ عليها يمزقها، أصابعه الغليظة ترتعد، عيناه اختفى النني تحت الجفن، والبياض بلون الثلج تخترقه شعيرات دموية جاحظة، يمسك الصورة بين إصبعين ويصرخ: دي صورتك في حفلة التخرج مع العميد والوزير، طبعًا بقيتي دكتور عظيمة وأنا فاشل مدمن، إزاي تعيشي مع فاشل مدمن يا دكتورة؟ لكن فين كلامك بتاع زمان، نعيش سوا ونموت سوا، مش عاوزة تموتي معايا ليه يا دكتورة؟ عاوزة تمشي وتسيبيني أموت لوحدي؟!

مزَّق الصُّورة، ألقى بها في صفيحة القُمامة، وانقضَّ على الصور والأوراق كلها يمزقها ورقة ورقة، ثم انقضت أصابعه الغليظة المرتعدة حول عنقي، كان في حاجة إلى جرعة جديدة من الماكسيتون فورت لا يستطيع شراءها من الصَّيدلية، لم يجد في حقيبتي قرشًا واحدًا، لم يجد في البيت شيئًا يمكن أن يبيعه، لم يعد يؤمن بالله أو الوطن أو الحب. يصرخ بصوت يسمعه الجيران: الثَّلاثة وهم، والإخلاص وهم. كأنما تكشفت له الحقيقة النِّهائيَّة ولم يبقَ إلا الموت … لكن قبل أن يموت الفدائي لا بد أن يَقتل، الدرس الأول تلقاه في حرب العصابات: لا تَمُتْ قبل أن تَقتل عدوك.

•••

بقيت الصُّورة الممزَّقة في الدرج السنة وراء السنة، خمس سنوات، حتى عام ١٩٦١، دقَّ جرس الباب ودخلت ثُريَّا حمدان، كانت تسكن إلى جواري في شارع الجيزة، تشغل منصبًا كبيرًا في مبنى التلفزيون الجديد. سألتْني: عندك رواية للشَّاشة الصَّغيرة يا دكتورة نوال؟ قلت: لا أكتب للتلفزيون يا أستاذة ثريا. سألتْني: ليه يا دكتورة؟ قلت: لا أعرف، لم أجرب. قالت: حاولي تكتبي حاجة للتلفزيون؛ عندك قلم مميز ولك قرَّاء وقارئات، والشَّاشة في حاجة إلى أعمال أدبية جيدة، وهي نادرة، هيه قولي لي متى أتسلم الرِّوَاية منك؟

جلست في اللَّيل أُفكِّر، فتحت الدُّرج حيث الأوراق القديمة والذكريات الطفولية، لمحت صورتي الممزقة ضمن الأوراق، تأملتها طول الليل، قبل شروق الشمس أمسكت القلم وصفحة بيضاء، كتبت عنوان الرِّوَاية: الصورة الممزقة.

كانت هي الرِّوَاية الأولى التي كتبتها لشاشة التلفزيون، رواية طويلة عُرضت في ثماني حلقات، كل حلقة أربعون دقيقة، كنت أتابعها بعد أن أعود من العيادة … أم إبراهيم تجلس عيناها فوق الشَّاشة، تمسح دموعها وتنشج بصوت مكتوم. في درج مكتبي حتى اليوم دوسيه كبير مكتوب عليه «الصورة الممزقة»، من مِائتين وعشرين صفحة، أفكر اليوم في طبعها داخل كتاب حتى لا تسقط من التَّاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤