الطابور

تتشابه الأسواق في الأرياف ولا تكاد تختلف، فكل منها فضاء واسع يحده سور، وله باب، وعلى أرضه دكاكين بضاعة ذات رفوف فارغة، قد لوَّحت أخشابها حرارة الشمس وليالي الشتاء، ثُمَّ مصاطب مبعثرة مصنوعة من تبن يؤلف بينه طين.

ويوم السوق هو — بلا شك — أروع الأيام وأشهرها، وهو الزحمة التي تحدث كل حين مرة معلنة وكأنها ساعة بشرية هائلة انقضاء أيام سبعة، وفراغ جيوب وامتلاء جيوب، وقبض أجور واختلاس أجور، وشبع ناس وجوع ناس، وتقيس العمر.

وبعد أن ينفضَّ السوق يبقى الفضاء لا تؤمه إلا الغربان وأسراب الخرفان والماعز الطوافة، وفرق الرياضة من التلاميذ، والمباريات وكرة القدم.

وتتشابه الأسواق في الأرياف إلا سوق السبت في تلك الناحية؛ فقد كان يتميز بظاهرة غريبة، فسوره كله كان مصنوعًا من حدائد لها أطراف مدببة ما عدا جزء صغير منه لا يتجاوز المترين قد بُنِيَ من الدبش والأسمنت وأُحْكِمَ بناؤه.

ومن قديم والناس يختلفون في أمر ذلك الحائط الصغير.

كانوا يقولون أول الأمر: إن تحت الحائط كنزًا يُفْتَح على ديك يؤذن ذات فجر ويكون للموعود، ولكن ما لبث هذا القول أن بهت وأصبح التسليم به كالإيمان بطلوع ليلة القدر، حكاية تُذْكَر من قبيل التمني.

ثُمَّ قالوا: إن الحائط أُقيم فوق فوهة بئر كانت تتسرب منها الجن من باطن الأرض إلى ظاهرها، فأُقيم الحائط ووُضع فيه مصحف وبخاري وأحجبة وقطع زجاج مكسور ليمنع تسرب الجن، ولكن هذا القول كسابقه لم يعمر طويلًا.

ثُمَّ شب جيل كان أقل خيالًا من سابقيه رأى في الحائط الصغير تجربة كان القصد منها بناء السور كله من الدبش والأسمنت، وفشلت التجربة.

ولا يكف الناس أبدًا عن إيجاد تعليل.

ومع هذا بقي السبب الحقيقي لا يكاد يصدقه أحد.

فالسوق أول الأمر لم تكن سوقًا، وإنما كانت قطعة أرض بور لا ينبت فيها زرع، رأى أهل القرى المجاورة أنها أقرب مكان يفدون إليه مثقلين بالغلة والبلح والجبن، ويعودون وقد خَفَّت أحمالهم بالدمور والمرايا والسكاكين الخارجة لتوها من تحت يد الحداد، وكانت تلك الأرض جزءًا من الأملاك الواسعة التي آلت لأحد أعيان الجهة الذي ينحدر من سلالة من ترك أو مماليك، الله وحده يعلم.

ورأى المالك في قدوم الناس ومواشيهم إلى أرضه البور كسبًا له وطريقة لإخصاب الأرض حتى يزرعها بعد حين، ولهذا سمح لهم بالقدوم، بل كان يشجعهم على القدوم حين يمر وسط زحمتهم راكبًا فرسه وموزعًا ابتساماته الراضيات.

ولما رأى أن الأرض قد استوت للزرع بما خلفته فيها المواشي من بقايا، أراد حرثها وحرثها، ومع هذا قدم إليها الناس مثقلين وغادروها خفيفين، وبططوا الحرث وأقاموا السوق.

وطرد الناس وحَرَثَها مرة أخرى.

وفي الأسبوع التالي أُقيم السوق أيضًا وبطط الحرث.

وأشار عليه أيامها ناظره العجوز أن يستغل الأرض بطريقة أخرى، فيترك الناس يجيئون على أن يأخذ ضريبة على المتسوقين، وأخذ المالك بنصحه، وفي الأسبوع التالي انطلق محصلوه يترصدون القادمين ويجمعون الإتاوة، ولكي يزيد الإيراد ويقلل المصاريف أقام حول الفضاء سورًا من الخشب جعل له بابًا على الطريق الزراعي، وجعل على الباب محصلًا واحدًا.

وهكذا وُجِدَت سوق السبت، وما لبثت أن عمرت وازدهرت وأُضيفت إلى بلادها بلاد، وأُضيفت إليها هي سويقات للحمير والجمال، واكتملت أصنافها حتى من «البوظة السادة» والعرقسوس.

وكنتَ تعرف أن السبت يومها حين تجد الناس في الصباح الباكر يزحفون صوب السوق من كل اتجاه، وتجد الطرق المؤدية إليه قد حفلت بلابسي العمائم والجلاليب والذين بلا عمائم أو جلاليب، وراكبي الحمير وساحبي الأبقار، وحاملي المقاطف وطالقي الجواميس والمتوكلين على الله.

ولم يكن من أهل القرى الغربية أكثر من أن يعبروا الطريق الزراعي ويدخلوا من الباب ليصبحوا في قلب السوق، أمَّا أهل القرى الشرقية فالمسألة إليهم كانت أصعب؛ فالمشايات التي تنحدر من قراهم كانت تلتقي عند الساقية القديمة في مشاية واحدة ضيقة تنتهي عند نقطة في السور الشرقي تقابل الباب في السور الغربي، وكان عليهم لكي يدخلوا من الباب أن يلفُّوا حول السور كله، وفي هذا تعب ومشقة ودوشة لا لزوم لها، فاختصروا الطريق إذن وكسروا خشبة من أخشاب السور وأصبح الأمر لا يكلفهم أكثر من المروق بين خشبتَيْن ليصبحوا في قلب السوق.

وبمضي الوقت أصبحت المشاية الضيقة طريقًا مُعترَفًا به من السوق وإليه، وأصبحت الفجوة التي في السوق بابًا كأحسن ما يكون الباب.

وكان لصاحب الأرض «سراية» تطل على السوق، كلها مشربيات وشرفات وسلامليكات وأشياء من هذا القبيل، والظاهر أنه كان واقفًا في شرفته ذات يوم فرأى طابورًا لم يكن يعرف كيف يبدأ ولكنه رآه ينتهي في السوق من خلال السور، فجُنَّ جنونه وركب رأسه، وركب كذلك حصانه، وانطلق يرى الأمر، وهناك رأى الفتحة، فشلضم وبرطم، وأمر بإصلاح الخشبة المكسورة في الحال.

ويوم السوق التالي وقف في الشرفة يشمت في الطابور الذي لا ريب سيتكسر عند السور، ولكن آلاف العفاريت ركبته حين رأى الطابور يواصل سيره المعتاد.

ولما أسرع يعاين وجد الخشبة الجديدة مكسورة، ويقولون: إنه جلَد النجار الذي أصلحها وجلَده مرة أخرى ليصلحها، بل وقف على رأسه حتى أتمها وامتحن متانتها بنفسه، وفي السبت التالي رُوِّعَ الرجل بالخشبة مكسورة.

واحمرَّ وجهه بالحمق حتى كاد يُدمي، وقطع شجرتَيْن من أشجار السنط وكوَّمهما حتى سُدَّت الفجوة.

وما مر الأسبوع حتى كانت الشجرتان كلٌّ في أقصى ناحية والطابور لا يزال لا بداية له، ولكنه ينتهي داخل السوق من خلال الفجوة.

وكاد شريان من شرايين الرجل ينفجر، وهذه المرة كلَّفه استعمال عقله ليلة بأكملها، وفي الصباح أحضر فرقة من الصعايدة بكريكاتهم وفئوسهم، وما انتهى الأسبوع حتى كانوا قد حفروا ترعة حول السور كالخندق وأُطْلِقَ فيها الماء.

ولم يُتعب نفسه ويقف يوم السوق في الشرفة ولا ما بعده من أسواق؛ فقد كان متأكدًا تمامًا من انقطاع الرجل.

والذي حدث أن شجرتَي السنط جِيء بهما ووُضِعَتا في الخندق وبقي ظاهرًا منهما ما يكفي ليخطي الإنسان عليه في أول سوق بعد الترعة، ثُمَّ قُلْقِلَت كتل من الطين الجاف، نفس الطين الناتج من حفر الترعة وأُسقطت فوق فروع السنط، وبعد أسابيع رُدِمَ جزء من الترعة أصبح يصل بين المشاية والفجوة.

ويبدو أن الرجل كان راكبًا فرسه يتنزه ذات يوم، فوجد المشاية واصلة إلى السور، وظل يسب ويرطن أيامًا، وظل كذلك يكظم غيظه، وقد أصبحت المسألة مسألة كرامة وعندٍ وتحدٍّ من الفلاحين العبط، فانتقى من بين خفرائه ثلاثة طوالًا عراضًا وقال لهم: خراب بيوتكم إن نفذ أحد.

ويوم السوق تلكأ الطابور لأول مرة وما لبث أن توقف؛ فقد نشبت عند السور خناقة كبيرة، وفي الضحى حُمِلَ الطوال العراض إلى السراية ودمهم يسيل.

واستعاد الطابور بقية اليوم سيره وسرعته، وطاب الخفراء وعادوا يحرسون الثغرة، ونشبت معارك أقل حدة، وتلكأ الطابور مرارًا، ثُمَّ كف عن تلكئه واستأنف سيره تحت وابل من حفن الجميز أو خيارتَيْن أو طورة بلح أو نَفَس دخان أو حتى عواف عليكو يا رجالة.

وذات مرة رأى صاحب الأرض خفراءه جالسين يستظلون بشجرة الجميز وتأتيهم المنح من الذاهب إلى السوق والعائد منه، فطرد الخفراء وأحضر بنائين وأحجارًا وبنى ذلك الحائط العالي الذي أغلق الفجوة تمامًا وجار على ما حولها، وأغلق كذلك كل فجوة في نفسه ممكن أن يتسرب منها الشك في احتمال فشل الحائط.

ولم يكد سبت واحد يمضي حتى اكتشف الرجل مخبولًا أن الخشبة التي بجوار الحائط تمامًا قد كُسِرَت، وأن فجوة جديدة قد صُنِعَت.

وأقسم يومها أن يبيع السوق.

ولم يُتَح له أن يَبَرَّ بقسمه؛ إذ استولت عليه شركة الأسواق بناءً على مرسوم وامتياز وبأقساط طويلة الأجل.

ومع أن الشركة قد أقامت بدلًا من الخشب سورًا من حديد كلما بلي جددته، ومع أنها لم تركب رأسها كالصاحب القديم فتستأجر فتوات أو تقيم حيطانًا، بل استعانت بالمركز فجعل لها كل سبت كوكبة صغيرة من الخيالة تجوب السور رائحة غادية.

مع هذا إلا أنك إذا وقفت في الصباح الباكر من أي سبت، فسوف تجد المشاية تحفل بالطابور الذي لا تعرف كيف يبدأ، ولكنك تراه ينتهي في السوق من خلال السور.

ودائمًا ستجد هناك حديدة مكسورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤