رمضان

كان فتحي — وهو صبي في العاشرة من عمره — ثائرًا جِدًّا على الرجال الكبار وعلى أبيه بنوع خاص، فمن حوالي ثلاثة أعوام على ما يذكر، طلب من أبيه أن يصوم رمضان، فقال له أبوه: لا يصح قبل أن تبلغ الثامنة، وكظم فتحي صبره وانتظر عامًا طويلًا على مضض، وحين حلت مقدمات رمضان من العام التالي وبدأ يرى «الفطرة» و«النقل» و«عين الجمل» تملأ الأجولة أمام الدكاكين، لم ينتظر حتى يُفاجأ بالأمر الواقع، وإنما قبلها بكثير انتهز لحظة انسجام من لحظات أبيه، وفتحي يعرف أن لحظات الانسجام تلك تأتي في أول الشهر، انتهز الفرصة وذكَّره بما قاله في العام الماضي، وأردف هذا بقوله إنه خلاص قرر أن يصوم، وادعى أبوه النسيان التام في أول الأمر، ثُمَّ لما أخذ يذكره ويضيِّق عليه الخناق قال له: لا صيام لمن لا يصلي.

وكانت إجابة فتحي حاسمة صريحة إنه حتمًا سيصلي.

وحسب أن الأمر لن يكلفه أكثر من الوضوء والصلاة، ثُمَّ يُتاح له بعد ذلك أن يصوم.

وكان في هذا متفائلًا جِدًّا إذ لم يُتَحْ له أبدًا أن يصلي كما أراد.

فقد توضأ كما تعلَّم في المدرسة، وفرد «سجادة» أبيه ليصلي عليها، فإذا بأبيه يسبقه ويطويها، ولما سأله فتحي عن السبب أجابه بأنه يشك في وضوئه وطهوره، ويخاف على السجادة أن تلحقها النجاسة، فترك السجادة وصنع لنفسه مصلًّى من جلبابه القديم النظيف، ولم يعترف أبوه أبدًا بطهارة الجلباب، وبالتالي لم يعترف بصلاته، وقرر فتحي حينئذٍ أن يُجبر أباه على الاعتراف فيذهب ويصلي في الجامع.

وملأه الجامع روعة وأحاسيس رنانة فيها دمدمات موسيقية ضخمة، يكح المصلي من هؤلاء فيكح فراغ الجامع الهائل كله، وإذا قيلت: بسم الله الرحمن الرحيم، فسرعان ما تتضخم وتتضخم، وترن وترن، وتكبر وتكبر، وتموج وتلد بسملات أخريات تتصادم وتتكسر عند الجدران العالية الملساء.

ويكون الجو في الخارج نارًا وقيظًا والجامع وحده هو الذي يحفل بطراوة ممدودة حاوة ترد الروح، ويكون الضوء في الخارج فظيعًا في كثرته وقوته ولكنه يتهادى في النهار إلى الجامع من البرج الذي في أعلاه المصنوع من زجاج ملون ويسقط منه على المصلين فيلونهم تلوينًا جميلًا، وجه يبدو أحمر والرقبة التي بجواره زرقاء، وعمامة صفراء، وعين بنفسجية، وفي الليل تُضيء الثريات، يا سلام على نورها الكثير وبلَّورها الذي يشع وينور ويزغلل.

أمَّا المصلون أنفسهم فكان فتحي لا يحبهم إلا إذا صلَّوا جماعة واصطفُّوا صفوفًا وراءها صفوف في نظام وخطوط مستقيمة، ويقول الإمام: الله أكبر، فيردد المصلون جميعًا وراءه: الله أكبر، وكلهم في نَفَس واحد، وكأنهم رجل واحد، كبير جِدًّا أكبر من سيدنا الحسين، وصوته ليس مرتفعًا يخيف، إنما صوته يرن رنينًا حُلوًا يحس معه فتحي أنه لا يصدر عنه وإنما يصدر عن ملائكة كثيرين يملئون صدر ذلك الرجل الكبير.

ثُمَّ الأروع من هذا حين يسجد المصلون ويراهم فتحي باركين على الأرض، باركين، مئات الظهور المنحنية كلها متشابهة وإن اختلفت في ألوان ملابسها، صانعة بهذا سجادة عالية محببة مزخرفة بكل الألوان تَفْرش المسجد من الحائط للحائط.

وفي الجامع أيضًا لاقى الأمرَّيْن؛ فإذا ذهب يتوضأ من الحنفيات ترك الرجال الكبار وضوءهم ومضوا يترقبونه ويتمنون له الخطأ، ويتدخل أحدهم قائلًا: اغسل اليدين حتى المرفقَيْن يا ولد. فإذا غسلهما للمرفقَيْن تصدى له آخر: يا ولد، ذراعك التي غسلتها لامست ذراعك التي لم تغسلها، أعد الوضوء. ويُعيد الوضوء مع أنه يكون متأكدًا أن ذراعه لم تلامس ذراعه الأخرى ولا قاربتها، أو قد يبتسم له شيخ له لحية طويلة ابتسامة صفراء ويقول: انت استنجيت يا شاطر؟! ويخجل فتحي جِدًّا ويهز رأسه، ولكنه يترك الوضوء كله وينفض يده منه ويذهب ليتوضأ في بيتهم حيث لا رجال ولا شيوخ.

وإذا ما وقف ليصلي جماعة لاقى الصعاب، فإذا الذي بجواره يدفعه من كتفه قائلًا: روح للصف الثاني، والصف الثاني يدفعه إلى الثالث، وهكذا إلى أن يجد نفسه في النهاية واقفًا في الآخر بلا صف، ويجد نفسه هو والصغار الآخرين الذين ذهبوا يصلون منبوذين مطرودين، فيصنعون وأمرهم إلى الله صفًّا أخيرًا، وما أسرع ما أدرك فتحي أن الوقوف في الصف الأخير له ميزة؛ إذ يُتاح له من مكانه هناك أن يشاهد المصلين جميعًا وهم راكعون أو ساجدون، ومن فرط ما أحب فتحي مشهدهم ذاك كان إذا صلى جماعة وركعوا هم كلهم أو سجدوا يبقى هو وحده بلا ركوع أو سجود؛ ليستطيع أن يستمتع بمشهدهم، حتى إذا ما قاربت الحركة على الانتهاء سارع هو بالركوع أو السجود لئلا يلحظه أحد.

وهم في صفِّهم الأخير ذاك كان لا يعدم الأمر أن يأتي مصلٍّ مسن متأخرًا ليلحق بصلاة الجماعة، فما إن يرى صفهم حتى يهب فيهم: صلاة ايه دي اللي كلها عيال، امشي قليل الأدب منك له. ويتفرقون ويتبعثرون ويطيرون تاركين المسجد كله للكبار.

وإذا كان سعيد الحظ ورضي ابن حلال أن يوقفه بجواره في الصف، فلا بد أن أحدهم سيخرج من صلاته ليقول له: يا وله، إنت بتصلي من غير طاقية، امشي شوف لك طاقية، عمى في عينك!

ولهذا لم يُتح لفتحي أبدًا أن يصلي بانتظام، وكذلك لم يُتَحْ له أن يوفي الشرط الواجب للصوم، وكان يهمه جِدًّا أن يصوم، ولم يتحمل كل هذا العناء سُدًى، كان يهمه أن يصوم ليستطيع أن يتناول السحور فلا يتناوله إلا الصائمون.

وكان السحور عند فتحي تعادل لذائذه كل القصص التي قرأها والأفلام التي شاهدها ومرأى الأسود والقرود في حديقة الحيوان، وكل لذائذ أخرى موجودة في العالم، ولم يكن قد أُتيح له أن يحضر السحور أو يتناوله، كان يسمعه.

فحين يعود بعد أن يكون قد شبع نطًّا وجريًا وصراخًا ولعبًا مع غيره من أطفال الحارة، والظاهر أن رمضان يغير من عادات الكبار؛ فالكبار يودُّون للأطفال دائمًا أن يحيوا حياة مثل حياتهم، حياة كلها جد وخطورة، فهم لا يلعبون ولا يودون لهم اللعب، وهم لا يستسيغون الصراخ والقفز ولا يودون للأطفال أن يقفزوا أو يصرخوا، بل يريدونهم دائمًا أن يظلوا جالسين مؤدبين متزمتين مثلهم، وكان رمضان إذا جاء وأكل فيه الكبار وشربوا — ورمضان الذي هو شهر الصوم يأكل فيه الناس أكثر مما يأكلون في أي شهر آخر — إذا أكلوا وشربوا تحدثوا وسهروا وتناقشوا، وأصبحوا أكثر إنسانية، فليس غريبًا إذن أن يسمحوا للأطفال أيضًا باللعب وبالبقاء خارج البيوت وقتًا أطول.

كان فتحي يعود وقد استهلك كل طاقته الصغيرة من النشاط، ومع هذا، ومع ما يكون فيه من تعب لا يأتيه النوم؛ فبعد وقت قد يطول وقد لا يطول يبدأ السحور، وحينئذٍ يرقد في فراشه وكأن قد انتابته نوبة ملاريا خبيثة تؤرق جسده فينقلب إلى اليمين وسرعان ما يمل اليمين فيفتعل الحركة إلى اليسار، ويطوِّح بيده ويشد الغطاء ويرخيه، وأذناه وعقله وانتباهه كله، هناك، في الحجرة المجاورة حيث أبوه وأمه يتناولان السحور.

كانا يبدآنه بصمت لا يُسْمَع فيه إلا تثاؤب أبيه وأمه وهي تغمغم بآهات وتشكو من تعبها ومفاصلها ومن الجيران ومن قطط الجيران وكلابهم والعيش الذي جفَّ، ثُمَّ كان أبوه يتطوع ويقول كم الساعة وقتها دون أن تسأله أمه، ولا ريب أنه يفعل ذلك ليفتتح حديث السحور، وما ألذَّ حديث السحور.

كان أبوه هو الذي يتحدث في الغالب، وإذا تكلمت أمه تقول كلمات مقتضبة أو تعيد الشكاية من مفاصلها، وكان فتحي يحب أباه لحديثه ذاك حين يتكلم بصوت فيه تلك الرنة التي تصاحب صوت المستيقظ لتوِّه من النوم، ويخرج كلامه إلى الظلام والسكون فيبللان ذلك الرنين ويحيلانه إلى نغمة حبيبة تنفذ إلى قلبه وتنغزه، فيتمنى لو قام في التو وعانقه وقبَّله.

وحين يتحدث أبوه وفي فمه بقية من طعام، ويمضغ قليلًا ثُمَّ يتابع الحديث الذي تحيطه هالة موسيقية من أصوات الملاعق وهي ترن في دقات معدنية هامسة، كان حينئذٍ يتصور أن أباه ينطق شهدًا، ويستعذب الطعام الذي يمضغه دون أن يعرف ما هو حتى لو كان طعمية، ويطوح بيده ويشد الغطاء ويُرخيه ويتمنى أن يقفز من الفراش ليكون قريبًا من حديثه ونبراته.

وحين كان الحديث يعرج على الأولاد — أي على فتحي وإخوته — كان يتمنى أن يتعثر بائع الزبادي الذي ينادي بصوته المزعج في الخارج ويسقط في حفرة فيسكت، وأن يضرب جارهم امرأته التي تصرخ بصوتها الملسوع ولا تتوقف ويأمرها بالسكوت، وتصمت الدنيا كلها ليستطيع أن يسمع أباه وأمه وهما يتحدثان عنه، فأمامه في النهار لم يكونا يتحدثان إلا ليلوماه أو يأمراه بإحضار شيء أو يشتماه، أمَّا حديثهما من ورائه — وهما معتقدان أنه نائم — فقد كان يود بحياته كلها أن يسمعه، ويسمع المشاريع التي يدبرانها له، يقول أبوه: نشتري له بدلة كاملة للسنة الجاية. ويدق قلب فتحي وكأن البدلة جاءت وارتداها، وتقول أمه: أحسن نوديه الزراعة المتوسطة يخلص بسرعة. ويغتاظ فتحي ويكاد في مرقده يقول لا بأعلى صوته، ولكن أباه يتولى الإجابة ويصر على دخوله الثانوي، فيقول فتحي في سره: يحميك يا أبي.

ويصبح حينئذٍ طرفًا ثالثًا في الحديث، طرفًا بعيدًا يسمع ويرضى ويفرح ويسخط ويثور، وهو آمن أنه يستمع إلى الحقيقة المجردة، وأن ما يقوله أبواه هو الذي سيقرر مصيره وليس الكلام المنمق الذي يسمعه في النهار.

ثُمَّ الكارثة، حين يحس فتحي — وقد تربى له من أجل ذلك إحساس مخصوص — أن الطعام قد انتهى؛ فيبدأ بطنه يمغص ولعابه يسيل، حين تنساب إلى أذنَيْه أصوات أبوَيْه وهما يغمغمان في إيهام، وتبدأ أصوات مضغهما تأخذ طابعًا معينًا يعرفه فتحي جَيِّدًا؛ إذ في هذه الأثناء يكون دور «الكنافة» أو «قمر الدين» أو باقي القائمة قد أتى، ومع أن فتحي يكون عالمًا تمامًا أنْ سيناله من كل صنف نوب في الصباح، إنما فرق كبير بين أن يأكل الكنافة في السحور هكذا والسكون شامل والدنيا ظلام والنور جميل، وبين أن يأكلها في وضوح الصبح وشمسه الكثيرة وذبابه وضجيج إخوته ومنازعاتهم، فرق كبير.

حين يبدأ السحور كانت تبدأ سعادات فتحي، وكذلك تبدأ متاعبه، فإذا لم يعجبه الطعام ظل راقدًا مستيقظًا أسعد ما يكون برقدته واستيقاظه وسماعه حديث السحور، أمَّا إذا لم يعجبه الحديث وسخط على مشاريع المستقبل أو هَفَتْ نفسه إلى صنف من أصناف الطعام، كان حينئذٍ لا يتحمل الرقاد فيقوم مدَّعيًا الذهاب إلى دورة المياه مارًّا بالصالة، وحريصًا على أن يُرِيَ نفسه لوالديه في ذهابه وإيابه، وأن يريهم بالذات وجهه المتجهم الذي يكاد يبكي، بل أحيانًا كان يبكي، وأحيانًا كان يسأله أبوه عن سبب بكائه فيبكي أكثر، فإذا ألحف أبوه ادعى بعد لَأْيٍ أن عنده مغصًا مثلًا أو أن برغاثًا قرصه، فإذا ضحك أبوه ازداد بكاؤه، وكل همِّه أن يشعرهم أنه غاضب، وأحيانًا كان يدَّعي أنه يحلم ويصرخ، فيجري عليه الوالدان ويمثل دور المستيقظ لتوه من كابوس تمثيلًا — والحق يُقال — رائعًا، حتى إن واحدًا من والديه لم يشك أبدًا فيه، وكان ما يضايقه جِدًّا أنهما لم يفهما أبدًا ولم يدعواه أبدًا إلى مشاركتهما السحور أو حتى الجلوس والاستماع إلى الحديث، كل ما يقولانه: نام ياخويا، نام يا حبيبي، اسم الله عليك، وكلام مثل هذا من كلام الشبعانين المتحدثين المستمتعين.

كان من الضروري جِدًّا أن يصوم فتحي.

وظل ساخطًا على الكبار وعلى أبيه بصفة خاصة، حتى أجابه إلى مطلبه أخيرًا.

جاءت ليلة النصف من شعبان وأنذرهم فتحي بأنه لا محالة صائم، فطبطب أبوه على كتفه وقال: إن شاء الله.

وافرح يا فتحي وأخبر كل الأولاد والقرايب والعمات والخالات، خلاص انتهى كل شيء وابتسمت الدنيا: أجل سيصوم! قال له أبوه هذا وانتزع التصريح من أمه.

وجاء رمضان، وليلة أول سحور لم ينم، بل حتى لم يخرج من البيت ليلعب مخافة أن يغافله أبواه وهو في الخارج ويتسحرا، فإذا أصبح الصباح قالوا: معلشي لقد فاتك السحور فلا ينبغي أن تصوم.

وحين جلس الثلاثة في النهاية هو وأبوه وأمه، كان فتحي حريصًا جِدًّا ألا يُحْدِثَ صوتًا أو يُسْقِطَ شيئًا؛ فقد كان خائفًا خوف الموت أن يصحو أحد إخوته الصغار ويصر على السحور، قائلًا وهو يبكي بكاءً سخيفًا: إشمعنى فتحي؟ ومن يدري فقد يرقُّ قلب الوالدَيْن ويوافقان؟ فتفسد الوحدانية التي يتمتع بها معهما ويفسد تعب السنين.

وحدث لأمر ما أنْ قام أخ من إخوته وعَبَرَ الصالة إلى دورة المياه، فقال لأبيه: على فكرة، دا قايم يتمحك بس، اوعوا تسألوا عنه.

ومهما كان ما حدث في ذلك السحور، وكان أول سحور في رمضان ويزخر كالعادة بأطيب الأطعمة، مهما كان ما حدث، فإن فتحي لم يجد له ذلك البريق الذي أحرق خياله أيَّامًا وليالي بل ناله ما يناله دائمًا إذا وُجد في حضرة الكبار: هات دي، ودي دي، ناولني ده، شوف إيه اللي بياكلني في ضهري.

ونام فتحي.

وصحا متأخرًا، بل استيقظ مبكرًا، ولكنه آثر أن يبقى متناومًا حتى يغادر الفراش في الضحى كما يفعل الكبار تمامًا، صحا وفي عقله حقيقة واحدة: ألا يسهو ويشرب؛ فقد حذَّره أبوه مرارًا من هذا.

وراح ينظر إلى إخوته وهم يُحْدِثون بكلامهم وعبثهم ضجة الصباح الوجلة، التي تكفيها شخطة واحدة لتنتهي، راح ينظر إليهم ويستصغرهم ويستصغر ما يقومون به قائلًا في سره: لهم حق؛ فهم فاطرون. ولكنهم بدءوا يحلون لغزًا كان واردًا بإحدى المجلات.

ووضح من كلامهم أنهم يلفون بعيدًا عن الحل، وكان لا بد أن يقنعهم بأنهم صغار وأنه ذكي ولا بد أن يحله هو قبل أن يصل واحد منهم إلى حله، فتخلى عن الفراش وقام ببطء، وهو يحس أن شيئًا كبيرًا ثقيلًا يملؤه، وأن في فمه طعمًا غريبًا قابضًا.

وحين جلس معهم وحاول حل اللغز ففشل أدرك أنه لغز تافه لا يستحق اهتمامه، بل بدا له أن كل ما يحدث في العالم إن هي إلا أشياء تافهة لا تستحق عناء الجلوس، وعاد إلى النوم مرة أخرى، عاد وهو مطمئن؛ فهو في إجازة، ورمضان كان طيبًا فجاء في الصيف هذه المرة.

واستيقظ فتحي، لا لأنه كان يريد أن يستيقظ، ولكن لأن شيئًا أقوى منه أجبره على أن يتململ ثُمَّ ينتبه ويصحو، كان الطعم الذي في فمه قد تغير وأصبح فمه جافًّا يكاد يكون لا طعم له، وأحس لحظةَ أنْ فَتَحَ عينَيْه أنه عطشان، وفي الحال قام ووجهته الماء، ولكنه توقَّف حين طردت الخطوات القليلة التي خطاها البقية الباقية من النوم في رأسه، وأدرك أنه صائم، وفرح وكأنه كان سيسقط في حفرة ثُمَّ تبيَّنها، ولكن عجيب هذا: إنه ما إن أدرك أنه صائم حتى ازداد عطشه!

وجلس على الكنبة التي في الصالة، كانت أمه في المطبخ غارقة لأذنَيْها في إعداد الطعام، وأبوه في الشغل، وإخوته لا يبدو لهم أثر، والساعة حوالي الثانية عشرة، وكان عليه أن يتخلص من ذلك الإحساس السخيف الذي يملأ فمه.

حاول أول الأمر أن يتخلص منه بتجاهله، فذهب يبحث عن شيء يشغله، وكان من زمان يريد أن يفك «المنبه» ويتفرج على «العدة» التي بداخله، وأسرع يبحث عن معدات الفك، ولكنَّ مسمارًا استعصى عليه ورفض أن يدور إلى اليمين أو إلى اليسار، فرمى المنبه، لم يكن يقصد أن يرميه، وإنما وجد نفسه هكذا يدفعه مرة واحدة من فوق الترابيزة فيسقط وتنكسر زجاجته، وانحنى ليلمَّ الزجاج المكسور ويخفي الجريمة ويخفي المنبه هو الآخر.

وهبط من المنزل بعد تجربته العقيمة تلك يبحث عن إخوته أو عن أطفال في الحارة فلم يجد، كلهم كانوا في تلك الساعة الملعونة في بيوتهم، والحارة ليس فيها إلا الشمس الحارقة والتراب وما عليه من ذباب.

وعاد إلى البيت وهو أكثر عطشًا، والضيق قد بلغ به حدًّا جعله يتمنى أن يقف موقفًا من المواقف التي كانت تخذله فيها شجاعته ويتغلب عليها فيها حياؤه وخنوعه، كان يتمنى أن يجابه موقفًا كذاك ليري الناس العين الحمراء، والضيق من العطش قد طرد منه كل خنوع وحياء.

وحاول أن ينام لما لم يجد موقفًا ولا ناسًا، وباءت محاولته بفشل ذريع، وسرعان ما مج الفراش وفكر في أن يجري ويلف في البيت ويكركب أشياء ثُمَّ ينظمها عله يساهي الشعور بالعطش الذي كان يفري نفسه.

ولكن ما إن بدأ يتحرك ويلف حتى جلس على أقرب كرسي وقد أيقن أن كل حركة تزيده عطشًا على عطش، وأن نتيجة محاولاته لنسيان المشكلة أنها تعقدت وازدادت حدة وخطورة، وأصبح فمه ينبح ويصرخ ويتأوى وكأنه تناول حفنة من الشطة واستشرت حرارتها تلهب كل جوارحه.

وبدأ فتحي حينئذٍ يفكر، بل هو في الحقيقة بدأ يتململ من الصيام ويدرك وعورة الطريق الذي اختاره، بل الذي تمناه وهفا إليه عدة رمضانات، بدأ يفكر ويقارن بين العذاب الذي هو فيه واللذة التي حظي بها ساعة السحور، والحق أنه لم يقارن، فكل ما كان يشغله هو العذاب، وكل ما كان يبحث عنه هو المهرب.

كان من لحظات قد سمع الراديو يدق عند جيرانهم معلنًا الواحدة، أي باقٍ من الزمن خمس ساعات حتى يستطيع أن يشرب، خمس ساعات؟ يا للهول، خمسة في صفر بصفر، وخمسة في ستة بثلاثين ومعانا صفر، يعني ٣٠٠٠ دقيقة، لا يمكن! لا يمكنه أبدًا أن يستمر حيًّا يعاني ما يعانيه ٣٠٠٠ دقيقة، يبدو أن هناك خطأ، هناك صفران فقط، يعني ٣٠٠ دقيقة، ولو، لا يمكنه أبدًا أن يمكث ولا حتى ٣٠٠ ثانية. اسمع يا ولا يا فتحي، خليك جدع، واصبر وصابر، وتحمل الألم حتى يحين موعد الإفطار وتشرب ثُمَّ تسترخي كما يفعل أبوك والصائمون، وتتحدث عن العطش الذي لازمك من أول النهار وتبالغ في وصف أهواله. آه، يجب أن يحتمل، خصوصًا وأنه سمع شيخًا من الذين يكثرون من زيارتهم في رمضان يقول: إن الجزاء يزداد بمقدار ما يتحمله الصائم من ألم، هه، يعني ايه؟ سيتحمل ولن يهمه، كلها كم ساعة وينتهي، كم ساعة؟! ٣٠٠ دقيقة، يعني واحد اثنين ثلاثة، عشرة عشرين، ثلاثين، مضت دقيقة، يا نهار أبيض، باقي ٢٩٩ مرة مثل هذه، لا لا لا، لن يستطيع التحمل! سيموت ويستشهد ويذهب إلى الجنة حدف، والجنة فيها ماء، يا للهول! ليس فيها ماء، لقد سمع أن فيها أنهارًا من الخمر واللبن والعسل، أف، أعوذ بالله، إنه لا يطيق ذكر العسل فهو يعطش، أنهار عسل ولبن، ولكن ليس فيها ماء، وإذا عطش عطشًا مثل هذا في الجنة فكيف يشرب؟ وهل يرتوي من اللبن؟ اللبن الأبيض السميك الذي، أعوذ بالله، إخص، ما هذه الخواطر؟ إنه الشيطان، لا بد أنه الشيطان يوسوس في صدره، ابعد أيها المنجوس لن أسمع كلامك، أبدًا، أبدًا أنت تدلني على الفساد، لن أسمع كلامك.

وسمع فتحي في تلك اللحظة — رغم ضجة الوابور — الحنفية مفتوحة في المطبخ والماء يندفع منها كركر كركر، لا ريب أن الشيطان هو الذي فتحها أو وسوس لأمه حتى فتحتها. سحقًا لك أيها اللعين! والله لو حتى صببت الماء في فمي لن أشرب.

وضم فتحي فمه بشدة، وكأن هناك ماءً حقيقيًّا سيدخله، وظل على وضعه ذاك مدة وقد خُيِّل إليه أنه إذا فتح فمه فسيفطر لا محالة.

ولكن الشطة استعرت حرارتها داخل فمه المضموم، وكان حلقه قد أصبح جرحًا كبيرًا مُلئَ بها، وأشعلت فيه نارًا وألمًا، وحاول أن يبتلع ريقه ومصمص ودار بلسانه داخل فمه كله محاولًا عبثًا أن يجد نقطة بلل واحدة، وكان الماء لا يزال يهطل بشدة من الحنفية ويدخل أذنه حتى خُيِّل إليه أنه يشرب الصوت من خلال أذنه، فسدَّ أذنَيْه ومع هذا ظل خرير الماء — أو إبليس — يخترق أصابعه ويداعب آذانه.

وطوَّف خاطر في عقله وحوَّم، إنه لن يفطر قطعًا، ولكن ماذا يفعل بذلك العطش؟ إنه يذكر أن ذات الشيخ قال: إن المضمضة ليست حرامًا، فلماذا لا يتمضمض؟ وكان ما يخيف فتحي هو أن يتسرب بعض الماء إلى بطنه إنْ هو حاول ذلك، ولكن إلحاح الخاطر أقنعه أنه لا بد أن يثق في نفسه، وقام وذهب إلى نفس الحنفية اللعينة التي أرهقت أعصابه، ووقف يردد النظر بين أمه وهي منهمكة في إعداد الطعام وبين الحنفية، ثُمَّ مد يده وملأها من السيل المنهمر، ورأته أمه وهو يدفع الماء إلى فمه، فشهقت شهقة عظمى وسألته عما يفعله؟ فأجابها بأن ريقه جاف وأنه فقط يبلل فمه، فابتسمت ابتسامة من يشمت وقالت: مش قلتلك؟ عامل لي راجل، أمَّا أشوف.

واغتاظ فتحي جِدًّا، فأفرغ كل ما في فمه من ماء وراح يبصق بشدة حتى أتى على كل ما أحدثه الماء من بلل وريق، وعاد إلى حيث كان في الصالة وفي صدره تصميم مانع قاطع أن يثبت لأمه ولكل الناس أنه رجل، وأنه قادر على الصوم مثلهم، وليكن بعد ذلك ما يكون.

ولكن المضمضة التي لم تتم أجَّجت فقط كل النار التي في جوفه، وجعلت العطش يمتد داخل زوره إلى بطنه حتى بدأ يحس أن عامودًا من نار وفلفل يحشو رقبته ويملأ فم معدته.

لو يشرب مرة واحدة فقط لسكت هذا النباح واستطاع أن يواصل الصياح إلى منتصف الليل إن شاءوا، ولكن الشرب معناه أن يفطر، ولا يدعه أحد يتناول السحور بعد الآن، وتسقط رجولته في أعين والدَيْه، ويعدُّونه طفلًا فاطرًا مثل إخوته الفاطرين.

ولكن هل من الضروري أن يَعْلَم الناس أنه شرب هذه المرة؟ ماذا لو شرب خفية دون أن يراه أحد، ثُمَّ أمضى بقية اليوم في صيام ما بعده صياح، وسمح لنفسه حتى أن يشكو مما لاقاه من ظمأ بعد الإفطار؟ ماذا لو حدث هذا؟ إنه لن يفقد شيئًا بالمرة ولن يعيِّره أحد بما فعل؛ إذ إن أحدًا لن يراه، فهناك في الصالة قُلَّة ماء لا تزال فيها بقايا من ساعة السحور، سيأخذها ويذهب إلى حجرة الجلوس ويغلق الباب ويفرغها في فمه بأسرع ما يستطيع، ثُمَّ يفتح الباب ويتأكد من خلو الصالة ويضع القلة في مكانها، ويلعب بعد هذا أو ينام ويمرح بقية اليوم.

ولكن، رمضان!

إن رمضان سيعرف لأنه يرى الناس ولا يرونه، ويعرف إن كانوا يفطرون أو لا يفطرون.

وارتسم رمضان في عقل فتحي هائلًا في حجم الدنيا كلها: يجلس على عرش من ذهب وألماظ، بعيدًا، بعيدًا خلف الشمس ووراء كل النجوم والسحب، يعرف دون أن ينظر من الفاطر ومن الصائم، ويبطح الفاطر، يُلقي عليه حجرًا يُصيب منتصف جبهته ويسيل الدم.

وارتعش فتحي للرؤيا، وأفاق منها قليلًا وحاول أن يتذكر واحدًا فقط يعرفه بطحه رمضان لأنه فطر فلم يجد، ولكن من يدري، ربما يكون هو أول واحد ستناله البطحة.

وسأل نفسه سؤالًا مفاجئًا: ألا يمكن أن تكون حكاية رمضان هذه كذبة، وأنه لا يرى ولا يبطح ولا هو حتى موجود بالمرة؟ لم يدرِ فتحي من أين جاءه السؤال، لعله الظمأ، ولكنه ظل حائرًا بين الخوف الذي يدفعه إلى أن تكون الإجابة لا، والظمأ الذي يهيب به أن يكون الجواب نعم، ظل حائرًا إلى أن عَنَّت له فكرة: سيعد إلى ثلاثة ثُمَّ يحاول رفع ذراعه، فإذا كان رمضان لا يريده أن يرفعها فليمنعه، وعد: واحد، اثنين، ثلاثة. وحشد كل قوته وقد خُيِّلَ إليه أول الأمر أنه مهما حاول فلن تتحرك، وقفزت الذراع فجأة من جانبه في الهواء، وملأه الرعب، ولكن بعد أن اطمأن قليلًا وبدأت الثقة تأخذ طريقها إلى نفسه، رأى أن يجرب تجربة جديدة، فوقف وقال: سأمد رجلي وأخطو، فإذا كان رمضان يراني ويستطيع منعي فليمنعني. ومد رجله فامتدت، وخطا خطوة وثانية وثالثة وكاد ألا يتوقف، وازدادت في نفسه الثقة وقلَّت الرهبة، بل انتابَه غير قليل من الاستخفاف برمضان ومحاولة تحديه، ورأى أن يتحداه أكثر ليبين قوته إن كانت له قوة، ويجرب تجربة أخيرة، وأخذ القُلة إلى حجرة الجلوس وقال: سأتذوق قطرة واحدة من الماء، فإذا كان رمضان يستطيع أن يكسر القلة قبل أن تصل إلى فمي أو أن يقطع لساني إن كان جدعًا فليفعل.

ومع امتلائه بالثقة والتحدي فقد رفع القلة في وجل وهو يحملق في انبعاجها وكأنه يتوقع في كل لحظة أن تنفجر، ولم تحدث الكارثة، وأيقن حينئذٍ أن رمضان وحجارته وبطحته لا بد خرافة، وأفرغ كل ما تحتويه القلة من ماء في جوفه، وكان يتوقف ليتلذذ بطعم الماء ويتساءل: كيف لم يفطن أن للماء طعمًا من قبل، بل وطعم حلو سحر لم يتذوق مثله أبدًا.

ورجع إلى جلسته في الصالة ينتقم من الوقت الطويل الذي أمضاه في لهيب العطش بوقت طويل آخر يمضيه في نعيم الرِّي، ولكن شعورًا بالانقباض بدأ ينتابه، كان هيِّنًا أول الأمر، ولكنه ما لبث أن ثقل وتعمق، أحس بشيء يهبش صدره ويخيفه ويرهبه، ولم يكن خوفه كخوفه من العفاريت أو الجن أو أبو رجل مسلوخة، وإنما كان يحس بأنه خائف من شيء داخله، وكأنه يخاف من نفسه.

ولم يسكت ذلك الإحساس، بل راح يدب ويتسلل إلى عقله ويملك عليه كل تفكيره، وأيقن أن لا بد أن تحدث كارثة، لا بد أن رمضان سينتقم منه ويجازيه؛ فمن غير المعقول أن ينال متعة الشرب بعد الظمأ هكذا وبدون ثمن، وكان مستعدًّا أن يتقبل أي عذاب أو أية مصيبة، فقط لو كان يعرف نوعها أو ما هي، أجل، إذا كان رمضان لم يفعل شيئًا قبل الشرب فلا بد أنه فاعله بعدُ، ولكن متى؟ وكيف؟ ذلك هو ما يخيفه، هل يبطحه؟ هل سينتقم منه بأن يجعله يرسب في الامتحان؟ هل تقع فوق رأسه الصخرة المعلقة بين السماء والأرض والتي كثيرًا ما حدثته عنها جدته وقالت: إنها صعدت وراء النبي؟ هل يمرض أخوه ويموت؟

وتوقَّع أن تحلَّ الكارثة في العصر، ولما لم تحل قال: بعد المغرب، ومضى المغرب والعشاء، وقبل أن ينام ضربه أبوه علقة، وقال فتحي: بس، هذا هو عقاب رمضان. ولكنه فطن حين رقد يبكي في فراشه إلى أن أباه ضربه لأنه كسر زجاجة المنبه وليس من أجل إفطاره، وبالتالي لم يكن ما حل به هو العقاب المتوقع.

وانتظر فتحي أن تحلَّ المصيبة في الأيام التالية، ولكنها لم تحل، حتى بعد أن تكرر ظمؤه وتكرر شربه خفية.

لم تحل إلا حينما ضبطته أمه وهو يشرب ذات يوم، وبعد أن انجابت لحظة مفاجأته وانتهت من تأنيبه وتعنيفه، فرح فتحي في قرارة نفسه؛ لأنهم سوف يقولون: إنه لا يستحق الصيام ويجعلونه يفطر، ويستطيع بعد هذا أن يشرب ويأكل دون عقاب أو وجل، ولكن المصيبة الكبرى أنهم هذه المرة قالوا: إنه باظ، وضربوه علقة، وأرغموه على الصوم بالقوة، وراقبوا التنفيذ بدقة.

واضطر فتحي أن يصوم بعد هذا ويواظب على الصيام، لا خوفًا من رمضان وبطحاته، ولكن خوفًا من أهله الذين لا يفيد معهم رفع ذراع أو إجراء تجارب؛ إذ هم يعرفون كل شيء إن آجلًا أو عاجلًا، وهم الذين يتولون بأنفسهم العقاب، ويضربون العلق ويبطحون ولا يرحمون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤