قصة حب

١

ليست أول محطة ترام في شبرا البلد بداية خط فقط، ولكنها قبل هذا مركز تفاعل مستمر بين القاهرة وضواحيها، وبين المدينة والمصانع الكثيرة المبعثرة حولها، تجد عليها الفلاحين القادمين إلى مصر، وقد أخذتهم رهبة المدينة مبهورين بِطَنِين الحركة الزائدة والدنيا الجديدة، وتجد العمال الزاهدين في تلك الحركة الحاقدين على المدينة ولا يجدون منها خلاصًا.

وتجد — في ذلك اليوم من يناير — حمزة واقفًا كعادته ينتظر الترام الذي يترك الصف الطويل من العربات المكدسة في أول الخط ويأخذ طريقه إلى «العتبة»، ينتظر وهو يتنفس بارتياح، فتلك المحطة كانت أيضًا مركز تفاعل مستمر بين الحياة الخانقة التي يحياها في الصباح في المعاطف البيض وأحواض الصبغة وأنابيب الاختبار، وبين الحياة الرحبة والواسعة التي كانت تبدأ حين يضع قدمه على رصيف المحطة.

كان واقفًا وقد أغمض عينَيْه قليلًا خلف نظارته ليستطيع الرؤية بوضوح، وكان يرقب الناس ويتململ قلقًا، وكانت الوجوه التي تقع عيناه عليها جادَّة صارمة، يُخيَّل إليه أن بريقها شرر رغبات كامنة تتحرر، وانطلاق ثورة، وعندما كانت تتناهى إليه الأصوات كان يحسبها دائمًا حفيف مظاهرات أو جئير إضرابات، ورغم البرودة والغيوم التي تحجب وجه الشمس؛ فالدنيا كلها كان لها رائحة، رائحة خاصة ينتفض لها الجسد كرائحة فوهة بندقية حديثة الإطلاق.

واندفع ترام من أول العربات بادئًا رحلته الطويلة، وبالكاد قفز إليه حمزة واحتلَّ مكانًا بين الناس الكثيرين الواقفين، وما انتهى الكمساري من بيع التذاكر حتى كان الناس قد تآلفوا تمامًا ورُفِعَت من بينهم أحجبة التحفظ والغربة، واستمع حمزة إلى أحاديثهم وهو يرهف آذانه، لا مشادات ولا اعتذارات أو نكات: الإنجليز، الإنجليز، والكتايب والفدائيين وكفر عبده والدبابات، أرسكين والعساكر المصريين، أربعة إنجليز اتقتلوا، محطة المية اتنسفت، ليهم يوم ولاد الكلب، والله لنطلعهم من مصر بزفة، لو فيه سلاح، لازم السلاح، نجيبه منين؟ منين؟ م الدنيا الواسعة؟ بس لو كانوا يطلعوا لنا واحد لواحد!

وجاءت محطة حمزة بعد ثلاث محطات من بداية الخط في منتصف المسافة بين القاهرة وشبرا البلد، وحين هبط لم تكن هناك منازل ولا عمارات، مساحات واسعة من الأرض المخضرة وأعمدة تليفون وعشش مصنوعة من الصفيح وأكوام هائلة من القمامة.

ومشى قليلًا في أرض مهجورة حتى وصل إلى المكان الممهد الذي نُصِبَت فيه خيمة، وصُنِعَت في طرف منه «تبة» ضرب نار، وأُقِيمَت في طرف الآخر موانع من الخشب أمامها خندق محفور، وعند الخيمة وجد أيضًا اليافطة المكتوب عليها بخط صغير: اللجنة العامة للكفاح المسلح، وأسفلها وبخط كبير: معسكر تدريب شبرا، ووجد اليافطة معوجة فعدلها، وأشار بيده محيِّيًا، ورد تحيته شاب أسمر ضخم يرتدي بنطلونًا طويلًا أصفر وفانلة لها رقبة وأكمام، وكان الشاب قد رآه قادمًا فغادر جلسته على التبة وأقبل ناحيته، وسلَّم عليه حمزة ثُمَّ دخلا إلى الخيمة يحتميان من الزمهرير، وجلس حمزة على صندوق له مقابض على جانبيه، وجلس الشاب على الأرض بجواره، وفرك حمزة كفَّيْه ليدفئهما ونفخ في يدَيْه دون جدوى، فقال وأسنانه تصطك: الدنيا برد.

– أوي.

– يا سلام على كباية شاي يا حسن!

– عاوز تشرب شاي؟

– يا سلام يابو علي.

– شاي، نعملولك شاي.

ومضى الشاب إلى وابور غاز برجلين اتنين، وكوز صفيح وإبريق فخار كبير مملوء بالماء وعلبة فيها سكر، وأخرج من جيب بنطلونه باكو شاي نصف أوقية، وبينما كان يشعل الوابور سأله حمزة: حدش جه؟

– ولا نفاخ النار.

– فيه واحد كان مواعدني الساعة اتنين ودلوقتي وربع، ما جاش يا حسن؟

– ما جاش.

– غريبة.

– ما غريب إلا الشيطان.

ثم نظر إليه الشاب وابتسم وأضاف: أنا موش مصدق.

– إيه يا حسن؟

– إن حنعملو معسكر تدريب.

– ليه يابو علي؟

– مش باين.

– بكرة هيبان، فاهمني ازاي.

وهبَّ الوابور وملأ الخيمة لهبًا ودخانًا وكاد يأتي على سقفها، فسب الشاب «ديك» الوابور وأصحابه، وبعد أن هدأت العاصفة قال لحمزة: تحبه تقيل؟

– لأ، نص نص.

– بس يا أستاذ حمزة شوية السلاح اللي عندنا دول كرب قوي، دول ماينفعوش ببصلة.

– ماتخافش، البرتا عندك، وريهالي.

– ليه؟

– وريهالي بس.

وقام الشاب إلى صندوق آخر وفتح قفله وأخرج «برتا» لها ماسورة تلمع، وتناولها حمزة وتفحصها وأغمض عينًا ونظر في ماسورتها بالعين الأخرى وهو يغمغم: مليانة وساخة، اديني شوية جاز وحتة اسطبة، دي طلياني، خدوها الانجليز من الطلينة، واحنا خدناها من الانجليز.

وغادر الصندوق الجالس فوقه، ورفع غطاءه وعسعس حتى وجد «مفك»، وأغلق الصندوق وجلس ومضى يعبث بمسامير «البرتا» ويفكها.

وتناهى إلى سمعهما صوت حركة في الخارج، فرفع الشاب الأسمر طرف الخيمة ونظر وقال وهو لا يزال ينظر: أمَّا غريبة! ايه اللي جاب الناس دولم هنا؟

– مين يا حسن؟

قالها حمزة وهو منهمك في فك مسمار عاصٍ، فعاد الشاب يقول: واحد أفندي وواحدة ست.

– فين يابو علي؟

– جنب الخيمة.

قالها الشاب الضخم ثُمَّ رفع صوته من خلال الفتحة: عاوز ايه يا فندي؟

فرد صوت أخنف قليلًا: حمزة فين؟

فرد حمزة وهو لا يزال مشغولًا: دا لا زم سعد، تعالَ يا سعد، خش.

ودخل سعد، عصبي وأصفر وقصير، ويرتدي بلوفرًا من الجلد ومنظارًا أسود، واندفع يقول: إيه ده؟ ساعة أدور أنت فين، علق يافطة يا أخي، ارفع علم على الخيمة لما تكون فيها، صباح الخير.

فرد حمزة: صباح الخير، اقعد يا سعد.

– مش قاعد، معايا ناس، شغل، عشان تقوللي مابتشتغلش، كفاح لا يهدأ، تعالي يا آنسة فوزية، اتفضلي، خشي ماتخافيش، بني آدمين والله اللي هنا.

ومن باب الخيمة الصغير انحنت فتاة داخلة، ووقفت عند الباب حائرة مترددة تحدق في حمزة و«البرتا» التي أصبحت أجزاءً سوداء بين يديه، وفي الشاب الآخر الذي كان واقفًا في منتصف الخيمة بفانلته الصوف الزرقاء ذات الرقبة الطويلة كمارد خارج لتوِّه من قمقم.

ورفع حمزة بصره ونظر إليها، كانت متوسطة الطول مثله وأكثر منه نحافة، لها وجه صغير أبيض وشفتان شديدتا الحمرة وشعر غزير، وكانت ترتدي معطفًا «بيج»، ورغم هذا كانت ترتجف من البرد وفي وجهها شحوب وارتعاش، ورغم ارتجافها كانت في عينَيْها لمعات دفء ونشاط زائدَيْن، وأحدث دخولها حركة في الخيمة، قام حمزة من فوره وأفسح لها مكانًا فوق الصندوق ومد يده ليصافحها، وحين وجدها تنضح بالجاز وسواد الصدأ مد لها ذراعه، وأحس بأصابعها وهي تلتف حول ذراعه باردة كالثلج، ولكن قبضتها على غير ما توقع كانت قوية.

وقبل أن يعود الهدوء قال سعد بكلماته المتقطعة السريعة: أهو ده الأستاذ حمزة يا ستي عضو اللجنة المسئول عن معسكر التدريب.

فقال بلا وجل: أهلًا وسهلًا.

وأردف سعد بسرعة: ودي يا سيدي الآنسة فوزية سكرتيرة لجنة المدرسات للمقاومة الشعبية.

وتغيرت نظرات حمزة في الحال وصافحها مرة أخرى، وهذه المرة بيده التي كان قد نظفها.

وأضاف سعد: دول لهم كفاح مدهش، زي ما انت عارف كُنَّا بنلم تبرعات، ورحت أجمع من المدرسة بتاعتهم في المنيرة فتعرفت بيها، ولقيت أن المسألة أكثر من كده، وأصرَّت على أنها توصل للجنة حالًا، قلت أجيبها لك، مش كويس، هنيني بقى.

وكان حمزة ينظر إليه وهو لا يدري أيُثني عليه أم يوبخه؛ فقد كان من الضروري أن يحدثه بهذا قبل أن يفاجئه بها على تلك الصورة، وقبل أن يقرر ماذا يفعله، كان الشاي قد أُعِدَّ وصبه الشاب الضخم في ثلاث كوبات من الزجاج الرخيص الأزرق ذي القاعدة السميكة، وصب البقية في كوز صفيح كان يغطي فوهة الإبريق، وقال لفوزية بصوته الغليظ وهو يمد لها يده بكوب: خدي، لحسن دا انتي نازلة رجف الأرا…

ورغم هذا فقد تناولتها منه فوزية وأحاطت الكوب بيديها، وأصر سعد على أن يشرب هو الشاي الذي في الكوز، ولم تفلح المحاولات التي بُذِلَت ليقلع عن إصراره.

وحفلت الخيمة بأصوات رشف الشاي الذي كان يتصاعد بخاره من الكوبات ومن أفواههم، ويشيع فيهم نشوة دفء طارئة في يوم له برودة الرصاص.

وكان حمزة طول الوقت يختلس نظرات خفية إلى فوزية، كانت تلك تكاد تكون أول مرة يجمعه العمل مع فتاة، وفي أعماق نفسه لم يكن يثق بالفتيات ولا بما يمكن أن يقمن به، وإن كان يردد دائمًا أن لا فرق بين الرجل والمرأة، وأن لها مثل ما له من حقوق، وصحيح كيف يمكن لفتاة ترتجف من البرد هي ومعطفها هكذا، ولها رفع كهذا أن تخوض معركة مثل التي يخوضونها وتقف معه جنبًا إلى جنب؟

وقال سعد: كويس خالص مجهودكو، حاجة عظيمة، انتو عملتو الخشب اللي بره ده إمتى؟!

– إمبارح.

– كويس جِدًّا عظيم خالص، وحيبتدي التدريب إمتى؟

– بكرة.

– دا شيء غريب! دا شيء عظيم! مدهش! بكرة بكرة!

– أيوه.

– عال جِدًّا، دي حاجة تستاهل التهنئة، دي عايزة حفلة، وإن شاء الله كده حتبدو بميت واحد، لازم على الأقل مية.

– حنبتدي بعشرة.

– شوية جِدًّا، قليل قوي، شوية خالص، إيه ده؟

– كويسين، إنت اتأخرت ليه؟ مش كان معادك اتنين؟

– أبدًا أبدًا أبدًا، كان اتنين ونص، أقسم بشرفي كان اتنين ونص، لا لا لا أنا في مسألة المواعيد دي دقيق، دقيق جِدًّا، اتنين ونص يعني اتنين ونص، أقسم بشرفي كان اتنين ونص، أنا دقيق في مسألة المواعيد دي بالذات.

– كان معادك اتنين، وبلاش حكاية شرفك دي، فاهمني ازاي، ياللا بينا.

قالها حمزة وهو يقوم، وخرج الجميع والشاي يشيع فيهم الثقة لمواجهة البرد، الفضاء ساكن سكونًا مذهلًا، والبقعة جرداء، والسماء ملبَّدة بالسحب وكأنها توشك أن تمطر، وهناك على مرمى البصر القاهرة في سمائها غبرة رمادية، ومنازلها تبدو مكدسة لا تشذ منها سوى عمارات قليلة ومآذن تظهر من بعيد وكأنها مداخن مصنع مهجور كبير، والأرض الواقفون فوقها رخوة تكاد تنوء بالأرجل، وهواء خفيف أصفر يهب في حدة ويداعب القش الكثير الذي يغطي وجه الأرض فتطير له قشاشات وتخرفش له الباقيات، وسألت فوزية: هو ده المعسكر؟

فرد حمزة وهو ينظر إليها ويتأمل أنفها الصغير الذي احمرَّت قمته المدببة من البرد: آه.

– وفيه متطوعين كتير؟

– مش كتير، إنما كل يوم بيكتروا، بكرة دي كلها حتتملي طوابير وتمرينات.

– ومين اللي حيدرب؟

– ضباط متطوعين.

– منين؟

– من الجيش.

– بس ده إيه؟ بتصريح؟

– هو فيه حاجة اسمها تصاريح!

– يعني الحكومة تسكت؟

– هو فيه حكومة؟

– ألله! طبعًا! أمال مين اللي بيحكم؟

– إحنا، إحنا اللي بنحكم، الشعب.

وحملقت فيه فوزية برهة وكأنها لا تصدق.

وكان سعد في هذه الأثناء قد تركهم وراح يقفز من فوق الموانع الخشبية ويتفرج على الخندق، وينام على بطنه عند تبة ضرب النار ممسكًا ببندقية وهمية، فقالت فوزية: أمَّا غريبة قوي سعد، شوف بيعمل إيه؟

– آه، هو متحمس.

ثُمَّ سكت هنيهة وقال: ألا قولي لي يا آنسة فتحية، انتو اديتو سعد تبرعات؟

– أصدك فوزية، أنا اسمي فوزية.

واحمرت أذنا حمزة احمرارًا شديدًا وتلعثم كيانه.

وأضافت فوزية: بس أنا جاية مخصوص علشان أعمل علاقة مباشرة مع لجنتكم؛ لأن هدف لجنتنا الأساسي هو خدمة الكفاح المسلح.

وقال حمزة باهتمام وبحرص وهو لا يزال يؤنب نفسه: كويس أوي.

– واحنا كُنَّا لمينا شوية فلوس عشان نشتري بيهم إسعافات طبية للفدائيين، إنما الظاهر إنكو انتم في حاجة أكثر للفلوس دي.

– الحقيقة ان احنا دايمًا في حاجة لفلوس.

– طيب ممكن أقابلك بكرة وأديهملك.

– ممكن جِدًّا.

– فين؟

– أيوه يا ستي.

وأخرج حمزة مفكرة صغيرة من جيبه قلب أوراقها، ثُمَّ رفع رأسه ولمعت نظارته بشعاع من أشعة الشمس استطاع اقتحام السحب والنفاذ من بينه، وقال: تقدري تيجي هنا؟

وفكرت فوزية لحظة ثُمَّ قالت: الساعة اربعة.

– يناسبني جِدًّا.

ثُمَّ رفع حمزة صوته ونادى على سعد وانتحى به مكانًا وظلا يتهامسان فترة، ثُمَّ شد على يده مودِّعًا وكذلك فعلت فوزية، ولاحظ حمزة أنها تسلم بقوة غريبة على بنات جنسها وكأنها صديق قديم.

وكان آخر ما رآه منها ابتسامة، وحزام معطفها المفكوك والهواء يجذبه وراءها ويعبث به.

وعاد حمزة إلى مجلسه في الخيمة، وإلى «البرتا» وقطعة الجاز والقماش، وكان أحيانًا يهز رأسه ويقول: غريبة! فيسأله الشاب الضخم: هي ايه اللي غريبة؟! فيقول حمزة تائهًا: ولا حاجة.

٢

وفي الرابعة من اليوم التالي كان المعسكر قد دبَّت فيه حياة عشرة شبان يرتدون ملابس التدريب، وتهتز الأرض تحت أقدامهم وهم يروحون ويجيئون صفوفًا، وبين الحين والحين تتصاعد صرخات معلمهم آمرة، وكان حمزة في قلب الخيمة ومعه الشاب الضخم ممسكًا كلٌّ منهما بفأس وهو يحفر ويعمق إذا كان العمق غير كافٍ.

ورفع حمزة رأسه يقذف بالتراب اللين مرة فرآها، وهنا فقط تذكر أن ميعاده معها قد حان، وأحس بنوع من الفرحة وهو يرى شبحها قادمًا من بعيد، وانتظر حتى اقتربت فغادر قاع الخندق ومضى إليها وهو ينوء بحذائه الذي كان محمَّلًا بما لا يطيق من الطين اليابس، حتى لم يجد بُدًّا آخر الأمر من خلعه.

وشدَّت فوزية على يده بنفس طريقتها القوية المتحمسة، وهي تكاد تضحك على بنطلونه الذي شمَّره وقميصه المزدان بنياشين لا عدد لها من الوحل وجوربه الذي تطل منه أصابع قدميه متحدية البرد والأناقة.

وأخذها بعيدًا عن المعسكر، وقد وجد الطابور الصغير من الشبان يلخبط ويسهو ويتغامز خفية حين رآها.

وقبل أن يبدأ أي حديث فتحت حقيبة يدها وأخرجت منها قبضة جنيهات ناولتها له قائلةً: سبعة وعشرين جنيه ونص.

ثُمَّ أضافت مبتسمة: دفعة أولى.

وأحس حمزة بفرح حقيقي، سبعة وعشرون جنيهًا، بندقيتين «لي إنفيلد» وكذا طلقة، وقال وهو يعيد ترتيب النقود: برافو والله.

ودعاها للجلوس بجواره على الأرض وفعلت هذا دون تردد، وانطلقت تحدثه عن لجنته وعن نفسها حين طلب منها هذا: مُدرِّسة في مَدرَسة المنيرة، قرأت كثيرًا وفهمت كثيرًا، ولكن لم يكن لها أي نشاط، فحين جاءت معركة القنال اندفعت من نفسها تناقش الأمر مع زميلاتها المدرسات، وتمَّ النقاش إلى تكوين اللجنة.

وكان حمزة يهز رأسه ويحثها على المضي بإيماءاته، ولدى كل كلمة يكاد ينظر إليها من جديد ويحاول أن يقنع نفسه أن المرأة ممكن فعلًا أن تقوم بعمل.

وقبل أن يصافحها مودِّعًا قال لها وهو يقلب مفكرته: يوم الأربع زي النهاردة حكون من بعد الساعة سابعة في مصر الجديدة على طول، فممكن نتقابل هناك علشان ننسق الاتصال.

ففكرت لحظة ثُمَّ قالت: ولو أن يوم الأربع عندي ست حصص إنما حاجي.

– الساعة تسعة جنب قصر البارون امبان، ممكن؟

– ممكن.

– وإذا حصل ومقدرناش نتقابل، عارفة تعملي ايه؟

– إيه؟

– يبقى نفس المكان والزمان بس الأسبوع اللي بعده، فاهماني ازاي؟

وكان هو الذي شد على يدها بقوة هذه المرة حتى كاد يخلعها.

ومضت.

ووجد حمزة نفسه تمضي وراءها وتفكر فيها: في حجمها الصغير الدائب الحركة، وكأن ثمة مولد خفي يغذيها بطاقة لا تنفد من نشاط، وانفعالاتها السريعة التي تتلاحق على وجهها واستجاباتها السريعة لانفعالاته، يضحك فتكاد تضحك ملامحها، ويأسف فيقرأ الأسف بوضوح في وجهها، ودائمًا وهو يحدق فيها يعجب من الإحساس الذي يتملكه، الإحساس بأنه قوي قوة لا حد لها وأنه ممكن أن يصنع معجزات، ثُمَّ ملامحها الدقيقة الأنيقة التي في كل دقيقة منها وسامة وأمل، إنها حقيقة تبدو كصبية صغيرة لا ينقصها إلا المريلة لتصبح تلميذة بإحدى المدارس.

وكاد حمزة ألا يتوقف عن التفكير فيها لولا أنه نَهَرَ نفسه بشدة، وعاد يغوص في قاع الخندق ويشذب حوافه.

٣

في مساء اليوم التالي كان حمزة جالسًا على إحدى قهاوي «القرين» بمديرية الشرقية، قهوة في وسط القرية تطل على ميدان جاء صدفة في وسط البيوت ولم يُقْصَد به أن يكون ميدانًا.

وكانت القرين أيامها تحيا على أخبار المعارك التي تدور وقصص البطولات واستعداد الإنجليز، وتتحفز لضرباتهم، وكان حمزة قد انتهى من الاتفاق على صفقة السلاح: ثلاثة رشاشات وخمسة مسدسات وصندوق ذخيرة، يتم تسليمها في القاهرة في صباح باكر من أحد مقبل.

والمساء في قرية كتلك كان شيئًا جديدًا على حمزة: «كلوبات» شاحبة قليلة، ومصابيح غاز بزجاجات وبلا زجاجات، وأناس رائحون وغادون يأتون من ظلام شارع ويختفون في ظلام آخر، وحركة بطيئة ميتة، وبهائم سارحة وبهائم راجعة، وبلد لا يمكن أن يصدِّق أحد أنها قتلت وحدها في خلال سنوات مئات من عساكر الإنجليز، حتى قُدِّم بشأن نشاط أهلها المعادي للإمبراطورية البريطانية استجواب في مجلس العموم.

ودقت الساعة الثامنة والنصف واستمع حمزة إلى الأخبار التي تجمع أهل البلدة جميعًا لسماعها، وعم لدى تلاوتها سكون عميق كالسكون الذي يسود صلاة الجمعة والإمام يخطب، والغريب أن حمزة لم يسمع الراديو يعقب بكلمة واحدة على مذبحة المحافظة التي حدثت في اليوم السابق، وكانت الأخبار عادية، وعَنَّ لصاحب القهوة أن يسمع تعليق الإنجليز على الأخبار من محطة لندن، فأتى بمنضدة ووقف عليها وأخذ يبحث بين المحطات، وكان حمزة منتبهًا أكثر إلى الرجل ووجهه الضئيل النحيل المنكب على الجهاز في حماس بالغ وهو يتابع مؤشر المحطات، ومنتبهًا أكثر إلى الناس الذين لم يتفرقوا بعد ولا تزال أفواههم تفسر الأخبار وتتناقلها وتتنبأ وتتوعد، ولكنه تنبه فجأة واستيقظت كل حواسه على صوت المذيع في لندن وهو يقول: إن الأحكام العرفية قد أُعْلِنَت في مصر، وأسرع حمزة يغادر مكانه ويقف بجوار الراديو ويكاد يلصق أذنه بالميكروفون، الحرائق تجتاح القاهرة، الأجانب يُذْبَحون في الشوارع، السلب والنهب والقتل يدور على قارعة الطريق، الانفجارات تترى في أنحاء العاصمة والدماء تسيل في شوارعها، النحَّاس يطلب إعلان الأحكام العرفية، مرسوم إعلان الأحكام العرفية، قوات من الجيش تُسْتَدْعَى، الحالة تنذر بخطورة بالغة.

ولم ينتظر حمزة لحظة واحدة واستأجر عربة أقلَّته حالًا إلى التل الكبير، وهناك ظل يشير لكل عربة مارة على طريق المعاهدة حتى رضيت واحدة أن تأخذه.

وأوقعته أفواه الناس وهي تتناقل شائعات مبهمة سوداء لا رابط بينها في دوامة، ولكنه حين أصبح في محطة مصر ورأى الأدخنة تنعقد كالحة في السماء، ومباني كثيرة تتلظَّى الجحيم وتبدو حمراء غامقة في سواد الليل، وألسنة اللهب تطلُّ منها كألسنة الشياطين، ونار تتفحم وأخشاب تتوهج ومحلات منتزعة الأبواب مدشدشة المحتويات، والقاهرة الحبيبة تنزف أطرافها خرائب وأنقاضًا وتتساءل بناياتها الواجفة عن المصير، وعساكر الجيش بلباس الميدان وخوذاته، ودوريات بوليس في عربات، والوزارة أقبلت، وأحكام عرفية جاءت أسود من الأدخنة التي في السماء وأفظع من اللهب الذي يجتاح الأرض، حين رأى وسمع شعر بالجو مشبعًا بظلال أيد سوداء أثيمة، ورائحة مؤامرة تختلط برائحة بارود أجهض انفجاره، والعلامات تشير إلى مستقبل قاتم.

وبين حمزة والأحكام العرفية ثأر مبيَّت وتاريخ دامٍ طويلٍ يرجع إلى سنة ١٩٤٨، ولذلك رأى ضرورة البحث عن مكان آخر يلجأ إليه وقد أصبحت حجرته في ظل الأحكام الجديدة غير مأمونة أبدًا.

واضطر إلى ركوب تاكسي فلم تكن هناك أية وسيلة أخرى للمواصلات، وكان في جوفه غليان لا يرحم والسؤال يطفو إلى وعيه بين الحين والحين: تُرَى هل يسعفه بدير هذه المرة أيضًا؟

وتوقفت العربة في شارع من شوارع الدقي وهبط ودق جرس الشقة رقم ٩ وظل يدقه باستمرار، فالساعة كانت حوالي الثانية عشرة والظلام يغمر الشقة، وفُتح الباب في النهاية، وأطل بدير برأسه الضخم وجسده الممتلئ الشاهق وهو يوحوح من البرد.

وباختصار أطلعه حمزة على الموقف وأبى بدير أن يصدق، وجلسا إلى الراديو والمذيع يردد بين الآونة والأخرى: أيها السادة، نحن في انتظار أنباء هامة.

وجاءت الأنباء في الثانية عشرة والنصف، وفي الواحدة تُلي مرسوم تشكيل الوزارة الجديدة، وطلب حمزة من بدير أن يبقى لديه بضعة أيام، ووافق بدير وخُيِّلَ لحمزة أنه يوافق على مضض.

٤

وقضى حمزة أيَّامًا كئيبة خانقة في الشقة الفاخرة يروح ويجيء كالطلقة الحبيسة.

الجرائد التي ينكبُّ عليها طول اليوم فارغة خاوية، اختفت منها تمامًا أنباء الكتائب والمعركة وحفلت بتأييد التجار والشركات لرئيس الحكومة الجديدة منقذ البلاد وحامي حمى الوطن، نفس التجار والشركات الذين كانوا لا يتركون مناسبة تمر أيام الكفاح المسلح إلا ويعلنون تأييدهم التام للفدائيين وتبرعاتهم للكتائب.

تاجر الأسلحة اللعين لم يحضر في صباح الأحد الباكر ولا في ضحاه، حظر التجول مفروض، والقاهرة تموت مع الغروب والشتاء بارد، والخروج قد أصبح مخاطرة عظمى؛ فالبوليس السياسي منتشر والحملات تتزايد كل يوم وهاكستب قد فتح أبوابه يستقبل الوطنيين، وصلته قُطِعَت تمامًا بأعضاء اللجنة، وحين طلب من بدير أن يذهب لمقابلة أحدهم قال له: اسمع ياخويا يا حمزة، تقعد عندي في الشقة على عيني وراسي، إنما تشغلني في الأمور بتاعتكو دي يفتح الله.

النقود التي معه مرصودة للسلاح ولا يملك فيها تصرُّفًا وما عاد معه نقود، وفقد العمل.

ومع كل هذا كان شيء ما في نفس حمزة يأبى أن يصدق ما يحدث وينكر أن كل شيء قد انتهى، فكان أحيانًا كثيرة يتحدث مع نفسه ومع بدير وكأن المعركة لا زالت قائمة، وكأن الضربة المفاجئة الغادرة لم تكن.

وأحيانًا كثيرة كان يفكر في فوزية، ويعجب من الأمل الكبير الذي يعلقه على مقابلتها، فلحظات معرفته لها لم تتعدَّ الساعة، ومع هذا فميعاده معها كان يبدو وكأنه كل ما تبقى له من أمل.

غير أن ذلك الأمل الأخير تبدد حين تذكر حمزة مفجوعًا أن ميعاده معها في التاسعة، وأن حظر التجول يبدأ من السادسة ومن المستحيل عليهما أن يلتقيا.

وجاء يوم الأربعاء — ميعاد اللقاء — ومضى اليوم وحنق حمزة يتضاعف ويتضاعف حتى ليكاد يطغى على حنقه لمؤامرة الحريق كلها.

وفي صباح الخميس لم يغادر الفراش، وَهْم قابض يخنق روحه وإحساس يتملكه أنه فقد شيئًا غاليًا كان يعتز به، وكأن فوزية ماتت من حياته بل كأنها قُتِلَت، وكأن قاتلها في نظره هو نفس حارق القاهرة وفارض النوم من الغروب، وخائن المعركة وسارق الأقوات.

وتبين حمزة بعد أن انجابت موجة حنقه قليلًا أنه فعلًا قد انتُزِعَ من حياته الحافلة انتزاعًا، وأن كفاحه قد تلخص فجأة في جدران بيضاء ملساء أنيقة، ووجه الأستاذ بدير المحامي وجسده الضخم، ويأس كبير قاتل.

وأيقن أنه لا يمكن أن يقضي في حياته الجديدة تلك ساعات، وأنه قطعًا إذا بقي فيها سيفقد عقله، ومع أنه لم يمت ولم يفقد عقله بل راح يمارس هوايته المحببة في التهام الطعام والتلذذ بأصنافه، ويهيئ للوجبة نفسه وكأنه ذاهب إلى أهم المواعيد، ويستخرج كل ما لدى بدير من كتب ويختار منها ويقرأ، ويصادق الخادمة الصعيدية العجوز التي كانت تأتي كل ثلاثة أيام لتنظيف الشقة، ويناقش بدير كثيرًا في السياسة حتى استطاع آخر الأمر أن يقنعه أن الملك والإنجليز هم الذين حرقوا القاهرة، وكان قبلًا يقول: ملك ايه اللي يحرق البلد؟ بقى دا كلام؟ أنا معاك صحيح إنه راجل خمورجي وبتاع نسوان، إنما حرق البلد دي مسألة تانية.

مع هذا، إلا أنه كان يقوم بما يقوم به من أعمال بميكانيكية لا روح فيها كمحكوم عليه بالإعدام انتهى أمله.

غير أن أشياء صغيرة قد تحدث فتغير من حياة الناس، وسمع حمزة في الراديو مرة أنَّ حظر التجول قد رُفِعَ إلى العاشرة، وكاد يمط شفتيه في ابتسامة من يقول: وماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟

لولا أنه في أجزاء من الثانية كانت قد تجمعت في عقله متباعدات، وانتصب أمامه أمل كاد من فرط الثقة به أنه يتخيله حقيقة واقعة.

لقد تذكر أنه قال لفوزية شيئًا كهذا: إن لم يتم اللقاء فيكون الميعاد في نفس المكان والزمان من الأسبوع التالي.

ولكن هل لا تزال فوزية تذكر هذا؟ وهل من المعقول — إن هي تذكرت — أن تأتي وقد انتهت المعركة؟

ومن أين يأتيه ذلك اليقين الذي يملأ عليه نفسه ويؤكد له أنها لا بد قادمة؟

أسئلة مثل تلك عاش عليها الأيام الباقية من الأسبوع، وكانت لا تزال تراود عقله وتلح وتتجسم في خياله وهو واقف مساء ذلك الأربعاء بجوار قصر البارون امبان ومنظار أسود على عينيه، وأنفه يشم من بعيد رائحة الآدميين ويتوقع في كل لحظة أن يضع البوليس يده على كتفه ويقول: ياللا بينا يا حمزة.

وفي تلك البقعة الموحشة من مصر الجديدة، وفي ليلة شتاء كليلتها كان البرد متوحشًا لا يهذبه نور ولا تقلِّم أظافره مساكن، وكان السكون لا تقوى عليه أعصاب، سكون بارد مخيف وكأن سكون قصر امبان المهجور قد عمَّ الدنيا، سكون يكاد يتلون فيصبح كالظلام المحيط، ويكاد يتجمد فيصبح كتلًا سوداء كأسفلت الطريق، وكان الظلام ميِّتًا لا حياة فيه، وكأنما قتله البرد المتوحش وقَبَرَتْهُ كتل السكون المتجمدة السوداء.

وقف حمزة وطالت وقفته، وعقله — من فرط ما كان للحظات قيمة — يكاد يتحول إلى ساعة تعد الدقائق وتحصي ما تبقَّى على موعد حظر التجول وتضطرب إذا مرت الثانية، وتكاد تتوقف إذا ما أحصت دقيقة كاملة.

وتلاحقت ضربات قلبه فجأة، ثُمَّ رأى شبحًا صغيرًا قادمًا من بعيد، ووجد نفسه يتحرك ناحيته بلا أي تمعن أو انتظار، ويا لروعة الوجه الأبيض الدقيق الذي أطلَّ عليه من الظلام!

– أهلًا.

قالها وهو يودعها أسبوعًا بأكمله من اليأس المر والأمل الخافت، والترقب الذي دام أكثر من مائة ساعة، وما كادت الكلمة تغادر فمه حتى أحس باندفاعه أكثر من اللازم، وحين سلَّم عليها فعل هذا بوعي حتى لا يعتصر يدها.

وسارا جنبًا إلى جنب، وكانت فوزية تبتسم باستمرار وتلمع عيناها دافئتَيْن نشيطتَيْن في الظلام كلما سقط عليهما ضوء بعيد، وسألته لماذا النظارة السوداء في الليل فأجابها: أصلي مختفي، والنظارة تساعد.

– ولا تساعد ولا حاجة، دانا عرفتك على طول، عامل ايه بعد اللي حصل؟

ولم يُجِبْ حمزة؛ فقد خيَّمَ عليه صمت ما لبثت عدواه أن انتقلت إليها، كانت الضربة قد عادت بكاملها إلى وعيه وكأنما قد صوبت إليه لحظتها، وأخيرًا قال: خسارة!

– أيوه، خسارة!

ثُمَّ أضافت: تعرف إني رحتلك المعسكر النهاردة؟

– ليه؟

– أصلي قلت يمكن تكون قصدت بنفس المكان المعسكر، فقلت اروح هناك وإن ماجتش أجيلك هنا.

– وازي المعسكر؟

– يدوب عرفته، دا معدش فيه حاجة، الخيمة طبقها الهوا، والخشب مهدود، ولقيت هناك نقطة عساكر.

وعاد حمزة يقول من بين أسنانه: خسارة!

وتنبهت الساعة التي في عقله إلى الزمن فجأة، وكانا قد اقتربا من الشارع الرئيسي، فقال حمزة بعد أن نظر في ساعته: احنا لازم نرجع مصر بسرعة؛ باقي تلت أرباع ساعة على حظر التجول.

قال هذا وجرى يبحث عن تاكسي، وسألها وهو يجري: انتي ساكنة فين؟

فأجابته وقد بدأت تجري هي الأخرى: في شارع خيرت.

وقال حمزة وهو يزيد من سرعته: ياه!

وبدا عثورهما على تاكسي في تلك اللحظة يكاد يكون مستحيلًا، ولكنهما وجدا واحدًا كان في توصيلة إلى مصر الجديدة، وما كادا يضعان أقدامهما فيه حتى انطلقت العربة كالقذيفة وسأل السائق: على فين؟

– شارع خيرت أوَّلًا وبعدين الدقي.

فقال السائق وهو يضغط على البنزين: أمَّا نروح شارع خيرت الأول، وإذا كان فيه وقت نشوف حكاية الدقي دي.

ومد حمزة يده واستخرج سيجارة من جيب سترته الأعلى، فسألته: أنت بتشرب سجاير واللا إيه؟

– أبدًا، بشرب سيجارة كده كل ٣ أيام، مش كيف، فاهماني ازاي؟

– بس بالطريقة دي حتبقى كيف.

– ماتخافيش.

وسكتت فوزية قليلًا ثُمَّ قالت: أنا كنت ناوية أجيبلك فلوس المرة دي، إنما ٢٦ يناير ده لخبط الدنيا.

– معلش.

– إنما لازم حاترجع كل حاجة زي ما كانت، بل أقوى مما كانت.

– لازم.

– حترجع المعسكرات والكفاح المسلح وكل المعركة.

– لا بد حترجع.

وسكت حمزة قليلًا ثُمَّ أضاف: دلوقت أنا بقيت في حاجة ماسة ليكي عشان نخلص بعض حاجات، وأنا مش حاقدر أقابلك بعد كده بره، وحاليًّا قاعد في شقة واحد صاحبي محامي، وأنا معرفشي استعدادك إيه؟ فاهماني ازاي؟ ممكن تواصلي والا…

وفاجأته بقولها: اديني عنوان البيت، واجيلك إمتى؟

– أنا مش عارف نمرة البيت إنما حوصفهولك.

وبعد دقائق كان التاكسي يتلوى مع شوارع مصر، ثُمَّ يقف في بيت شارع خيرت قريبًا من ميدان لاظوغلي، ورفض السائق أن يوصل حمزة إلى الدقي، ولكن تحت إلحاحه والورقة ذات الخمسين قرشًا قَبِلَ.

ودق جرس الباب، وفتح بدير وقد ارتدى الروب دي شامبر فوق جلباب كستور، وحبك طاقية صوف بيضاء على رأسه وتعمَّم فوقها بكوفية.

وقال له بدير وهو يعود إلى جلسته: يا أخي سيبت ركبي، أنا افتكرت إنك أكيد اتمسكت، كنت فين؟

– كنت بدور على شغل.

– ولقيت؟

– أيوه.

– إيه؟

– حادِّي دروس خصوصية.

– فين؟

– هنا.

وقهقه بدير، واهتز الفوتيل بقهقهته وكذلك جريدة الزمان التي كان يقرؤها، وأصبح الروب في أزمة.

– هنا فين يا سي حمزة؟

– في الشقة هنا.

– لأ كويسة، ما انت دمك خفيف اهه، أمال بيقولو عليك الكلام الفارغ ده ليه؟ المهم، اتعشيت؟

– مليش نفس.

– أهو ده مش معقول، دا انت بسم الله ما شاء الله عمر ما كان مالكشي نفس، دي معجزة، دي، لازم واحد يهودي مات، نفس إيه يا شيخ؟ لازم تتعشى، اتعشى عشان عايز أكلمك شوية.

ولم يستطع حمزة أن يقاوم أكثر، واضطر للجلوس وازدرد اللقم.

وقال له بدير وقد اتخذت سيماه طابع الجد: اسمع يا حمزة، إنت تعرف ان مصلحتك هي مصلحتي وانت زي اخويا تمام، وبقى لنا ييجي ١٥ سنة زملا واصحاب، وانا عايز اقول لك حاجة.

– إيه؟

– ما تهدى بقى ياخويا يا حمزة وتفضك من الحكاية دي، كفاية بقى ضيعت كام سنة من عمرك هدر وماعدشي في العمر قد ما مضى، إنت طول عمرك كده حتفضل هربان ومرفود ومانتاش لاقي تاكل. لا مؤاخذة يعني يمكن يكون كلامي شديد شوية إنما الحقيقة كده.

وابتسم حمزة وسأله: دا نفس الكلام اللي بتقوله أمي بالظبط، أهدى ازاي بقى؟

– تهدى، تشتغل وتتجدعن وتتجوز وتعمل لك بيت وعيلة وتفوق لنفسك بقى، واحد مثقف زيك مايصحش يعيش كده.

– بس انا سعيد جِدًّا بالحياة اللي انا عايشها دي.

– سعيد؟ سعيد ازاي بقى؟

– سعيد لأن المهم مش الواحد عايش ازاي واللا فين، المهم الواحد عايش ليه؟ المهم الواحد بيعمل ايه للناس؟

– أنا موش فاهم، خدني على قد عقلي يا أخي، إنت بتقول إيه؟

– ما هو طبعًا لازم تكون موش فاهم؛ إنت راجل ليك حياتك الخاصة وبيتك الخاص وعملك الخاص، أنا ماليش حياة خاصة، أنا واضع نفسي وحياتي في خدمة الشعب، إذا استدعت الحاجة إني اهرب أهرب، أسجن أسجن، أموت أموت.

– ده مش معقول، بقى يعني انت خلاص بقيت نبي واللا ولي، ما انتاش عايز حاجة من الدنيا؟ مالكشي يعني مطامح خاصة؟

– مطامحي الخاصة هي بالضبط مطالب الشعب العامة.

– إيه الحِكَم دي؟ أفهم من كده بقى ان سعادتك لا حتتجوز ولا عمرك حايبقى لك بيت يعني؟

– لازم حتجوز واخلف، بس لازم جوازي يخدم قضيتنا مش يكون على حسابها، ولازم حيبقى لي بيت بس بيت يهيألي فرصة أكبر لخدمة الشعب.

– يبقى إن شاء الله حتفضل كدهه متشرد زي ما انت على طول.

– أبدًا، اللي مشردني هو نفسه اللي مشرد ملايين المصريين، ومش ممكن الملايين تفضل مشردة على طول.

وسكت بدير طويلًا ثُمَّ قال: هيه، طيب، الظاهر مافيش فايدة، هيه، تصبح على خير.

وجذب الغطاء وما لبث أن تصاعد شخيره وراح في النوم.

ولم يَنَمْ حمزة؛ فقد ذكَّرته المحاورة التي دارت بالغربة التي أحسها منذ أن جاء إلى الشقة الفاخرة، حتى كلمة «الشعب» وهو ينطقها بَدَتْ غريبة هي الأخرى، لا تكاد تجد لها مكانًا بين النجف والأبسطة وقطع الأثاث المنمقة، وكذلك بَدَت الرؤى التي راحت تنبثق في خياله: أمه، أبوه، أبوه عامل الدريسة، وشاربه الغزير الكث الذي ينثني فجأة عند أطرافه، عزب الدريسة حيث مرتع طفولته وصباه، العزب التي تقيمها المصلحة في مكان ما بين محطتَيْن للعمال الذين يُصلحون القضبان، المجتمع المغلق المقفول على مَنْ فيه، كل قاطنيه من العمال، الحياة يزاولها الناس معًا، الأسرار ملك للجميع، والفقر موزع بالعدل على الجميع، الزوجات يستحممن معًا في صباح الجمعة ويتباهين بما حدث ليلتها، والأزواج يغطسون معًا ليتطهروا في الترعة، العزبة يتولاها النساء من الصباح فتبدأ الخناقات التي لا تنتهي على الإوز الضائع والبط، البيض هو العملة السارية بين النساء والسجاير اللف هي السارية بين الرجال، والنقود هي العملة التي لا بد من سريانها بين الرجال والنساء وإلا كان ما كان، في كل عزبة ذئب يلتحي أحيانًا لحية ويتستر أحيانًا بزوجه، الرجال قد لا يعلمون والأطفال والنساء له بالمرصاد، في كل عزبة بخيل منبوذ يجمع المليم فوق المليم وأمله قيراط أرض يشتريه في بلده، في كل عزبة سني مهووس يسخر منه الرجال وتتبرك به النساء، في كل عزبة زوجة جميلة وغيرة ومشاحنات، وأطفال يُولدون بالعشرات، وناموس وملايين الحشرات، وكلاب وعواء كلاب تحرس الفقر والقلل والستر.

في كل يوم مشكلة وشكلة وزعيق وشجار، ومحاولات للريس أن يفرض سلطانه، ومحاولات من العمال أن ينزعوا عنه السلطان، وكلام عن الكادر وكلام عن الخصم، ونساء يبحثن عن الحَبَل ورجال يبحثون عن السلف، ومناطيل صفراء في صفارها رقع، وطاقيات صوف طويلة وأحذية من مخلفات الجيش المصري ثقيلة، وصفير قطار آتٍ وصفير قطار ذاهب، وبنت بِكْر تفتح الشباك وتتأمل الآتي والذاهب وتتنهَّد وتحلم بالبندر والأفندية وثلاث أساور قشرة.

في كل يوم شكلة وشكلة وزعيق وشجار، وما يكاد اليوم ينتهي والشمس تغيب ودخان المواقد يهمد ودخان القطار ينقطع، حتى يؤوب الرجال إلى البيوت في الشتاء وإلى ما أمامها في الصيف، وتُوضع الطبلية وحولها الأفواه، وينتهي عشاء ما كاد يبدأ ويعقبه استرخاء وحديث قصير متباعد بين الزوج والزوجة فيه من النوم أضعاف ما فيه من اليقظة، وفيه من التفاؤل أضعاف ما فيه من تشاؤم، الزوجة قلقة والزوج راسٍ، المرأة خائفة والرجل يؤكد، الزوجة تتثاءب والزوج يغمغم متعبًا: بكرة تتعدل.

وهو والأولاد.

النهار لهم، نهار كله جري ونط واستحمام في الترعة، وعد «فلنكات» السكة الحديدية، ومحاولة السير دون معاونة فوق القضيب الواحد، وعمل «أزندة» تقدح الشرر من الزلط تشبُّهًا بالآباء، وصيد العصافير بالنبال والحصى الصفير، وأروع لعبة وضع مسمار على القضيب حتى إذا ما مر عليه القطار بططه ورققه وأصبح حادًّا كالسكين، والتين الشوكي الكثير الذي يغطي جانبَي الخط الحديدي، وموسم التين الشوكي والمطاردات التي لا تنتهي مع التاجر الذي يشتريه من المصلحة ويخفره.

هو والأولاد.

كلهم مثله مرضوا بالبلهارسيا والأنكلستوما والحصبة والملاريا والرمد، وخرج بعضهم بصفرة ليس بعدها حمرة، أو بطحال.

والشيخ زيدان وكتابه والمدرسة الإلزامية وعلقها، وابتدائي بالبدلة، أول بدلة، والطربوش الكالح الحقير، والتفوق في الابتدائية ٨٥٪ مجانًا في الثانوية، أبوه فرحان وأمه تريده صنايعي وكفى، أبوه يريده مهندسًا يعمل أيضًا في السكة الحديدية مثل رئيس رئيس رئيس رئيسه، أمه تَرْقِيه من الحسد وأبوه يُريه بنطلونه الذي يشبه الغربال ويقول: يا الأول يا كده. ويكون الأول، وبعد توجيهي الويل، الألم، الكفاح الرهيب من أجل عام مضى ولم يبقَ إلا ثلاثة أعوام: يا مسهل يا رب! وفي هذا كله يبوظ، بوكر وكنكان وروم حامض ونساء ذوات شعر أكرت وروج فاقع الحمرة كختم السلخانة فوق الذبيحة، وكذب على أبيه ونصب على أصدقائه، ورسوب عام وإخفاء الرسوم وإيهام أبيه أن «الأول» نجح، وخداع ومناورات، الأب يكفر، المطالب تخنقه، أمه تتعلم شغل المناديل بأويه، العزبة كلها تساعد، حتى الريس يدفع كل شهر نص جنيه، أخوه الأصغر منه يخرجه أبوه من المدرسة ليكمل هو فهو الأكبر والأقرب إلى قبض الماهية، ٦ مارس والمظاهرات واللجان والمؤتمرات، أخوه عامل مناورات في السكة الحديد والقطار يلهف قدمه ذات صباح، ستة شهور في مستشفى المديرية، أخوه يعود إلى العمل بقدم واحدة خفير مزلقان، حمزة يتخرج ويعمل في مصنع. أول ماهية يطبع بها منشور النقابة، سياسة واجتماعات ومناقشات وكفاح ومواعيد، البوليس السياسي يتعقبه. أول فصل القضية التي حاولوا تلفيقها، معتقل ٤٨، عشرون شهرًا في الطور وهاكستب وسجن الأجانب في إسكندرية، يوم الإفراج، كلما قدم لمصر مستر أو مارشال قبضوا عليه. في كل مناسبة وطنية أو عالمية الحجز في القسم أيَّامًا قد تمتد إلى أسابيع حتى ليستطيع في أول كل عام أن يضع قائمة بالأيام التي سيزور فيها القسم كما تُوضع أيام العطلات الرسمية في أول النتائج. بدلته الواحدة التي فصلها عقب تخرجه، ونظارته التي عملها في وحدة الجامعة بجنيه، وحذاؤه الذي هو ثاني صاحب له، النقود التي يرسلها لأبيه أحيانًا، والشبشب الأسود الذي طلبته أمه ولم يستطع إرساله، أمه لا تزال تطرز المناديل بأويه وأبوه ابيضَّ شاربه وكبر ولم يصبح بعدُ «ريس»، وأخوه لا يزال يعرج ويغلق البوابة للقطار ويفتحها حين يمر، وأخته نبوية عانس لا زالت، وعزبة دريسة أخرى يعيشون فيها، تدعو له أمه بالهداية وأبوه يتحدث بأخباره إلى الرجال ويلعن الحكومة ومصلحة السكة الحديد، والعزبة كلها تنسج حوله أقاصيص بطولة ويقول الصغار إذا ما مر القطار: دا رايح لحمزة.

– إنت مش حتنام يا حمزة واللا إيه؟!

– أيوه حنام يا بدير.

٥

وفي اليوم التالي وفي حوالي الخامسة دق الجرس، وكان بدير قد خرج إلى عمله بعد الظهر، وفتح حمزة وفوجئ بفوزية أمامه بدمها ولحمها، وابتسمت وقالت وهي تدخل: أنا طول السكة خايفة لأغلط في الشقة، إنما كويس، أصلي كنت عند واحدة صاحبتي هنا في الدقي، فقلت أفوت أعرف البيت.

ومع أن حمزة لم يصدق حجتها في المجيء، إلا أنه لم يدرِ السر في الراحة العميقة التي أحدثها مجيئها في نفسه.

وجالت فوزية ببصرها في الشقة وقالت: إيه؟ هو صاحبك دا مليونير؟ دي شقة فخمة قوي!

وجلس على مكتب بدير وجلست هي على الفوتيل الذي أمامه، وما لبثت أن قالت: قول لي، مش ممكن أشرب قهوة؟

فقال حمزة على الفور وهو يغادر مكانه: ممكن قوي جِدًّا، بس كده؟

وذهب إلى المطبخ الأنيق ذي الفريجيدير الضخم والبوتاجاز والطلاء الأبيض الناصع الذي يلون جدرانه وأرففه ودواليبه، ويحيله إلى شيء يكاد يقترب من حجرة العمليات، كثيرًا ما فكر حمزة أن ينام فيه، وسمع صوتها يأتيه من بعيد: عاوزة كباية كبيرة، سكر مظبوط وحياتك.

فرد عليها بصوت مرتفع: بس كده؟

وبحث بعينيه في الدولاب حتى وجد كوبًا يصلح.

وبعد برهة كان ينقل أقدامه بحرص وهو يحمل صينية عليها كوب القهوة المضبوط، وفنجان سكر زيادة صنعه لنفسه، وماءً مثلجًا، وما إن رأته حتى ضحكت وقالت: ياه! أشكرك جِدًّا! دا أنت ولا جروبي!

وأخذت رشفة من الكوب ثُمَّ قالت: تصور إني أديت ست حصص النهاردة! أنا دماغي خلاص، والمشكلة إني بعد ما بارجع البيت بافتح مدرسة تانية لاخواتي.

– إنتي ليكي أخوات؟

– بنتين أصغر مني.

– وحلوين زيك كده؟

قالها حمزة مدفوعًا بطاقة الحديث ليس إلا، وأنَّب نفسه بسرعة وفظاعة على ما قال وكأنه ارتكب إثمًا.

وساد سكوت لم تكن تسمع خلاله إلا رشفات القهوة، وكان من العسير والمكتب يفصلهما وكل يتحاشى النظر في وجه الآخر ويتلهَّى باحتساء القهوة، والهدوء مخيم وجميل والظلام قد بدأ يدب إلى الخارج والجو يوحي بالصمت، كان من العسير استئناف الحديث، ولكن حين بحث حمزة بيديه وأخرج سيجارة من درج المكتب قالت فوزية: مش قلتلك، حتبقى كيف؟

فقال حمزة وهو لا يزال يبحث عن الكبريت: أبدًا، أصل الواحد أعصابه …

وأخيرًا أشعل السيجارة وقال وهو يكح: أظن نبدأ العمل.

– أيوه.

– بقى شوفي يا ستي، أنا بقيت زي الفار في المصيدة بعدما فقدت كل اتصالاتي، ودلوقتي انتي الصلة الوحيدة اللي باقية لي، فاهماني ازاي؟ أنا معرفشي استعدادك ايه، معرفشي إذا كنت فاضية، ممكن تشتغلي واللا متشتغليش.

وقاطعته فوزية: بقى شوف يا سيدي! بلاش مقدمات وحياتك خش في الموضوع، عايز ايه؟!

– عايزك تروحي لواحد وتقوليله إنك متصلة بي، وتوضبي معاه ازاي أقدر أقابله.

– اسمه إيه وساكن فين؟

– اسمه حسن محمد حسن ما انتي لازم تعرفيه، مش فاكرة الجدع الطويل الضخم اللي كان معايا في الخيمة يوم ماجيتي.

– أيوه.

– أهو ساكن في القبيسي في حارة كشك نمرة ٥.

– اكتب لي العنوان.

– أهه.

– عاوز حاجة تانية؟

– أيوه، ده عنوان الأوضة اللي كنت ساكن فيه وده مفتاحها، تروحي هناك وتفرزي كل الورق اللي تلقيه مهم هاتيه معاكي، وإذا كان ممكن تجيبيلي الغيارين اللي هناك، وخلي بالك البيت لازم مراقب.

– حاجة تانية؟

– أيوه تبعتي الإيجار لصاحب البيت في جواب مسوجر على نفس البيت، وآدي الفلوس.

– بس؟!

– بس، كلميني بقى عن جمعيتكم، فيها كام مُدرِّسة، استعدادهم ايه؟ ممكن يعملوا ايه؟

– شوف.

وأخذ حمزة ينصت إليها ويكتب في ورقة اسمه وحضرة المحترم وفوزية وأشياء من هذا القبيل، ويحسن في خطه وأحيانًا يرسم دوائر وزهور، وكان ينصت ووجهه إلى الورقة، ورفع مرة بصره إليها، كان الضوء في الحجرة يأتي من النجفة قويًّا باهرًا، ويتكفل الكريستال المدلى ببعث الحياة فيه وإعطائه ألوان طيف جذابة تبرق وتختلط بدخان سيجارته الذي كان قد تجمع وانعقد حول البلَّور وعشش بينه، وأحال النجفة إلى خميلة ذات زهور وأكمام يلفها ضباب صبح ندي.

وكانت فوزية جالسة قبالته على طرف الفوتيل تتحدث وتنفعل لكل كلمة تقولها وتكاد تقوم وتقعد، وقد استدارت إليه بوجهها الذي أشاع فيه التعب حمرة وأشاعت القهوة في الحمرة حياة، وبشفتَيْها الصغيرتَيْن المكتنزتَيْن، ويدَيْها ذواتي الأصابع النحيلة الطويلة التي تنتهي بأظافر من ورق الورد.

واكتشف حمزة من نظرته تلك أن فوزية أنثى وأنثى جميلة، نادرة الجمال.

وسكتت فوزية فجأة وضيَّقت عينَيْها وزمَّت شفتَيْها، ثُمَّ قالت بلهجة تقريع: أنت سرحت واللا إيه؟

فأجاب بسرعة وهو يعود من جولته: أبدًا أبدًا، أصلي كنت بافكر في حاجة كده.

– طيب أقدر أكمل؟

– طبعًا طبعًا، أيوة، كُنَّا وصلنا لفين؟

ومضت لحظة وهي ساكتة ثُمَّ قالت في مزيج من اللوم والعتاب: كنت بقول إن بهية دي واحدة من أحسن العناصر اللي في المدرسة وإنها …

واستأنفت كلامها والعتب لم يغادر نبراتها بعدُ، وعيناها لا تتركان عينَيْه، وتقول له بمعدل مرة في الدقيقة: معايا؟

فيرد في التو: معاكي.

إلى أن قالت: فإيه رأيك بقى؟

واعتدل حمزة وبدا عليه الجد، بل حتى كلامه خرج جادًّا فيه ثقة مطمئنة وإصرار زائد وكأنه قد أصبح شخصًا آخر.

– خليكي على اتصال دائم بيهم، فهمهيم إن المعركة لم تنته، فهميهم إن الشعب يستعد لانقضاض أشد وأقوى، الظروف اللي بنمر بيها ظروف طارئة، نكسة لا أكثر ولا أقل، إنما الغليان مستمر، دي حاجة، والحاجة التانية من كلامك فهمت إن فايزة عندها مشكلة، وأفتكر إن أحسن حل لها …

وأخذت فوزية تنصت باهتمام شديد إليه، وتود أن تلتقط الكلمات حتى قبل أن تصنعها شفتاه كلمات، كان في كلامه حكمة وكان يقول لها أشياء غريبة ويحدثها عن حلول تبدو لبساطتها ساذجة، ولكنها في الوقت نفسه ممتنعة تحار فوزية وتستغرب كيف لم تفكر في حلول مثلها، وأخيرًا قال وهو يغادر كرسيه: أنا منتظر، وأتمنالك التوفيق.

وقامت هي الأخرى، وتمطت متثائبة وهي تقوم.

وسمعا مفتاحًا يدور في الباب الخارجي أعقبه وَقْعُ أقدام ثقيلة وحيدة في الصالة، وصوت غليظ يغني أحدث أغاني عبد الوهاب إذ ذاك: على إيه بتلومني، بتلومني ليه؟

فقال لها: دا الأستاذ بدير المحامي.

وفي أعقاب كلماته دخل بدير وهو يقول: ياما قلبي شكا، ياما دمعي.

وسكت فجأة حين وقعت عيناه على فوزية، وحملق فيها كأنه يحملق إلى إنسان له أربع أيد ورأسان.

وقال حمزة: جيت بدري يعني؟

وكافح بدير طويلًا ليقول: أصلي، خلصت بدري.

قالها وهو لا يزال ينظر إلى فوزية ويكاد — لولا الحياء — أن يسأل عمن تكون.

وتنحنح حمزة وقال: يا أستاذ بدير، أقدم لك الآنسة سميحة تلميذتي.

فقال بدير وقد عاد إليه ذهوله: تلميذتك؟

– أيوه، مش قلت لك إني حادي دروس خصوصية.

– دروس خصوصية؟

– أيوه.

– آه! دروس خصوصية! طيب يا أخي، مش تقول م الصبح دروس خصوصية؟ أهلًا وسهلًا، شرفتي يا آنسة سميحة، أهلًا وسهلًا!

وسلَّم عليها، وفي الجو الذي ظل فترة تسوده علامات الاستفهام والتعجب قالت فوزية: الساعة كام؟

فقال حمزة: ثمانية.

فقالت وهي تلتقط حقيبتها: ياه، أنا اتأخرت قوي، سلام.

فوقف بدير كالمطعون قائلًا: أبدًا لسه بدري، دا احنا بدري قوي، تمانية ايه يا راجل دي ماتجيش سبعة وشوية، اقعدي والله، أسمعك مزيكة، عندي عربي وأفرنجي، تحبي ايه؟

فقالت فوزية وهي تعلق الحقيبة في كتفها: معلش والله، سلام.

ويبدو أن اللهجة الفاترة التي نطقت بها جملتها حسمت كل شيء.

وسار الاثنان حتى الباب الخارجي يودعانها، وابتسم بدير وهو يغلق الباب وراءها ابتسامة واسعة ذات معانٍ، ثُمَّ لكز حمزة قائلًا: بقى بتدي دروس؟ في ايه يا ترى؟

وابتسم حمزة ابتسامة أخرى ذات معانٍ وقد سرَّه أن يفهم بدير المسألة على هذا الوضع، وعاد بدير يقول: بقى دروس، يا نمس!

وعاد حمزة يبتسم وهو يقول قاصدًا أن يفهم بدير من قوله أنه يحاول تغيير مجرى الحديث: الأخبار ايه!

– إلا عرفتها ازاي دي يا واد؟

– يا جدع سيبنا من الحكاية دي، الأخبار ايه صحيح؟

– بيقولوا مفاوضات، بقى دي تلميذتك يا دبور؟

– مفاوضات! ازاي؟

– رئيس الوزارة طلب مقابلة السفير الانجليزي.

– سمعت الخبر ده فين؟

– من واحد صديقي صحفي، بقى دروس؟ دا كمان لقيته مكتوب في الزمان.

– فين؟

– أهه.

وناوله الجريدة وانكبَّ عليها حمزة من فوره، بينما كان بدير يخلع ملابسه ويقول: ياخويا الجدع ده بيقول إنه مختفي وبيعرف النسوان دي ازاي؟ والواحد زي الشحط وما يعرفشي يكلم مرة، قسمتنا كده يا سي بدير، نصيبنا كده، بت حلوة عاجبها في حمزة ايه مش عارف؟ على إيه بتلومني، بتلومني ليه، ياما قلبي شكا ياما دمعي بكا، ما رحمتنيش ليه؟

٦

وفي الساعة السادسة والنصف صباحًا استيقظ حمزة فجأة منتفضًا وكأنما قد حدثت أهوال أثناء نومه، وعرف بعد ثوانٍ أن الذي أيقظه هو جرس الباب الخارجي الذي كان يدق دقًّا متواصلًا.

وفي الثواني التالية استعاد وعيه وأصبح على استعداد لمجابهة الخطر، وهز كتلة الشحم واللحم التي تكون الأستاذ بدير الراقد بجانبه محاولًا إيقاظه ولكن عبثًا ما كان يحاوله، فما كان يظفر على تنبيهه لبدير أن الباب يدق إلا بغمغمات وتوهات، وأخيرًا قال بدير وهو بين اليقظة والمنام: دا لازم، بتاع اللبن الله يخرب بيته، روح افتحله.

وقام حمزة وهو نصف مكذب متوقعًا أن يجد بدل زجاجة اللبن فوهة مسدس، وفتح «شراعة» الباب، ومرة واحدة فُوجئ بفوزية واقفة وفي وجهها قلق كثير، وفتح الباب في الحال فقالت في همس سريع خطير: اسمع.

– إيه؟

– حسن اتقبض عليه.

– اتمسك؟

– أيوه.

– إزاي؟ مش معقول!، طيب ادخلي الأول، ادخلي، مش معقول! قولي لي بالظبط إيه اللي حصل؟

– رحت لقيت واقف قريب من البيت راجل باين عليه كده … أهو ماعجبتيش شكله والسلام، فشكِّيت وما رحتش على البيت، رحت على قهوة في الحارة كانت لسه بتفتح وسألت عليه الجرسون وقلت له إني قريبته، فبص ليه كده واستغرب وخاف مني شوية، وبعدين حكيت له حكاية طويلة كده فقال لي إنهم راحوا له البيت من يومين وخدوه، فركبت تاكسي وجيت على طول.

– جيتي على طول؟

– لأ، نزلت من التاكسي في الميدان وجيت ماشية لحد هنا.

وسكت حمزة ولم يتكلم فقد راح يهز رأسه بين الحين والحين وهو يردد: غريبة، غريبة.

ثُمَّ التفت إليها قائلًا: رحتي له إمتى؟

– دلوقت.

– دلوقت؟

– أيوه، ما أنا قلت اروح بدري قوي أضمن وأحسن.

وابتسم حمزة رغم ما به وقد أعجبه منها ما قالت ثُمَّ قال: طيب حصل خير، استني شوية.

وغاب لحظة في حجرة المكتب ثُمَّ عاد ومعه ورقة صغيرة وقال: اطلبي النمرة دي، وإذا ردت قولي له إني عايز أقابله.

– طيب.

– ضروري النهارده.

– ضروري.

وجاءهم صوت بدير من غرفة النوم: إيه يا حمزة؟ مين؟

فرد حمزة: بتاع اللبن.

ثُمَّ التفت لفوزية وقال: إذا ماردتشي النمرة ابقي كل ما تفضي اضربيها.

– حاجة تانية؟

– لأ.

– طيب أنا جاية بعد الضهر عشان الحاجات الباقية، سلام.

– سلام.

وفي حماس مضطرب سريع اختفت فوزية وأغلق حمزة الباب، وعاد على مهله إلى حجرة النوم ويداه خلف ظهره وزوبعة في عقله، حسن «أبو علي» كما كانوا يسمونه الذي كانت الأمور تتعقد أحيانًا وتشتبك ويظل هو صامتًا، ثُمَّ يتكلم آخر الأمر، يقول كلمة أو اثنتين، ولا يرفع صوته ولا يجادل كثيرًا؛ فقد كان يعمل كثيرًا لا بتهور واندفاع ولا ببطء وشك، وإنما باتزان وتؤدة واستمرار.

كان في الفترة الأخيرة متعطلًا وقد فقد العمل، وكان ليل نهار في المعسكر يحرسه ويبنيه، وكانوا دائمًا في حاجة إلى كلمته الواحدة أو كلمتيه الاثنتين، والآن!

وقال له بدير: هو اللي جاب اللبن، إيه؟ واحدة ست واللا إيه؟

– أبدًا، راجل.

– أمال اتهيأ لي إني سمعت صوت نواعمي.

– لازم كنت بتحلم.

– يجوز.

قالها بدير وهو يرعد ويبرق ويموء ويتثاءب ويعود للنوم.

وجلس حمزة على حافة السرير يفكر في فوزية وكيف استيقظت لا بد في الرابعة صباحًا لتأتيه في السادسة والنصف بعد جولتها الرهيبة.

ولم يفكر في هذا إلا هنيهة ثُمَّ دلف إلى المشكلة الكبرى «الأسمنت»، كان هو وحسن الوحيدين الذين يعرفان مكانه، وقد قُبِضَ على حسن وهو لا يشك أبدًا في إخلاصه ولا يمكن أبدًا أن يفقد الثقة فيه لحظة واحدة، ولكن الطبيعة البشرية لها حدود والاحتمال مهما طال لا بد أن ينتهي، ولا أحد يستطيع أن يخمن ما قد يحدث، فلا بد من نقل «الأسمنت» من مكانه اليوم، بل الآن! وكيف يكون هذا؟ تلك هي المشكلة.

واستمر حمزة يفكر حتى بعد أن استيقظ بدير وارتدى ملابسه وجلسا يتناولان الإفطار، وللمرة العاشرة أو أكثر راح بدير وهما على المائدة يتأسف ويشرح له نظريته: مش كده أحسن بذمتك؟ خدامين إيه؟ أوَّلًا كل الخدامين بلا استثناء حرامية، وثانيًا بيكلفوا كتير، وثالثًا تبص تلاقي الواحد منهم مشاركك في عيشتك، على إيه ده كله؟ غسيل؟ جبت غسالة بالكهربا، كنس؟ جبت برضه مكنسة، طبيخ؟ مالوش لزوم آكل في المطاعم أحسن، وإن هفَّ على الواحدة حاجة يبقى يعملها بنفسه على الأقل يضمن نضافتها ويتسلى وبتبقى لذيذة جِدًّا، مشفتش أنت المكنسة اللي بالكهربا؟ أصلي كسلت اليومين اللي فاتو، إنما دي حاجة مدهشة قوي، شوف.

وقام بدير من على المائدة وفي فمه بقية من طعام، وأحضر المكنسة ووضع «كبسها» في «الفيشة» وضغط على الزر ولكنها لم تعمل، فأُصيب بالذعر وانحنى عليها يرى ما هنالك، ولما أتعبه الانحناء وجعله يتفصد عرقًا جلس على الأرض ببدلته وأخذ يفحصها بعناية وبجرب.

كان حمزة قد انتهى من تفكيره إلى قرار، فلا بد أن يذهب هو وينقذ «الأسمنت» مهما حدث، ولتكن مخاطرة وليُقْبض عليه، ولكن لا بد من إنقاذ الأسمنت فقال لبدير: أنا رايح أجيب هدومي النهاردة.

فرد بدير وهو لا يزال منهمكًا: هه؟

– عوز شنطتك الكبيرة.

– هم.

– وسبلي المفتاح.

– إيه؟

– بس ياخويا البتاع البارز ده ليه؟ يمكن هو السبب؟

وفجأة اشتغلت المنكسة فذُعر بدير للمفاجأة، ثُمَّ ما لبث أن ابتسم وقال: شفت مدهشة ازاي!

ولكن حمزة أجاب: هات المفتاح.

– مفتاح!

واضطر حمزة أن يعيد ما قال، ويمد يده آخر الأمر ويتناول المفتاح.

وخرج بدير.

وذهب حمزة إلى غرفة النوم حيث الحقائب الغالية موضوعة على قاعدة — الصغيرة منها فوق الكبيرة — مكونة هرمًا مدرجًا من الحقائب الأنيقة.

واختار حمزة أكبرها، وجرب طربوشًا من طرابيش بدير ولكنه وجده أوسع من رأسه، ولم يجد ما يصلح له إلا طربوشًا قديمًا مهملًا، فنظفه ما أمكنه وحشاه بورق جرائد ليستطيع ارتداءه، وقبل أن يغادر الشقة نظر إلى شكله في المرآة الكبيرة الموضوعة في الصالة واطمأن إلى وضع الطربوش وإلى حبكة المنظار الأسود وإلى حواجبه التي كثفها بسواد حصل عليه من رماد قطعة ورق أحرقها.

وغادر المنزل وهو ينظر إلى الناحية البعيدة عن البواب حتى لا يلحظه.

واستوقف أول عربة قابلته وقال للسائق: باب الخلق.

ومضت العربة.

كانت الدنيا لا تزال صبحًا والشمس توزع صفرتها على الناس والأشياء بسخاء، وتألم حمزة لمنظر الناس، وكان قد مضت شهور وهو في سرداب تحت الأرض خرج منه يومها، كانت فيهم ملامح أهل القاهرة الذين يعرفهم ما في ذلك من شك، ولكنهم كانوا غير الناس الذين رآهم لشهور طويلة قبل الحريق: كانت زحمتهم هي هي، وإسراعهم إلى أعمالهم هو هو، ولكن كان يخيم عليهم صمت بغيض، وكانت سرعتهم غريبة هي الأخرى؛ فهي ليست سرعة الإنسان النشيط ولكنها سرعة المرعوب، سرعة الذي يجري خوفًا من الكرباج، وكان الترام لا يزال يعوي ويسير والعربات الكارو تتأرجح وتجعجع وتركض أحصنتها، والتاكسيات لا تزال تحوم حول الزبائن، والدكاكين مفتحة الأبواب والكناسين يعملون، وأحيانًا تسمع في سماحة الصبح ضحكات وشتائم، ولكن كل ما كانت تقع عليه عيناه كان خاليًا من الحياة، كله خالٍ من أية حياة، الناس شخوص، والحركة في الشارع تدور وكأنها تدور على شاشة باردة في فيلم رسوم متحركة، والحديث والضحكات تخرج لا معنى لها أقرب إلى الأصوات التي تخرج عن الأحجار إذا سقطت أو الأخشاب إذا احتكت، منها إلى أصوات تخرج عن أفواه بشر.

وتساءل حمزة: أين الروح في هذا كله؟ وهل يصدق إنسان أن تلك هي القاهرة التي كانت قبل ٢٦ يناير، وهؤلاء هم الناس الذين قاموا بمظاهرة ١٣ نوفمبر والذين أمسكوا وزيرًا ذات يوم من تلابيبه وقالوا: أين السلاح؟

ومن العتبة مضى التاكسي في شارع محمد علي، حتى الموسيقى التي كانت تعزفها فرقة صغيرة كحيانة تزف إعلانًا عن فيلم في سينما الحلمية، حتى تلك الموسيقى كانت أقرب إلى نهيق حمير أو عواء أبقار منها إلى نغمات آلات.

ووصل التاكسي إلى باب الخلق.

وأوقفه حمزة وحاسبه، وركب تاكسيًّا آخر كان قادمًا من شارع الخليج وقال للسائق: حود في شارع الدرب الأحمر واطلع على باب الوزير.

وهدَّأ السائق من سيره وهو يجتاز الشوارع الضيقة المتلاحمة المزدحمة، وهدأت كذلك بقية الحياة الباقية حتى انتهت في آخر الأمر إلى أصوات عمال الأحذية في الحوانيت المتباعدة المتناثرة وهم يدقون المسامير في القوالب، وطرقات صانعي النحاس وهي تترى في استدامة مملة على السندان.

وعند باب الوزير غادر حمزة العربة حاملًا الحقيبة وهو يتلفت في كل اتجاه ويَزِن كل رجل يصادفه، وصعد في الطريق المؤدية إلى المقابر وعيناه أمامه وخلفه وعلى جانبَيْه، وحين وصل إلى المرتفع سار في اتجاه المدافن، وما كاد يمضي بضع خطوات حتى أشرف على أولها وتوقف حينئذٍ ودار بعينَيْه باحثًا.

وفي الظل الذي يجاور مقبرة وجد هناك رجلًا يبدو عليه أنه يمت بصلة ما إلى المكان.

– سلام عليكم.

– عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

وحدَّق حمزة في الرجل وفي عمامته ووجهه الأسمر وعينه الحولاء والجلباب الصوف البني الذي يرتديه، واطمأن إلى أنه ما دام أحول فلا يمكن أن يكون بوليسًا، فقال: والله ماتعرفشي سيد فين؟

– سيد مين؟

– سيد اللي بيشتغل هنا؟

– ما هو فيه لامؤاخذة في دي الكلمة سيدين: سيد شطا وسيد محمد براهيم.

ولم يكن حمزة قد فكر في مشكلة كتلك فقال: سيد يا أخي، الطويل قوي ده الرفيع.

– آه قول كده أمال، سيد محمد براهيم، أيوه أنت لازم قصدك سيد محمد براهيم، مش كدة واللا أنا من غير مؤاخذة غلطان؟

– لأ، لازم هو، هو فين؟

– هو، هو من غير مؤاخذة راح يعمل زي الناس وجاي، زمانه جاي، اتفضل! هو حضرتك يعني لا مؤاخذة عايز حاجة؟

– آه، أصل أنا طالب في كلية الطب وباجي آخذ منه عضم، بس ده بيني وبينك.

– عيب يا بيه، هو انا لا مؤاخذة عيل صغير واللا عبيط؟ دانا ياما أفندية وبهوات، ولاد حلال زي جنابك جولي كتير، كانوا بييجوا بعربيات فخفخه قوي ويقفوا هناك هنا هه، وأروح أنا أجيب لهم العضم أشكال وألوان، ويقولوا لي: عايز كام يا عم سماعين؟ أقول: والله ما يتبعني ولا مليم؛ هو انا اشتريته واللا تعبت فيه؟! من هنا لهنا يتحايلو عليَّ واللي يديني نص جنيه واللي جنيه، مش كله، حاكم صوابعك مش زي بعضها، ومرة واحد إداني بريزة، طب تصدق بإيه؟ صعب عليَّ وادتهالو تاني.

– هو حضرتك بتشتغل هنا؟

– إلا دي، دانا مولود هنا، وإن مت بإذن الله حموت هنا واندفن هنا (وأشار إلى مقبرة قريبة)، دانا جاني علي باشا إبراهيم الله يرحمه ويحسن إليه ياخد مني عضم، كان أياميها لا باشا ولا حاجة، كان زي حضرتك كده لابس طربوش برضه، أمال! دانا هنا وأبويا كان هنا وجدي هو اللي ناشئ الملك دا كله، طب تصدق بإيه؟ أنا مرة جبت لواحد بيه زي حضرتك كده جثة كاملة واداني يومها عشرة جنيه في إيدي دي اللي بكره حياكلها الدود، أنا هنا؟ وإن ماكنتش أنا هنا يبقى مين هنا؟ بس تقف عند باب الوزير وتقول سماعين أبو دومة فين يجيبوك لغاية عندي، أيها خدمة يا بيه؟ عايز بقى عضم مشكل واللا هيكل بحاله؟ قول بس وفي دقيقة تبص تلاقيني جايبلك اللي أنت عاوزه، عايز ايه جنابك؟

– أنا عايز سيد.

– آه سيد، زمانه جاي، أصله من غير مؤاخذة راح يعمل زي الناس، ما هو انا وسيد واحد مافيش فرق كلنا اخوات.

وجاء سيد، بدا من بعيد لطوله ونحافته وكأنه شاهِد قبر هبط فجأة على الأرض وأخذ يمشي، وما إن لمحه حمزة حتى أسرع إليه تاركًا أبو دومة يقول: أي خدمة يا بيه؟ كلنا اخوات، بس تقول فين سماعين أبو دومة ألف من يدلك.

وسلم عليه سيد بحرارة، ولم يتبادلا كلمة واحدة حتى ابتعدا كثيرًا وتاها في كثرة المقابر، وحينئذٍ قال سيد: خير إن شاء الله؟

– اسمع يا سيد.

– إيه؟

– إنت فاكر حسن؟

– أوي! ماله؟ دا واد جدع قوي.

– اتقبض عليه.

– يا نهار أسود! ازاي؟

– كده، لازم ننقل الأسمنت النهاردة.

– وحسن اتقبض عليه؟

– أيوه ما قلتلك.

– يا خسارة! يا فتاح يا عليم يا رب! ما تخدوني بقى يا أخي، الواحد قرف من العيشة دي.

– حييجي يوم ناخدك بس كل حاجة بأوان، واللا إيه؟

– وحنعمل ايه؟

– ياللا هاته عشان نعبيه في الشنطة دي.

ومشى سيد وقد اكفهرت ملامحه وتغضن وجهه المتغضن وازداد نحولًا.

ومشى حمزة وراءه يراقب أقدامه الحافية الكبيرة وهي تترك آثارها على الرمال، وجلبابه الذي عقد ذيله من ناحية والعقدة تتأرجح لكل خطوة، وكانت المقابر تسبح في هدوء يوم الشتاء ذاك، هدوء مهيمن كبير أكبر من السماء والأرض، وأشعة الشمس ما تكاد تصل حتى يشلها الهدوء، فتُكمل رحلتها إلى الأرض زاحفة عليلة، وكانت رياح باردة تهب، رياح ذات طعم مختلف تمامًا عن رياح المدينة وكأنها تهب من فجوة خاصة في أحد المدافن، والقبور متراصة مزدحمة تكاد تحسبها قطيعًا مهرولًا من ركائب مسرجة، ولا يستطيع الإنسان أن يميز شيئًا بذاته؛ فهو يرى القبور من خلال يوم الشتاء البارد، ويحس بالريح من خلال القبور والزمهرير، ولا يرى الشمس إلا مضيئة مدفنًا أو زاحفةً أشعتها فوق تراب حفرة. وتنبه حمزة من تأملاته على آثار أقدام سيد وهي تنقطع وتؤدي إلى باب فتحه سيد وأحدث فتحه في الهدوء الشامل صريرًا مزعجًا، ودخل سيد ودخل حمزة وراءه: كان المكان مظلمًا لا يتسرب إليه الضوء إلا من خلال شقوق موجودة بين ألواح نافذته، وكانت هناك رائحة لا تُسْتَحَبُّ؛ لا لأنها كريهة، ولكن لأن فيها شيئًا ما ينفِّر، كانت بلا ريب الرائحة التي تصاحب عملية تحول الإنسان إلى تراب، وما أشد نفور الإنسان من رائحة تحوله إلى تراب!

وانقضَّ سيد على بقعة في ركن المكان وأعمل فيها أصابعه، وظل يعمل بلا هوادة، وحمزة قد مل الوقوف فوضع الحقيبة وارتكز عليها، وتكشَّف التراب الذي كان يزيحه سيد عن «مجاديل» مصنوعة من أحجار طويلة موضوعة بعضها إلى جوار بعض وتغطى فجوة.

وأدخل سيد أصابعه الجافة بين مجدالَيْن، وناضل بقوة حتى اقتلع واحدًا، وخف حمزة ليساعده ولكن سيد رفع إليه وجهه الذي كان مغطى بتراب وبعرق كثير يلمع في ظلام تضيئه رقائق الضوء وقال: عنك أنت يا أستاذ خليك مستريح، هيه!

قال «هيه» وهو يعتل ويقتلع حجرًا آخر.

وبعد أن رفع الأحجار كلها وجفَّف عرقه بجلبابه حدَّق في الحفرة، وحدق حمزة كذلك، وتبين بعد أن تعودت عيناه ظلام الحفرة أن بها درجات تؤدي إلى القاع ما لبث سيد أن هبط عليها بغطائها.

وجاءه صوته بعد فترة مخنوقًا محشورًا: خد يا أستاذ.

وفي وجل قليل هبط حمزة ثلاث درجات ومد يده وقبض على الشيء بيد من حديد، وفي حرص بالغ وضع «الجربندية» التي كانت من مخلفات الجيش، وضعها بجوار الحائط، وما كاد يفعل حتى جاءه الصوت المخنوق: خد يا أستاذ.

وتناول «جربندية» أخرى.

وثالثة ورابعة.

وخرج سيد في النهاية قائلًا: الحاجة تمام يا أستاذ؟

– تمام.

وأحضر حمزة الحقيبة الكبيرة وفتحها وأمر سيد أن يمسك.

وفي دقة بالغة عالج «إبزيم» أول جربندية حتى رفع غطاءها وتناول أول قالب «ديناميت» وتفحَّصه وشمَّه واطمأن إلى أن الرطوبة لم تنفذ إليه، ووضعه بحرص أيضًا في ركن الحقيبة، ثُمَّ مد يده واستخرج قالبًا آخر وأرقده في قاع الحقيبة.

ومضت ساعة.

وتنفَّس حمزة بارتياح وهو يقول لسيد: ابقى اتخلص من الجربنديات دول، ارميهم، احرقهم، اتخلص منهم والسلام.

وأجاب سيد بإيماءة الفاهم من رأسه.

وحمل سيد الحقيبة وهو النحيف رغم إلحاح حمزة، وعادا من نفس الطريق، وما إن وصلا إلى أول المقابر حتى وجدا هناك أبو دومة ومعه آخر. وطلب حمزة من سيد أن يُحضر له عربة، ومن بعيد كانت تأتيه الكلمات التي يتبادلها أبو دومة وصاحبه: وبياخدوا العضم ده يعملوا به إيه يابو دومة؟

– أنا عارف ياخويا بيدرسوا عليه، بيركبوه ويعملوا بني آدم تاني، حد عارف؟

– إلا انا سمعت يابو دومة إنهم بياخدوا العضم ده يسحروا بيه ويعملوا بيه عمولات، وإنهم لا هم دكاترة ولا حاجة.

– يمكن، مش بعيدة، أنا مرة جاني واحد وقال عايز عضمة صباع رجل يمين بتاع واحد كان أعور شمال!

وجاء التاكسي.

وحمل حمزة الحقيبة برفق شديد ووضعها إلى جواره وقال لسيد: شد حيلك.

فقال سيد: شدوا حيلكوا انتوا.

وقبل أن تنطلق العربة وقف أبو دومة وأشار لحمزة مودِّعًا: مع السلامة يا بيه، أيها خدمة، بس عند باب الوزير تقول عمي سماعين أبو دومة فين؟ ألف من يدلك، مع السلامة، كل أسمنت وانت طيب!

ولم يسمع حمزة الجملة الأخيرة.

٧

حين استقر مرة أخرى في شقة بدير جلس على الفوتيل ووضع الحقيبة بجواره على السجادة، وراح يفكر في تفاصيل ما حدث منذ أن غادر ترب باب الوزير قاصدًا العباسية حيث يقطن صديقه السيد محمد رشدي، كان وهو يصعد بالحقيبة إليه ليطلب منه أن يبقيها عنده يكاد يجزم بما حدث ويكاد يخمن الارتباك العظيم الذي انتاب رشدي وخروجه ودخوله أودة الجلوس عدة مرات، وصوت امرأته حين علا، والابتسامة الحزينة الخجلة التي ظلت طول الوقت لا تغادر وجهه والكلمات ترتج عليه محاولًا أن يعتذر بالأولاد والحالة الصعبة، قائلًا آخر الأمر: إنه لا يستطيع أن يخفي أي شيء.

كان حمزة حائرًا، هل يحقد على رشدي أم يرثى له؟ ويكاد يكون لدى البعض رغبات خفية تراودهم أحيانًا أن يضبطوا غيرهم متلبسًا بلحظة ضعف، ليروي الواحد منهم نفسه بالتشفي به وإذلاله وإثبات قوته هو وجبروته وصلابته، غير أن رغبات مثل تلك لا تراود إلا الضعفاء، وكان حمزة أبعد عن أن يفكر في التشفي أو تحقير صديقه لموقفه ذاك؛ فقد كان يعلم أن لكل إنسان قدرة محدودة على المضي في الطريق، وأن على الذين في استطاعتهم مواصلة المسير أن يَرْثوا للمتخلفين وألا يفقدوا فيهم الأمل.

ولكن مشكلة الحقيقة كانت لا تزال قائمة، وبدير لن يسمح أبدًا أن تمكث في شقته ثانية، بل لو علم لما أبقاه هو، وعليه أن يودعها في مكان أمين، وأين المكان الأمين في ظروف كتلك؟

ودار المفتاح في قفل الباب.

ودخل بدير وما إن رأى الحقيبة حتى قال: جبت الهدوم؟

– آه.

– وخدت الشنطة الكبيرة ليه؟ إياك عندك هدوم كتير؟

– آه.

وكان بدير يتكلم وهو يروح ويجيء مبتهجًا ويدور في الحجرة وينظر أحيانًا إلى الحقيبة، ولا أحد يدري مصدر النزوة الغريبة التي راودته والتي تراود الناس كلما رأوا حقيبة كبيرة أن يجلسوا عليها، وقال بدير وهو يكف عن مشيه ويهبط بجسده الضخم فوق الحقيبة: هه، وازيك؟ مالك مبوز كده؟

واندفع حمزة يصرخ: إوعه، إوعه، قوم.

وانتفض بدير واقفًا في ذهول لا يدري سببًا لهذا الصراخ المفاجئ.

وقال حمزة في نبرات متقطعة محاولًا إصلاح الأمر: أصل، الهدوم تكسر، الشنطة ماتستحملش.

– ياخويا خوفتني، هي هدومك قزاز وألا إيه؟

– أبدًا، هه، أمَّا أشيلها أحسن.

ورفع حمزة الحقيبة وتكلف جهودًا شاقة ليستطيع أن يبدو أمام بدير وهو يحملها في خفة وكأنها تحتوي ملابسه فقط، وعاد إلى الحجرة وجلس صامتًا ناظرًا في ساعته، كانت الساعة الرابعة وما تبينها حتى أحس بجفاف في حلقه وبشيء من الرهبة ودق القلب، أحس بهذا كله دون أن يدري له سببًا، كل ما في الأمر أنه تذكر أن ما بعد الظهر قد حان، وما بعد الظهر ميعاد فوزية.

ماذا حدث؟

لقد تم أول لقاء بينهما وكل شيء هادئ وعادي.

فلماذا أدمن بعد ذلك التفكير فيها؟

ولهفته على لقائها في مصر الجديدة لم تكن أبدًا لهفة لقاء عادي.

وما الذي فعلته فيه أصابعها الطويلة النحيلة وهي تلتف على يده بقوة تصافحه؟

وما تلك الإشعاعات الظاهرة التي تنبعث من عينَيْها كلما نظر في عينَيْها فتسلبه إدراكه؟

وما مصدر تلك القوة الغامضة التي تدفعه إليها دون وعي أو تفكير كما يندفع الحديد إلى المغناطيس؟

أبدًا، لم يحس بشيء كهذا في حياته، كان يستلطف بنات وأحيانًا يهذر مع بنات ويقبل بنات ويصادق بنات، ولكنه لم يشعر أبدًا بإحساس خفي مثل ذاك الذي يجذبه بقوة لا يستطيع مقاومتها إلى فوزية؟

هناك شيء ما محير يحيط بتلك الفتاة، لا بد أن في الأمر سِرًّا لا يدريه، إنه لا يحبها إذ الحب في نظره علاقة لا تنمو هكذا بمجرد نظرات وكلمات ولقاءات، الحب الحقيقي علاقة مادية يقتضي وجودها زمنًا وعِشْرة وتجربة يمر بها الرجل والمرأة فتصهرهما في بوتقتها؛ فإذا لم يكن يحبها فماذا يدفعه إليها؟ ولماذا أصبح حلقه يجف وقلبه يخفق كلما مرت بخياله أو سمع اسمها أو خُيِّل إليه أنه يسمع اسمها، أو حتى إذا جاء في حديثه مع بدير ذكر لأي كلمة فيها الفاء والواو والزاي، أو حتى الزاي وحدها؟ ولماذا راح دون وعي منه يستعرض كل النساء اللائي رآهن خلال رحلته إلى باب الوزير ويقارن أيضًا دون وعي بينهن وبينها وتكون هي الرابحة دائمًا، بل كل النساء إلى جوارها رجال أو هن أقرب؟

لماذا هذا كله؟ ولماذا دأب في الأيام الأخيرة على حلق ذقنه كل يوم والوقوف أمام المرآة طويلًا؟ ولماذا يغالط نفسه ويدَّعي أنه يرى في المرآة أمامه إنسانًا وسيمًا؟

ولماذا راح يفتش عن لمحات جمال في نفسه، واكتشف الآن فقط أن أنفه جميل وأسنانه ناصعة البياض وذقنه الغزير كلما جار عليه بالموسى وهو يحلقه أصبح له لون رمادي باهت يتلاءم تمامًا مع لون بشرته؟

إنه شخص علمي يؤمن بالعقل والعلم، ولا بد من تفسير لتلك الظاهرة، لا بد من وجود سبب، ولا بد أن يدرس انفعالاته حين تأتي ويراقب نفسه ويحصي عليها حركاتها وسكناتها، ويتفحص فوزية بدقة؛ إذ لا بد له من العثور على تفسير.

ومع أنه كان جالسًا في حجرة المكتب بعيدًا عن باب الشقة، إلا أنه سمع حفيف الأقدام التي تصعد السلم وجف حلقه للحفيف وازداد جفافًا حين توقف الصوت لدى الباب، ولم ينتظر دق الجرس، بل انطلق من فوره وفتح الباب ليجد فوزية واقفة على عتبته تحمل حقيبة من القماش بيد ويدها الأخرى على الزر، وحين ابتسمت له عبقت الدنيا برائحة بسمتها واستحال شخصًا آخر: لا نقاش ولا جدال ولا علم ولا عقل، قلب يخفق، وريق ينضب، وعرق خفيف ينبت، وطاحونة دائرة في رأسه، وقوة خارقة تدفعه مغمض العينين إليها، وجاءه صوتها ساحرًا في لطفه رقيقًا عذبًا يقول: إيه؟ مش عايزني أدخل؟

وتعثرت بسماته وتعثر اضطرابه وهو يقول: أبدًا، أبدًا، اتفضلي.

– ياه، إنت مؤدب قوي النهارده.

ودخلت فوزية وسبقته إلى حجرة المكتب.

وأحس باطمئنان أبدي حين احتوتها الشقة، وهبط الخوف الذي كان يملأ صدره ولا يدعه يستريح؛ الخوف من أنها لا تجيء، أو إذا جاءت يحدث حادث مثلًا ولا تدخل الشقة، أو يكون وراءها عمل آخر فتأتي لتعتذر، أو يُقبض عليه قبل حضورها.

وقام الأستاذ بدير يرحب بها في ضجة، ومع أنها كانت قد اختارت أن تجلس على كرسي إلا أنه ألحَّ عليها بإمعان أن تجلس على الفوتيل ولم يتركها إلا بعد أن نفَّذت إلحاحه، وانطلق إلى المطبخ وعاد بعد ثانية بزجاجة عصير فواكه مثلجة وقدَّمها وهو يعتذر بأن الزجاجة مش قد المقام.

وبعد ما انتهت ضجة الترحيب سكت الثلاثة؛ سكت حمزة لأنه كان يتأمل فوزية ولا يحس بأدنى رغبة في الكلام، وسكتت فوزية لأن كلامها كان يحتم انفرادها بحمزة، وكان يبدو على بدير أنه أضيق الثلاثة بالصمت وأنه يود فتح أي باب للحديث ويود إطالة الجلوس.

غير أن الباب ظل مغلقًا لا يكاد يجسر أحد على فتحه، ولم يجد بدير فائدة فخبط على فخذيه وهو يقول: طيب، هه، أسيبكو بقى للدروس وأقوم أنا.

ومع هذا لم يقم وكأنه ينتظر أن يشفق عليه أحدهما ويستبقيه، غير أن واحدًا منهما لم يقل حرفًا.

واعتدل بدير في تراخٍ وترك الحجرة، وظل يروح ويغدو في الشقة ويغني أحيانًا ويدخل عليهما الحجرة ويبحث في أدراج المكتب عن أشياء ولا يجد هذه الأشياء، وهكذا كله يحدث وحمزة وفوزية لا ينطقان بحرف، حتى إذا ما قال بدير أخيرًا وقد فتح الباب الخارجي وأمسكه بيده: هه، أوروفوار بقى.

قال الاثنان: أوروفوار.

واستعادت فوزية نشاطها المتيقظ ولمعة عينَيْها والتفتت إلى حمزة قائلةً: الهدوم أهه، وآدي الورق، والباقي مكنشي فيه حاجة مهمة، وآدي وصل الجواب المسوجر، والنمرة مردتش.

– نمرة ايه؟

– ألله! أنت نسيت؟

– لا أنسى ازاي، مردتش؟ انتي عارفة معنى كده إيه؟

– إيه؟

– إني خلاص فقدت آخر صلة لي باللجنة، والله كل ما تلقي نفسك فاضية اضربيها يمكن ترد، يمكن يرجع.

– فيه حاجة تانية؟

– لأ.

ووجد شيئًا يدفعه إلى أن يضيف: أهو دلوقتي اتعزلنا احنا الاتنين، يعني كأنني «في جزيرة معك».

وسرح خياله مع التعبير، في جزيرة معها هي والطبيعة واللامسئوليات، كم يبدو هذا رائعًا! وهل ستسير حياته كلها هكذا معارك وكفاح وتربص وحذر؟ كم تبدو الراحة والمتع الصغيرة التي لا يزاولها حلوة! كم يبدو بيت هادئ وزوجة وأولاد جميلًا! أحيانًا يهفو إلى قضاء يوم على شاطئ البحر في مصيف، أحيانًا يودُّ الذهاب إلى الأوبرا، أحيانًا يريد أن يرى أوروبا.

وعاد يريد أن يحدق فيها ولم يجد لديه جرأة كافية، بل لم يعد في استطاعته أن تلتقي أبصارهما ولا عاد يرى فيها الإنسانة التي من لحم ودم والتي تعوَّد أن يراها، بل أصبح ينظر إليها وكأنها استحالت إلى شيء معنوي له قدسية وخشوع، أصبح يراها كما يتأمل العاشق القمر فلا يجد فيه كوكبًا آخر يضيء بأشعة الشمس المنعكسة، وإنما يرى فيه وجه الحبيبة وأسعد ما عاش من ساعات، والهمسات الدافئة وكل الذكريات.

وكان الصمت قد طال حتى بدا وهو في أشباه أحلامه يحس به، ويحس أن لا بد له من نهاية فقال لها: تعرفي إن كل معلوماتي عنك لا تتعدى إنك مدرسة وسكرتيرة اللجنة وبس.

– وعاوز تعرف ايه؟

– كل حاجة.

– ياه، دا انت الظاهر فاضي.

– وورانا ايه؟

وبدأت تتكلم بعد تردد وحمزة يستمتع بكلامها وبحالة السلبية التي تملكته والتي كان سعيدًا بها: هي الابنة الكبرى لمدرِّس أيضًا ولها أختان وولد، أبوها تعلم في المعاهد وتخرج من دار العلوم ويدرس العربي وله في كل مشكلة رأي ويعتبر نفسه عصريًّا بكل ما تحمل تلك الكلمة من معانٍ، وبينه وبين أقربائه الذين يكونون جيشًا عرمرمًا من موظفي الدرجة السابعة فما تحت ما صنع الحداد حين قالوا له: عيب تشتغل بنتك، مط لهم شفتَيْه وقال: ما عيب إلا العيب، والذين يعملون أشرف من الذين لا يعملون. وحين نُقلت إلى طنطا وكان لا بد أن تسكن هناك بمفردها وأشفقوا عليها من المصير قال لهم: اللي ما يقدر يحافظ على نفسه حيحافظ عليه غيره؟ وحين رآها بعض ذوي قرباها محمولة على الأعناق في عابدين في مظاهرة ١٣ نوفمبر وهي تهتف وذهبوا إليه يستنكرون ويتبرون قال: كلموها هي، أنا أبوها مش سيدها.

ليس هذا فقط، بل إنه يحفظ رباعيات الخيام، ويرى أن نصف مشاكل العالم تُحَل بعد حمام دافئ، وأن الوسيلة المثلى لإخراج الإنجليز من مصر هي ما اتبعه غاندي، وأن المعيز والمغازل أقوى مليون مرة من المدافع والدبابات، وإن كان يستدرك بعد هذا ويقول: بس ده رأيي الخاص، وأنا أحترم رأيك جِدًّا مهما كان، أنا كما يقول فولتير: أنا وإن كنت لا أرى رأيك إلا أنني مستعد أن أفقد حياتي دفاعًا عن حقك في إبداء رأيك.

وقطعت فوزية حديثها فجأة قائلةً: قوللي؟

– أيوه.

– إنت لابس البدلة ليه؟

وتذكر حمزة كل ما دار في يومه الطويل وقال: أصلي خرجت.

– خرجت؟ ازاي؟ ازاي تخرج؟

– كان لازم.

– ليه؟

وتردد حمزة مرة أخرى ولكنه آثر أن يُفضي إليها وقال: حسن كان يعرف مكان ديناميت مخبيينه، فكان لازم أروح بنفسي وأجيبه.

– ديناميت؟

– أيوه ديناميت.

– وجبته؟

– جبته.

– فين؟

– جوه.

– هنا؟

– أيوه هنا.

– إزاي مخليه هنا؟ مش خطر؟

– خطر.

– وهنا مش كويس!

– مش كويس أبدًا.

– لازم يتشال.

– لازم.

– وحتعمل ايه؟

– حنقله.

– فين؟

– ما اعرفشي.

– وده كلام؟

– معلش، لازم أوجد حل.

وسكت وسكتت، وهي تهز ساقها الموضوعة فوق الأخرى في عصبية، وأخيرًا قالت: تشرب قهوة؟ أنا عايزة قهوة.

– تعرفي تعملي؟

– طبعًا أعرف! أنت فاكرني مثقفة متعفنة! دانا اللي شايلة بيتنا كله وشغله، دلوقتي حتشوف القهوة!

– ورينا شطارتك.

وبعد قليل رجعت وقدماها تزحفان ببطء وعلى الصينية كوب لها وكوب آخر له، وبخار القهوة يتصاعد ويملأ الغرفة برائحتها التي يتفتح لها الشم والبصر.

وأخذت فوزية تحتسي قهوتها في رشفات سريعة حتى أتت عليها، وحمزة ما يكاد يتذوق كوبه، وسألته فوزية ونشوة بهيجة تطل من عينَيْها: إلا قوللي.

– أقولك ايه؟

– إنت بتشتغل ايه؟

وضحك حمزة ضحكة طويلة مغتصبة وقال: انتي لسه لدلوقتي ما تعرفيش، خمني باشتغل ايه؟

– مدرس؟

وضحك حمزة مرة أخرى وقال: اشمعنى يعني؟! لا.

– طالب؟

– لا.

– محامي! أمال ايه صحيح!

– تسمعي عن الناس اللي بيسبغوا الهدوم، أهو أنا منهم.

– كنت بتشتغل في مصبغة يعني؟

وضحك حمزة وأجاب: لأ، كنت باشتغل كيماوي في مصنع شركة الحرير.

– أمال ايه اللي خلاني أفتكرك مدرس؟ أنت لازم سبت الشغل بقى؟

– ياما سبت شغل.

ونظرت إليه فوزية، أكانت علامة إعجاب نظرتها؟ لا يدري، فقط جعلته تلك النظرة يخجل ويسقط عينَيْه إلى الأرض.

وقالت فوزية في عصبية مفاجئة: تعرف أنا النهارده كنت حاضرب الناظرة! ايه ده؟ الناس بقى دمهم تقيل قوي، ناظرة آخر رجعية وسخافة في العالم، تصور هي بنفسها اللي بتفتح كل الجوابات الواردة للمدرسة وتقرأها، امبارح فتحت جواب لي، الله ما تشرب القهوة، أنت سارح في ايه؟ بتبصلي كده ليه؟

وكان حمزة تائهًا فعلًا في وجهها لا يكاد يعي، وعيناه مثبتتان على بشرتها يرى كلماتها ولا يسمعها، ويراقب ذرات النور وهي تتساقط على ملامحها الدائمة الانفعال، ويفكر في أشياء كثيرة لا يعرف ما هي، وانتبه فجأة على سؤالها فقال: أبدًا، آه، أصل أنا ساعات باسرح كده.

– الظاهر إنك تعبان.

– أبدًا، أبدًا.

– أمال عينيك شكلهم غريب، وبتبص كده، كده، كده فيه حاجة؟

– أبدًا، أبدًا.

– طيب أنا لازم أمشي، ياه! أنا اتأخرت قوي.

– تمشي ازاي؟ لسه بدري، لا يمكن حتمشي دلوقت.

– لا، لازم أمشي.

– لسه بدري جِدًّا، مش ممكن.

– طيب أقعد خمس دقايق، لغاية لما تبقى تمانية.

وأحب حمزة أن يشارك في حديث يجعلها تبقى فسألها: هيه، عاملة ايه؟

فقالت وهي تقف في ضيق عصبي مفاجئ: تعرف أنا النهارده كنت حنفجر؛ الناس خلاص استسلموا، عاملين زي التمساح الميت مهما تنغز فيه مايحسش، إيه ده؟ ده لو كانوا عشرين مليون دودة ماكانوش استموتوا بالشكل ده.

وكان حمزة مستمتعًا بحالة الاسترخاء السلبي الذي كان يستقبل بها حديثها وملامحها، ولكنه لم يعجبه كلامها الأخير، وتردد برهة بين أن يسكت ويواصل الاسترخاء وبين أن يرد فينشب جدل يعكر الجو الحالم الذي ساد الغرفة، ولكنه وجد نفسه يقول: بس أنت غلطانة إذا كنتي فاكرة إن الشعب مستسلم.

– غلطانة ازاي والناس ميتانة خالص؟ دا ولا كأن البلد بلدهم، وملك حقير عمال بيخون ويلعب بقضية البلد زي ما هو عايز.

– إنتي شايفة الظاهر بس، وعمر المظاهر ما تصلح أساس للحكم، فاهماني ازاي؟

– يا شيخ مظاهر ايه؟ احنا أصلنا شعب مسالم استُعمر آلاف السنين وخد على الذل، حتى الحرب الأخيرة ما حركتشي فيه ساكن، أصل طبيعتنا الزراعية وأرضنا السهلة وجونا اللي مفهشي تغيرات كبيرة مش ممكن يخلق شعب مقاوم زي الشعب اليوناني مثلًا، احنا ناس عاديين ومش ميالين للعنف.

– برضه أنا مُصر إن دي نظرة سطحية محضة، شعبنا ده فيه قوة مقاومة لا يمكن تصورها، قوة مريعة مستخبية ورا السبح والصهينة وضرب الدنيا صرمة.

– بس الزمن عمل عمله في الناس يا حمزة، والظلم اللي استمر آلاف السنين ترك أثره، أنت مش متصور.

– أنا متصور كل حاجة، والظلم اللي بتقولي عليه ده مش أضعف المقاومة دا زودها، فاهماني ازاي؟ انتي لو كنتي في إسكندرية يوم ٦ مارس وشفتي العيال وهم فاتحين صدورهم وداخلين على المترليوزات ماكنتيش تقولي كده.

– دا كلام بيني وبينك بنقوله احنا بس، إنما الحقيقة …

– أبدًا الحقيقة إن ده حصل فعلًا وشفته أنا بعيني.

– حصل ازاي؟ مش معقول، هو ده معقول حد يدخل على الرصاص بصدره؟!

– بس ده فعلًا حصل: كان الانجليز الاربعة فاتحين المدافع والرصاص زي المطر، والعيال كانوا واقفين في الميدان فعلًا ونازلين فيهم ضرب بالطوب والحجارة.

– إنت حتجنني! اسمع يا حمزة، أنا مش ناقصة حماس، مافيش داعي تبالغ.

– بشرفي ما ببالغ، أنا كنت في المظاهرة يومها، ومش أنا بس اللي شفت، على الأقل ٥٠٠٠ واحد شافوها يوم ٦ مارس.

– كان في إسكندرية الكلام ده؟

– آه، يوم ٦ مارس بالذات ده كان يوم تاريخي بالنسبة لي شخصيًّا، كُنَّا أيامها بنمر بفترة رهيبة من تاريخنا: كنت طالب في كلية العلوم في إسكندرية، وكل يوم والتاني مظاهرة ومؤتمر، وكان لي صديق اسمه أمين كان طالب في كلية الحقوق، دلوقتي بقى وكيل نيابة، قابلته في الصيف اللي فات، كنت أنا وهو ما نكاد نسمع عن مظاهرة أو إضراب إلا ونطير على هناك، وكان لأمين بالطو مربعات مشهور جِدًّا في المظاهرات كان أصله بالطو جبردين وقلبه، والجبردين قماشه من جوه مربعات، كُنَّا لما نعرف إن فيه مظاهرات يلبس هو البالطو ويجري على هناك، وكانت مصر بتتوالى عليها حكومات صدقي والنقراشي، والبلد كلها ثائرة وواقفة ضد أي تسليم في حقوقها، وكنت أنا مجرد طالب عادي من اللي بتشفيهم يملوا الشوارع في المظاهرات، خرجت من بيتنا الصبح، وإسكندرية يومها كان مفروض إنها في حالة حداد على الشهداء اللي ماتوا في ٢١ فبراير في القاهرة، وليلتها بالليل كان في البلد رأيين: رأي ينادي بوجوب أن يمر اليوم هادئًا وهذا كان رأي الإخوان، والرأي الثاني كان بيصر على أن تقوم مظاهرات واسعة النطاق لتخلد اليوم ويصبح جديرًا بذكرى الشهداء، وانتصر الرأي الثاني والصبح كانت البلد كلها تعج بالمظاهرات، خرجت من البيت وفت على أمين وذهبنا للبحث عن مظاهرة نشترك فيها.

وعند محطة الرمل وجدنا مظاهرة كبيرة ممتدة من المحطة إلى شارع سعد زغلول، ولأول مرة كنت باشوف مظاهرات مش فيها طلبة وبس، إنما فيها طلبة وناس كبار وناس بجلاليب وتجار وكمسارية ترماي وعمال وأولاد من اللي بيلموا سبارس ويمسحوا جزم وصبيان ورش، الأولاد اللي بيقولوا عنهم الغوغاء، ومرت المظاهرة بكشك استعلامات إنجليزي كان مبني بالأسمنت المسلح وأصبح مكانه الآن منتزه، مرت من أمام الكشك، وكانت له شبابيك بتطل على محطة الرمل وعليها يفط مكتوبة بالانجليزي تحمل تعليمات إلى العساكر، بعض الأولاد اللي بيمشوا دائمًا على حواف المظاهرات حاولوا خلع يافطة فمنعهم الرجالة الكبار، إنما كما يحدث في مثل هذه الأحوال الناس وقفت والتفت حول الكشك، وانتبه الناس له وكأنهم لم يروه من قبل، وكانت نتيجة توقف المظاهرات إنها تفرقت حول الكشك فحاصرته، أنا كنت في الناحية البعيدة عن شارع سعد زغلول، فسمعت من الناس إن الكشك فيه سلاح، وإن الواحد ممكن يدخل ويشيل زي ما هو عايز، وحكاية السلاح دي عندي حساسة جِدًّا؛ فمثلًا أنا مرت عليَّ فترة أيام أن كنت في توجيهي وأولى جامعة كنت عاوز مسدس وبس، كانت كل حياتي متبلورة في حصولي على مسدس، مش المهم أستعمله في ايه المهم كنت عايز مسدس وبس، وسمعت مرة أنا وأمين إن مصر الفتاة بتصرف مسدسات لأعضائها، فاتفقنا أن يدخل هو فيها فإذا أعطوه مسدس أدخل أنا أيضًا، وتستطيعي أن تتصوري مبلغ شوقي ورغبتي في دخول الكشك في تلك الساعة عشان أقدر أحصل على مسدس، الميدان كان ساعتها مليان ناس، عدد كبير جِدًّا من الناس، وما شعرت بنفسي إلا وأنا بابحث عن باب الكشك، لقيته ولقيت ناس داخلين فيه، دخلت، دخلت كده من غير أي تفكير ولا عقل، كان فيه إحساس غريب كبير بيحركني، الكشك من جوه كان مظلم، وكان الواحد أول ما يدخل يلاقي أوضة كبيرة واسعة من غير شبابيك، وفيه باب بيؤدي إلى أوضة تانية جوانية، ويدوبك أصبحت في وسط الأودة البرانية ومعايا ناس إلا وسمعنا أصوات غامضة، تك، تك، تك، سريعة وورا بعضها، أنا عمري ما سمعت مترليوز بيضرب، وماكنتش أتصور إن صوته لما يضرب بيكون واطي كده، شعرت برهبة شديدة، وجدت الناس خارجين من الأوضة الجوانية جري، وبعضهم بيقع على الأرض وينام، وبعضهم بيصرخ وكل اللي قادر يجري بيجري، فجريت خرجت برة وفضلت أجري بعيد عن الميدان والحتة كلها لغاية ما طلعت على الكورنيش وأنا مذهول ومش فاهم حاجة ومش عارف حاجة، اعتقدت إني لازم أصبت ولسة لم أشعر، وأنا كنت سمعت إن الواحد لما بيضرب بالرصاص لا يشعر بإصابته في الأول، فتشت جسمي كله لقيتني سليم، ومن غير ما أدري لقيت نفسي راجع للميدان، ولقيته ساعتها منظره رهيب جِدًّا، الكشك ولو أنه كان كشك استعلامات كل ما فيه أشغال مدنية، إلا أنه كان فيه أربع عساكر إنجليز ومعاهم أربع مترليوزات وقاعدين مستعدين في الأوضة الجوانية من الصبح، ومنتظرين الناس لما يدخلوا عليهم فيروحوا فاتحين عليهم المدافع.

فلما الناس جريت ومات اللي مات واتعور اللي اتعور، العساكر خافت وراح كل واحد منهم مصوب مدفعه من شباك ونازل ضرب في الناس اللي في الميدان علشان يبعدهم عن الكشك، وفي دقيقة كان الميدان اللي كان بيموج بالناس فضي خالص، كل أصحاب البدل اختفوا لما أصبحت الحكاية جد، وكل أصحاب الجلايب استخبوا في مداخل العمارات اللي بتطل على الميدان، وتعرفي مين اللي فضل واقف لواحده في الميدان والضرب شغال من كل ناحية؟ تعرفي مين؟ الأولاد اللي الإنسان لا يعرف لهم أهل ولا يعرف لهم لبس ولا صنعة، عيال صغيرين أكبر ما فيهم لا يزيد عن ١٥ سنة، سمر ومعفرين وشعرهم منكوش وهدومهم خرق، يعني اللي فضل هم اللي بيسموهم الغوغاء.

وقفت أنا في مدخل عمارة قريبة، وكان ممكن أضرب وكان ممكن أموت، وكان عقلي بيراودني أن أرجع إنما كانت قوة خفية بتمنعني مَنْع عن الحركة، وقفت أتفرج، المدافع نازلة ضرب والأولاد غير مكترثين إطلاقًا ونازلين ضرب بالطوب والحجارة، تصوري! بيضربوا طوب قصاد مترليوزات، والحاجة المذهلة إن الواحد منهم كان يُصاب زميله اللي بيضرب جنبه ويقع ويموت وهو واقف ونازل ضرب بالطوب.

وبعد شوية لقيوا إن الطوب أصبح لا يُجْدِي، فبصيت لقيت واحد منهم راح قالع جلابيته الخرق وبلها بنزين من عربية واقفة ووطى وفضل يجري لغاية ما قرب من الكشك وراح رامي الجلابية المولعة من الشباك جوه الكشك، وكان ده بداية تحول في المعركة، بقى الأولاد يجروا ويجيبوا أي حاجة، ورق، خرق، خشب، ويبلوها بنزين من العربيات ويجروا والرصاص حواليهم وفوق دماغهم كأنه ناموس بالضبط، ويفضلوا يجروا ومش يحدفوها من بعيد وخلاص، لأ يصروا على أنهم يوطوا خالص لما يقربوا جِدًّا من الكشك ويروحوا حدفينها من نفس الشبابيك اللي بتضرب منها المترليوزات.

لما اشتدت المعركة بقوا يدخلوا محل الحلواني المطل على الميدان، ويجيبوا كراسيه ويولعوا النار فيها، ويطلعوا وهم بيصرخوا صرخات الحرب ويجروا ويرموها على الكشك.

وبدأت النار وامتلأ الميدان دخان، دخان كثيف جِدًّا، وأصبحت المنطقة كلها مليانة دخان ورصاص ونار وصراخ وتكتكة مترليوزات، وفي وسط الدخان، وفي وسط الهول دا كله تبصي تلاقي العيل من دول أسمر لونه زي التراب وعريان وجسمه مهبب وبيزحف على بطنه وشايل كرسي مولع والرصاص حواليه وهو ماشي بالكرسي في ثقة واعتداد ومصر على توصيله لحد الكشك.

وفي مدخل العمارة اللي كنت واقف فيه مع الناس كُنَّا عمالين نبص ونستعجب ونخبط كف على كف، كُنَّا زي ما نكون بنتفرج على أبطال قصص خرافية عمالين يقوموا بأعمال خارقة قدام عينينا، كان شيء عجيب يذهل، كانت لحظة من اللحظات اللي تشوفي فيها شعبنا: الشعب اللي بيقولوا عليه طيب ومستسلم، اللي بيقولوا عليه ساذج ومتسامح، تشوفيه فيها عملاق، تشوفيه فيها مارد لا يمكن لأي قوة أن تقتله، تشوفيه في العيال اللي كان أكثرهم يمكن يومها مافطرش واللي كان الرصاص بيدبحهم دبح، وعمالين يقاوموا ويحاربوا وعارفين إنهم بيحاربوا الانجليز، وعارفين إن الانجليز معاهم مدافع وإنهم هم ممعاهمش حاجة، ومع هذا مصرين على حرق الانجليز الاربعة اللي قتلوا الناس مهما مات منهم، كنت واقف وجسمي فيه حمى، وعيني بتشوف حلم غريب تكشف لي فيه شعبنا على حقيقته. كتير جِدًّا شفناه في أوقات ضعفه وكتير كُنَّا بنلعنه ونستهين به، إنما كنت عايز كل اللي بيمطوا شفايفهم لما تيجي سيرة الشعب، كنت عايزهم يكونوا هناك ويشوفوا الميدان مليان جثث، شبان وطلبة وعمال مفروشة جثثهم على الأرض والإسعاف عمالة تحول، كانت بتيجي عربية الإسعاف مش تشيل واحد وتمشي؟ لأ، كانت بتنتظر لما تتملي جثث وتطلع وييجي غيرها يتملي ويمشي، والناس مش عايزة تتحرك من مكانها، والغوغاء اللي بيقولوا عليهم عمالين يتقتلوا ومابينتهوش، كان بيتهيأ لي إنهم بيزيدوا، كان بيتهيأ لي إنهم عمالين ينضم لهم أولاد من تحت الأرض فعلًا، كل العيال اللي في إسكندرية كل ما كانوا بيسمعوا وهم بعيد عن المعركة كانوا بييجوا جري عشان ماتفوتهمش، والعجيبة إن في وسط دا كله، في وسط الموت والدم والدخان والرصاص فجأة تحولت أنظار الأولاد إلى طيارة ركاب كانت فايتة واطية جِدًّا، وقعدوا يبصوا عليها ويشاوروا ويهللوا، في نفس الوقت اللي بيضربوا فيه بالطوب وبيرموا الخرق المولعة، وكان البوليس المصري جه ووقف في أول شارع سعد، ماكانش بيعمل حاجة أبدًا، وكان العساكر والضباط شايفين الأولاد الأبطال عمالين بيقعوا واحد ورا التاني وهمه حينفجروا من الغيظ.

وحاولنا أن نقنع ضابط أنه يتدخل ويأمر العساكر المسلحين بضرب الانجليز، فبقى يكاد يبكي وهو بيقول إنه لا يستطيع، وإنه ليس لديه أوامر، بل بكى فعلًا.

ونجح الأولاد أخيرًا، الكشك ولع كله وبقى كتلة نار، ونط اتنين من العساكر اللي كانوا جواه رافعين إيديهم وسلموا نفسهم للبوليس، فأحاطهم بقوات كبيرة علشان يقدر يحافظ عليهم، وبقت بنادق العساكر المصريين هي المرة دي اللي بتضرب عشان تحمي الانجليز، والعسكري التالت ماطلعشي أبدًا وقالوا بعد كده إنه اتحرق.

أمَّا العسكري الرابع فنط من الشباك اللي كان قريب من العمارة اللي كنت واقف في بابها وطلع جري، فواحد ابن بلد إسكندراني كان واقف جنبي في مدخل العمارة طلع جري وراه وراح مشنكله فوقع في الشارع، فراح بارك فوقه وحط رجله على صدره وطلع من جيبه مطوه لها سلاح طويل وسنها شوية على حجر الرصيف، وبعدين راح دابحه من الودان للودن، ومسح المطوة وحطها في جيبه، وتف على العسكري ومشي.

بعد كده شفت العسكري ده في المستشفى الأميري كان راقد في أوده كبيرة قوي ومليانة جثث الشبان والأولاد اللي ماتوا، كان ضخم زي العجل ورأسه كبيرة وشعره أحمر وزوره مقطوع لغاية العضم.

تاني يوم رحت الكلية لقيت الطلبة عاملين مؤتمر، ومؤتمرات زمان في الكلية كانت أكاديمية قوي، فكان العميد والأساتذة بيحضروها، قعدت أسمع، وكان فيه أستاذ بيخطب، كان لابس بدلة نظيفة قوي وقميصه بيلمع ووشه محلوق ناعم وعمال يتكلم بصوت واطي وبرزانة مصطنعة عن إن القوة مش ممكن تخرج الانجليز، وإننا لو حسِّنَّا أخلاقنا ومعنوياتنا وروحانياتنا فلن يستطيع الإنجليز البقاء في بلادنا.

فقمت واقف وقلت: ده كلام فارغ. فبان على وجهه الغضب الشديد، مش لأني بأسخف كلمه، إنما لأني قاطعته وخرقت النظام، فراح قايل: اللي عايز يتكلم يبقى ييجي هنا ويتكلم، يجب أن نتعلم النظام لأن النظام هو الذي سيُخرج الإنجليز، احنا علشان شعب فوضى ظللنا مستعمَرين، مين عايز يتكلم؟ أنت؟ تعالى. وشاور عليَّ، فرُحت قايم في عاصفة من تصفيق الطلبة لأنهم كانوا الظاهر متضايقين جِدًّا من كلام الراجل.

وصلت إلى المنصة وأنا كنت يومها عمري ما خطبت ولا أعرف أخطب ازاي، ولكن اللي حصل إني انفجرت، وكل ما قلته كان هو اللي شفته في محطة الرمل، كنت باتكلم بحماس فقط، كنت بقول اللي حسيته واللي آمنت به، ومش فاكر أنا قلت إيه، إنما فاكر إني أنهيت الخطبة بحاجة زي كدة: لن يخرج المحتل إلا بالقوة، وبالقوة فقط سيتحرر الشعب.

واستقبل الطلبة كلامي بتصفيق وهتاف كالرعد وفضلت الهتافات أكثر من ربع ساعة، والظاهر أن الأستاذ لم يعجبه أن يُهْزَمَ أمامي، فبعدما هدأت الهتافات طلع على التختة بطريقته اللبقة المهذبة عشان يرد على الخطبة الطويلة بتاعتي، فمسك طباشيرة وكتب ردًّا على كلامي من أن القوة وحدها هي في طريق التحرر، كتب: العلم = قوة.

وراح قاعد تاني.

وهلل الطلبة وأُعجب بعضهم بالرد واعتبروه بليغ.

وتملكني ضيق شديد وحماس، فرُحت طالع وماسك الطباشيرة وأضفت الكلمة دي: العلم (في بلد مستقل) = قوة.

وهاج المدرج وماج.

وكان سيعقب المؤتمر انتخاب مندوبين من الكلية في اللجنة التنفيذية للجامعة كلها، وانتخبت.

وكان ده أول الطريق.

٨

كان حمزة يتحدث وينساب التاريخ القريب من بين شفَتَيْه ويغرق فوزية في فيض من الأحداث والمواقف والذكريات، وتتشنج أصابعه وهي تحدد وتجسد، وتتحرك أيديه ملوحة، ويتقارب حاجباه ويبتعدان، ويهتز منظاره، وترتجف نبرات صوته وترتعش وكأنها لا تنطق الكلمات فقط، ولكنها تعزف أيضًا لحنًا عارمًا يصاحب ما كان ويخلد المواقف.

وكان حديثه يملأ الحجرة بالأحداث، ويحيل الأثاث إلى مواقع، والجماد إلى كائنات حية تقاوم وتصرخ وتموت؛ ولهذا مضى وقت طويل قبل أن تكف فوزية عن تحديقها في لا شيء، وتسترد نفسها وتعود إلى الحجرة وإلى الليلة وإلى الدقي، وتنظر إلى حمزة الجالس أمامها لا يتحدث ولا يتحرك ولا تطرف عيناه.

وقالت: ياه! دا فعلًا لينا تاريخ.

فرد حمزة في بطء: تاريخ وبس؟

وسبح كلٌّ في واد، ثُمَّ عادا حين قالت فوزية: أنا قلت لغاية الساعة ثمانية ودلوقتي قربت على عشرة.

وأضافت بلا حماس: لازم أروح.

وفي خطوات تعبة تكاد تتخاذل أخذت طريقها إلى باب الحجرة الذي كان مغلقًا.

وفتح لها حمزة الباب وخرج الضوء من الحجرة يُنير جزءًا كبيرًا من الصالة، وسقط النور على كرسي فيها وعلى إنسان ضخم جالس فوقه، كان بدير.

– ألله، إنت هنا؟

– آه مارضتشي أزعجكو، قلت أقعد هنا أمَّا تخلصوا.

ولم يكن هناك وقت، سلمت فوزية وأسرعت خارجة وظل بدير جالسًا في مكانه.

وما كاد الباب يُغْلَق حتى دق الجرس وفتح حمزة، كانت فوزية.

– أنا نسيت حاجة، نسيت آخد الشنطة.

– تخديها ازاي؟ مش ممكن.

– والله مش عايزة نقاش كتير، حاخدها يعني حاخدها.

– توديها فين؟

– عندنا.

– عندكم، بس؟

– عندنا كويس جِدًّا.

ورأى حمزة من تصميمها ومن نظراتها أنها لن تتزحزح عن قرارها.

فمضى إلى حجرة النوم وعاد حاملًا الحقيبة الكبيرة، وكان بدير ينظر ولا يتدخل ولكنه قال: الله! إيه الحكاية؟

فقال حمزة: أصل سميحة حتاخد هدومي عندها.

– وليه؟ وده يصح ما هو ده بيتك يا أخي.

– لا أصل الهدوم عايزة غسيل، و…

– ما الغسالة اللي بالكهرباء هنا، أهه، أغسلهملك دلوقتي.

– لا، لا، معلش، كده أحسن.

وردت فوزية: معلش يا أستاذ بدير علشان خاطري.

فقال بدير: يا ستي الغسالة هنا والله، في نص ساعة تغسل ياما.

– معلش، المرة الجاية.

– آه، الظاهر دي بقى والله حاجات خاصة ما أعرفهاش، انتوا أحرار.

وشدت فوزية على يد بدير، ولمعت عيناه كثيرًا وقبضتها القوية تغوص في أصابعه المنتفخة بالسمنة.

وعاد حمزة بعد أن أوصل فوزية وأركبها عربة، وما كاد يغلق الباب وراءه حتى ابتسم بدير ابتسامة حملها كل ما يملكه جسده الضخم من مكر، وقام واقفًا وأمسك بكتف حمزة قائلًا: قوللي بقى يا شاطر، كنتوا بتعملوا ايه؟ أظن حتقوللي درس؟

وابتسم حمزة في رثاء ولم يُجِبْ، فاستأنف بدير جادًّا هذه المرة: صحيح قول لي يا حمزة، وصلت معاها لفين؟

– هي مين؟

– إحنا حنلف على بعض؟ وصلت واللا ما وصلتش؟

– يا جدع بلاش هزار في الحاجات دي.

– بُستها؟ أنا ميهمنيش حتى إذا كنت وصلت إلى ما بعد البوسة.

– يا بدير بطل كلام فارغ.

– وحياة أبوك لانت قايل، عملت معاها إيه؟

ولم يأبه حمزة بالرد عليه، ونفض يده منه، وتجسدت له الحكاية مرة أخرى وبصورة جذابة جديدة، وراح عقله يدور حول نفسه ونغمات حزينة تتصاعد من وجدانه وأنَّات وعذابات وقهر، تلك الشابة الممتلئة بالحيوية والحركة ذات الجسد الدقيق والملامح الدائمة الانفعال الدائمة الابتسام، تلك الشابة الصغيرة قد أصبحت عزيزة جِدًّا عنده، حتى بعد جلسته الطويلة تلك معها لا يزال يهفو إليها كما يهفو مدمن التدخين إلى سيجارة الصبح ويحن إلى وجودها كما يحن عباد الشمس إلى الشمس والنبات إلى الماء، وكما يحن الغريب إلى أرض الوطن.

لماذا كلما تذكرها يدوخ تفكيره ويكاد يهوي؟ لماذا إذا خطرت بعقله تخطر خلسة وخلف ستار وكأنها جريمة؟

وقال بدير وهو يدخل في بنطلون بيجامته: قول لي يا حمزة؟

وقال حمزة دون انتباه: إيه؟

– إلا بشرفك وشرف والدك ما عملت في البنت دي حاجة؟

ورد حمزة في غضب لا يستدعيه الموقف وبلهجة حادة: بطل تخريف يا بدير، وبلاش سخافة، فاهمني ازاي؟

– يعني مؤدبة؟

– دي من أحسن البنات اللي قابلتهم في حياتي، وأنا أمنعك إنك تتكلم عنها بالشكل ده، فاهمني ازاي؟

– أمال بتسلم على الواحد كده ليه؟ مؤدبة يعني؟ أنت وذمتك بقى.

وأخيرًا رقدا جنبًا إلى جنب في الفراش، وكان السرير يحتل منتصف الحجرة، والغرفة وثيرة فيها أشياء كثيرة أنيقة، ولكن لا روح فيها ولا انسجام.

وكان بدير يقلب صفحات «المصور» كعادته حين يستعد للنوم، ولكنه لم يكن يقرأ، وفجأة ألقى المجلة فوق «الكومودينو» واستدار إلى حمزة، واستجار السرير وهو يستدير: قوللي يا حمزة، هو فيه قاعدة إنه إذا كان الواحد بيحب واحدة يبقى لازم تكون بتحبه؟

– لأ.

– طب يعني مثلًا افرض مثلًا، مثلًا يعني إنك بتحب واحدة وعايز تعرف إذا كانت بتحبك واللا لأ تعمل ايه؟

– أنام.

– لا، أنا بتكلم جد.

– وأنا بتكلم جد.

– أمال أنام ايه يعني؟

– تنام شوية فتصبح الصبح أعصابك أهدأ وتقدر تفكر.

– وإن ما جنيش نوم؟

– تاخد منوم.

– بيعمل صداع.

– تاخد سم.

– طبعًا، ما هو المسألة يا يكون فيها وطنية وكفاح يا بلاش، يا كلام في السياسة يا مافيش كلام، يا أخي ما تفضونا بقى وتخلوا الناس يكلوا عيش.

– متخلي أنت الناس تنام.

وكان حمزة في الحقيقة لا يريد أن ينام، ولكنه يريد أن يهدأ كل شيء ويبقى عقله يعمل، يريد أن يستعيد الغيبوبة اللذيذة التي يدلف إليها كلما اتخذ فوزية مادة لتفكيره، كانت أحاسيس متناقضة تحاصره، كان يريد أن يسبح إلى كل ما يستطيع أن يصل إليه خياله من مدى، وكان شيء ما في نفسه يكبحه ويوقفه ويبعث في نفسه رهبةً وخوفًا، كان يحس أنه شيئًا فشيئًا لم يعد ينظر إلى فوزية كزميلة في الصف، كان يحس أنه شيئًا فشيئًا تبدو له المرأة التي في الزميلة، وكلما بدت حاول طردها، ويهرب منها إن فشلت محاولته، ولكنه مهما يفعل فإنه يغوص دائمًا إلى التفكير فيها، في الزميلة المرأة المكافحة الجميلة المتجددة الحيوية الدائمة الانفعال، وانتبه على قول بدير: بس والله يا حمزة أنت ما تعرفش أنت بأقدرك قد إيه؟ أنا بيعجبني تفكيرك جِدًّا، وبيعجبني الذكاء اللي بتعالج بيه المشاكل، ففيه مشكلة أهيه، إن كنت جدع حلها.

– مشكلة ايه يا بدير بس؟ الساعة تيجي واحدة، خلينا ننام.

– يا أخي ما طول عمرنا بننام جد علينا إيه؟ اسمع، والنبي لانت سامع.

– إيه؟

– فيه واحد صاحبي واقع في مشكلة.

– يا أخي وده وقته؟ ما صاحبك ده يستنى للصبح حيموت يعني؟

– أصلها بجد مشكلة حياة أو موت.

وهنا جلس حمزة في الفراش ومد يده وظل يبحث عن زر النور المعلق في السرير حتى وجده، وأشعل النور وقال: خلاص بلاش نوم، نحل المشاكل، آدي النضارة وندور على السيجارة الباقية.

وأشعل السيجارة وراح ينظر إلى بدير الذي كان يرقد بجسده المرتفع كجسد الدرفيل، والذي لم يعتدل ولم يحرك رأسه من فوق المخدة، وإنما قال وعيناه تائهتان في السقف مفتوحتان كالفنجان: اسمع.

– إيه؟

– افرض إنك بتحب واحدة جِدًّا.

– طيب فرضت.

– وما تعرفش إذا كانت بتحبك واللا لأ، تعمل ايه؟

– أوَّلًا: أنا مش سفسطائي علشان أقعد أفرض حاجات في الهواء، لازم أعرف ايه المشكلة؟ ومين صاحبها؟

ثانيًا: متحاولش التنكر لأن عيبك إنك كداب فاشل ومش معقول، يعني إنسانيتك تحبك دلوقتي وتهتم بواحد صاحبك ومشكلته الساعة اتنين، فقوللي بتحب مين بقى سعادتك؟

– والنبي بلاش الحداقة دي ياخي، واللا إيه يعني؟ افرض حتى الشخص ده هو أنا، افرض إن أنا بحب واحدة وعايز أعرف إن كانت بتحبني واللا لأ، افرض.

– ما افرضش، بتحب واحدة فعلًا واللا لأ؟

فسكت بدير طويلًا وأطبق أجفانه على عينَيْه ثُمَّ حملق في السقف وقال: أظن كده.

– بتحب مين؟

– واحدة، حلوة، قوي قوي، بحبها، جِدًّا.

ونام.

ولم يكتشف حمزة أن بدير كان نائمًا وهو يحدثه إلا بعد فترة، فأطفأ النور وظل جالسًا يحلم وأحيانًا يضحك وأحيانًا أخرى يفكر جادًّا في إيقاظ بدير وقضاء بقية الليلة في الحديث.

٩

وفي السابعة من صباح اليوم التالي كان بدير لا يزال نائمًا أيضًا، وكان حمزة يقوم باحتياطاته اليومية، ففتح نافذة حجرة المكتب قليلًا وتمم على البوابين الموجودين في العمارة المقابلة، واطمأن إلى أن عددهم لم يزد مخبرًا، ثُمَّ فتح النافذة كلها بحيطة وطل برأسه وراقب أبواب البيوت الممتدة أمامه كلها والمكوجي والبقال، ثُمَّ أخرج رأسه كثيرًا ليتمكن من رؤية صف المنازل الذي توجه فيه العمارة واطمأن أخيرًا إلى أنه لا جديد هناك وأنه لا تزال أمامه بحبوحة من أمان، وراح يتجول في الشقة.

لم تكن به حاجة إلى التجول؛ فالصباح كان له برودة الثلج، والشقة كانت مظلمة ونوافذها مغلقة والبرد يفرخ في ظلامها ويتكاثر، وهو قد اكتفى «بالبلوفر» الذي ارتداه فوق البيجامة، وكان يأبى أن يرتدي أحد أرواب بدير الصوف ذات الدفء الفاخر المعلقة فوق الشماعة؛ فقد سمعه يقول مرة إنه لا يحب أن يستعمل أحد أشياءه، ولهذا فمن لحظة أن وضع قدمه في الشقة لم يتطفل على شيء من أشيائه حتى الفوطة، لم يكن لديه فوطة وجه فكان يجفف رأسه ووجهه في «جاكتة بيجامته» النظيفة ثُمَّ يغسلها ويعلقها حتى تجف.

ورغم البرودة فلم يكف عن تجواله، كان هناك شيء يؤرقه فلا يستطيع معه أن يستقر على قرار أو مكان، فتح حجرة المكتب، كان مزيج من النور والظلام يغطي المكتب ذا السطح الزجاجي اللامع والفوتيل الذي أمام المكتب، هناك جلست مرارًا، ثُمَّ حجرة النوم، بدير لا يزال يغط في نومه وقد اختلى بالسرير ومد أطرافه كلها إلى آخرها ليستمتع بالفراش، هرم الحقائب موجود تنقصه الحقيبة الكبيرة، ترى أين ذهبت بها؟

وغادر حجرة النوم واتجه إلى المطبخ، المنضدة الرخامية البيضاء والفريجيدير، والبوتاجاز لا يزال يحمل سطحه آثار القهوة التي كان يصنعها بالأمس، القهوة، ما أجملها حين تشرب القهوة ويحمر وجهها وتبتسم وتتسع عيناها الضاحكتان بالتساؤل وبالدهشة! ودق جرس الباب وفتحه وهو نصف ذاهل، وتسلم اللبن وأخذ الجرائد التي دسها البائع منذ الصباح الباكر أسفل الباب وراح يعد الإفطار؛ فقد كان من العبث أن ينتظر حتى يصحو بدير، وغلى اللبن وأعد الشاي وحفلت المائدة الراقدة في ركن من الصالة بأدواته، وأيقظ بدير وجلسا أخيرًا يتناولان الطعام ويتبادلان الجرائد.

وقال له بدير وهو يغادره إلى المكتب: إن الخادمة العجوز ستأتي وأعطاه نقودًا لكي تعد لهما «صينية» في الفرن.

وانكبَّ حمزة على الجرائد حين أصبح وحده، وكان له غرام غريب بقراءة الجرائد، كان يقرأ الصفحة حرفًا حرفًا ولا يدع شيئًا إلا وفكر فيه وحلله، ولا يدع خبرَيْن إلا استنتج منهما ثالثًا، وكان ولعه بالأخبار جزءًا صغيرًا من حب استطلاعه الكبير، كان به شغف دائم إلى معرفة الحادث حتى قبل وقوعه وإلى الاستماع للخبر من أكثر من مصدر حتى يصل إلى حقيقة أمره.

غير أن انكبابه لم يَطُلْ؛ فقد وضع الجرائد جانبًا وخلع منظاره وفرك عينَيْه ولم يرفع أصابعه عن عينَيْه، بل ظل واضعهما فوق مقلتَيْه، وقد استند رأسه إلى ظهر الفوتيل وقتًا غير قليل، كان يؤنب نفسه كثيرًا، كيف سوَّلت له تلك النفس أن يحس بإحساسات أخرى غير رباط الكفاح بينه وبين فوزية؟

كيف؟!

وضايقه الجلوس، فقام وظل يدور في الشقة.

ودق الجرس.

وفتح.

ودخلت المرأة.

وعاد إلى جلسته على نفس الفوتيل في مكان فوزية المختار، وأحيانًا تبدو حلول أعقد المسائل في ومضة، وكان هو قد استقر على حل.

إنه رجل يؤمن بالعلم ويؤمن بالحب ويؤمن أن الناس وُجِدُوا ليحيوا ويُحِبُّوا ويسعدوا، فليس عيبًا أن يحب فوزية إذن، ولكن هل هو يحبها فعلًا؟ وهل ممكن أن يقع إنسان مثله في الحب بمجرد أن يقابل فتاة مثلها بضع مرات؟ أليس الحب عِشْرة وتجربة هائلة تُذيب الإنسان في الإنسان؟ وأين هذا مما بينه وبين فوزية؟

وأتاح له الصباح أن يجعل عقله أكثر سيطرة على نفسه، خاصة وأن الصباح كان باردًا برودة ترد الصواب، برودة تجعل الإنسان يرى الأشياء في وضوح، بل وتفقد أشياء كثيرة ما يحيطها من بريق وتبدو على صورة أقرب ما تكون إلى الواقع الذي مسح عنه الخيال.

ليس هكذا تخيل الحب، ولكن ما يحس به ناحية فوزية ليس عبث أطفال أيضًا ولا هو وهم، إنها أحاسيس حقيقية تجرفه وتغرقه وتأخذ عليه كل مسالك تفكيره، فلا يملك أمامها إرادة ولا روية ولا عقل، هذه حقيقة علمية أخرى، وهو رجل يؤمن بالعلم.

ولكنها حقيقة ناقصة؛ إذ إنها لا يمكن أن تكمل أبدًا، ولا يمكن لهذه الأحاسيس أن تتجسد وتصبح حقًّا إلا إذا كانت هناك أحاسيس أخرى تقابلها عند فوزية.

فهل هناك أحاسيس مثل تلك؟

وهل تحس فوزية ناحيته مثلما أو نصفما أو ربعما يحس به ناحيتها؟

هل؟

كان السؤال بسيطًا، حتى حرف الاستفهام فيه صغير وساذج، ولكن الإجابة عليه تحتاج من حمزة ربما إلى مجلدات فكرية ومراجع ذهنية ضخمة؛ إذ لم يكن هناك جواب واحد شافٍ، لم تكن هناك علامة واحدة أكيدة تنفي أو تؤيد، كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يراجع لحظة فلحظة وحركة فحركة ومرة فمرة، كل ما دار بينهما وكل ما بدر من فوزية ناحيته، نظراتها: دائمًا فيها بريق، ودائمًا عيناها لا تطرفان ولا يتطرق إليهما خجل، نظرات دوغري، لا تخفي شيئًا ولا تعني غير ما ظهر منها.

كلامها واضح وصريح: فيه الحماس البالغ، فيه الثقة، وليس فيه أي شيء آخر.

سلامها: دائمًا له نفس قوته، ودائمًا أصابعها تضغط نفس الضغطة وبنفس القوة، لم تمكث يدها في يده أكثر من اللازم مرة، ولم تتراخَ قبضتها أو تلين مرة، ولم يتدلل لها بنصر ولم يتشنج خنصر.

أو، أمن المعقول أنها كانت تعني شيئًا آخر حين سألته عن عمله؟ ولماذا اهتمت بسؤاله؟ أكانت بهذا معجبة به؟ أممكن أن يحتمل السؤال واحدًا على ألف من أي احتمال آخر؟ وحين نظرت إليه وخجل من نظرتها، ربما كان فيها شيء تلك النظرة، ولكن أي شيء هو؟ إعجاب؟ احترام؟ حب؟ استنكار؟

أممكن أن تكون البهجة التي تقابله بها؟ ولكنها منذ أن عرفها تقابله مبتهجة، وفي كل مرة نفس كمية البهجة لا تنقص ولا تزيد.

وحين جاءت أول مرة إلى الشقة، لقد اتفقا في مصر الجديدة أن تأتيه يوم الجمعة، فجاءت الخميس قائلةً إنها كانت في زيارة صديقة، أممكن أن يكون هذا صحيحًا؟ أم أنها حجة؟ وإذا كانت حجة، أممكن أن يكون الدافع إليها سببًا يمت إلى العاطفة؟

أممكن أن يكون إصرارها على الحضور إليه وفي المواعيد بالدقة يحمل هدفًا آخر غير ارتباطهما في معركة؟ خاصة وأن هذا الارتباط قد ضعف بضعف اتصالاته؟

أممكن أن يكون تنفيذها الدقيق الرائع لكل ما يكلفها به يحمل طاعة غير الطاعة التي تفرضها علاقة الجندي نحو زميله وقائده؟

أممكن كل هذا؟

كان حمزة قد وصل في تفكيره إلى آفاق مثل تلك وأبعد، ولكنه كان كعادته يوغل في الخيال والافتراض ثُمَّ يعود به برد الصباح إلى طبيعته التي تأبى أن يتحكم فيها شيء غير العلم، والعلم يقول: إن أقصر ما يوصل بين نقطتين هو الخط المستقيم، قد يكون أصعب الطرق ولكنه دائمًا أحسنها، فليجرب إذن الخط المستقيم.

وحين انتهى إلى هذا استراح وانطلق بلا وعي يصفر ويغادر مكانه، وذهب يبحث عن الصعيدية العجوز وقد شعر برغبة في الحديث وفي الضحك بل وفي الغناء.

ولم يجد امرأة، إنما وجد «السلطة» معدة والشقة أرضها تلمع بالغسيل والمسح.

وفي هدوء سمع المفتاح يدور في الباب، ودخل بدير يحمل كيسًا من البرتقال «أبو صرة» الضخم الحجم.

– ألله، حمدًالله على السلامة! يعني جيت بدري النهارده، الساعة يدوبك اتناشر.

– والله بصيت لقيت نفسي زهقان يا حمزة، الواحد الأيام دي ملوش نفس للشغل مش عارف ليه.

– أنا عارف ليه.

– ليه؟

– لازم ليلى التي في الدقي مريضة!

– ليلى مين يا شيخ؟ أنت عارف أنا باتأثر من الحاجات دي، مايغركشي دا محسوبك واد تقيل يعجبك.

– إزاي؟

– أنا مش امبارح كنت باسألك عن حكاية.

– آه.

– النهارده لقيت الحل.

– بالذمة؟ ايه؟

– الحل بسيط جِدًّا، مافيش داعي الواحد يتعب نفسه ويحاول يعرف، يستنى ويتقل لما هي من نفسها تقع بعضمة لسانها وتتكلم.

– يعني لما تعترفلك هي بحبها؟

– لا مش للدرجة دي، لما يبان عليها قوي، حاكم الحاجات دي عايزة تقل.

– معقول، معقول جِدًّا.

ودخل بدير حجرة النوم وعاد وقد ارتدى الروب وهو منهمك في تقشير برتقالة ضخمة، وقال وفمه ممتلئ بنصفها: هي الولية فين؟

– خالتك أم عبده، لازم راحت تجيب الصينية، مافيش أخبار خاصة؟

– مافيش، بس فيه إشاعة كده إن الوزارة حتستقيل.

– ما هي أدت دورها، خلصت على المعركة وأعلنت الأحكام العرفية.

– والله الحكاية بقت نيلة قوي، تفتكر يعني حنفضل كده على طول؟

– طبعًا لأ، بس لا يمكن حايحصل أي تغيير إلا إذا استؤنفت معركة القنال.

– يا جدع بطل بقى، ما راحت الهوجة بتاعة زمان دلوقتي والناس خلاص سكتت، وكل واحد بيقول ابعد عن الشر وغني له.

– أبدًا.

– أبدًا ازاي؟ كل الناس كده، ما انت اهو مثلًا، كنت عامل زي النحلة زمان، وادي أنت مستخبي وساكت دلوقتي.

وضحك حمزة وسأله: أنت فاكر إن أنا مستخبي خايف من الحكومة؟

– أمال يعني أنا اللي خايف؟

– إنت لسه برضه مش فاهم يا بدير، أنا مختفي وباتفادى القبض مش علشان خايف من السجن أو الاعتقال، أبدًا، أنا شايف بس إن الشعب محتاجني ومحتاج لغيري عشان ننظمه وندخل بيه معركته الفاصلة؛ ولذلك أنا باعتبر نفسي أمانة من أمانات الشعب لدى نفسي لازم أحافظ عليها ولازم أحميها علشان تقوم بدورها.

– إنت يا أخي عايز تمخولني واللا بتاكل بعقلي حلاوة؟ بقى عايز تقول إن نفسك يعني أمانة لدى نفسك، إيه ياخويا الكلام ده؟

– بعدين نبقى نتناقش في المسألة دي، بس المهم دلوقتي إنك توافقني على أننا لا يمكن أن نتخلص من الوزارات الخاينة دي إلا باستئناف الكفاح المسلح ضد الإنجليز؛ لأن هم العدو الأساسي.

– والله ما اعتقدش.

– ليه؟

– ما اعتقدش.

– ليه بس؟

– مزاجي كده! الله! أنا حر يا أخي في مزاجي.

– طيب أمال تعتقد ايه؟

– أصل شوف، علي ماهر ده راجل ناصح قوي، دا انا اعرفه معرفة عائلية واحنا حتى نسايب، رجل ناصح قوي، لازم تلقاه موضب مقلب محترم، مش ده المهم، الواحد جعان قوي، الله يخرب بيتك يا أم عبده، يكونشي الولية غلطت وبدل ما تروح الفرن راحت جهنم.

وجلسا إلى المائدة في انتظار هلال «الصينية»، وكان حمزة ساخطًا على ذلك التأخير؛ فقد كان يريد أن ينتهي الغداء بسرعة حتى يغادر بدير الشقة مبكرًا بعد الظهر ليكون أمامه متسع من الزمان والمكان لما قرر أن يقوم به.

ولكن بدير لم يزعجه التأخير بل بدا مستريحًا إليه، ولا يهمه إن لم تأتِ أم عبده أبدًا، وكان هذا غريبًا.

وزالت الغرابة حين جاءت الصينية وتناولا الغداء، واقتربت الساعة من الرابعة، ولم يبدُ على بدير أية علامة تُشير إلى أنه يود التحرك من مكانه، وحين سأله حمزة مذكِّرًا إياه بميعاد المكتب قال وكأنه يُفضي بشيء مفروغ منه: والله مكسل النهارده، مش رايح، مليش نفس، إيه اللي الواحد خده يعني؟ الصبح في المحاكم وبعد الظهر في المكتب، نفسي في يوم كده ما أروحش، نفسي كده، حيجرى إيه؟ حتخرب الدنيا؟ أقله الزباين تعرف قيمة الواحد، مش رايح.

وكان عناده هذا الذي يشبه عناد الأطفال مثار ضيق شديد لحمزة، فمع أنه لم يكن بينه وبين فوزية أي ميعاد إلا أنه كان يعتقد تمامًا أنها لا بد قادمة في الخامسة من ذلك اليوم، ليس هذا فقط، بل إن ما سوف يدور في تلك المقابلة خطير خطير، وإذا بالأستاذ بدير هكذا وبدون مناسبة يحرن.

وحاول حمزة بشتى الطرق أن يُثنيه عن عزمه هذا وأن يجمل له الخروج ويبتكر له محاسن لا يتصورها في عمل ما بعد الظهر، ولكن بلا فائدة.

وانتهت المحاولات بحفيف الأقدام الذي دق له قلبه بشدة هذه المرة، وبالشبح الحبيب يبدو على زجاج الباب، وكالعادة وقبل أن تدق الجرس كان حمزة يفتح وكانت فوزية أمامه متعبة مبتسمة، في ابتسامتها الحياة وحتى في تعبها نشاط ما بعده نشاط، ولاحظ حمزة بريقًا غريبًا جديدًا في عينَيْها.

ودخلت وارتبك بدير ولم يستقر في مكان واحد، غادر الحجرة وما كاد حمزة ينفرد بها لحظات حتى كان قد عاد وعلى فمه ابتسامة وجلس دون أن ينطق حرفًا، ثُمَّ قام وعاد بعد قليل بزجاجة عصير الفواكه المثلجة والاعتذارات المرافقة لها وجلس، وقبل أن يحدث شيء آخر قام حمزة وغاب وترك بدير صامتًا مع فوزية الصامتة هي الأخرى، وعاد يحمل الصينية وينقل قدمَيْه باحتراس والقهوة يتصاعد بخارها من الكوبَيْن والفنجان الصغير الذي كان قد صنعه لبدير.

وما كاد يضع الصينية حتى قال بدير من فوره: تسمعي فريد الأطرش، عندي كل أسطواناته؟

فأجابت فوزية في شيء قليل من الامتعاض: لا، إذا كانت عندك حاجة كلاسيك يبقى أحسن، ولو إني …

وأرادت أن تقول شيئًا ولكنها سكتت.

وكان حمزة لا يُتاح له أن يستمع إلى كثير من الموسيقى، ومع هذا كان يختلس لحظات استماعه اختلاسًا عند بعض أصدقائه، وأحيانًا كثيرةً كان يذهب إلى متحف الفن الحديث حيث يستمع مع شلة المغرمين الدائمي الجلوس هناك، يستمع معهم إلى بيتهوفن وموزار وبرودين، ولكنه كان دائمًا يفضل تشايكوفسكي ويرى في موسيقاه عواطف يعبر عنها بأقصى ما قد يستطيع فنان.

ولم يطمئن حمزة لبحث بدير، فقام هو بنفسه ينقب معه في درج الأسطوانات الملحق بجهاز «البيك آب» الأنيق، ولم يجد من كل الموسيقى الكلاسيكية إلا «مارش العبيد» لتشايكوفسكي، وكان لهذه الأسطوانة بالذات مكانة خاصة في نفس حمزة؛ فقد كان يرى في نغماتها أنين البشرية كلها تحت لسعات العسف، وبحثها المرهف عن المصير.

ودارت الأسطوانة.

وما بدأت تدور حتى أغلق بدير «شيش» النافذة، وبقيت الحجرة في شبه ظلام، وجلس يستمع في أدب، ورغبته في التأدب أكثر من رغبته في الاستماع.

وبدأت الظلمات تتراقص وكل شيء يموج والحجرة تخفق بأنَّات تحوم كالأشباح، وآلام سوداء تمور ثُمَّ تصهر ثُمَّ ترق وتشف حتى تبدو من خلالها أضواء الأمل، وفوزية جالسة تسترق يدها الطريق إلى كوب القهوة وتختلس منه الرشفة في سكون وامتنان، ثُمَّ تُسْنِد رأسها إلى ظهر الفوتيل المواجه للمكتب وتسرح بعينَيْها تهيم بهما في الحجرة، وأحيانًا تلتقيان بعينَيْ حمزة فتبرق عيناه ويبتسم وتعود هي إلى سرحانها ورشفاتها المختلسة.

والشيء الوحيد الذي لم يرتح له حمزة هو القلق الذي لا يهدأ والذي كان يبدو في نظراتها حتى وهي تسرح بعينيها.

والظاهر أن بدير أحس فجأة بشيء ما، شيء مثل: ألا مكان له في كل ذلك ولا مكان لأدبه أو ضخامة جسده؛ فقد انتصب فجأة واقفًا، ثُمَّ غادر الغرفة، وقال له حمزة: على فين؟ خير.

– رايح، بقى.

– فين؟

– المكتب.

– ألله! ما انت قلت …

ولم تتح له الفرصة ليكمل كلامه؛ فقد كان بدير يجيبه وصوته يبتعد، وقبل أن تتم المحادثة كان بدير قد غادر الشقة وصفق الباب خلفه.

وسألت فوزية: الله، ماله؟

– مش عارف، غريبة، دا ما كانشي عايز يروح المكتب.

وانتهى «مارش العبيد».

وبحث حمزة عن شيء آخر يسمعانه فلم يجد.

وعاد إلى مكانه، وبدلًا من أن يفتح الشيش أوقد لمبة المكتب فأضاءت سطحه الزجاجي اللامع، وأضاء النور المنعكس من السطح وجه فوزية فأُضيفت إليه روعة جديدة.

والحقيقة أن أحاسيس جامحة تملَّكت حمزة وهو يلتهم وجهها الدقيق المسمسم التهامًا، كان لو أطاع براكين ثائرة تدور في أعماقه لقام واختطفها ووضعها تحت إبطه وحارب من أجلها الدنيا، أو لاحتواها بين ذراعَيْه وأخذ يضغط عليها حتى تستحيل إلى شيء دقيق صغير يُغْلِق عليه ضلوعه ولا يتركه أبدًا.

كان يتساءل في ضيق عما أبقاه بعيدًا عنها كل تلك المدة، إنه يعرف من لحظة أن رآها أن ما يحسه الآن سيكون النهاية حتمًا.

ساعة أن رآها لم يفكر لحظة واحدة أنه يمكن إلا أن يراها.

وبلا مناسبة برقت في خاطره صورة فوزية حين رآها أول مرة، حين دخلت الخيمة منحنية: صغيرة، نحيفة، ترتجف من البرد، وذهبت الصورة خاطفة كما جاءت، فوجد نفسه في التو يتساءل: ما لها فوزية؟ وعلى ماذا أحبها هذا الحب كله؟ ولماذا يجعل منها إلهة؟ أليس ما يعنيه الآن وما يدور في خاطره انفعالات الحالمين والمنحلين والمتعفنين؟ أليست هي نفس الخواطر التي يضحك بها الكُتَّاب الناعمون على الناس؟ ما لها فوزية؟ إنها جالسة أمامه لا ضخامة فيها ولا ألوهية، صغيرة كالتلميذة، متعبة، غلبانة، من الممكن أن يناقش معها أي موضوع.

– اسمعي يا فوزية! عملتي ايه في المُدرِّسات؟

فأجابت فوزية: ماشيين كويس قوي، فيه واحدة منهم اتجوزت واللا اتخطبت معرفشي، لا يا ربي، اتجوزت، واتنين كمان بيحاولوا يتجنبوني الأيام دي، إنما الباقي كويسين.

– والشنطة عملت فيها ايه؟

– نقلتها النهارده عند محاسن.

– عند مين؟

– محاسن، أحسن واحدة فيهم، دي إنسانة رائعة، تصور إنها مستعدة تخبي ناس من الهربانين عندها في شقتها، مستعدة تعمل أي حاجة، تدفع فلوس، تجمع تبرعات، وحتى مستعدة لو اقتضى الأمر تروح القنال. اسمع يا حمزة، احنا مش حينفع كده، لازم نشتغل أكثر من كده بكتير، داحنا ماعملناش حاجة خالص.

وكانت تتكلم بلهجة حامية وتوجه الحديث إلى نفسها أكثر مما توجهه إليه، فأجاب حمزة من فوره: كويس جِدًّا، احنا حنبتدي من نفسنا، فانتو وأنا حنعمل نواة للعمل الضخم اللي بينتظرنا.

وظلت فوزية تهز رأسها تباعًا وهي تحملق في حمزة وتراقب حماسه في إعجاب مخلص، حتى لتخاف عليه من الخطأ ومن أن ينطق بحرف لا يقع في نفسها موقعًا حسنًا، وقالت في انفعال: أيوه، فعلًا، لا بد من الاستمرار بأقصى قوة.

– بالظبط، إنما ازاي، دي عايزة استعداد، وعايزة جهود وإصرار، فاهماني ازاي؟ ولا بد حنوصل.

– لا بد.

وران عليهما صمت لم يستمر سوى لحظات خاطفات، ثُمَّ بدا حمزة يتململ في مكانه ويبتسم محاولًا أن تكون بسماته جادة على قدر الإمكان، ثُمَّ قال: بس فيه موضوع تاني عايز أناقشك فيه.

– موضوع الفلوس؟

– لا، موضوع، خاص كده.

– خاص؟

– أيوه.

وعاد ينظر إلى فوزية ليؤكد ثقته بنفسه، ولكنَّ اضطرابًا عظيمًا ألمَّ به وهو يرى أن من أمامه لم تعد فوزية، لم تعد الصغيرة، المتعبة، المتحمسة، التي تكاد أن ترتجف من البرد؛ إنها أمامه قبس من نور ساطع براق لا يستطيع مواجهته، إنها تكاد تستحيل في عينَيْه إلى شيء مقدس كقسم المكافحين، كالتضحية، كأمل الملايين في يوم الخلاص، ولكنه لم يعد في إمكانه التراجع، عليه أن يستمر.

– فيه موضوع.

– إيه، اتكلم يا حمزة.

وابتسمت، يا لبسمتها تلك وفي ذلك الوقت بالذات! البسمة التي تذيب الإرادات إن شاءت وتصنع الأبطال إن أرادت، البسمة التي قد يواجه الإنسان جيشًا ولا يستطيع مواجهتها.

– بقى شوفي يا فوزية، أقصر خط بين نقطتين هو الخط المستقيم، وأنا مش عارف ابتدي ازاي، إنما دي حاجة مليش بيها أي دخل، حصلت غصب عني، بصيت لقيت حاجات عمالة تتجمع وتتراكم لغاية ما ماقدرتش أستحمل، فاهماني ازاي؟ وإذا كنت بكلمك النهاردة فلأني معتش قادر أستنى لبكره، خلاص فاض الكيل فاهماني ازاي؟

وتساءلت فوزية في دهشة كثيرة: إيه الحكاية؟ إيه المشكلة؟

فواصل حمزة كلامه وهو كثيرًا ما يحدق في سطح المكتب الزجاجي المضيء وقليلًا ما يحدق فيها: المشكلة إني أنا من مدة ابتديت أحس ناحيتك بإحساسات تانية غير إحساسات زمالتنا في المعركة وزمالتنا في الكفاح، قاومت هذه الانفعالات من أول دقيقة، إنما كان بيحصل حاجة غريبة قوي؛ فكل ما كنت بقاومها كل ما كانت بتزيد بشكل خطير، والمشكلة إني حسيت إني لازم أناقش معاكي بصراحة المسألة دي، فإيه رأيك؟

وبدأت فوزية تتخذ أهبتها للرد، ولكنه واصل كلامه: أرجوك حاولي تاخدي المسأله بعمق وبشكل جدي، أنا عمري ما مريت بحالة زي اللي أنا فيها دي.

وبدأت فوزية تستعد للرد ولكنه استطرد قائلًا: المشكلة خاصة جِدًّا، ومهما كان رأيك فيها، ومهما كان جوابك فأرجو إن ده لا يؤثر على العمل اللي بنؤديه مع بعض، أهم شيء هو المعركة باستمرار.

واعتزمت فوزية هذه المرة أن ترد، ولكنه استوقفها بإشارة راجية من يده: أرجوكي برضه إنك تفكري أكثر في المشكلة، مش عايزك حتى تتكلمي دلوقت؛ فأنت لا تتصوري أهميتها عندي.

وهنا قاطعته فوزية وأرغمته على التوقف وانطلقت تقول: متتكلم بصراحة أكتر، متقول يا أخي إنك بتحبني وتنتهي وإنك عايزني أحبك، مش هي دي المشكلة؟ مش هي دي الحكاية اللي اجتمعنا علشنها؟ احنا ورانا ايه غير كده، لا كفاح ولا يحزنون، فضينا للحب.

وحاول حمزة أن يقاطعها ويتكلم ولكنها استمرت: أنا كنت فاكرة إن الناس اللي زيك حاجة تانية، كنت فاكرة إن العمل الخطير اللي وراهم أهم من الحاجات التافهة اللي بيجري وراها كل الناس.

وهنا أصبح الحوار من الصعب أن تعرف قائله، وأصبح صوت الأعلى هو المسموع حين رد حمزة قائلًا: دي مش حاجات تافهة يا فوزية، دي حياتنا.

– حياتنا أسمى من كده، حياتنا وراها حاجات أهم من كده، المفروض إننا نحترق عشان غيرنا يعيش.

– أبدًا، احنا يجب نعيش ونكافح علشان الناس تعيش، احنا مش رهبان ولا ملائكة، احنا بني آدمين، احنا عايزين نحب وكل الناس تحب.

– بلاش كلام فارغ، حرمانا هو الضريبة اللي بيفرضها علينا الكفاح.

– إذا عملنا كده نبقى شواذ، نبقى بنخرف وكفاحنا يبقى كله تخريف.

– طبعًا، أمال حتقول ايه غير كده؟ أنت عاوز تفلسف انحلالك، إنت اللي كلامك كله تخريف، أنا اللي غلطانة، مش ممكن كنت أتصور، دا منتهى الانحلال، إنت بتخون دورك وثقتي فيك، إنت انتهيت، أنا لازم أناقش زملاءك دا منتهى الشناعة.

وكان وجهها يشحب باستمرار كمن طُعِنَ غيلة، ونقاط عرق تبزغ فوق جبينها وتتجمع نقاط أخرى من غضب جامح فوق أنفها الدقيق، وملامحها قد اتخذت طابعًا غريبًا متنمرًا لا يمت بصلة إلى ملامحها، وما كادت تلفظ كلماتها الأخيرة حتى كانت يدها على حقيبتها وحتى كانت أسرع من نداءات حمزة عليها وهي تأخذ طريقها خارجة.

وحتى لم تقفل الباب وراءها.

١٠

ظل حمزة على الأقل ساعَتَيْن لا يدري أين هو ولا في أي مكان من الكرة الأرضية يستقر، كانت أفكاره كثيرة يزدحم بها عقله، يمسك الواحدة فتهرب وتختلط بالأخريات، ولا يستطيع أن يفكر في شيء بذاته، ولكنه يحس دائمًا أن هناك أشياء تتلاطم في مخه وتسد عليه مسالك تفكيره، ويذكر أجزاءً من المحادثة ويستعيدها ويستعيد بدقة الكلمات التي قالتها ويتأملها، ثُمَّ يرجعها مكانها في ذاكرته ساخطًا لاعنًا.

كانت — ربما لأول مرة — تخونه ثقته في نفسه، وهو لن يُخْدَع هذه النفس بعد الآن، كان في قلبه شعور دائم أنها لا بد تحبه أو إن لم تكن تحبه فهي على الأقل لن ترفض إذا طلب منها أن تحبه، أخداع ما كان يحسه في أحاديثها وإشاراتها من علامات لذلك الانتظار؟ كان يحس دائمًا أنها تود أن تقول له شيئًا مثل ما قاله لها الليلة وأن الحياء فقط هو ما يمنعها من أين جاءه ذلك اليقين؟ يا لحمقه وغبائه وضياعه؛ أقصر خط بين نقطتَيْن! كلام فارغ وسخافات، كان يجب أن يكون أكثر لباقة، كان يجب أن يحسب حساب الفشل، كان يجب أن يعدَّ العدة للرفض، كان لا بد من استعمال الدبلوماسية، أحسب المسائل العاطفية بغبائه مشكلة من مشاكل الكفاح اليومي من السهل طرحها على بساط البحث بطريقته الساذجة العقيمة تلك؟ أمانٍ سوداء ظلت تلاحقه وتطارده وتخرق عقله كمسامير حامية، تمنى أن يدهمه وابور أو يختفي بطريقة ما من الوجود حتى لا يراه الناس وحتى لا يرى نفسه، وراح يكز على أسنانه ويضغط بيدَيْه فوق ضلوعه وتتقبض كل عضلاته محاوِلَةً أن تجعله ينكمش وينكمش حتى لا يبدو للعيان، ومضى يكوم على نفسه أحقادًا ذات لفح رهيب ويذيقها من ألوان التأنيب والتقريع ما لم يذقها إياه في حياته كلها، وقد أفاق من الأحلام التي عاشت معه أيَّامًا طوالًا ليجد جبهته تقرع البلاط، ويجد نفسه ممددة على الأرض الجرداء حزمة جافة من فشل لا أمل فيه، ولم يكن ما حدث فقط هو ما يكتم أنفاسه بل هو آتٍ كذلك، فَقَدْ فَقَدَ بفَقْدِ فوزية عنصرًا هامًّا من عناصر كفاحه، ومناضلة قوية إذا قُطِعَا ستُبْتَر كل صلة لها به، بل يُحْتَمل أن تنفذ تهديدها وتناقش قصة «حبه» التافه مع بقية زملائه أعضاء اللجنة العامة للكفاح المسلح، وحين يتصور ماذا يكون موقفه حين تحيطه هالة الزملاء متعجبة مستنكرة، حين كان يتصور هذا يتوقف فكره في الحال ويأبى أن يمضي، ويأبى إلا أن تبتلعه دوامات أخرى من الألم الهائل.

وجاء بدير بعد منتصف الليل، لم ينتبه إليه حمزة كثيرًا؛ فقد لاحظ أنه في حالة انبساط غير عادي، وأنه يتكلم باستمرار ودون توقف ويضحك، وأنه خلع ملابسه وظل بالفانلة والسروال في جو ملتهب بالبرد، وأنه أخيرًا جلس أمامه وتطلع إليه كثيرًا قبل أن يقول: اسمع يا حمزة ياخويا، بقى انت عندي على العين والراس، مستعد أخبيك وأروح معاك في ألفين وستميت داهية، إنت عارف أنا باعزك قد ايه حتى من أيام المدرسة الثانوية، ومافيش مرة جتني تطلب فلوس إلا أمَّا اديتك نص اللي معايا، وأنا راجل بتاع مزاج، وانت بصراحة داخل في مزاجي، عاجباني شخصيتك يا أخي، حد شريكي؟ أنا كده واللي مش عاجبه يشرب بيرة زي ما شربت، أنا كنت عايز أقول ايه؟ أقول ايه؟ أيوه يا سيدي، أيوه، بقى انت في عيني دي من جوه، وعيني دي، وعيني دي بالمناسبة ستة على ستة، ودي ستة على أربعة وعشرين، إنت في نني عيني كمان، إنما الست اللي بتجيلك دي اللي اسمها، سميحة واللا فوزية ماني عارف، هي اسمها إيه؟ هو انا عبيط؟ هو انا مش فاهم؟ آه الست دي مسألة تانية ياخويا يا حمزة؛ فحكاية الدروس دي طبعًا لا تخيل عليَّ ولا تخيل عليك، ويمكن البوليس يكون مراقبها، يمشي وراها، يتحك فيها، تكون مشبوهة، تكون قابلت واحد مشبوه تودينا احنا الاتنين في داهية، آه زي ما بقولك كده وربنا المعبود، دا مافيش أبسط اليومين دول من المرواح في داهية، وأنا بصراحة من غير أي إحراج لك أو لي، إنت عايز الصراحة، عايز الصراحة يعني، أنا مش عايزها تيجي هنا.

وسمع حمزة هذا وانفعل، ولكنه سكت فعاد بدير يقول: أيوه هي الصراحة كده، وفيه أحسن من الصراحة؟ أنا راجل مش بتاع لف ولا دوران، إنت في عينيه من جوه، إنما هي، حد ضامن؟ حد بيقرأ على ضهر إيده؟ حد عارف حاجة؟ مين عارف؟ يمكن، يمكن قوي، مايمكنشي ليه؟ هو لولا شوية البيرة اللي ملخبطني دول كنت كلمتك أحسن من كده، الله يخرب بيتك يا مين النهارده، آه ما أنا لما بزعل بشرب بيرة، ولما بفرح بشرب برضه بيرة، إلا من حق طيب، أنا شربت بيرة ليه النهاردة؟ يا ترى كنت زعلان واللا فرحان النهارده لما شربت؟ حاكم أنا لما بزعل بشرب مع الجدع ده اللي اسمه دايمًا با أنساه، الباجوري، الباجوري، ولما بفرح باشرب مع الواد منعم، وأنا شربت مع منعم النهارده، يبقى لازم كنت زعلان، زعلان قوي، آه، ما هو بصراحة كده يا حمزة، إنت في عنيه من جوه، إنما هي، حد ضامن؟ حد عارف؟ يمكن، مايمكنشي ليه؟

ونام حمزة لدهشته نومًا عميقًا.

وحين استيقظ في الصباح كان بدير لم يكن قد فرغ من استيقاظه بعدُ؛ فقد كان يفعل هذا على دفعات، ووجده حمزة حينئذٍ جالسًا على طرف الفرش يفرك عينَيْه ويتثاءب، وما إن لمح عينَيْ حمزة تُفْتَحان حتى قال وهو يموء: اسمع يا حمزة، صباح الخير الأول، والله أنا عايز الشنطة ضروري.

فقال حمزة في امتعاض: هي هتروح فين يا أخي؟ إشمعنى افتكرتها دلوقتي؟

– أصل عايزها ضروري، دي كمان شنطة المرحوم والدي، وزي ما قلت لك بقى خليك فاكر، لما تيجي الست دي تفهمها.

– أهي مش جاية.

– ليه؟ حتيجي بكره يعني؟

– ولا بعده.

– ألله، هو حصل حاجة؟

– لا أبدًا، ظروف.

– إيه يعني؟ ظروف إيه؟

– ظروف، هو انت لازم تعرف كل حاجة؟

– لا مش لازم، إنما حصل حاجة يعني؟ سوء تفاهم؟

– إنت مش مش عايزها تيجي؟ أهي مش جاية.

– بس يعني والسبب ايه؟

– إنت مالك يا أخي، خلاص، ما عدتشي جاية، استريح.

وانتظر بدير قليلًا ثُمَّ سأل ولعله كان بسؤاله يقصد إعادة الحديث إلى مجراه ليس إلا: طيب والشنطة؟

– يا أخي ما تفلقنيش بقى، ما قلت لك حجيبهالك.

وحين غادره بدير إلى عمله مضى حمزة ينزف.

كانت جروح المساء قد بدأت تنبح، وما أشد إيلام جروح المساء إذا طلع عليها صباح!

كان بدير قد تركه وحيدًا مع إحساسه القاتل بضياعه وتفاهته وخيبته حتى راح يراجع حياته كلها، ولم يخرج منها إلا بحفنة من المواقف المخزية والقذارات، وخُيِّلَ إليه أنه لم يفعل شيئًا في حياته يستحق معه أن يعيش، بدا له ماضيه ساعتها أبشع من ماضي الخائن وأوهى من حجج المتردد، وكم هي قاسية ساعات الألم، إنها بقدر ما ترهف الإحساس تحرفه، وبقدر ما تفيد في تجنب الخطأ تضر بالكائن الذي سيتجنبه أبلغ الضرر، إن السعادة لا بد أن تكون هي الحياة بلا آلام.

وكما راجَعَ حمزة ماضيه أتى على حاضره أيضًا، وأية مهانة وجدها وهو يرى نفسه فاشلًا مختفيًا والأيام تنقضي والمعركة تخمد جذوتها وتهمد نيرانها الراقدة تحت الرماد، وهو جالس يلعب ويحب ويناقش مشاكله الخاصة.

ومن لحظة أن فتح عينه لم يستقر على حال، جلس ووقف وخبط رأسه بيده كثيرًا، وراح يلصق جبهته أحيانًا بالحائط ويفكر، وهو في وضعه ذاك مستعد أن يطحن الجدار برأسه في أية لحظة، وبدا له يوم الشتاء البارد الذي كان فيه يومًا سقيمًا مريضًا تفوح منه النتانة، كغريق استُخْرِج من الماء بعد أيام، بل رأى كل أيام الشتاء وكأنها جِيَف متراصة ينهشها برد كالح أغبر، شتاء، وخيبة، وعزلة، وبدير، وفوزية، ووجهها الذي طالعه مخيفًا حين تنمرت ملامحها، ماذا أحبه فيها؟ وأي شيء فيها يُسْتَحب؟ وأية أحلام بغيضة وتصورات مُخَدَّرين عاش فيها وهو حبيس جدران بيضاء وأيام سود.

وغلى دمه بأحاسيسه تلك وكأنه يكتشف لحظتها فقط أنه قد هرب من السجن الأميري ليواجه حتفه في ذلك السجن الحقيقي الذي يحيا فيه، ويحيا لماذا؟ ويختبئ ليفعل ماذا؟ كل ما فعله أنه أحب، وكل ما اختبأ من أجله كان هو اللحظات التي يقضيها مع معبودة الفؤاد.

هراء ما فعله وهراء ما يفعله، وهراء تلك الساعات التي تمضي والأيام التي تنقضي والمعركة تموت ولا تنتظر، هراء، لن يُخرج الإنجليز ترتيبه وتنظيمه وقيادته المزعومة للمعركة وهو مختبئ في القاهرة، مكانه هناك في التل الكبير أو القرين أو الإسماعيلية أو أية مصيبة، يجب أن يغادر ذلك المكان فورًا، يسافر الليلة، ويحارب الليلة أيضًا، يجب. وأمه جالسة زمانها على جوال قديم أمام بيتهم في عزبة الدريسة تطرز المناديل وتتطلع إلى ابنها الكبير.

والرصاص الذي كان يتحدث عنه، و٦ مارس والأولاد الأبطال وفوزية التي كان ينظر إلى كفاحها على أنه كفاح تلامذة مجتهدين، فوزية هذه تقول: لنا تاريخ، وهو يقول — هو الأستاذ القائد الذي كان عليه أن يتعهدها ويسقي عودها ويقدمها لشعبه مكافحة صلبة — هو يقول فيه موضوع خاص عايز أناقشه: عواطف بتنمو، مش قادر يا شاطر، يا حدق يا روميو، وما محل مش قادر هذه من الكفاح ومن معركة الوطن؟

وتعود الجروح إلى النزيف، وتعود أسنانه تئز وعضلاته تتقبض وشيء داخله يهيب به أن يحطم ويقتل ويثور أو ينتحر.

ومر اليوم بلا بدير على الغداء وبه بلا غداء، ثُمَّ جاع في العصر فمضى إلى المطبخ يبحث، وأسكت ما وجده آهات، وولد المطبخ والمائدة الرخامية وعليه آثار بن آهات.

وفي الخامسة فوجئ أكبر مفاجأة.

دق جرس الباب وفُتِحَ، ورُوِّعَ بفوزية واقفة تلهث وشفتها السفلى ترتجف محاولة أن تبتسم، وأهدابها تسترخي على عينَيْها وهي تقول وكأن ليس بها رغبة في الدخول: أنا جيت.

وتمتم حمزة بأشياء، وخَطَتْ إلى الداخل في تراخٍ وأغلقت شيش النافذة، وأشعلت مصباح المكتب وأضاءت الحجرة بالضوء الباهت المنعكس، وجلست على نفس الفوتيل ووضعت ساقًا غير ثابتة فوق ساق ثُمَّ قالت: عايزة قهوة، في كباية كبيرة وحياتك.

١١

كان المطبخ لحمزة في ذلك الوقت نجدة أتته من حيث لا يدري ولا يعلم؛ فالمطبخ ودورة المياه وزنازن السجن وكل تلك العلب المبنية الصغيرة التي لا تكاد تسع الإنسان، في هذه الأماكن يحس الإنسان أنه أقرب ما يكون إلى نفسه، ويحس حالما يغلق الباب عليه بأمان غريب، وكأنه قد أصبح بينه وبين العالم ومآسيه سد منيع، وكان حمزة وهو يعد القهوة يحس بالمطبخ ببياضه ونظافته وكأنه أخته العانس الطيبة التي تعوَّد أن يعترف لها بأدق أسراره دون حياء أو ندم أو رغبة؛ ولذلك ترك عقله يتشتت وتذهب كل قطعة منه في ناحية، حتى إنه وضع البن والسكر في الكنكة ثُمَّ وضعها على الموقد دون أن يضيف إليها ماءً حتى تصاعدت رائحة السكر المحترق، فتنبه وباشر إعدادها مرة أخرى بحرص أكثر، كان يحس بنفسه خفيفًا خفة غير عادية وكأنه بالون ممتلئ بغاز أخف من الهواء، وكان يحس بالسعادة ويريد أن يتجاهل إحساسه بها حتى لا يحزن وييأس حين يفقدها.

كان به فرح غير عادي ورهبة غير عادية أيضًا، إن مجيئها ليس له إلا معنى واحد: إنها استجابت وجاءت، وإن الظلام الذي تراكم في نفسه وشوَّه أمامه طريق المستقبل قد انقشع فجأة وحفل الطريق بنور باهر فياض، إنه بالأمس وحين طرح ذات نفسه أمامها فإذا بكلامها ينهال عليه لاسعًا ملتهبًا، وإذا بالألم العظيم يجتاحه وقد قدم لها قلبه فكوته بالنار. أحس بالأمس أن كل شيء قد انتهى وأن الأمر لم يكن سوى وهم عابر أيقظته منه قرصة واقع أليم. كان بالأمس — وبعدما حدث — يبحث في نفسه عن بقية باقية من عاطفة تجاهها فلا يجد.

ولكن ماذا حدث؟ أمجنون هو؟ وهل نفسه أرجوحة صبيانية تصعد في لحظة إلى السماء؟ وما تكاد تتكامل اللحظة حتى تكون قد هَوَتْ إلى الأرض، وما تكاد تبدأ لحظة جديدة حتى تكون مرة أخرى وجهتها السماء؟ لقد أحس وهي واقفة على الباب تقول له: «أنا جيت.» عبر شفتها الراجفة الباسمة، أحس أنه حقيقة يحبها حبًّا كفيلًا بملء الكون كله، حُبًّا لو وُزِّع على ملايين من الناس لأشعل في قلب كل منهم نارًا، وأحس بأن الأمر جد وأن عاطفته ناحيتها لم تكن عيبًا ولم تكن انحرافًا ولا جريمة، وإنما كانت حقيقة مادية ظلت تترسب طبقة وراءها طبقة في أعماقه، ليس هذا فقط، بل إنه أدرك فجأة أنه كان يحبس عواطفه في قمقم ويأبى عليها الانطلاق، وأنه كان مثل الميت من الجوع حين يذهب في زيارة ويجيء الطعام ألوانًا أمامه ويأبى أن يتذوق منه شيئًا؛ لأنه مكسوف، ولأنه عيب، ولأنه معقد تعقيدًا يسد عليه مسالك الحياة.

لماذا يلف ويدور ويسخط ويبتئس ويضحك على نفسه وينوح؟ لقد أحبها وهي الآن معه، له، جاءته بملء إرادتها وباختيارها؟ لماذا هو مغرم بإقامة العراقيل واختلاق السدود والطريق أمامه واضح وصريح وفوزية كلها على قيد خطوات منه؟ ولماذا هو واقف كالعبيط يفكر ويحلل ويصنع القهوة ويدعها تنتظر ويؤجل اللحظة الحاسمة؟

وقبل أن يتحرك حمزة شعر بيدٍ تُوضع على كتفه، نفس الأصابع النحيلة الطويلة وكأنها امتدت إلى قلبه مباشرة ومست شغافه، والتفت إليها ليجد نفس وجهها الذي لا يمل رؤيته، ونفس ابتسامتها ونفس عينَيْها العسليتَيْن، وكم كانت جميلة عيناها، وكم كان جميلًا أن يحدِّق فيهما ويرى صورته واضحة وناطقة حتى بنظارته ومنعكسة على كل حدقة من حدقتَيْها، صانعةً ستارًا رقراقًا محلى بصورته ومسدلًا فوق عسيلة عينَيْها، لا يخفي جمالها بقدر ما يبرزه ويثيره.

كانت هناك ويدها على كتفه، والقهوة في يده، وفوزية في قلبه، وحمزة في عينَيْها، وابتسامتها لا تزال ترتجف ورجفتها في أنفاسه، وأنفاسه تتلاحق، وأفكارها معلقة بأنفاسه، وأفكاره غائبة، والغيبة في ملامحها، وغيبتها طالت ثُمَّ جاءت، ومجيئها سعادة، والسعادة في صدره، وفي صدره رضاء، ورضاؤها واضح، وفي وضوحه هيام، وهيامه خائف، وخوفها يتلاشى، وخوفه يمت إلى الأمس، وبالأمس كان يهدر وهديره الآن مسموع، وهديرها فائر، والقهوة هي الأخرى قد بدأت تزن تفور.

وصعدت يدها في تردد واجف إلى رأسه، ومرت بأصابعها بسرعة في أرجاء شعره فنكشته وهي تقول: هيه، ازيك؟

وعاد ينظر إليها، كانت حافية وقد خلعت حذاءها وجوربها وكانت تضيق بالأحذية والجوارب، مرتدية شبشب بدير وقدماها صغيرتان دقيقتان تائهتان في كبره، وأصبعها الصغير كان يرتد منكمشًا على نفسه وملتصقًا بشدة في الأصبع الأكبر الذي بجواره كأخ صغير أصابه ذعر فمضى يحتمي بشقيقه. كانت واقفة، رائعة وهي واقفة، فيها كل ما كان لها من حيوية ونشاط وتتأمله بطريقة لم يعهدها، طريقة مختلفة تمامًا عن طريقتها الدغري في الكفاح، ففي نظرتها حنان رقيق وفي وجنتيها حمرة وفي ملامحها سرحان تائه، يحملق فيه ويبحث ويكاد ييأس من البحث فينبض ويدق ويهمس بأشياء وأشياء.

وقالت مرة أخرى: مش كويس إن أنا جيت يا حمزة؟

وأحس ﻟ «حمزة» وهي تنطقها بنكهة تمشت في أوصاله، كان مجرد أن يتصور كلمة «حمزة» تتصاعد حروفها من مكان ما حول قلبها وتحمل دفء أنفاسها وتتجمع الحروف في فمها وتتعطر برضابها، ثُمَّ تتكامل وتتهيأ وتودع شفتَيْها منطلقة إلى الفضاء وقد تشبَّع كل حرف فيها بذكريات حبيبة عن رحلته الغالية. كان مجرد تصوره هذا يجعله يحس براحة عميقة وكأنه هو لا اسمه الذي نبع من مكان ما حول القلب، وكأنها بمجرد أن تنطق اسمه تبعث له مع كل حرف منه بآهات حب وإعزاز.

ومع ذلك فقد كانت لا تزال به رهبة ولا يزال متردِّدًا غير واثق.

وعبثت بشعره عبثة أخرى سريعة وقالت: أنا غلطت امبارح، وفضلت طول الليل أأنب نفسي.

– ليه؟ على إيه؟

– لأني كنت امبارح بغالط نفسي، بغالط شعوري لك في طول المدة اللي فاتت، بغالط حتى شعوري بتاع أول إمبارح.

الموضوع أصله كبير قوي ومافيش داعي نتكلم فيه دلوقت، خد الجواب ده اقراه، مش دلوقت، خليه بعدين قبل ما تنام أحسن، حتلقى فيه كل حاجة، أنا كنت معقدة قوي يا حمزة.

أنا ساعات كده بتطلع في دماغي حاجات وأصمم عليها.

– ده عيب المثقفات.

وتلجلجت فوزية كمن يريد قول شيء ثُمَّ يعدل، وأجابته: ودا برضه عيب المثقفين، ليه ناقشتني امبارح؟ ليه كنت عايز «تقنعني» بحبك؟ ليه هاودتني وقتلت لحظة الحب الجميلة دي بالنقش؟ الحب لا يُناقَش وإذا نوقش يدبل، الحب يتاخد، يتاخد كده!

قالت هذا وشبت على أطراف أصابعها وقبلته فوق شفتَيْه، واحمرَّ وجهها وتلاحقت أضلعها صاعدة هابطة، وتوقفت كلماتها، وعادت تنظر إليه بتدله وعاد هو يحتل عينَيْها.

وبلغت العصبية بحمزة حدًّا لا يوصَف، أخذ منها الخطاب ووضعه في جيبه وضحك وأسرف في الضحك، ونظر إلى قدمَيْها وأحس بالبرد يلسع أقدامه، وصعبت عليه فوزية وأحس بها ضعيفة صغيرة، وخجل وابتسم ونظر إليها، ولم يستطع الاحتمال فأحاطها بذراعَيْه وجذبها ناحيته بقوة، ولم تنتظر فوزية فقد شبَّت مرة أخرى على أطراف أصابعها وقبَّلته، وضمَّها بقوة أكثر وأحس بجسده يتفصد أنهارًا وبملايين من قطرات سعادة وافدة تسبح مع دمه، وكان وجهه لصق وجهها ورقبته ترقد في منحدر جيدها وشريان رقبتها ينتفض ويحس به يضغط على جلد وجهه ضغطات مقشعرة وسريعة ومملوءة بالانفعال. ورفع رأسه حتى واجهها وأصبح لا يرى عينَيْها؛ فقد كانتا لصق عينَيْه، وشفتاها في ارتعاش دائم كارتعاش الخائف، ولمعة عَرَق تكسو شفتها العليا، وأنفها الدقيق ترتجف فتحته وتتسع وتضيق كلما مرت به أنفاسها اللاهثة، وهبط بفمه على فمها واحتوت شفتاه الغليظتان فمها الصغير الذي كان لا يزال يرتجف، وضم شفتَيْه وأحس بفمها يستكين إلى فمه وتذهب عنه قشعريرته وينعم باطمئنان دافئ.

ولم يكن لحظتها غائبًا عن الوعي، كان في أتم وعيه، لم يكن ينظر إلى نفسه وكأنه لا يزال قطرة في محيطها ولا كانت هي القبس المتجسد ولا المعنى المجرد الذي له قدسية لا يجرؤ على الدنو منها، كانت صغيرة دقيقة بين ذراعيه، وكان الفم الذي يطبق عليه هو فم فوزية الثائرة الزميلة، والقلب الذي يدق بعنف في حضنه هو قلب امرأة ناضلت وتناضل، والرأس الذي بين راحتَيْه هو ما يدور فيه القلق الدائم الشريف على مصير شعبه، والأصابع التي تضغط على ذراعَيْه وتسترفقه هي نفسها الأصابع التي حملت حقيبة الديناميت وحملت إليه الجنيهات، والتي من يدري ماذا تحمل غدًا، لم تكن هناك أنثى في ناحية وزميلة كفاح في ناحية، ولم يكن نصفه حمزة الثائر ونصفه الآخر حمزة الرجل، بل لم يكن هناك فوزية وحمزة، كان هناك لقاء ضخم رائع، نبضات قلبها تحرك قلبه، وأنفاسها تصب في أنفاسه، وصدرها ملء صدره، وفم واحد أصبح لهما، وأذرع تحيطهما، والتحام لا ينتهي يؤلف بينهما ويضم شتات إنسانَيْن وفرحتَيْن وتاريخَيْن، وحياتَيْن طويلتَيْن بكل ما فيهما من عناد وبسمات، ويأس وأمل، وماضٍ وحاضر، ومدرس وعامل دريسة، وأم ماتت وأم على قيد الحياة، ورجال ونساء وعائلات وذكريات.

وفارت القهوة وسالت غزيرة على جوانب الكنكة، وأغرقت شعلة الغاز وتصاعد طليقًا يملأ المطبخ، وتنبهت فوزية وكأنما تفيق من حلم طويل غريب ومدت يدها تقفله وهي لا تزال تحيا في روعة الحلم ولم تكن تعرف كيف يُقْفَل، وكاد حمزة في ارتباكه أن ينسى هو الآخر أي مفتاح يدير.

وعادا إلى الحجرة ذراعًا في ذراع، وعينَيْن تنهلان من عينَيْن، وأحلامًا في أحلام، وسعادة تكمل سعادة، وبلا قهوة.

وبالتأكيد لم يكونا هما الشخصان اللذان غادرا نفس الحجرة من وقت قليل، كان قد حدث في كل منهما حادث سريع خاطف غيَّر مجرى حياته، وكأن أحدهما كان موجبًا فلامس السالب وسَرَت كهرباء، أو كأن حرفًا لا معنى له لاقى حرفًا آخر فصارا كلمة لها وقْع وثقل ومعانٍ.

وجلست فوزية على الفوتيل وجلس حمزة على ذراعه العريضة وكأنه لم يعد يحتمل أن يبتعد عنها لحظه، وفتح فمه يقول: تعرفي؟

فأغلقت فمه بأصابعها الرقيقة قائلةً: استني شوية، خلينا ساكتين؛ أحيانًا بيكون للسكون معنى، وسكوتنا حيدي معنى للسكون.

وإن كان حمزة لم ينطق بحرف إلا أنه لم يسكت، بل راح يتأملها بعينَيْه وأصابعه ولمسات شفتيه ويخاطبها بكل ما يملك من لغة السكون، وما أبلغ لغة السكون! وكان حديثه مع شعرها فيه كلام وكلام، وقد راح يجوب بأنفه ويوسده خصلاتها السوداء الكثة وتنفذ إليه تلك الرائحة التي تتدغدغ لها أعصاب أنفه وتسكر. خليط من عَرَقها وزيت شعرها والنظافة التي كانت تشع منها كانت لها رائحة هي الأخرى كرائحة قلب جوزة الهند الأبيض، أو مكنون الوردة إذا فرَّقت عنه أوراقها وشممته.

وقال حمزة وهو مغمض العينَيْن مفتح الحواس: أنا كان حبك بالنسبة لي ترف، دلوقتي أصبح ضرورة.

فردت وفمه هو ما كان يلتقط الكلمات، وقالت وهي تتدلل وأحيانًا يكون الدلال له أنوثة: أنت عارف أنا رجعت ليه؟

– ليه؟

فقالت: رجعت …

وسكتت لحظة ثُمَّ أضافت: عشان …

وسكتت لحظة ثُمَّ أضافت وهي تبتسم: قررت …

إني …

ثُمَّ سكتت كمن لا يدري ما سوف يقوله، ثُمَّ خرجت الكلمة رغمًا عنها: أتجوزك.

واحتواها ذراعاه مرة أخرى وشفتاه وقال: وده أحسن قرار في حياتي حاقوم بتنفيذه.

فقالت وأصابعها تتعانق خلف رقبته: أنا كنت خايفة أحبك لانتهي، أنا با أحس إني بابتدي دلوقتي.

ورفعت وجهها إليه، كان في عينَيْها ندى بكاء وكان في عينَيْه احتقان نشوة، وقال وهو يأخذ وجهها الصغير بين كفَّيْه وفي صوته حشرجة انتصار: أنتِ عزيزة عندي جِدًّا يا فوزية، أنا مش باحبك حب عادي، أنا حبيت مصر فيكي، حبيت النيل اللي ف دمك وبياض القطن اللي ف وشك وشمسنا الحلوة اللي عسلت في عنيكي.

فقالت وفي صوتها دموع فرحة: أنا يا حمزة زمان كنت بحفظ وأقول شعر، نسيتني اللي فات ومن هنا ورايح حقول حمزة.

– كلامك جميل يا فوزية، إيه كلامك ده؟

– دلوقتي هو الحلم اللي ينطق الساكت ويحرك الصخر ويخلي الحديد يقول.

١٢

فوق حب الاستطلاع الذي ينفرد به حمزة كان الخطاب من فوزية، وبعد ماذا؟ بعد أهوال جسام، ولهذا كان الأرق الذي يحس به ناحية المظروف الموضوع في جيبه شيئًا طبيعيًّا، كان لا يمكن أن ينتظر كما أرادت فوزية إلى ما قبل النوم حتى يعرف ما فيه؛ ولهذا سرعان ما جمع أرقه وقال: إيه رأيك، أنا مش قادر استنى، لازم اقرا الجواب.

وعارضته فوزية قليلًا، ولكن قرأ في ملامحها أنها لن تغضب، فأخرج الخطاب باحتراس من جيبه وتأمل المظروف السميك على مهل كالذي يتهيأ لالتهام وجبة دسمة. كان واضحًا أنه خطاب طويل، واحتار حمزة أيستبشر به أم ينزعج.

وقال لها قبل أن يفضَّ الخطاب: انتي متأكدة إن ما فهش حاجات زي «لازم نحترق ونترهبن»؟

فأجابت فوزية: يوهوه يا حمزة، بلاش تعذيب.

فابتسم وفتح شيش النافذة وفض الخطاب، وقرأ كلمة حمزة التي في أوله وأحس لها وهي مكتوبة بخطها بنفس فرحته حين سمعها وهي ترددها، وتأنى وهو يتأمل الكلمة، ثُمَّ وهو يُلقي على فوزية نظرة أخيرة قبل أن يدلف إلى محتويات الخطاب.

كان أهون عندي أن أموت قبل أن أقف منك هذا الموقف. أنا يا حمزة أخجل حتى من أن أسمح لنفسي أن أناديك أو أكتب اسمك، قلت لك أمس إنك «تخون دورك وثقتي فيك»، ويبدو أن الإنسان حين يكون مذنبًا يتهم غيره بنفس ما يقترفه، كيف أبدأ؟ وكيف أزف إليك أنباء الإنسانية التي أحسست نحوها «بإحساسات أخرى غير إحساسات الكفاح»؟ يكفي أن أقول لك: إنني مثلت أمامك دور البطولة وإنني فيما يظهر كنت موفقة إلى الدرجة التي لم تلحظها أنت. كل ما عرفته عنك من سعد قبل أن ألقاك أنك «وطني مخلص ومكافح من حديد»، وحين دخلت عليك الخيمة ورأيتك والبندقية أجزاء بين يديك وسوادها بلونك، ونظرتَ إليَّ بعينَيْن ساهمتَيْن ثابتتَيْن من خلف نظارتك، تلك النظرة التي لا تزال راسخة في عقلي، قد يموت ولكنها لن تموت، قررت من ساعتها أن أعرفك معرفة وثيقة، ورحت أفتح لخيالي وديانًا رحبةً وأماني خضراء جميلة، وأنا حين جلست لأكتب لك هذا الخطاب عاهدت نفسي على ألا أكتم عنك شيئًا بالمرة، ولا تحسب أن هذه مهمة سهلة؛ فليس سهلًا أن يقر الإنسان بأخطائه، فما بالك حين يستخرج خفايا نفسه ويعرضها أمام عين أخرى غير عينه حتى لو كانت عينك؛ لهذا فاعلم يا عزيزي أنه لم تكن هناك لجنة مدرسات بالمعنى الذي تناقشنا حوله وحول تنظيمه، كانت هناك بعض مدرسات متحمسات، وكنت أكثرهن حماسًا، وأطلقنا على أنفسنا اللجنة.

وحين وعدتك بإحضار التبرعات التي جمعناها لم نكن قد جمعنا شيئًا ولا حتى فكرنا في الجمع، ولست أدري ما دفعني إلى الكذب عليك ووعدك بإحضار التبرعات في اليوم التالي، وحقيقة أحضرت لك السبعة والعشرين جنيهًا، ولكن أتدري كيف جاءت وبأي اسم اقترضت؟

لقد دُرْتُ على زميلاتي أقول لهن: إن أبي مريض وأطلب منهن سلفة، ودفعت من عندي سبعة جنيهات، ولم أترك حتى الطالبات، كنت أود مفاجأتك بمبلغ كبير، مائة جنيه مثلًا، حتى أبدو ضخمة في عينَيْك.

كان كل همي هو أنت والظهور أمامك، ولما جاء ٢٦ يناير لن تستطيع أن تتصور مبلغ فرحي حين أمكن أن أعثر عليك بعدها؛ ليس ذلك لأنني كنت مهتمة بقضيتنا الوطنية هذا الاهتمام، وإنما لأني كنت قد بدأت أهتم بك وأفكر فيك، وأنا كنت طالبة في كلية الآداب ورأيت مئات الطلبة وقابلت في حياتي عشرات الرجال، ولكني لم أهتز ولم أحفل بأحد غيرك وكأنهم جميعًا كان ينقصهم شيء وجدته لديك، أو كأنني أنا كان ينقصني شيء ووجدته عندك، وأنا قرأت كثيرًا وآمنت بما آمنت أنت به من نظرة علمية للمجتمع، ولكني ما كنت أتصور أن يوجد إنسان مثلك يهب النظريات التي في الكتب ما وهبته أنت لها، ويضحي بما كنت على استعداد للتضحية به، ويتكلم عن أعقد المشاكل ببساطة كما كنت تتكلم.

وإذا كنت قد ناقشتك أحيانًا وتحدثت معك عن الكفاح والعمل والواجب، فما كان ذلك لإيماني، بل كان لأنني وددت دائمًا أن أرضيك.

ولما عثرت عليك بعد الحريق وعرفت أنك مختفٍ، اجتذبت انتباهي الحياة الغريبة التي كنتَ تحياها، الحياة التي تعادي فيها حكومة ويطاردك فيها بوليس الدولة، الحياة التي تتنكر وتلبس من أجلها النظارات السوداء والطرابيش، والتي فيها حذر وذكاء وتربص وقلق.

كانت حياة مثلها رائعة بالقياس إلى حياتي القانونية الراكدة: تلميذات وبيت وكراريس وطبيخ، اجتذبتَني إلى حياتك وما فيها من مغامرة، مغامرة كانت تضرب على وتر حساس في نفسي، فبرغم اعتزازي بشخصيتك وإعجابي بك كنت أتصور أن لجنتكم هذه تحيطها أسرار وعملكم كله طلاسم، وأن لكم مثلًا رؤساء يختفون في بيوت تحت الأرض متزمتين وصارمين ويرتدون ملابس غامقة ويُملون عليكم أوامرهم بالتليفون، ومن يخالف هذه الأوامر يُضرَب بالرصاص وهو ماشٍ في الشارع. وكنت دائمًا أتصور رئيسكم الكبير شابًّا صغيرًا وسيمًا، أبيض وله شعر أسود وقد شاب فَوْدَاه ويرتدي دائمًا حلة سوداء، جالسًا طول النهار يتلقى الأخبار ويتكلم مرة واحدة في اليوم ثلاث أو أربع كلمات، فيأخذها مساعدوه ويشرحونها في صفحات فلسكاب كثيرة، ويوزعونها عليكم لتنفيذها. لا تضحك يا حمزة؛ فقد وعدتك أن أصارحك بكل خلجات نفسي وسأفعل، اجتذبتني أنت وحياتك والأسوار التي تحيط بكم تمامًا؛ ولهذا فلو لم تعرض أنت عليَّ أن أتصل بك في مخبئك لعرضت أنا عليك، ولا يمكن أن تتصور مبلغ سعادتي وأنا أحس أنني أقابل شابًّا يعيش حياة الخفاء تلك، ولا يمكن أن تتصور ما كنت أحس به وأنا ذاهبة إليك آتية من عندك أنظر إلى الناس الجالسين معي في الأتوبيس، وأشعر أنني الوحيدة التي تحيا في سر كبير خطير.

وانعكس هذا الإحساس على تصرفاتي، فكنت أبدو أمام زميلاتي المدرسات جادة متزمتة؛ ليفهمن أن قد يكون السر في جدي هو النشاط «الخطير» الذي كنت أقوم به، وكان إذا سألني أبي بالصدفة أين كنت، أتعمد أن ألمح في إجاباتي إلى أشياء يفهم منها أن لي حياة أخرى سرية أقاوم فيها الأعداء، وكنت أذهب مثلًا إلى زميلة من زميلاتي لتأخذ حصة أخرى بدلًا مني فتسألني عن السبب، فأبتسم لها ابتسامة رثاء وأقول: وهل أنا مثلكم نائمة؟ الدنيا تتحرك.

وأزوم لتفهم من كلامي ما يحلو لها الفهم، وكنت أكبت أحيانًا شعورًا صبيانيًّا كان يراودني، مثل أن يُقبَض عليَّ معك وتَنشُر الصحف في ثاني يوم صورتي وتحتها شيء مثل أخطر فتاة في الشرق الأوسط.

وهكذا عشت في إطار من الغموض فرضته على نفسي، وكأنني كنت أود أن يعرف الناس جميعًا ما أقوم به في الخفاء، ومن جهتك أيضًا كنت مع بدايات عواطفي ناحيتك أشك أنك أحيانًا تجيب إجابات غامضة وأنك تراوغني وتكذب.

وكنت أودُّ دائمًا أن أتعمق فيما يحيط بك وباللجنة من أسرار، حتى سمحت لنفسي بقراءة بعض الأوراق التي وجدتها في حجرتك، ولدهشتي وجدت ما فيها أبعد ما يكون عما انتظرته من أسرار، كانت القصة في نظري مغامرة ليس إلا، أحب فيها البطل الذي هو أنت وتنتهي بوادي الخيالات الذي تنبت فيه الأماني الخُضْر.

وحين حكيت لي عن يوم ٦ مارس، ورأيت في عينَيْك الإعجاب الذي يقرب من التقديس ﺑ «الغوغاء» والرصاص يخترق أجسادهم العارية، استفززت فيَّ كل نعرتي للبطولة وكل المعاني المثالية، وصممت أن آخذ الحقيبة التي فيها الديناميت لأخفيها لديَّ، وبهذا أتوج على عرش ثقتك.

إلى هنا كنت قد نجحت في تمثيل دور البطلة أمامك، ولم يكلفني النجاح شيئًا سوى بضع مبالغات وأكاذيب، ولم أكن أتصور وأنا أعرض عليك أن آخذ الحقيبة إلا أن أمرها بسيط وستمر مسألتها كما مرت مبالغاتي السابقات.

ولكن.

ما إن أصبحت في العربة وحدي مع الحقيبة، أي ما إن دخلت بها بعيدًا عنك وراء الكواليس حتى انتابني شعور مفاجئ بالخوف من أن تكون الحقيبة فيها ديناميت حقًّا؛ إذ إنني بيني وبينك كنت لا أعتقد في صحة محتوياتها «وكأنك أنت الآخر تمثل»! فوضعتها فورًا على الكرسي وفتحت أقفالها ومددت يدي ووجدت تلك القوالب الصغيرة المرصوصة، وتخيلت أنها لا بد حجارة أو طوب مثلًا، واستخرجت واحدًا منها وضغطت عليه وشممته فوجدته مادة غريبة لم تصادفني في حياتي ولا شممت رائحة مثل رائحتها أبدًا، وأغلقت الحقيبة في الحال وجلست أرتعش وأنظر إليها وأحس بوحدتي معها في العربة وكأنني طفل أَدْخَلَ نفسه من بين الحديد في قفص الأسد، وكان أول ما خطر لي أن أتخلص منها مباشرة، أمَّا كيف فلم أجد لي عقلًا أفكر به.

وأمرت السائق أن يغير من اتجاهه ويُيَمِّم ناحية النيل لتُتاح لي فرصة للتفكير، وظللت أرتعش وأفكر حتى وصلنا إلى الجيزة، وكنت قد اهتديت لطريقة كانت مثلى في نظري: أغير العربة وأذهب بأخرى إلى شارع فؤاد وأقف بها أمام عمارة من العمارات التي لها بابان، وأنزل وأقول للسائق انتظر لحظة، وأدخل من باب وأخرج من باب آخر، وفعلًا وصلت بي العربة أمام الأمريكين، وهبطت منها والسائق ضامن أني سأرجع؛ إذ حقيبتي كانت لا تزال في عربته، ودخلت من الباب الرئيسي وخرجت من الباب الذي على الشارع الجانبي.

وأسرعت في المشي.

ولن تتصور يا حمزة كثرت الأشياء التي فكرت فيها في هذه الدقائق القليلة، كنت أنت أول من خطر لي بوجهك ولحيتك ونظارتك وابتسامتك الهادئة التي لا تثور والتي لا تفارقك، وحجرتك في سطوح أعلى عمارة في شارع المبتديان، وملاءة سريرك السفرى التي بليت من الوسط فقُطِعَت ثُمَّ وُصِلَت حتى تصبح الأجزاء البالية إلى الخارج، والمنضدة الصغيرة التي في ركن الحجرة وأدراجها وما فيها من أوراق لا أسرار فيها، وصورة أخيك وهو يرتدي بالطو وجلابية وطربوشًا والتي كتب على ظهرها بخطه: إلى شقيقي العزيز الأستاذ حمزة، ثُمَّ بيتًا من الشعر عن المحبة الدائمة والإخلاص المقيم. وفانلتك القديمة التي فيها خروق كثيرة والتي كنت على ما يبدو تستعملها منفضة، وكتبك المتراكمة في كل مكان بالحجرة، وجهاز الراديو المصنوع صناعة محلية، ولعلك أنت الذي صنعته ووضعته في صندوق من الأبلكاش الأغبر، والخطاب الذي كتبه لك أخوك على لسان أبيك يقول لك فيه: إن أمك صحتها «مش ولا بد»، وأنها باستمرار تشتكي من المغص وتدوخ وعندها صداع دائم. وصورتك مع دفعتك وقد وضعت فوق رأسك علامة x، وفردة الشبشب المقطوعة المهملة التي تحت السرير، والجوابات الغرامية التي حاولت إخفاءها أسفل الجريدة التي فرشت بها درجة المنضدة التي تقول لك فيها «المخلصة L» تقول أواه حمزة، ومنظرك يوم قابلتني مشمرًا بنطلونك وجوربك ممزق وفيه طين، ثُمَّ وأنت تهز رأسك في إصرار وتقول: شعبنا ده فيه مقاومة لا يمكن تصورها.

ثُمَّ تبينت فجأة أني هاربة كاذبة مخادعة لئيمة، خُنتك وأنت الذي أوليتني كامل ثقتك، وليس ذلك كل ما تبينت فلأول مرة منذ عرفتك فكرت في هذه الثواني بالذات في القضية التي تدافع عنها أنت دفاع المستميت، تصورت كم من الجهد بذلت لتشتري الديناميت وتخفيه ثُمَّ تعود وتأخذه، وكم من النقود أنفقت وكم من المرات عرضت فيها نفسك للقبض والموت والنسف، وتصورت كم ضحيتم لتهيئوا الناس للكفاح وتقيموا المعسكر وتدربوا وتعدُّوا بلادنا للوقوف في وجه العدو، وتصورت حسن الخشن وهو يعزم عليَّ بالشاي وقد قُبِضَ عليه، وأولاد ٦ مارس الذين ماتوا وعلى أفواههم بسمات، والخمسين عسكريًّا الذين قُتِلُوا في مذبحة المحافظة، وأقسم لك يا حمزة أنني انتفضت في الشارع حين فكرت في كل هذا وأيقنت أنني أنا التي تطوعت مختارة لأخفي الحقيبة، وأنني أنا التي تقوم بهذا الدور القذر وتريد التخلص منها وحرمانكم جهود أيام وليالٍ وحرمان شعبي من سلاح من أسلحته، وكأنني جاسوسة من جواسيس الأعداء، ولا يمكن أن تتخيل مبلغ الاحتقار الذي شعرت به لنفسي ولتفكيري.

ولو كنت متأكدة أنني سأموت ما كنت ترددت فيما فعلته حين استدرت وعُدت أجري وألهث، ودخلت من الباب وخرجت من الباب الآخر ووجدت السائق يبحث عني بعينَيْن زائغتَيْن، فركبت وقلت له: شارع خيرت.

وحين استقر بي المقام داخل العربة شعرت كأنني أفقت من كابوس مزعج، وبدأت أتصور مبلغ جريمتي لو كنت قد تركت الحقيبة في العربة؛ إذ فضلًا عما فكرت فيه ألم يكن من المحتمل أن يعتقد السائق أن فيها ملابس أو أشياء ثمينة فيأخذها إلى بيته ويفتحها ويخطئ فتنفجر وتنسف البيت بمن فيه؟ ألم يكن من المحتمل أن يأخذها إلى القسم وتقع أو تُرْمى فتقتل عشرة أو عشرين أو مائة من الأبرياء؟

وظللت أحدق في ظهر السائق السمين العجوز الطيب وأفكر فيما كان ينتظره، وأزداد حقدًا على نفسي واشمئزازًا منها.

وحين وصلت البيت أشفق عليَّ السائق ذو النوايا الطيبة فحملها عني إلى شقتنا، وقلت لأبي: إنها ملابس فريق المرشدات التي اشتريتها لهن يومها. وما دخلت حجرتي وأغلقت الباب ووضعت الحقيبة تحت الفراش حتى رقدت فوقه وقضيت هكذا ثلاث ساعات.

وإذا كان لكل إنسان نقطة يتحول عندها مجرى حياته، فهاته الساعات الثلاث حوَّلت مجرى حياتي.

حقيقة كان لي اهتمام دائم بالمسائل العامة؛ فحين كنت في الكلية كنت أسهم في كل أوجه النشاط بقسم وافر حتى رشحت نفسي في انتخابات الاتحاد مرة، ولكن زميلاتي الطالبات لم ينتخبنني على اعتبار أن ترشيحي ما هو إلا «تقليعة» و«لفت نظر» لا أكثر ولا أقل، حتى السياسة كنت أهتم بها وأتابع أخبارها ولكن الاهتمام شيء والإيمان شيء آخر، واهتمامي بهذه الأمور كان فقط محاولة مني لأثبت للرجال أنني لست أقل منهم، وهكذا كانت صلتي بلجنة المدرسات وصلتي بلجنتكم، لم أكن أؤمن إلا بك أو بالأحرى بتمسكي بك، أمَّا القضية وعملك وكفاحك فكان سواء لديَّ أن تكون مسئولًا عن معسكر التدريب أو مُدرِّسًا زميلي أو حتى طالبًا، إلى أن كان ذلك اليوم الذي واجهت فيه حقيقة ما تكافح أنت من أجله، وكانت حقيقة هائلة.

فلم يكن ما تقوم به مجرد عمل ككل الأعمال بل كان كفاحًا رهيبًا من أجل غيرك، ولم تكن تختفي ليطاردك البوليس وتستعذب المطاردة والمغامرة ولكنك تفعل هذا لتكمل دورك من أجل وطننا. اكتشفت أنك أنت مهتم بالقضية الكبيرة قضيتنا كلنا، وأنني فقط مهتمة بذلك الهدف المحدود: علاقتي بك؛ مهتمة بنفسي.

والإنسان يظل يمضي في الحياة مؤمنًا بما شب عليه وتعلمه من أفكار وفلسفات ومبادئ دون مناقشة للأسس التي يقوم عليها إيمانه، إلى أن يحدث حادث مثل أن يمرض بالسل نتيجة حياة كلها سهر وعربدة، أو يقترف جريمة ويُقْبض عليه، حين يقع ويشعر أنه يهوي يبدأ حينئذٍ فقط في مراجعة الخطوط العريضة لحياته وتأمل إيمانه والتشكك في أفكاره وفلسفته وآرائه وتحميلها وِزْر ما اقترف، أو قد لا يشك في نفسه وإنما يظل مغمض العينَيْن يعتبر أن ما حدث له كان قسمة ونصيبًا وكان مكتوبًا، وأن الدنيا والحظ هما السبب، وقد أدركت ليلتها أنني دلفت إلى مهاوي ما كنت أعتقد أبدًا أن فوزية التي أثق فيها وأؤمن بها تدلف إليها.

وأخذت أتفحص حياتي وأتوقف عند تصرفاتي وأراجع علاقاتي بالناس، وإحساساتي الداخلية التي لا يطلع عليها أحد سواي، والطريقة التي أحدد بها مواقفي من الشرف والخيانة وأقيس بها ما يصح وما لا يصح والفارق بينهما، وأدركت بعد هذا كله أن الحقيبة قد أُنْقِذَت بمعجزة، وأن الطريق الذي كنت أمضي خلاله في الحياة كان يحتم أن أترك الحقيبة وأهرب من مسئوليتها؛ لأني كنت لا أفكر إلا في نفسي وذاتي وسلامتي، ولا أفكر فيما أقوم به من عمل قدر تفكيري فيما يعود عليَّ بالنفع من هذا العمل، وبعض الناس لا تبدو أنانيتهم في نظرهم شذوذًا ولا قبحًا، والبعض الآخر يدري، ولكنه يتعامى حتى إذا ما واجه ذاته ورأى فيها الأنانية مجسدة فلا بد أن يستبشع تلك النفس، ولا بد ستتفتح عيناه على حقائق ما كان يراها كفرد لا يؤمن إلا بنفسه ولا تتعدى نظرته حياته هو ورغائبه فقط، سيرى حينئذٍ الناس والعالم والقيم والمسئولية من زاوية جديدة.

وكنت أنا الأخرى وكأني ظللت مغمضة العينَيْن طوال حياتي، ثُمَّ فتحت عيني لأجد نفسي وسط شعب كادح عريق، كنت أراه كل يوم ولا أحفل به ولا أفكر فيما يمكن أن يكون مصيره، ولأجد السائق العجوز الطيب الذي كدت أقتله، ولأجد أبناء الشعب من أمثالك أنت وحسن وسعد والآخرين، شبان في صلابتهم فولاذ يعملون من أجل الناس الذين أمر أنا بهم مرور الكرام وأتسلى على حسابهم، وأعشق شبابًا ورجالًا آمنوا بالغوغاء والحفاة والمظلومين جميعًا وعقدوا العزم على أن يذيقوهم السعادة وهم أحياء.

وأخذت كلمات كنت أسمعها منك ولا أعيرها التفاتًا تومض أمامي وتأخذ بيدي، ولأول مرة فهمت أن النظريات التي كنت أقرؤها في الكتب لم تُكْتَب فقط من أجل أن يقرأها الناس وإنما هي تعبير عن واقع علمي موجود وملموس يأبى بعض الناس لسبب أو لآخر أن يراه. فهمت أن المجتمع الذي أُوجَد فيه ما هو إلا جسد حي كبير وما أنا إلا خلية من ملايين خلاياه، ولا حياة لي إلا داخل ذلك الجسد أردت أم لم أرد، ولا أستطيع أن أعمل غير ما يعود عليه بالنفع وإلا نبذني وتخلص مني ومت.

ومقياس حياتي ليس هو ما أنعم به في لحظات حاضري؛ لأن تلك الحياة تموت معي وتفنى، إنما المقياس الصحيح هو ما أقدمه لذلك الجسد؛ لأن ما أقدمه سيحيا مع المجتمع طالما المجتمع حي وسأحيا معه أنا الأخرى. إنكم وأنتم تفنون من أجل الناس لا تفنون، وإنما الذين يقولون: أنا، وحياتي، والمحافظة على كياني وعمري، ومصالحي، هم الذين يموتون، أنتم تربطون وجودكم بوجود مجتمع سيظل قائمًا أبدًا، ووجودهم الموقوت المحدود إذا قيس بكم يعد لا وجود، ولن أحكي بقية ما فكرت فيه، فقط أقول لك: إنني أدركت أني ضللت الطريق ومشيت في درب يؤدي إلى خارج الجسد الحي الكبير، ويقودني في النهاية إلى داخل نفسي الضيقة المحدودة ودائرة رغباتها الصغيرة لأجف فيها وأموت.

وكنت أنت بعد الثلاث الساعات مثلما كنت دائمًا قائدي في ذلك الطريق الجديد، اعتزمت أن أضع يدي في يدك وأتعلم، وأكبو ثُمَّ أنهض لأواصل المسير.

وإذا بي آتي إليك أمس وأنا حريصة ألا أُشعرك بالمعركة التي دارت في نفسي، وحريصة على أن أستمر في القيام بدوري ولكن في الاتجاه الصحيح، وحريصة على أن أكبت كل إحساس ذاتي، وأحاول أن أراك من جديد وأفكر فيما تقوله من جديد وأتعلم منك الألف باء، وحريصة على ألا أقول غير الحق، ومع هذا سامحني يا حمزة فيومها غلبتني الرواسب الكامنة في نفسي وكذبت عليك، وقلت: إني نقلت الحقيبة عند محاسن وأنها رائعة؛ فالحقيبة كانت وما تزال تحت فراشي.

كنت آتية وفي ضميري كل ما أملكه من إرادة لأحاول أن أصلح نفسي وأتعلم منك، ثُمَّ أُفَاجَأ بك تقول ما قلت وتعترف لي أنك أنت الآخر ضعفت مثلي وأحسست ناحيتي، إلخ. ولك أن تتصور مبلغ خيبة الأمل التي أُصبت بها، ومبلغ الضياع الذي وجدت نفسي أعانيه، وقلت لك ما قلت وقلت لي ما قلت، وخرجت من عندك وأنا لا أدري ماذا أفعل، وخطر لي كما أسلفت أن أنتحر وقد انهار كل شيء أمامي، قبلها بيوم انهارت نفسي ويومها انهرت أنت، فماذا كان باقيًا لي؟

وكنت أظن أنني سأظل ثلاثة أيام بلياليها أفكر فيما حدث، ولكن ما إن وضعت نفسي على الفراش حتى نمت.

واستيقظت في منتصف الليل وجلست أفكر، فيك، لماذا نخدع أنفسنا أحيانًا ونتبرأ من عواطفنا وكأنها قذرات وتهم؟

ظللت في الفراش ساعات كثيرة أفكر في أحسن الوسائل لذبحك وتأنيبك ولفت نظرك، كانت دوامة تدور في رأسي، فلسبب ما كنت لا أتوقع أن تحبني، أو إذا أحببتني لا تصارحني بهذا الحب، وكأن البطل الذي في خيالي يجب أن يفعل هكذا، ولسبب ما حين يحاول أحد الطرفَيْن أن يعترف للآخر يمثل المعترف إليه دورًا سلبيًّا أو حتى يأخذ موقف المدافع عن نفسه، ولسبب ما نُحرِّم على أنفسنا أن تنال ما تشتهي بكافة الحيل والعقبات.

ولا تدهش حين أقول لك: إني فكرت في قطع صلتي بك نهائيًّا على اعتبار أنك «خُنت ثقتي فيك وأنك اتخذت القضية التي تدافع عنها وسيلة لتحقيق مآربك الخاصة!» وأنه أَوْلَى بك «أن تترك الكفاح للناس الذين وهبوا أنفسهم للقضية.» أقطع صلتي بك وأحاول أن أجد طريقة لخدمة الشعب الذي آمنت به وأجد قائدًا آخر «لا يفكر في ذاته ويهب عواطفه للناس أجمعين».

ثُمَّ قلت: إن هذا ليس بعقاب كافٍ، بل يجب أن أكتب خطاب توبيخ حافل بأقذع الشتائم وأرسله لك على عنوان بدير ويكون هذا آخر شيء أفكر فيه ناحيتك.

ونمت، وصحوت في الصباح وأنا على عزم الليل، وطلبت من الناظرة إجازة عارضة يومًا لأتفرغ للتفكير في الانتقام، وهداني العقل إلى أن أكتب لك الخطاب، ولكن بدلًا من أن يكون هناك احتمال لتسرب محتوياته لبدير أذهب بنفسي وأدق الباب وأقابلك بمنتهى التجهُّم وأعطيك الخطاب من على الباب وأنزل فورًا. وطوال تفكيري كانت الصور في ذهني تتغير، ولكن دائمًا كانت «فهماني ازاي» ترن في أذني وتتردد وكأنها تهزأ بكل ما أفكر فيه، وجعلتني لازِمَتُكَ أفكر فيما قلت لي كلمة كلمة، وأزنها جميعًا وأحاول حقيقة أن أفهمك، وسألت نفسي سؤالًا لأكيل الضربة الأخيرة لأوهامي وانتقاماتي ما ذنبك؟ وهل حرام أن تحبني؟

وهل هذا مستحيل؟ وهل هناك تعارض بين أن تحب وبين أن تكافح من أجل كل ما أنت مؤمن به؟

وأيضًا لن تتصور مبلغ فرحتي للسؤال الذي ألجم أوهامي، كدت أصرخ وأهلل لتلك الفتوى، ولكني لم أجد وقتًا فقد ردتني إليك «فاهماني ازاي؟» التي كانت لا تزال تنبح في أذني وتجعلني أتصورك بعد ما قلته لك، وأيقنت أني لا بد آلمتك أشد الألم، أنت يا أعز إنسان.

وتنفعل صورتك في خيالي بهذا الألم وتنطقه ملامحك، وأتلوى أنا من العذاب وتزأر كل حشاياي تمنع عنك الألم وتناديك وتستعطفك، أنت الذي طالما تأملتك وتأملت خلجات حماسك وأحببتك وآمنت بك، أنت الإنسان الكبير الذي يخدم أكبر قضية تعبر لي عن عواطفك التي طالما انتظرتها وتحرقت شوقًا إليها، وأركلك هكذا!

أنا ولو أني فتاة إلا أني نادرًا ما أبكي، ولقد بكيت وأحببتك وأنا أبكي، وهفوت إليك وإلى غزارة ذقنك وشعرك المنكوش ودمك ولحمك وسرحانك ونظارتك الحبيبة الملحومة، وحتى فانلتك التي تبدو فتحتها بالية من بيجامتك، أحببتك وهفوت إليك، وتصورت أني ممكن أني أموت أو يُمَثَّل بي أو أُجَر، أمَّا لا يمكن أن أتصور ألا أذهب إليك أو أراك.

وأنا على يقين أني حين أدق الباب سوف تفتح لي باسمًا، لا لأنك تحبني وكدت تفاتحني، ولكن لأن الإنسان الذي فيك أوعى من أن يرفض خطئي، ولأن قلبك كبير لا يصد طارقًا حتى لو كان الطارق أنا.

١٣

ووضع حمزة الخطاب بجانبه وعقد وجهه فبدَت فيه مأساة، والتفت لفوزية وقد أتعبها التحديق في أدق ملامحه لترى فيها انفعالاته بما يقرأ، حريصة على أن تخفي تحديقها ذاك، رفع حمزة رأسه والتفت إليها وسكت، ولم تجرؤ هي الأخرى على النطق، وقال أخيرًا في كلمات بطيئة والمأساة لا تزال في وجهه: تعرفي انتي تستاهلي ايه على الجواب ده؟

فقالت فوزية في اضطراب: إيه؟

وقام حمزة فجأة واحتضنها وقبَّلها ثُمَّ قال: تستاهلي أكتر من كده.

– لا، اسمع يا حمزة ما تخليش الحكاية تنقلب هزار.

– بقى ده هزار؟ أنا فعلًا مبسوط من الجواب.

– مبسوط ليه؟

– تفتكري لما تعرفي بعض أخطائك وتحاولي تصلحيها مش يبقى حاجة تبسط؟

– بس، دي أخطاء كبيرة.

– الأكبر منها هو إنك عرفتيها.

– وأنا ماكنتش مؤمنة بقضيتنا!

– مافيش حاجة اسمها ماكنتش مؤمنة يا فوزية، إنت كنتي دايمًا بتتحركي تجاهها وده هو المهم، فاهماني ازاي؟ الدافع باستمرار بيبقى مختلف عند الناس بس ما دام الهدف سليم خلاص، دايمًا الهدف هو اللي بيطور الدافع.

– أنا ما أخبيش عليك كلامك بيبسطني، بس خايفة تكون بتقوللي كده عشان يعني العلاقة اللي بيننا.

– فعلًا لولا واثق منك، وإنك حتمشي وإني حساعدك وإنك حتساعديني، كنت ممكن تعتبري كلامي تبرير، بس.

– بس ايه؟

– المسألة مش بتاعة يوم، انتي اتغيرتي وكل يوم حتتغيري، وأخذ القرارات شيء وتنفيذها شيء تاني، فاهماني ازاي؟

كل أمَّا حتخطي خطوة لقدام حتثقي في نفسك أكثر وتخطي أسرع.

– أنا مستغربة أنت واخد الحكاية بالبساطة دي ازاي! أنت قريت الجواب؟ وفهمته كويس؟

– الظاهر إنك كنتي متوقعة أضربك مثلًا عشان يبقى الموقف درامي قوي، انتي نسيتي حاجات كثير وحملتي نفسك كل الخطأ، نسيتي أن فترة نشاطك كانت فترة إقبال من كل الناس على المساهمة في القضية، وأن الفترة اللي بدأت فيها اللي بتسميه مغامرة كانت فترة إرهاب، يعني الفترة اللي بتظهر فيها الانحرافات والمغامرات.

– بس أنت مثلًا …

– إنتي واخدة عني فكرة مثالية قوي، أنا مش بطل ولا كلام من ده، فاهماني ازاي؟ أنا من دم ولحم وعندي نفس المشاكل الجنسية والنفسية اللي عند كل الشبان اللي زيي.

وأنا برضه لما اتصلتي بيه كنت مبسوط لأني حاشتغل مع واحدة حلوة زيك، وبرضه لما ابتديت أُعجب بك وأدخل في الغميق كنت فاهم أن فيه تعارض؛ أنا إنسان زيك تمام.

– يعني واثق فيه يا حمزة؟

– أهي دي مسألة فيها نظر.

وضحك، واغتصبت فوزية ضحكة وسألته: يعني لسه بتحبني؟

– على فكرة أنا مش مؤمن بمبدأ السؤال ده.

– ليه؟

– دا سؤال لفظي، احنا بنحس الحب زي ما بنحس الخوف والفرح والكره؛ فعشان تعرفي إذا كنت لسه بحبك واللا لأ اسألي نفسك.

– وإذا سألتها وقالت: إنك بطلت؟

– ابقي في الوقت ده اقرصيها في ودانها وقولي لها تبطل كدب.

– إنت رايق.

– يعني لازم أعيط عشان أثبت لك؟

– لأ، عايزاك تقول الحق.

– يعني عايزة أكدب عشان أقول «الحق» اللي انتي عايزاه؟ أنا ما أقدرش أقول إلا الحق.

وقبَّلها قائلًا لها «الحق» كل الحق في فمها.

وتقبلته فوزية ساهمة.

فسكت ثُمَّ ابتسم وقال: بقى مش أنا اللي ليه الحق أني أسأل؟

– تسأل إيه؟

– لحسن يكون الحب راخر صفى عندك على حاجة؟

– يوه يا حمزة، كفاية تعذيب، كفاية بقى.

ودلفت من الكلمات إلى الدموع ثُمَّ إلى البكاء، وانكفأت على ذراع الكرسي والدموع تنهمر وتبلل الذراع، ومدت يدها تطلب منديلًا ولم يكُ لديه واحد نظيف.

فأسرع إلى الحمام وأحضر «فوطة وش» قائلًا: لا مؤاخذة، إذا ما كانتش كفاية لما تتبل كلها أجيب غيرها.

وازدادت نهنهاتها وشهقاتها، فجلس حمزة على كرسي وأسند رأسه إلى الحائط، وقال: معلش، قليل من البكاء يصلح المهج، الدموع وسيلة فسيولوجية لغسل العيون، فإذا ازدادت غسلت القلوب أيضًا.

ولكن فوزية انخرطت في بكاء مؤلم لا يصلح في تلافيه الهذر، وما أدرك حمزة هذا حتى ترك مكانه ولف ذراعه حولها ورفع وجهها إليه، وانبثقت في صدره لوعة عذاب حادة حين رأى عينَيْها الباكيتَيْن ورأى كأن شمس يوم حزين تغرب فيهما، وقد تحول البياض الناصع إلى شفق، وتوهجت العسلية المذهبة بأشعة الغروب كما تتوهج سنابل القمح حين يغيب وراءها القرص الأحمر، والدموع تتساقط حزينة هي الأخرى تبكي وتدمع وتُوَلِّد في عيون الآخرين الدموع.

ووجد نفسه يهدهد عليها برفق واحتراس وكأنها مصنوعة من دقائق زجاجية لا تحتمل لمسه، وكان يفعل ذلك بدهشة غير قليلة؛ فتلك أول مرة كان يهدهد فيها على إنسان أو حتى قطة، فما باله بفوزية وهي مستكينة إلى التجويف الدافئ الكائن بين جنبه وذراعه، والتي يحسها بعضلات صدره هشة أليفة، ودموعها متلألئة يكاد من كثرتها وتتابعها أن يتذوق طعمها في فمه، وشعرها يجذب أنفه برائحته ورائحتها وهي مطمئنة إليه بكلها، وبالشمس الغاربة في عينَيْها، وبمكرها ومبالغاتها، وبكل ما تحمله له من حب.

كان البيت من البيوت التي تقع في حواف الدقي، وكانت النافذة تصنع بروازًا مربعًا للوحة حقيقية تغرب فيها الشمس نفسها عبر البيوت البعيدة والمزارع التي لا تنتهي، وجو الغروب يشحن بمقدمات التغيير العظيم الذي سيطرأ على الكون بعد ذهاب الشمس، وكانت شعاعات صفراء وحمراء قد اخترقت النافذة وبرزت من اللوحة وأضاءت الحجرة، وأحس أنه قد أصبح إنسانًا آخر، شاعرًا أو موسيقارًا، أو فنَّانًا مشحونًا بأحاسيس مرهفة ناعمة هفهافة تتصاعد من نفسه وتملأ الجو الذي تضيئه لهثات شمس أخيرة، بأبخرة معطرة وسحابات خفيفة مصنوعة من ذرات إنسانية خالصة، أحس أن قلبه يذوب وكأن عددًا لا نهاية له من العواطف الدقيقة الضعيفة الواهنة يتسرب إلى ذاته الحديدية وينهشها ويشبعها نبضًا ولينًا وألفةً ولا يستطيع مقاومتها، ويدفعه العجز إلى حنين جارف للبكاء وكأن لحنًا جنائزيًّا تأتيه أنغامه من بعيد لا تشمئز له نفسه، ولكن يثير فيه أشجانه ويداعب أوتار حزنه المهملة في نفسه، فتروح تعزف هي الأخرى وتنوح، ويتصاعد حزنها ألحانًا تحرض على الحزن والعجز، وتغري بأن يفضفض الإنسان عن نفسه بالدموع أو بالكلام.

وآثر حمزة أن يتكلم، وخرج صوته غليظًا قد جرحه البكاء الذي لم يتم، وكانت فوزية قد هدأت واعتدلت ومضت هي الأخرى تتحدث في وجل.

وغابت الشمس.

وحل المساء.

وكان أحد أمسيات الشتاء وبدأت نسمات وبدأت نسمات تهب، نسمات ليس فيها جمود اليأس وإنما كان لها مخملية الأمل، وكان حمزة قد أضاء النور وأصبحت الحجرة تسبح في بحر من عواطف متدفقة، كان في جوها ضحكات قصيرة مختصرة وطويلة لا نهاية لها، وأيدٍ تدق على أيد، وقلق وطول بال، وتنقلات سريعة متلاحقة من حادثات فاتت إلى لحظات تصنع الحاضر، إلى ومضات عيون والتماعات خدود وبسمات راجفة كمناديل حريرية معلقة تجف، وكلام كثير يريد أن ينطق، ورهبة من الكلام. وحمزة يجلس فلا يركن إلى الجلوس، ويتمشى في المساحة القليلة الباقية في الحجرة بغير أثاث فلا يركن إلى المشي، وأسلاك خطط طويلة تخرج من رأسه لتمتد إلى الغد وبعد الغد ومئات السنين، وفوزية تبدو فرحة تنظر إليه وتتحسسه بعينيها وتتأمله كالشيء الثمين الذي تقلق حوزته حتى وهو بجانبها، وفي قلبها وعينَيْها كانت قلقة لا تكاد تستقر على حال، ولا تكاد تصدق أن حمزة أصبح لها وأنها ستصبح زوجة ذلك العزيز الثائر الذي يتوهج ذهنه بمنطق لماع مشع ينفذ إلى الأقوال والأشياء فيفصصها، ويتأمل تركيبها وقانونها كما كان يفعل «بالبريتا»، ثُمَّ يصدر عليها حكمه في بساطة وبلا ضوضاء.

ابتسامته وابتسامتها كانا هناك حين فتح الباب فجأة وظهر بدير مصفر الوجه جامد الملامح ترتعش أصابعه التخينة الشاحبة، وخطا خطوة واحدة إلى الداخل وتوقف قليلًا، وجاب الحجرة كلها بعينَيْه وتفحص فوزية بدقة، وكذلك فعل بملابس حمزة ثُمَّ قال له: تسمح.

وتبعه حمزة المذهول إلى الخارج، وأغلق بدير الباب ومشى إلى حجرة النوم، وما كادا يصبحان في الحجرة حتى التفت بدير قائلًا في مرارة غريبة على صوته: أنا مش قايل دي متجيش هنا؟

– دي مين؟

فقال بدير وعيناه إلى الأرض وأسنانه تتضاغط: الشرموطة بتاعتك اللي في الأوضة التانية.

وكاد حمزة أن يصفعه، وفعلًا قام بعمل المقاسات اللازمة بين حجمه وحجم بدير والمسافات التي على يده أن تقطعها لتستقر على وجهه، لولا أنه عاد إلى وعيه ورأى أمامه طفلًا ضخمًا لا يستطيع أن يمد عليه يده.

– تفتكر إن دي طريقة يا بدير؟

– ما هو مافيش إلا كده، أمور الشرمطة دي ما أعرفهاش؛ أنا راجل صعيدي، يمكن يبان عليَّ إني متساهل، إنما في الحاجات دي أنا صعيدي قح.

– ويصح وانت صعيدي قح تشتم ناس متعرفهمش كده؟! كده؟!

– بلا يصح بلا ما يصحش، إنت خليت فيها يصح، أنا قلت متجيش؛ فما دام جت تبقى انت وهي برة على طول.

– سيبنا من التهويش ده وبلاش جعير وقول لي ايه حكاية التقاليد الصعيدية اللي ظهرت فجأة دي؟

– مافيش حكاية، بره يعني بره على طول بلا أي تفسير.

وألقى عليه حمزة نظرة أخيرة أيقن بعدها أن لا فائدة من مناقشته، وأنه في حالة لا يعي معها ما يقول أو يفعل، بل إنه في حالة قد يرتكب معها جريمة، ولم يكن حمزة يتصور أن المسألة ممكن أن تتطور إلى هذا الحد وأنها ستتفاقم إلى أن تصل إلى هذه الدرجة.

وأشار إلى فوزية وتقدمها إلى باب الشقة بعد أن جمع حوائجه القليلة ووضعها في الحقيبة القماش، وأغلق وراءهما الباب ومضيا يهبطان السلم، وفُوجئا ببدير يطل برأسه من باب الشقة قائلًا في صوت مخنوق: الشنطة الكبيرة، تلاتة بالله العظيم إن ما كانت تجيني لأدفعك تمنها غالي.

وأغلق الباب، وخُيِّلَ لحمزة وهو يهبط بقية الدرجات أنه يسمع وراء الباب المغلق شهقات ونهنهات.

وبعد خطوات كان يحتويهما ظلام شوارع الدقي، حيث الليل والأشجار والفوانيس الغازية الشاحبة المتباعدة ونقيق الضفادع في الخرائب الكثيرة وهي تستقبل مقدم الربيع.

وكان هناك نقيق مشابه في رأس حمزة يعلو ويعلو، كان في رأسه بدير الذي زامله عامًا في مدرسة ثانوية وقابله بعد ذلك في القاهرة صدفة، ونشأت بينهما منذ ذلك الحين علاقة لا هي سياسية ولا شخصية ولا لأن فيه اتفاقًا في الأمزجة، ومع هذا ظلت قائمة لا تموت ولا تنطفئ. اختفى حمزة عنده حين جاء بيفن إلى مصر، ومع ما حدث فلم يكن ساخطًا عليه بقدر ما كان ساخطًا على نفسه إذ الخطأ خطؤه. كان من الواجب أن يحاول بجدية أكثر أن يكشف عن الإنسان الذي في بدير وينميه، إنه حتى وهو يطرده كان يحس ناحيته بالعطف والحب والألم، وهي مشاعر نادرًا ما كانت تطرق باله، وخُيِّلَ لحمزة أن نظرته إلى بدير وإلى الناس عامة تغيرت، بل لا بد أنها تغيرت، ولا بد أنه كان مخطئًا إلى حدٍّ ما في استيعابه للجماعة البشرية. كان يؤمن أن الناس تتطور ولكنه يدرك الآن أنه كان يرى ذلك بطريقة آلية. إن فهمه للناس كان شيئًا كهذا: المجتمع يكون كسرًا اعتياديًّا له مقام يُعَدُّ بالملايين وبسط يُعَدُّ بالآحاد أو العشرات، وأن المجتمع يتطور بتناقص البسط مع المقام، كل إضافة للبسط على حساب المقام وكل إضافة للمقام تُنْتَزَع انتزاعًا من البسط، وأن الإنسانية ستظل في عذاب وحروب حتى يُطاح بالملوك والأبسطة وتتحرر المقامات وتصل البشرية إلى المجتمع الواحد الصحيح، إنه يدرك الآن أن فهمه ذاك كان ناقصًا؛ إن الناس ليسوا أرقامًا ولإرادتهم ولعواطفهم دخل في تطورهم المحتوم. إن الناس ليسوا آحادًا وعشرات لا تملك إلا أن تتكاثر وتتناقض وتصنع التاريخ بحركتها، ولكن الناس زهرات الحياة البائعات فيهم أرق ما أبدعته الحياة من إحساس، وأثمن ما استطاع التاريخ أن يُضيفه على البشر من عواطف، وإن الإنسان يمضي في الحياة وحوله هالة من أحاسيسه وعواطفه وأفكاره لها قدسيتها ولها هي الأخرى قوانين ووجود، وكأنما كان ينقص حمزة أن يحب وأن يمضي وفوزية بجواره في ظلام الدقي ليحس بها كالينبوع الفياض الذي يغذيه بإلهام جديد يرى على ضوئه الناس وأعماقهم، ويرى ما في أعماقهم من نُبل وجمال، ويرى في بدير بذور الإنسانية التي كان عليه أن يتعهدها ويرويها.

وسألته فوزية وهو يَلمح السؤال يلح عليها: ما له بدير؟ اتجنن؟

– لا، حبك.

– حبني؟ حبني ازاي؟

– دا مش حبك وبس، دا بيغار عليك كمان، وعشان كده طردنا، هو انت حد يشوفك إلا امَّا يحبك؟

– غريبة! يمكن، أنا كنت حاسة أن نظرته لي مش عادية أبدًا، وبعدين.

– ولا قبلين، بدير كويس بس دي حاجة عارضة، أنا حسيبه لما يبرد شوية وبعدين أبدأ أتصل به تاني، الحقيقة أنا اللي غلطان مش بدير.

– ودلوقتي رايحين فين؟

– أعرف شوية ناس، حنجرب، معاكي فلوس لحسن حناخد تاكسيات كتير.

– خد.

– تروَّحي انتي بقى.

– أروَّح ازاي؟ أنا معاك لغاية أمَّا اشوف حتروح فين.

– الساعة ستة ونص دلوقتي.

– إن شا الله تكون اتناشر.

وكأنما كانت هناك مؤامرة متفق عليها: الطالب الذي يعرفه في الجيزة مش موجود، وعلي الباز لا أحد يعرفه في العنوان الذي ذكره له، وقريبته الساكنة في شارع خلوصي وجد زوجها جاء من السفر وظهر رفضها واضحًا في عينَيْها، وكان التاكسي لا يزال حائرًا بهما كنحلة ضلَّت طريقها إلى خليتها، وشوارع القاهرة نهار وحاراتها فجر وأزقتها ليل بهيم.

والأحياء كثيرة، شبرا وعابدين والسيدة ومصر القديمة والأزهر وطولون وشارع فؤاد والدرب الأحمر، وبنايات ضخمة، خمسة أدوار وعشرة وعشرون، ومئات الآلاف من النوافذ وآلاف من الأبواب والبوابين، وعمارات نام سكانها وعمارات لم تنم وعمارات لا تنام، ورواد سينمات ورواد شوارع وفسح وكباريهات، وملابس سهرات، وما بعد ظهر، وبدل وأصواف ومعاطف، وفساتين فاقعة الألوان، ونساء جميلات في فتارين من البودرة والروج قد تقمصتهن فوريرات ثعالب ودببة، ويمكن نمور وأسود، وإشارات مرور حمراء وخضراء وصفراء، وأنوار نيون بكل الألوان، وعمال نظافة وعمال بلا نظافة، وعساكر سود وبيض على عجلات وعربيات وداوريات، ومباني بنوك هائلات ترقد ثابتات كأحدث أهرامات. الأهلي ومصر والكريدي ليونيه والأمة العربية وبنك المستعمرات وما وراء البحار، وخواجات وأروام وجريج ومن كل ملة ولون، وجامعي أعقاب وأصحاب عربات وشحاذين، وأناس ينتهي يومهم وأناس يبدءون اليوم، وأموات وأطفال يولدون، وراديو يُذيع آخر الأنباء وبرقيات ومواعيد، وأسعار تهوي وأسعار ترتفع، وأناس يهوون ويرتفعون بلا أسعار، وخمور تُخْلَط وحشيش، وعمليات اصطياد وصفقات، ومشاورات لتأليف الوزارة، وحناطير تنتظر وكاديلاك وتاكسيات تتجمع في أكوام كالذباب كلما بصق مكان رواده، وسواقون يتشاتمون ويُمَسُّون ويهزرون، وهؤلاء جميعًا لهم مكان يأوون إليه وأمكنة لا يأوون إليها ولا حتى يعرفونها، وفوزية وحمزة يتسللان وسط هذا كله يحتميان من الظلام بسواده ومن النور بالعربات.

ورهيب ذلك الإحساس الذي يعتري الإنسان حين يرى هذا كله ويعيش داخله، وهو مُدرك أن لا مكان له فيه.

وحمزة يسأل: طب والعفش يا فوزية حنجيبه منين؟

– مش مشكلة، حاخد أودة النوم بتاعة أمي.

– حتقولي لابوكي إمتى؟

– الليلة، ضروري حيوافق.

– حتى لو عرف إن أبويا عسكري دريسة.

– عسكري إيه؟

– دريسة.

– دريسة ايه؟

– عامل بيصلح سكك الحديد.

– أبوك عامل؟

– أيوه.

– يعني من صميم الشعب؟

– أيوه.

– يعيش أبوك.

– تعيشي أنت، تفتكري أبوكي حيوافق؟

– أظن كده، مش عارفة، بالكتير حيمط بوزه ويقول: انتي حرة، دا مستقبلك، اتصرفي فيه.

– يعني مش حايرفض؟

– مش ممكن يرفض.

– يعيش أبوكي.

– وبعدين، الدنيا دي كلها ومش لاقيين مكان نبات فيه الليلة بس!

– لازم حنلقى.

– يعني بالعافية حنلقى؟

– أيوه بالعافية، أنا متفائل ومع ذلك مش مصدق اننا خلاص حنتجوز.

– اعتبر الموضوع ده منتهي.

– دا لسه ما ابتداش.

– دا انتهى من أول يوم شفتك فيه وإيديك فيها جاز في الخيمة.

– وحيبقى لينا ليلة دخلة؟ تعرفي ليلتها حا اعمل إيه؟ حاقفل الباب ورايا وأقول: يا زميلة فوزية حنتناقش، ما تتكسفيش.

– يا جدع اتكسف انت.

– إحنا لسه قفلنا الباب؟

– هس، الراجل ده باين عليه مخبر.

– مش باين.

– أنا أراهن.

– لو ختي بالك كنتي عرفتي انه مش مخبر؛ لأنه أوَّلًا ماشي في وسط الشارع وماشي يتلفت، وباين عليه بيدور على حاجة، أهو لقاها، ووقف يستنى الأتوبيس، وأهوه ركب.

– دا انا غبية قوي.

– لأ، يمكن جديدة.

– وحا اتقدم؟

– م، م منظور.

– تعرف إنك لذيذ، أنا كل دقيقة باكتشف فيك حاجات تتحب.

– وأنا كل دقيقة باحس بالتغيير اللي عملتيه في نفسي.

– أنا عملت تغيير؟

– كتير.

– مثلًا.

– مثلًا، كنت واخد الكفاح بشكل بطولي، كنت فاهم اني باضحي عشان الناس فلازم يحبوني ويفردولي مكانة كأني مسيح، فاهماني ازاي؟ ودلوقتي شعرت بقضيتنا كبيرة وبدوري فيها متواضع، وكل ما باشوف ظلم باشعر إن اللي باعمله مهما كان قليل. مثل تاني، كنت حاسس بالغربة وإني صحيح بقوم بدوري اللي بيخدم الناس، إنما كنت بعيد عنهم، إنت خلتيني أشعر بأني ارتبطت بالمجتمع ارتباط وثيق، إني بقيت منه، إننا كلنا عيلة، فاهماني ازاي؟ أنا وانت اندمجنا في كل الناس وأصبح تعدادنا بالمليون، أنا وانا ببص للناس حاسس كده، شايفة دول اللي مروحين واللي جايين، واللي راكبين على العربية الكارو دي، والمتشعبطين على السلم، واللي قاعدين ع القهوة دول؟ دول شعبنا، شايفاه ازاي مضروب ومبعثر؟ أنا حاسس دلوقتي إني با أحبه أكتر وإني عايز أفنى علشانه، وحاسس أكتر بحاجته للقائد اللي يلمه ويوصل بيه زي ما بتقولي للحب ولبكرة، فاهماني ازاي؟

– تعرف الكلام ده على لساني كنت عايزة أقوله، تعرف أنا اكتشفت اكتشاف خطير!

– إيه!

– أنا ما بقتش فوزية، أنا بقيت فوزية وحمزة.

– وتعرفي أنا اكتشفت اكتشاف خطير!

– إيه؟

– أنا مش حا اتجوزك بس، دا انا حا اتجوز بيكي المجتمع، فاهماني ازاي؟

– أنا بيتهيأ لي إن كل كلمة من كلامك ده بتخليني أحبك أكتر من الأول.

– إحنا يا فوزية في كل لحظة حبنا بينمو؛ لأنه جزء من حبنا الكبير للناس والقيم الإنسانية، والناس بتتحرك وتتطور، وهو برضه النهارده مولود وباستمرار راح يكبر.

– ولما نتجوز؟

– حايبقى شباب، في عز شبابه.

– إنت الليلة دي رائع.

– أنا شاعر بقوة جديدة، بطاقة من النشاط بتسري في تفكيري ونفسي وتكويني، دلوقتي حاسس بعمق إن بلدنا بلدنا فعلًا، والناس دول ناسنا، وإننا لازم نعيش.

والليل يمضي لا يحفل بالمدينة، والمدينة تحيا غير حافلة بالليل، بناياتها الكبيرة تبدو صغيرة وبيوتها عشش نمل وشوارعها أضيق من ثقوب الإبرة، والناس كثيرون كثيرون، وفوزية بجوار حمزة وفي كيانه، وذراعها حول ذراعه، وصدرها قريب من صدره، وفي عينيها بريق وتحدٍّ والعيون كثيرة، والخطر في كل خطوة.

وفي مكان من شارع الملكة، والعربات طائرة كالريح والأسفلت يمتد طويلًا أسود يلمع بضوء المصابيح المنمقة الموضوعة على جانبَيْه، خطر له خاطر فتوقف في الحال وقال: أمَّا احنا مسطولين صحيح، ما أروح عند صاحبتك دي اللي قلتي إنها مستعدة تخبي ناس، اسمها ايه، ما … قولي معايا.

فأجابت وهي تضحك: مافيش داعي تتذكر اسمها.

– ليه؟

– لأنها موجودة هنا بس.

قالت هذا وهي تشير إلى رأسها.

ومن شارع الملكة إلى السكاكيني وإبراهيم باشا والعتبة مرة أخرى، ولا أمل ولا شروع في أمل، وفي شارع عبد العزيز قرر حمزة أن يذهب إلى حجرته في المبتديان ويقضي فيها الليلة، هناك خطر ولكن ليس هناك مفر.

ووقف في الظلام المجاور لدار العلوم وأرسلها تستكشف، وعادت إليه بعد قليل مسرعة قائلةً إنها رأت أربعة لا بد أن يكون أحدهم مخبرًا.

وابتعدا بسرعة عن المنطقة كلها عن طريق شارع الفلكي وكان ما معهما من نقود قد انتهى، فاقترض حمزة من نقود السلاح التي معه على أن يسددها حين يحصل على مرتبه عن نصف الشهر الذي انقضى، وسأل فوزية أن تذكره أن يكتب لها توكيلًا لتذهب وتصرف المرتب من مقر شركة الحرير، وكان حمزة قد قرر أن يحاول مرة أخرى مع قريبته التي في شبرا ويقضي عندها الليلة بالعافية أو بالرزالة وليكن ما يكون، ولكن قريبًا من باب اللوق قطع حديثه الساخط وسألها: مش ده سعد؟

– آه، هو صحيح.

كان سعد مقبلًا من بعيد هو وثلاثة شبان آخرين، وكان واضحًا جِدًّا بينهم بقِصره واصفراره ونحافته، وكان يرتدي هذه المرة بدلة كحلية أنيقة ويضع منديلًا أبيض في جيب سترته الأعلى.

وتفتحت أمام حمزة أبواب الأمل على سعتها؛ إذ لا بد أن يكون لديه مكان، بل لا بد أنه على صلة ما باللجنة وممكن أن يعيد اتصاله، وطلب من فوزية أن تنتظره، ثُمَّ أسرع ناحية سعد وزملائه ونادى عليه، ولم يسمع إذ كان الأربعة في تلك اللحظة منخرطين في قهقهة عالية تفرقوا على إثرها في أرجاء الشارع يضحكون، ثُمَّ عادوا يتجمعون، وقبل أن يصل إليهم حمزة كانوا قد توجهوا إلى عربة «فيات» واقفة على الرصيف المقابل لمحطة باب اللوق ودخل الثلاثة فيها، وقبل أن يدخل سعد كان حمزة أدركه وأمسك بكوعه، والتفت سعد وامتلأ وجهه بدهشة واسعة الأطراف وقال: هاللو، هاللو، حمزة، إنت فين؟

وعانقه عناقًا حارًّا، وقبَّله على جانبي رقبته، وسأله حمزة: أنت فين يا راجل؟ بقى كده ما تجيش في الميعاد.

– أبدًا مش صحيح، دا ما حصلشي أبدًا، بالشرف رحتلك يومها قبل الميعاد بربع ساعة وفضلت واقف بعده ييجي نص ساعة لما نشفت من البرد، بشرفي إني رحت، وبالأمارة …

– طيب بالأمارة الميعاد كان فين؟

واحتار سعد وقلب رأسه وقد تزمتت ملامحه يمينًا ويسارًا وفوقًا وتحتًا، وعوجها مرات ثُمَّ قال: آه آل، طبعًا، كان عند قصر النيل، أيوه بالظبط عند قصر النيل، لأ، أنا في حكاية المواعيد دي ظبط قوي.

وابتسم حمزة وقال له: طيب وايه رأيك إن ما كانشي فيه بينا أي مواعيد أبدًا.

وتوقع منه حمزة أن يضحك أو يقهقه، ولكنه عقد جبهته قليلًا ثُمَّ قال: أبدًا، شوف، شوف أنت ناسي ازاي بقى، شوف مين اللي ما بيجيش في المواعيد وينساها، عرفت بقى، عرفت؟

وقاطعه حمزة قائلًا: أنا مختفي يا سعد، وعايز مكان الليلة لأن فيه ظروف خلتني أسيب المكان اللي كنت فيه.

– مختفي؟

– أيوه هربان، فاهمني ازاي؟

– هربان!

– ما عندكشي مكان؟

– طيب وهربان ليه يا حمزة؟! مش كويس كده، ما افتكرشي فيه داعي لهروبك، ما افتكرشي حد يعرف عنك حاجة، مافيش داعي أبدًا.

– اسمع يا سعد، مافيش داعي أنت تضيع الوقت، أنا لا بد عايز مكان دلوقت حالًا، فإيه رأيك؟

وقبل أن يجيب سعد تصاعد صوت أنثوي من داخل العربة يقول: يالله يا سعد، يالله يا سونه اتأخرنا.

– جي، جي يا فتفت، جي بسرعة، بس فيه حاجة مهمة، جي، ثُمَّ التفت لحمزة وقال: بس مكان إيه يا حمزة، مكان فين؟ أصل دول جماعة قرايبي ومدعوين، أيوه مدعوين في فرح، فرح ابن خالي، زميلي في المدرسة، دا كان عفريت قوي معرفش ايه اللي خلاه يجوز.

وهنا سمع سعد وحمزة صوتًا أنثويًّا قبيحًا صادرًا من أنف وحلق واحدة من داخل العربة، واحمرَّ وجه سعد الأصفر جِدًّا، وثنى جذعه مرة أخرى وصاح في غضب: إيه قلة الأدب دي، دا مش كلام، مش أصول كده ياخوانا، مش طريقة.

وقُوطع سعد بصوت مماثل يرد عليه، وهذه المرة كان صادرًا عن شاب، وهنا ابتلت حمرة وجهه بقطرات من العرق ثُمَّ قال لحمزة: لا مؤاخذة يا حمزة، شبان، ما تآخذهمش، طيش، قلة أدب.

– مافيش مكان يا سعد؟

فأجاب في صوت منخفض: والله يا حمزة أنت عارف أنا ساكن مع أهلي، ومش عارف أعمل ايه، مشكلة غريبة، طب مش تقوللي من يومين ثلاثة مثلًا كنت عرفت أتصرف، كنت عرفت أعمل حاجة، لا مؤاخذة يا حمزة، باردون.

قال سعد هذا وابتسم ابتسامة واسعة جِدًّا ومفاجئة تشبه الضحكة، ثُمَّ انقضَّ على أذن حمزة في التو بابتسامته تلك وهمس: أصل الليلة عقبال عندك زي ما انت شايف فيه شغل عاجل قوي.

واقشعر جسد حمزة، ولم يكن ذلك لهمسة سعد، وإنما لإحساس غامر هبط عليه في تلك اللحظة، الإحساس بالحذر، الإحساس بالموجة الصاعدة وهي تهبط وتتلاشى، ثُمَّ يبدأ التراجع الذي يسحب معه كل ما كان عائمًا فوق الماء، وكل الفقاقيع، وكل ما ليس له جذور، الإحساس بأنه واقف على شاطئ رملي والماء يتسرب تسرُّبًا خفيًّا وينسحب عائدًا إلى البحر ويسحب معه رمالًا كثيرةً ولا يتبقى إلا ما تحت قدمَيْه فقط.

ووجد سعد يقول: وانت فين يا حمزة، فين أراضيك؟ ابقى خلينا نشوفك يا أخي، لازم نشوفك، دا ولا كأننا كُنَّا نعرف بعض، دي مش أصول أبدًا، كلام فارغ.

ولم يصدق حمزة أن كلامًا كهذا ممكن أن يختم عامًا طويلًا من اللقاءات والاجتماعات والمعارك.

وكان يودُّ أن يهبَّ في وجهه سابًّا لاعنَّا مذكرًا إياه بما كان، وبمنابر كلية الحقوق التي ارتجَّت بخطبه، وبما ظل يقوم به من كفاح إلى أسابيع قليلة مضت.

ولكن الظروف لم تك تسمح، ثُمَّ إن حمزة نفسه كان في تلك اللحظة يملؤه الشعور القوي بالحاجة لا إلى سعد، ولكن إلى أوتاد حديدية تحمي ما فوق الشاطئ من الجذر المنسحب.

وقال له حمزة أخيرًا: أنت مش مكسوف من نفسك؟ بقى انت ما تقدرشي تشوفلي مكان الليلة بس.

– إنت عارف يا حمزة أنت مش غريب، ما عنديش أي فكرة، لو كنت قلتلي، لو أي حاجة تانية ممكن أعملها أنا مستعد، أي حاجة، بشرفي أي حاجة تانية، أيوه ما قلتلك جي يا فتفت قلتلك جي، إيه ده؟ دا مش كلام، عن إذنك بقى، أوريفوار، أوريفوار يا حمزة، خلينا نشوفك.

وكان حريًّا بحمزة أن يستسلم لما ألمَّ به من اشمئزاز، ولكنه ناضل وسعد يهم بركوب العربة وقال: طيب، ونشوفك ازاي يا سعد؟

فأجاب سعد ورأسه داخل العربة وجسده خارجها: أنا بقعد على قهوة ماتاتيا في العتبة، هناك شلة بلعب معاها شطرنج، ابقى خلينا نشوفك، أوريفوار.

ومضت العربة وفيها ضحكات وبقايا أصوات الحلوق.

وعاد حمزة إلى فوزية وما حدث كان مرتسمًا بكل تفاصيله على وجهه، فلم تكن ثمة حاجة للإضافة خاصة وأن فوزية قالت له: أنا لمحت بنتين في العربية.

فغمغم حمزة ولم يُجِبْ.

كان قد قرر أن يذهب إلى قريبته في شارع خلوصي، ونادى على تاكسي وقد تهيأ لتنفيذ القرار.

لقد عرض نفسه منذ خروجه من بيت بدير إلى مئات الفرص التي كان يمكن أن يراه فيها رجال البوليس السياسي، وهو ليس غريبًا عنهم فصورته يعرفها معظم المخبرين، وقد قضى سنوات يُعتقل ويُراقب ويُحجز ويُتحرى عنه، كان لا بد إذن من الذهاب إلى شبرا، وقالت فوزية وهو يهمُّ بالصعود: يا أخي، ما بلاش عناد وتيجي عندنا.

– قلتلك يا فوزية ميت مرة مش ممكن؛ أوَّلًا مافيش مكان عندكو ليه، ثانيًا حتى لو فيه مكان ما أرضاش أنا لأن ده وضع مش طبيعي أبدًا وحيكون صدمة كبيرة على أبوكي، ثالثًا حتى لو كنت مجوزك فبيتكو في شارع خيرت جنب وزارة الداخلية على طول، فاهماني ازاي؟

اطلع من فضلك يا أسطى على شبرا.

وما كاد حمزة يستقر في العربة حتى انتصب أمامه فجأة شبح سيد، فأشرق وجهه بفرحة غير عادية وقال: بس وجدتها، وجدتها.

١٤

– هي ايه اللي وجدتها؟

– خلاص، اتحلت المشكلة، لا بد سيد يعرف مكان أو حتى أنام معاه.

– سيد مين؟

– حقولك دلوقتي.

ونظر حمزة في ساعته، وكان يُخيَّل إليه أنها على الأقل تعدت الحادية عشرة من كثرة ما لف ودار، وفُوجئ بها لا تكاد تتعدى التاسعة والنصف إلا ببضع دقائق، ومع هذا خاب أمله وغامت ملامحه في الحال؛ إذ هو يستطيع العثور على سيد في النهار فقط أثناء عمله في الجبانة، أمَّا في الليل فأين يعثر عليه؟

ومرة أخرى أشرقت ملامحه وقال في فرح صبياني: عند باب الوزير تقول فين عمي سماعين أبو دومة؟ ألف من يدلك.

فتشبثت فوزية بذراعه قائلةً: إيه، مالك يا حمزة؟ انت اتهبلت؟

– لا، أبدًا، أكيد أبو دومة عارف مكان سيد وح يدلنا عليه، فُرِجَت:

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرج

– إيه أبو دولة وسيد والشعر ده؟

– دلوقتي حتعرفي كل حاجة، يا أسطى من فضلك اطلع بينا على باب الوزير.

وقبل أن تصل العربة إلى الميدان قال لها: أظن بقى تسيبيني هنا وتروحي، فاهماني ازاي؟

ودقت فوزية أرض العربة بقدمها كالطفل الغاضب وقالت: قلتلك مش مروحة، إن شا الله أبات أنا وانت واقفين في الشارع، لازم أشوفك حترسى على إيه.

وأوقف حمزة العربة وحاسب السائق، ثُمَّ طلب منها أن تنتظره على محطة أوتوبيس ١٩، إذ إن منظرهما معًا قد يسترعي الانتباه في حيٍّ الأغراب فيه قليلون.

ومضى وحده، وأصبح في باب الوزير وقال في سره: يا سلام على العظمة! تقف عند باب الوزير وتقول فين أبو دومة؟ تقولشي ابن طولون، طب فين أبو دومة، هو معقول حد يعرفه؟

وكان الميدان الضيق قد خفَّت فيه حركة الناس، لا يبقيه ساهرًا إلا القهاوي التي تحدُّه من كل الجهات، والناس القليلون الماشون قد كوَّرهم البرد على أنفسهم ومضوا يتدحرجون في صمت شتوي حزين إلى مضاجعهم.

وحمزة له خبرة في السؤال لا تُجارَى من كثرة ما سأل عن ناس وأشخاص، ولهذا جاب الميدان كله قبل أن تختار عيناه «جرسون» قهوة أنوارها قليلة وتقع في طرف الميدان، وبعد مساء الخير والذي منه سأله عن اسماعين أبو دومة، وهز الراجل رأسه وكأنه ينفي عن نفسه تهمة، وسأل ثانيًا وثالثًا ورابعًا، ولا أحد عمره سمع عن اسم كهذا، وكانت الناس وهو يسألها تنظر إليه باستغراب؛ لهذا كان من الواجب إنهاء كل شيء ومغادرة الحي قبل فوات الأوان.

وكاد حمزة ييأس لولا أنه رأى رجلًا جالسًا على أحد القهاوي، وأحس من منظره أنه ممكن جِدًّا أن يكون حانوتيًّا، وذهب إليه مباشرةً وسأله، وأنزل الرجل ساقه التي كانت موضوعة فوق الأخرى ونفى وتأسف، ولكن يبدو أن أحد الجالسين بجواره كان قد استمع للسؤال، إذ بعدما استدار حمزة نادى عليه وقال: حضرتك عايز اسماعين أبو دومة مين؟ مش بتاع الجبانة؟

– أيوه تمام.

– آه، دا بيقعد عند بتاع عصير القصب قريب هنهه، تمشي من هنا كده على طول لغاية عامود النور اللي هناك دهه، الدكان على إيدك اليمين على طول.

ومشى حمزة حسب الوصف وانتعاشة أمل تشجعه، ولم يكن في كلام الرجل أية مبالغة؛ فقد وجده حمزة هناك جالسًا على دكة خارج الدكان بنفس جلبابه الصوف البني وعمامته وشاربه المشوش الذي يلتوي عند طرفَيْه، فيبدو كقرنَيْ ثور.

– السلام عليكم.

– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

قالها الرجل وهو يمد فمه إلى «غابة جوزة» كان آخر يمسكها.

وانتظر حمزة حتى شد أبو دومة ما طاب له الشد في نفس واحد، وسأله وهو يغالب ابتسامة كان يريد إيقاف تنفيذها: ما تعرفشي والله سيد اللي بيشتغل في الجبانة فين؟

وكان أبو دومة في هذه الأثناء يخرج دخان النفس، أخرج ملء مدخنة من فمه، ثُمَّ انتظر قليلًا وأخرج من أنفه ماسورتَيْن رفيعتَيْن كثيفتَيْن لون دخانهما كلون البخار، حتى خُيِّلَ لحمزة أنه سيصفر بعد هذا ويتحرك.

وقال أبو دومة في أدب ولا تزال سحابة الدخان قائمة، ولا تزال بقايا الدخان تخرج مع الكلمات: سيد مين؟ ما هو لا مؤاخذة في دي الكلمة فيه سيدين: سيد شطا وسيد محمد إبراهيم، الله! حمدالله على السلامة يا بيه، يا ألف مرحب، أصل لا مؤاخذة ماتآخذنيش، الدنيا ليل والعتب ع النظر، يا ألف مرحب! ده نور ايه ده؟ حمدالله على السلامة.

وكان قد قام واقفًا وسلم على حمزة وشد على يده، وأكمل ولا تزال يده في يد حمزة: والله يا بيه إن جنابك ابن حلال، أنا كنت لسه في سيرتك من شوية، ألف حمدالله على السلامة.

وكان حمزة ينظر إلى الرجل وترحيبه ووجهه الجاف الأسمر الخشن الذي جمَّده البرد، وذقنه النابتة وشاربه، وعينه الحولاء التي يُخيَّلُ للإنسان أنها ليست في محجرها كالعين الأخرى، وإنما موضوعة بطريقة ما فوق طرف شاربه، وكأنها الكرة الأرضية التي تدور ويحملها قرن الثور. كان حمزة ينظر وهو يراقب فم الرجل الواسع يتفتح عن الكلمات المصرية الحلوة التي صنعتها إنسانية شعب عريق، الكلمات التي قد لا تصفى على الربع ولكنها رائعة في نفسها وكأنها رسل محملة بالدفء والسلام. كان قد أمضى ساعات طويلة وهو غريب بين مصريين، مبعثر مشتت في الأزقة والحواري، فكأن للكلمة الواحدة التي فيها نبض من ترحيب أو احتفال فعل السحر، فما باله وهو يرى في وجه الرجل فرحة حقيقية بلقائه وترحيبًا به أيما ترحيب؟

وقال حمزة وهو منفعل: الله يسلمك يا عم اسماعين، والله إنك وحشتني قوي، إنت وسيد، هو فين أمال؟

فرد أبو دومة ولا تزال يده في يد حمزة: أنت مادريتشي حاصل ايه.

وسقط قلب حمزة فجأة وسأله بلهفة: لأ، حصل إيه؟

ورد ابو دومة في تأثر: مش الواد يسيبنا هنا كده وحنا كُنَّا ع الخير والشر سوا ويروح يشتغل في الوابور، الله يخزي شيطانه البعيد، طب تصدق بإيه؟ والله إن سيد محمد إبراهيم ده جاني زي ما جيتني جنابك كده من كام شهر: سلام عليك يا عم سماعين. قلت له سلام ورحمة الله وبركاته، قاللي عايز آكل عيش. قلت له والنبي إن ما أكلتك بإذن الله فطير ما أبقى سماعين أبو دومة.

– والوابور دا فين يا عم اسماعين؟

– إنت من غير مؤاخذة رحتش سجن مصر.

– ليه يا عم اسماعين؟

– أهو بيشتغل في الوابور اللي وراه على طول، يعني من غير مؤاخذة تخش السجن كده يبقى هو على يمينك على طول.

– وقاعد فين أمال؟

– حد عارف له حتة، أهو مطرح ما بييجي عليه الليل بينام، باينه بيبات في الوابور، باينه بيروح عند قرايبه محدش عارف، حمدالله على السلامة يا سعادة البيه، أنا وسيد واحد، كلنا اخوات، أنا والله سيد ده كنت أعزه زي الأسطى حودة تمام.

– الاسطى حودة مين؟

– ابني لا مؤاخذة، أنا وسيد مافيش فرق، هو كويس كويس إنما لا مؤاخذة أصل شغلنا ده عايز صبر وطولة بال، ليه؟ يوم فيه وعشرة مافيش، واللي بيروح أكتر من اللي بييجي، وسيد مالوش خلق، نفسه ضيق، ما يقدرشي يستحمل، ما يستحملهاش إلا اللي زينا كده واخدين ع الشقى، ألف حمدالله على السلامة، أنا وسيد واحد، كلنا اخوات.

وكان حمزة في ذلك الوقت يختنق في واد ضيق؛ فقد انهارت فجأة آمال رحلة طويلة عريضة، والعمل؟

ووقف يقضم أسنانه وأظافره ويداري حنقه عن أبو دومة ويتركه يتكلم.

– تعرف بعد ما مشيت سعادتك جاني حتة داكتور زي السكرة تمام، قاللي يا عم سماعين أنا جاي ع السمعة، إنت جنابك زعلان ليه كده كفى الله الشر؟ خير؟ هو لا مؤاخذة حصل حاجة؟

– لا، أبدًا يا عم سماعين.

– ولا يهمك، والله من يوم ما مشيت من هنا وأنا مشغول عليك وعلى الأسمنت.

– إيه؟

– إزي الأسمنت؟

ودارت رأس حمزة دورات كثيرة قبل أن تستقر على ما يقوله أبو دومة.

الأسمنت؟

كيف عرف؟

هل أخبره سيد؟ وكيف يمكن أن يسكت أبو دومة عن شيء كهذا وهو لا يحتمل السكوت؟

– أسمنت ايه يا عم اسماعين؟

– إييه!

قالها أبو دومة وهو يلوي رقبته ويضم ذقنه إلى صدره كمن يقول: اطلع من دول.

وخاف حمزة أن يستطرد الرجل في الكلام أمام صاحب المحل والرجل الآخر الذي كان ممسكًا بالجوزة، فاستأذن منهما وأخذ أبو دومة على ناحية وأعاد سؤاله، فإذا به يعرف من المرة الماضية أنه كان حاضرًا لأخذ الديناميت وأنه ليس بطالب طب ولا دكتور.

واستغرب وذُهِلَ؛ الرجل يعرف كل شيء ومع هذا تظاهر بالعبط كل هذا التظاهر وسأله: وانت عارف كُنَّا بنعمل بيه إيه ده يا عم اسماعين؟

– إلا عارف، هو انا عيل يا سعادة البيه؟! بتعملوا بيه إيه؟ مش من غير مؤاخذة كده بالمفتشر بتموتوا بيه الانجليز، أنا ياما شفت وياما رأيت يا سعادة البيه، إنت جنابك فاكرني شوية؟! هو تفتكر ان فيه حاجة تبقى في جبانة باب الوزير وما اعرفهاش؟ دانا ما بقاش سماعين أبو دومة، دانا عارف كل طوبة هنا، وكل شقفة هنا خابزها وعاجنها، إنما صوابعك مش زي بعضها؛ فيه ناس تبقى مش عارفة حاجة وتتكلم، وفيه ناس تبقى عارفة كل حاجة وتسكت، طب تصدق بالله؟ قول لا إله إلا الله، قول، تصدق بالله؟ أنا سنة سعد باشا جم الانجليز يفتشوا الترب فرُحت قايل لاتنين منهم: جرج (جورج) جرج، وانت زجزج جرج، بري كود، وانت بري كود، زجزج كويس كتير، وشاورلتهم راحوا ماشيين ورايا، ورحت واخدهملك عند السبيل وقلت يا سيد يا رفاعي مدد؛ حاكم دول تعابين فلازم الواحد يستعين عليهم بسيدنا الرفاعي، وكان في إيدي زقلة رحت عاينها وطاخ طيخ طاخ طيخ وينزلوا الاتنين ساكتين، ورحتلك خافي رمتهم ولا حد شاف ولا حد دري، وياما وياما بس الواحد أصله مابيرضاش يكلم.

وهنا كان حمزة قد قرر أمرًا فقال: اسمع يا عم سماعين.

– أيوه يا سعادة البيه، أنا وسيد واحد وزمتي وديني.

– مش عارف حتة أقعد فيها يوم واللا اتنين؟

– عايز بقى من غير مؤاخذة شقة واللا أوضة؟

– أنا مش عايز أوض وشقق، فاهمني ازاي؟

– فاهمك ازاي إيه؟ أنا فاهم قوي يا سعادة البيه.

– أوَّلًا بلاش سعادة البيه دي، أنا اسمي … اسمي حمزة.

– أهلًا وسهلًا، ألف مرحبة يا سي حمزة افندي، باب الوزير نوَّر والله.

– إنت مش فاهم يا عم اسماعين، أنا مش عايز أوضة ولا شقة، أنا عايز حتة بعيدة عن الناس.

– تبقى من غير مؤاخذة بقى تروح الدرَّاسة، هناك حاجات زي طلبك كده كتير.

– أصل يا عم اسماعين المسألة إن دلوقت الحكومة بتمسك الناس اللي كانوا بيضربوا الانجليز، ودلوقت بتدور عليَّ، فأنا عايز استخبى في مكان مايشوفنيش حد فيه، تعرفشي حاجة زي كده؟

– إلا اعرفشي حاجة! وده اسمه كلام يا سي الافندي؟! بقى عمك سماعين أبو دومة ما يعرفشي يخبيك؟! يا سلام! أي خدمة يا سعادة البيه، أي خدمة، بس كده؟

– تعرف صحيح يا عم سماعين؟

– إلا أعرف؟ دانا اخبيك واخبيك، دانا اوديك في حتة ما يعرفهاش الجن الأحمر.

وكان حمزة يسمع كلام الرجل ولا يفكر فيه؛ فعقله كان قد عاد يستأنف البحث في ذاكرته عن مكان إذ كان واضحًا أن كلام أبو دومة تهويش ونتش ليس إلا؛ ولذلك سأله وهو يبتسم في مرارة عسى أن يرفِّه عن نفسه بالسماع: فين يا عم سماعين؟

وسكت أبو دومة، وازدادت ابتسامة حمزة وهو يرى الرجل قد وقع في المأزق ووضع أصبعه على صدغه وراح يفكر، وأخيرًا رفع رأسه وتهلل وجهه وقال: أعرف لوكاندة.

فرد حمزة مباشرة: لوكاندة ايه يا عم اسماعين؟! مقدرشي اروح أي لوكاندة، كلهم مراقبين.

وعاد أبو دومة إلى وضعه التفكيري، وفكر حمزة أن يسلِّم عليه ويمضي ولكنه لمحه يهز رأسه باستنكار، وتهتز طاقيته الصوف التي تعمم عليها وهو يقول: بس حترضى تروح هناك يا سعادة البيه؟ مش معقول.

– معقول قوي، أرضى قوي، في أي حتة، فين؟

– هناك في الملك ده.

– هناك فين؟

– في أي حوش من الأحواش بتوع الجبانة.

– وضرب حمزة الفكرة في عقله وخرج بنتيجة مدهشة فقال: قوي قوي، أرضى قوي، أنا عايز أي حتة، فاهمني ازاي؟

– فاهمك ازاي!

– لا مؤاخذة يا عم اسماعين، أنا بقولها كده بس، صحيح ممكن أقعد هناك، دانا اروح قوي.

– تحب بقى جنابك حوش مطرحين وصالة واللا حوش مطرح واحد؟ اؤمر، أي خدمة؟

– إنت بتتكلم جد يا عم اسماعين.

وظهرت غضبة لينة على وجه الرجل وقال: إنت مش واسك (واثق) فيَّ يا سي حمزة افندي؟ عيب ولا مؤاخذة يبقى شنبي على مرَة، دانا مرَّة واحد قاللي انت كداب فحطيت صباعي في عينه، وخدته الإسعاف يومها وبقت حكاية، هو انا عيل لا مؤاخذة؟ أمَّا ابو دومة يقول كلمة تبقى هي الكلمة، طب والله نظير كلامك ده لمقعَّدك في مدفن داود باشا نفسه، اتفضل، ما تتفضل يا سعادة البيه، اتفضل نوصل للبيت بس، أصل المدفن مقفول بقفل، قافلينه أصحابه، ح انادي الاسطى حودة ابني يعمل له سلكه ويفتحه، اتفضل.

وانطلق أبو دومة في حماس بالغ، ومضى حمزة وراءه وهو يكاد يضحك؛ إذ مَن المجنون الذي يصدق أبو دومة؟! ولكن الرجل واصل سيره حتى بلغا الميدان فهز حمزة كتفَيْه كمن يقول لنفسه: خليك مع الكداب. واتفق مع الرجل على أن ينتظره عند نفس المكان من الجبانة الذي وجده فيه في المرة الأولى، وذهب حمزة إلى فوزية الواقفة وقبل أن يصل إليها سألته بلهفة: هيه؟

– بس يا ستي، حنام مع سعادة داود باشا في أوضة واحدة.

– بلاش هزار يا حمزة، لقيت حاجة؟

ولم تصدِّق فوزية هي الأخرى، ومع ذلك مضت معه، وراحا يصعدان الطريق المؤدية إلى المقابر، وعند نفس الجدار وجدا هناك أبو دومة واقفًا وقال له حمزة: دي مراتي يا عم اسماعين.

ولما وجد حمزة المسألة فيها اثنين انجليز قُتِلُوا وواحد فقد عينه أضاف: دي مراتي، عندنا أربع عيال، معذبينا قوي يا عم اسماعين.

– ربنا يزيد يا سي حمزة افندي، أنا لاخر الاسطى حودة ابني شُفته على كبر، إنما واد يعجبك، دلوقتي حتشوفه.

وبعد خطوات قليلة كانوا أمام عش مصنوع من خليط من الحجارة البيضاء والصفيح وبراميل الزفت المفرودة، وكان القمر قد بدأ يصعد إلى السماء والنور يأخذ طريقه إلى الأرض، وبدت الأحواش والمدافن كالبيوت الصغيرة المكدسة، ولم يكن من فرق بينها وبين بيت أبو دومة إلا أنه أحقرها جميعًا وأفقرها بناءً، حتى ليظن الإنسان أنه قبر أُقيم لتخليد ذكرى الفقير المجهول.

وكان يرقد أمام العشة البيت كلب قد وقف شعره من البرد يشبه الكلب الذي رقد مع أهل الكهف في غارهم مئات السنين، بلا طعام أو شراب، يشبهه في أنه هو الآخر يبدو وكأنه هو وأجداده أجمعون قد جاءوا الدنيا صائمين وغادروها صائمين.

وخبط أبو دومة على الباب المصنوع من الصاج وقال: يا اسطى حودة.

وخبط مرة أخرى، وفتح الباب وخرج صبي صغير لا يتعدى العاشرة يرتدي جاكتة عسكرية صفراء تصل إلى ما تحت ركبته، وقال له أبو دومة: هات يا اسطى حودة حتة سلك عشان تيجي تفتح بيه القفل.

وخرجت وراء الصبي امرأة طويلة ترتدي ثوبًا أسود وطرحة سوداء، وحين سقط القمر عليها أضاء وجهها فبدا أبيضَ حلوًا، وقالت: خير يا أبو محمود، فيه إيه؟

فأجاب أبو دومة بنفس صوته المرتفع: مافيش، أصل حمزة مضاضي الانجليز، وبينه وبين الحكومة شوية.

فهمس له حمزة: يا عم اسماعين.

– أصل لا مؤاخذة يا سي حمزة، مافيش بيني وبين أم محمود سر، احنا ع الخير والشر سوا.

– طب وطي حسك يا عم اسماعين.

وسألت المرأة حمزة بصوت جميل وكأنما صُنِعَ من «ملبن» أنثوي خالص: هو الافندي من الفدائيين؟

وعجب حمزة وهي تنطق «الفدائيين» نطقًا سليمًا ليس به أي اعوجاج فسألها: انتي تعرفيهم يا ست أم محمود؟

فأجاب أبو دومة: إلا تعرفهم، هي كانت تعرف حاجة إلا هم؟ دي متعلمة بتقرأ الجرانين وتكتب، وأسمع أنا وهي الراديو تفهم هي كل حاجة زي البربند وأنا ولا كأني سمعت، دي في السياسة إكس، طب بنت ملك الانجليز اسمها إيه يا ام محمود؟

وضحك حمزة وفوزية، وضحكت كذلك أم محمود، ورد الأسطى حودة الصغير بسرعة: اسمها «الدع بت» يابا.

فقالت أمه: يا واد مش اسمها كده، قلتلك، اسمها إليزابيث.

وتولى حمزة شرح موضوعه لأم محمود.

وبعد قليل كان الركب يتحرك وحمزة وفوزية وكأنهما في حلم، كان الأسطى حودة على رأس القافلة وفوزية مع أم محمود التي كانت تحمل فوق رأسها لمبة أم ساروخ وفي يدها إبريق كبير وقد انخرطتا بسرعة في الحديث، وكأنهما تعارفتا منذ عام، وكان حمزة وأبو دومة يمشيان صامتَيْن، غير أن الأخير سرعان ما قال وهو يلكز حمزة: شوف يا سي حمزة النسوان، أعوذ بالله، ما يصدقوا إلا وهات يا كلام.

فقال له حمزة: ألا يا عم اسماعين اتجوزت ازاي؟

– اتجوزت ازاي إيه؟ زي الناس قسمة ونصيب، رحت لأبوها الله يرحمه بقى ويحسن إليه.

– وبتحبها يا عم اسماعين؟

– أحبها يعني ايه؟

– مش عارف تحبها يعني ايه؟

– آه، قصدك ع الحب ده اللي بيسرسع في الراديوات، لا، لا معندناش كلام فارغ من ده يا سي حمزة، دي مراتي، أهلًا وسهلًا، ألف ألف مرحب.

دا أنت نورتنا والله، طب تسدق بايه؟ أنا حلمت إمبارح حلم اللهم اجعله خير.

ثُمَّ رفع صوته وقال موجِّهًا الحديث لامرأته: مش قلتلك الصبح ع الحلم اللي حلمته ليلة امبارح يا أم محمود؟

ولم ينتظر إجابتها ومضى يقول: حلمت خير والصلى على النبي أن الهاتف جاني في المنام وقالي: هوه. قلت هوه، قاللي الفرج جايلك شايل شنطة. صبحت الصبح أخبط كف على كف وأنا عقلي ح يشت، يا ربي فرج ايه اللي شايل شنطة؟ قوم شوف، أدحنا، أهلًا وسهلًا.

وكان حمزة يستمع ويحاول تقدير ما سوف يدفعه ويليق بمقام «الفرج اللي شايل شنطة» مع أنه كان على شبه يقين أن كلام أبو دومة كله فارغ ولا يدخل عقله، وكان أبو دومة يتكلم بلا توقف وأحيانًا يصغي إليه حمزة، ومعظم الأحيان يتأمل ما حوله، قبور، وقبور، وأحواش عليهما زهمة ولا صوت ولا هواء ولا حياة، ونور القمر مجرد كفن أبيض كبير يغطي المباني ويفرش الأرض، وأم محمود على رأسها «اللمبة أم ساروخ» ترتد نارها ودخانها إلى الوراء ويتصاعد من شريطها الشرر، ويبدو نورها الشيء الوحيد الذي أفلت من لون الكفن وثار في وجه القمر، وأصوات وقْع الأقدام على الرمال التي تكاثفت حبيباتها تحتمي من البرد والليل والموتى، هذه الأصوات تأتي مكتومة، وأحيانًا يسمع حمزة معها صوت أبو دومة الذي بدأ يلهث: اثنين في رقبتي: الأسطى حودة، وبسلامته أبو دومة، على اسم جده، الله يرحمه ويحسن إليه، الفاتحة له، حودة عال. قلت: يا واد وديه في ورشة مكانيك أقله يطلع أحسن منك. حاكم ماتلقاش يا سي حمزة افندي حد يرضى تطلع احسن منه إلا ابوك، المرحوم ابويا كان بيقوللي كده، عليه رحمة الله، الفاتحة له وأمواتنا وأموات المسلمين، بسم الله الرحمن الرحيم، كان لازم نقرأ الفاتحة قبل ما نخش على أسيادنا الموتى ونستأذنهم، معلش يا سيادي الفاتحالكو، بسم الله، آمين، الانجليز، ولاد كلب عايزين الحرق، أنا مرة وأنا ف شبابي …

ويبدو أن انخراط فوزية في الحديث مع أم محمود جعلها تنسى المكان الذي تمضي فيه والزمان؛ إذ سرعان ما توقفت حتى وصلها حمزة وأدخلت يدها بسرعة حول ذراعه وكانت ترتجف وتقول: أنا خايفة موت يا حمزة.

– من ايه؟ ما تبقيش صغيرة أمال.

فقالت وهي تلتصق به أكثر ووجهها شاحب: أنا بترجف يا حمزة.

وسألها حتى تتكلم وتنسى: أنت كنتي عمالة بتكلمي معاها في ايه؟

فقالت وأسنانها تصطك: دددي، وووليه ﻛ ﻛ ﻛ ويسه، ﺟ ﺟ ﺟ ﺟ جدا دددا، ﺗ ﺗ ﺗ تصور ﺑ ﺑ ﺑ ﺗ ﺗ ﺗ ﺣ ب، جوجو جوزها ااا وي، بتقول ااانه ﻋ ﻋ عندها ا ﺣ ﺣ ﺣ ﺳ ﺳ سن من أأأ نور وﺟ ﺟ ﺟ دي.

وخلع حمزة «جاكتته» وألبسها إياها بالقوة، فصنعت بها ما صنعته جاكتة العسكري بحودة، وكانت كل رجفة منها تعتصر نفسه اعتصارًا، لقد كان يتساءل من التجربة التي تذيب الإنسان في الإنسان وما تخيل أبدًا أنها ممكن أن تكون على هذه الصورة، وهو يرتجف من البرد وهي ترتجف من البرد والخوف، تائهين في العالم الآخر، وحودة وأبواه يقودانهم من ممر إلى ممر، ممرات جرباء متشابهة وصور لآلاف الأشباح تترامى، وجلد فوزية وكذلك جلده قد تحبب وأصبع كجلد الطائر بعد نتف ريشه، والمشوار لا يبدو له آخر، وليلة طويلة لا يعلم أحد كيف تنتهي.

وفجأة قفز حمزة مذعورًا مخلوع القلب؛ فقد صرخت فوزية بجوار أذنه تمامًا صرخة مشحونة بالرجفة والذعر المروع، وظلت تصرخ بلا انقطاع وتقول: رجليا رجليا رجليا رجليا.

وانحنى حمزة وقلبه لا يزال مخلوعًا يرى ما في رجليها، ثُمَّ ضحك ضحكة هستيرية طويلة وهو يمد يده ويجذب عرف الكافور الجاف من بين قدمَيْها، ولم تصدق فوزية ولم تكف عن الاستغاثة حتى حين أراها العرف، وما إن تبينته أخيرًا حتى انهارت مغمى عليها، وتلقفها حمزة قبل أن تسقط وأبو دومة يقول: يا حول الله، يا حول الله، داحنا كُنَّا وصلنا.

وحملها حمزة على كتفه، وخُيِّلَ إليه من فرط ما كان يحس به ناحيتها أنه يستطيع حملها الليلة بطولها، ولكن بعد خطوات قليلة بدأ ينوء ويلهث، ويسأل أبو دومة.

ولم تكن هناك حاجة للسؤال، كانوا قد وصلوا وكانت فوزية قد عادت إلى وعيها، ولدهشة حمزة لم يعرف أنها أفاقت إلا حين أحس بشفتيها تلثمان جانب رقبته، وقد ينسى حمزة أشياء كثيرة، ولكنه لن ينسى أبدًا ملمس شفتَيْها الباردتَيْن الذي أحسته رقبته في تلك الليلة من ليالي الشتاء، وخطر له خاطر، لم يكن عبثًا ما قاله لها الليلة أن حبهما في نمو دائم، وأشياء قليلة جِدًّا تلك التي يكون الإنسان مستعدًّا أن يفقد حياته من أجلها مثل: مبدئه، وشرفه، وبلده، وفي تلك اللحظة أحس حمزة بعمق وبيقين أن فوزية أخذت مكانها جنبًا إلى جنب مع مبدئه وشرفه وبلده.

وكان لا يزال يحملها ويلهث ويجاهد ليبقى حاملها ولا يفكر في إنزالها، وفوزية وقد أفاقت تمامًا لم تفكر هي الأخرى في التنازل عن مرقدها، ولم تهبط إلا حين شعرت بحمزة قد أصبح لا يكاد يستطيع الوقوف قائلًا وهو يلهث: أنا دلوقتي بقيت زي طرزان تمام.

وفي ذلك الوقت كانوا واقفين أمام بناء كالفيلا المكونة من دور واحد، وكان حودة عاكفًا على الباب والقفل وأمه تمسك له بالمصباح، وأبو دومة واقف في مكان تستطيع عينه المتحركة أن ترى فيه تقدُّم ابنه وترى فيه حمزة وفوزية دون أن يتعب نفسه ويستدير، وأيقن حمزة بعد ما هدأت أنفاسه ورأى حودة وما يصنعه، أيقن أن أبو دومة فعلًا كان يعني ما يقول، وتعجَّب كثيرًا وكان ذلك مستحيلًا.

ومال على أذن فوزية يهمس لها بهذا وبغيره، وأفاق من همساته على خبطة أطارت عصافير السكون، وأرجفت فوزية وأرعشتها، وفتحت الباب، ورفعت صوت حودة قائلًا: اتفضلوا.

وابتسم أبو دومة ابتسامة أوسع من فمه وقال وعينه وأسنانه تتلألأ في ضوء القمر: صدقتني بقى يا سي حمزة؟ الأسطى حودة دا ولد.

وكانت الرحلة كلها كوم والدخول إلى ذلك المكان كوم آخر، رفضت فوزية أن تطأه واستماتت على حمزة لا تريده أن يتحرك وقالت: يلعن أبو أي حاجة في الدنيا، تعالَ بات عندنا وخلاص، إن شا الله حتى يتقبض عليك، مش معقول تبات هنا، دانا اجننت، أنا مالي، هه، هه.

وكانت عائلة أبو دومة قد دخلت وفوزية لم تكفَّ عن اضطرابها، وولَّد قُربها في نفس حمزة مشروعَ قبلة، وقبَّلها مرات ومرات وبادلته فوزية قبلاته، وكان حمزة كلما دار ببصره في مستعمرة الموت تلك احتضنها أكثر وأطال من قبلاته حتى خُيِّلَ إليه أن فمها قد تضخم وتلمَّظ وأصبح كثدي نافر.

وسمع صفيرًا مزعجًا، وانتفضت فوزية في حضنه، والتفت فوجد الأسطى حودة هو الذي يصفر وأمه تخبطه على كتفه وأبوه ينهره، والأم والأب قد أعطياهما ظهرهما.

– لا مؤاخذة يا عم اسماعين.

واستدار الرجل إليه، وكاد حمزة يسقط على ظهره من الضحك، وهو يرى في ضوء القمر واللمبة أم ساروخ وجه أبو دومة الخشن الجاف ذا اللحية والشارب والفم الواسع يراه وفيه ابتسامة ضيقة خجلة، وملامح تجرب — ربما للمرة الأولى — خجلًا يكاد يقترب من خجل الأنثى.

ودخلت فوزية معه وقد نسيت في خضم ما حدث إصرارها.

كان الباب الخارجي يؤدي إلى فناء صغير تحتله حديقة مهملة فيها شجرتا كافور طويلتان ترعب وشوشة أوراقهما، وهناك باب داخلي آخر كان حودة بلا ريب قد عالجه وفتحه، ويؤدي الباب إلى صالة يتدلى من سقفها شمعدان فيه ما يزيد على العشر شمعات قد احترق منها جزء صغير وكانوا قد أوقدوها جميعًا، والصالة مؤثثة بكنب «أرابيسك» يدور مع الجدران، وكذلك عدد من الكراسي من نفس النوع، والحجرة التي على اليسار فيها أثاث مماثل، وكذلك مائدة طعام كبيرة وحولها كراسيها، والتي على اليمين فيها سريران ومراتبهما وملاياتهما ولوازمهما مكوَّمة في ركن ومغطاة بغطاء، وفي كل من الحجرتَيْن شمعدان كبير أُضيء، ويقابل باب الصالة الخارجي باب داخلي، قال أبو دومة وهو يفتحه: أهو ده قبر المرحوم داود باشا نفسه، الله يرحمه، الفاتحاله.

وبدا من خلال الباب المفتوح قبرٌ مغطًّى بقماش من حرير أخضر لماع، وحوله شبكة من النحاس الأصفر، وكانت الأضواء تتسرب إليه فيبرق النحاس، ويبدو القبر كله وكأنه أحد صناديق القراصنة الضخمة التي كانوا يملئونها بما اختطفوه من كنوز.

وكان الجو كله مشبعًا بتلك الرائحة التي تتوالد في المكان إذا طال عليه الإهمال والإغلاق.

وقال أبو دومة وهو يجول بعينيه ويبتسم ويتفكر: هيه يا سي حمزة، كويس ده؟ واللا أوديك مدفن ألفت هانم أحسن؟ اللي يعجبك، زي ما انت عايز، أي خدمة، والنبي انك طردت عنَّا وحشة.

وأجاب حمزة: دا كويس قوي يا عم اسماعين، أنا الحقيقة مش عارف أشكرك ازاي، بس المهم دلوقتي عايزين نرجع فوزية عشان تروح.

– ليه؟ ما تخليها تبات معاك، أقلها تونسك.

– لأ، معلشي يا عم اسماعين، أصل الولاد لوحدهم، فاهمني ازاي؟

– فاهمك ازاي، أخ، لا مؤاخذة ما تآخذنيش نسيت، أيوه الولاد صحيح، دا زمان بسلامته أبو دومة بيسرخ، يا رتنا كُنَّا جبناه ويانا.

واقترح حمزة ثانية أن يوصلوا فوزية، ولكن أبو دومة استمهله، وخلع جلبابه وقد أصبح بالفانلة والصديري واللباس ذي الأرجل الطويلة والدكة ذات الثلاث شعب: بس لا مؤاخذة، خمسة بس نوضبلك النومة، إيدك يا أم محمود، شيل معايا يا حودة، أصل التراب مالي الحتة.

وحقيقة كانت أكوام من الغبار تغطي كل شيء، خاصة ذلك الكوم الذي فيه معدات الفراش.

وحاول حمزة أن يمد يده ولكن غضبة أبو دومة جعلته يتوقف عن محاولته.

وخرج حمزة وفوزية بناءً على إصرار أبو دومة وزوجته حتى لا يصيبهما العفار، ووقفا متلاصقَيْن وحولهما أعشاب متوحشة، وبجوارهما جذع الكافور الغليظ ووشوشة أوراقه، والقمر يطل عليهما باستغراب ويتابع ما يدور في الجبانة كطفل محب للاستطلاع، ويبتسم ابتسامته الساذجة الخالدة، وقالت فوزية: أمَّا راجل عجيب أبو دومة!

– تعرفي أنا لغاية دلوقتي مش مصدق.

– وحتديله كام؟

– على الأقل جنيه، شوية والله.

– يا أخي ما تيجي معايا وبلاش العند ده.

– دا مش عند يا عزيزتي، دا عقل، فاهماني ازاي؟

– وحتبات هنا لوحدك؟

– حاخاف من ايه؟

قالها حمزة وهو خائف فعلًا لمجرد التفكير في مصيره حين يذهب عنه الجميع، ويبقى وحده.

– وبتقللي مانتاش بطل، حد يقدر يعمل كده؟

– إنتي عارفة المثل اللي بيقول بطل رغم أنفه، أهو أنا بالظبط.

ونظرت فوزية إلى السماء والقمر، وما حولها من معالم صماء بكماء، وقد أفرخ بعض روعها وقالت: دي ليلة تاريخية يا حمزة، حنبقى نفتكرها سوا.

– معلش يا فوزية، كل حاجة بتبقى صعبة لما الواحد بيكون فيها، وبعدين لما بتفوت وتصبح ذكريات بتبقى جميلة.

– تعرف إنك ساعات بتقول حكم.

– وانتي ساعات بتمدحيني من غير داعي.

وسكتت فوزية وكان سكوتها إجابة، ثُمَّ قالت: أنا يا حمزة باستغرب جِدًّا على أبو دومة ده ومراته، تصور واحدة حلوة بتقرأ وتكتب زي دي تجوز ليه واحد زيه.

– وليه ما تجوزوش؟

– لأن كان ممكن تجوز أحسن منه.

– أحسن ازاي يعني؟

– أصغر منه بكتير ومركزه أحسن.

– شفتي بقى إن ساعات حكم الناس البساط بيبقى أحسن من حكمنا، شفتي بقى إنها ما بصتش لحاجات من دي، لازم فيه حاجة عجبتها فيه، لازم، الست دي باين عليها معدنها سليم جِدًّا، دي لازم في يوم من الأيام يبقى لها دور.

فضحكت فوزية وسألته: ازاي بقى؟

فأجاب حمزة: انتي بتسأليني أنا؟ البركة فيكي.

وجاءهما من الداخل صوت أبو دومة يدعوهما إلى الدخول.

وتأمل حمزة الفراش الفاخر والنظافة التي أصبحت عليها الحجرة، ونظر إلى الرجل يشكره فوجد وكأن كل ما كان في الحجرة وفوق كومة الفرش من غبار وتراب قد انتقل إلى وجهه ورأسه وملابسه، ولم يترك حتى رموش عينيه ولا نهايات شاربه المشوشة، فعلق بها وأضفى عليها رماديته، وكذلك كانت أم محمود والأسطى حودة الصغير حتى بدت سحناتها في ضوء الشموع تستثير الضحك.

وقال أبو دومة وهو يمسح التراب الذي دخل حلقه وسوَّد لسانه معلِّقًا على فخامة المكان: أصل كان الله يرحمه نظاجة قوي، هو اللي باني الملك دا كله قبل ما ينتهي أجله، عليه رحمة الله، هه، كويس كده يا سي حمزة؟ عجبتك الحتة؟ أهو عندك إبريق المية وبكره الصبح إن عشنا إن شاء الله أم محمود تجيبلك دور كمان، وأهو الأسطى حودة بعد ما يخلص الشغل يبقى تحت إيدك، احنا لينا بركة إلا أنت، دانا والله الدنيا ما هي سايعاني.

وقال حمزة في نفسه إن الوقت قد حان، فانتحى به ركنًا من الحجرة وأخرج من جيبه الجنيه وقد طبقه في يده حتى لا يراه أحد وقال: احنا متشكرين جِدًّا يا عم أبو دومة.

قالها وهو يمد يده ليسلم عليه، ومد الرجل يده، وما إن أحس بملمس الورقة حتى نفض ذراعه كله بسرعة وارتسم على وجهه غضب وقال وقد رغرغت عيناه بالدموع: الله! إيه ده يا سي حمزة؟ انت بتشتمني؟ هو انا راجل واطي؟ أنا فقير، فقير، إنما برضه عندي مروءة، واللا اكمني يعني فقير؟ دا انت ضيفي يا سي حمزة، وانت راجل متعلم وتفهم، دا الحمد لله يا أخي ربك ساترها، لا لا لا، يا سي حمزة، إنت والله كأنك قلعت الجزمة وضربتني، دا انت كإنك تفيت في وشي، روح يا شيخ الله يسامحك.

١٥

وعادت القافلة كما جاءت لتوصل فوزية، وظل حمزة وقتًا طويلًا صامتًا يفكر في ذهول مقرون بفرحة وثمة عواطف كثيرة تجتاحه، كان يفكر في ما كان من أبو دومة ويخجل من نفسه ومما أطلقه على الرجل من أحكام، ويفعل هذا برهبة وكأنما تفتحت عيناه على مخبأ حقائق مجهولة، وفي النهاية قال لفوزية: شفتي بقى يا ستي اتجوزته ليه؟ راجل عجيب، كل يوم بيمر على الواحد في المعركة بيتعلم منه حاجات كتير، أنا كنت طول عمري باتكلم عن الشعب وبيخيل لي دلوقتي إني ما كنتش مدرك بعمق ايه طبيعة الكلمة دي، فهماني ازاي؟ أبدًا دي مش كلمة بتطلق جزافًا، دي حقيقة حية، احنا عايشين فيها، يعني أبو دومة ده تفتكري الواحد كان ممكن ح يلمس حاجة زي اللي حصلت الليلة إلا من خلال المعركة، كان عمره حتتفتح له الكنوز الموجودة وعايشة في قلب الناس ومغطيها الألم والحاجة، تعرفي أنا حاسس بتغيير كبير بيطرأ عليَّ من يوم ما عرفتك، فيه حاجات كتير ما كنتش شايفها شفتها، وحاجات مكنتش لامسها خلتيني ألمسها وأقدرها. أنا كنت باكافح زمان لأني كنت مجرد إنسان حاقد على الظلم والأعداء، إنما الاستعمار ممكن ينتهي والظلم ممكن يتشكل والقضية مداها أبعد من كده بكثير، القضية مش قضية الأعداء، لأ، دي قضية الشعب وأهدافه، اللي يحلها هو إيمان الواحد بالشعب أوَّلًا وقبل كل شيء، فهماني ازاي؟ يعني زمان كنت ثائر عشان كنت حاقد فقط على الأعداء ومؤمن بضرورة زوالهم، دلوقتي بكافح لأني مش بس باكره الأعداء، إنما لأني أوَّلًا حبيت الناس وآمنت بضرورة سعادتهم. كان زمان اللي بيحركني هو الحقد، والحقد أجله قصير، دلوقتي اللي بيحركني الحب والحب مداه بعيد.

كان القمر قد غاب، والظلام الدامس قد حل، والجبانة أصبحت بحلكتها التامة، وكأنها قبر خانق كبير، ومع هذا مشت فوزية تستمع لما يقوله وقد صنعت كلماته ما لم تصنعه في نفسها قبلاته ولا صدره الدافئ، فأذهبت عنها كل رَوْع ولم يعد في كيانها ذرة خوف.

واستطرد حمزة بنبرات تحفل بإيمان نظيف ليس فيه شوائب وكأنما ينطق بلسان كل المثل العليا التي حلمت بها وصاحبتها، ويخرج حديثه همسًا قويًّا يكاد يؤرق الموتى ويحيي العظام وهي رميم: أنا كان ممكن أقعد أتكلم كتير عن حبي وإيماني بالناس، إنما دي معاني مجردة مش ممكن توجد إلا بالعمل، واحنا ضيعنا وقت كتير ولازم نبتدي، ونبتدي بالناس اللي حوالينا، احنا قدامنا حاجات كتير لازم نعملها.

فقاطعته فوزية قائلةً في حماس: بس الناس اللي حوالينا مش شايفة فيهم حد ينفع.

– إزاي ما فيهمش حد؟ شوفي يا فوزية، صحيح فيه ناس أحسن منهم بس لازم تعرفي إن في كل إنسان جزء طيب ونضيف وثوري وعلى استعداد لخدمة المجموع، وجزء آخر وحش وفردي ومناقض له تمام، فهماني ازاي؟ تجربة الاختفاء والإحساسات اللي باحملها ليكي علمتني إني أعامل الأجزاء الطيبة في الناس، وصحيح أحذر من أجزائها الأخرى إنما لا أعاملها، لازم حنلقى في كل واحد من اللي حوالينا حاجة كويسة، علينا إننا ننميها ونكبرها، وبكده نخلق منهم ناس كويسين، فاهماني ازاي؟ يعني نساعد الجزء الصالح فيهم على أنه يقهر الجزء الضار، وبكده الناس حتنتظم وتقاوم لأن المقاومة هي مجموع الأجزاء الصالحة في الناس، وهي دي الي بتدفع المجتمع لقدام، وهي دي اللي بتغير.

– بس يعني يا حمزة واحد زي، زي، زي سعد مثلًا، إيه الجزء الصالح اللي فيه؟

– كويس جِدًّا اللي جبتي المثل ده، سعد أكيد فيه جزء كويس، إنما لما فقد اتصاله بينا سيطر عليه الجزء الآخر وانحل، ومش ممكن حيتصلح أبدًا بأننا نقعد نشتمه ونقول وحش ومتردد، مهمتنا دلوقتي إنه يبتدي يشتغل وبكده بس حيتطور.

– أمَّا نشوف.

– أنا متأكد من النتيجة، أنا زمان ماكنتش بافكر بالطريقة دي أبدًا، دا الواحد أكيد اتغير، المكان ده قلعة، واحنا ضيعنا وقت كبير، لازم نبتدي.

– دي مافيهاش خلاف يا حمزة، بس حنعمل إيه؟

– حافكر الليلة في اللي ممكن نعمله، وفكري انتي رخره كمان.

وسكتت فوزية قليلًا ثُمَّ قالت: تعرف يا حمزة، حاجة غريبة خالص، أنا مش عارفة كل حاجة تقولها باقتنع بيها، أنا بيتهيأ لي إنك ممكن تقنعني ببساطة إني مجنونة مثلًا.

– ودي عايزة إقناع.

وضحكا، وسألته فوزية عن الساعة، كانت تدور حول منتصف الليل.

وكانت القافلة قد اقتربت من العمار، فودعها حمزة بعد أن أعطاها نقودًا لتعود بها، ووجد عناءً كبيرًا في إقناع أبو دومة بعد مرافقتها حتى لا يراهما أحدٌ معًا.

وحين ابتسمت له وهي تكاد تتهاوى من التعب كان صدره يغلي بالحقد على الذين يمنعونه من مصاحبتها، وكان قلبه يعمر باطمئنان دافئ صنعه الحب، الحب العميق الذي بدأت تمتد له جذور ويصبح له تاريخ.

١٦

وأخيرا جِدًّا رقد حمزة على الفراش الوثير والتف بالبطاطين الوبر، ومدد ظهره المنهك وهو يتثاءب ويستمتع بالرقدة وبالدفء، وكأنها صدر ديك رومي يلتهمه بعد يوم كامل من الجوع، وكان الإنهاك قد بلغ به الدرجة التي يتمنى فيها الإنسان أي مكان يستطيع أن يستلقي فيه، حتى ولو كان قبر داود باشا نفسه.

وكان يُخيَّلُ إليه أنه سيظل يرتجف رعبًا إلى أن تطلع الشمس، وسيصرخ لدى كل خرفشة أو صوت، ولكنه وهو راقد وقد ارتاح ظهره ونَمَّلَت أطرافه كان يحس باللامبالاة التامة، والسكون الذي حوله أقبح سكون، والوحدة التي يحس بها باردة رهيبة لا أمل في انتهائها، والمدفن يعبق بالزمن والقدم والعصر الذي ولى، والفراش هو الآخر يملأ أنفه برائحة مقززة، وكأن المراتب والمخدات والملاءات قد تكون لها صدأ على مر الزمان وأصبح لصدئها رائحة، وهو راقد هكذا في قلب الرعب لم يكن يحس بأي خوف. وأحيانًا تبدو التجربة لا يحتملها بشر، فإذا أصبح الإنسان فيها تقبلها بهدوء، يكون هو أول من يعجب له.

ومضى يستعرض أحداث اليوم الحافل الطويل الذي خُيِّلَ إليه أنه بدأ من شهر فات، وكلما تذكر مبلغ ما لاقاه من تعب دقت شرايين صدغه، ثُمَّ أصبح دقها هو كل ما يشغل ذاكرته وقد بدأ النوم يحتويه، ولكن قبل أن يغفو هبط الدق الذي في صدغَيْه ليرتفع دق آخر في أذنَيْه، وارتفع دق الأذنَيْن كثيرًا حتى لفت نظره وطرد عنه النوم، ثُمَّ ما لبث أن استرعى انتباهه كله وصحى تمامًا وأدرك أنه صادر من الباب الخارجي للمدفن، وتثلجت أطرافه في الحال، كان الدق مزعجًا كئيبًا كزئير وحش مذبوح، وشُلَّت كل الحياة في حمزة ولم يعد فيه إلا أذناه تتسمعان وتلهبان قلبه وأنفاسه.

واستمر الدق يزأر ويستوحش وينهش لحم السكون، ثُمَّ انقطع فجأة، ومع هذا ظل لا يتحرك ويكاد لا يتنفس أو يفكر مخافة أن يعيد إليه تفكيره ذلك الدق، وأصبح قلبه هو الشيء الوحيد الذي يتحرك ويصدر صوتًا في الحجرة، بل في المدفن والجبانة بأسرها، وضايقته دقات قلبه وكأنه منبه ذو صوت مرتفع تقلق دقاته النائم ومَنْ به أرق، ثُمَّ، بدأت الدقات مرة أخرى، رفيعة كخناجر حادة، وقريبة على نافذة الحجرة التي ينام فيها، وتثلج جسده وجاءه من الخارج صوت بشع صادر لا بد عن جمجمة هيكل عظمي: يا أستاذ حمزة.

ولم يدرك أبدًا أن هذا هو اسمه أو أنه المقصود، وحتى حين أدرك لم يتحرك ولم ينفعل، وتكرر النداء ووجد نفسه يخرج من حنجرته صوتًا واجفًا غريبًا لا يمت إلى صوته يقول: مين؟

– افتح يا أستاذ حمزة.

– مين؟ أنت مين؟

– افتح يا أستاذ حمزة، أنا سيد.

وحشد كل قواه ليرفع صوته ويقول: سيد مين؟

وجاء الجواب: أنا سيد إبراهيم يا أستاذ حمزة.

وتشجع قليلًا، وقام إلى النافذة وهو لا يكاد يصلب نفسه وفتحها، ومن خلال حديدها لمح في الظلام الذي أضاءه النور الخارج واحدًا يرتدي قميص عمال وبنطلونًا أصفر ممزقًا، وبدأ الشك ينتابه؛ فقد كان عهده بسيد أنه يرتدي جلبابًا، فقال: مين؟ أنت مين؟

واقترب الشخص حتى وضحت معالمه في الضوء، فإذا به سيد فعلًا بوجهه المستطيل النحيف وعينَيْه الواسعتَيْن جِدًّا ورقبته الطويلة ذات الحنجرة البارزة، وكما جاء الذعر فجأة رحل فجأة، وقال حمزة: الله يجازيك يا شيخ، نشفت دمي.

وفتح له، ودخل سيد وسلم عليه بيدَيْن باردتَيْن كبيرتين وهو يقول: أنا بعد ما خلصت شغل في الوابور جاي على هنا علشان طلب في الغورية، عم أحمد بتاع العصير قال لي إنه كان فيه واحد أفندي بيسأل على عم اسماعين، يا ترى مين؟ جيت على أبو دومة قال لي على الحكاية، فقلت أروح أقضي الطلب وبعدين آجي أبات معك أونسك، أصل الجبانة كرب قوي بالليل وانت مش واخد ع الحاجات دي.

وغيَّر مجيء سيد الأوضاع كلها، ونسي حمزة الجبانة والرعب والبرد، وأحس منفعلًا بروعة الإنسان، من دقائق كان كالميت في قبره حتى إذا ما جاء إنسان آخر، إنسان واحد فقط مثل سيد وأصبحا جماعة، ذهب الموت والبرد والسكون وغارت الوحدة، وبدأ يحس بإنسانيته وينطلق لسانه متحدثًا ضاحكًا.

وما مضت دقائق أخرى حتى كان سيد قد جمع أخشابًا من الفناء المهمل، وأحضر رملًا وضعه على البلاط، وأوقد نارًا ليدفئ المكان الذي كان يعصف به البرد، وامتلأت الحجرة باللهب الأحمر الوهاج الذي تشيع مجرد رؤيته الدفء والأمان، وأطفأ سيد معظم الشموع وأبقى اثنتَيْن وقال: تشرب شاي؟

وشد حمزة على يده وكاد يقبِّله، فقطرة الشاي في مكان كذاك وفي ليلة كليلتها وبعد أهوال، كانت لا تُقدَّر بثمن، وقال له: يا سلام يابو السيد، دا انت تبقى واد مافيش منك، فكرتني بحسن، كان يقول لي تشرب شاي أقول له: آه، يقول لي: نعملولك شاي.

والله وحشني قوي، بس حتعمل شاي ازاي؟

– جايب معايا العدة كلها.

وأشار لعدة في منديل محلاوي كان قد وضعها على الفراش الآخر، ودُهش كيف لم يفطن لسيد وهو يحملها.

وحين ارتشف أول رشفة من الشاي وسَرَتْ كهربتها في جسده مر بخياله بدير، ولا يدري لِمَ؟ فقال له في سره وهو يبتسم: أين أنت يا أستاذ بدير لترى أني لا أضيع حياتي من أجل الناس عبثًا، كل واحد منهم يستاهل أن أضيع عمري من أجله.

وبدأ حديث العمل، وأنهاه حمزة بقوله: خلاص من بكرة حنبتدي، حنعمل بكرة اجتماع الساعة، الساعة تلاتة، كويس؟

– إحنا بنخلص الساعة تلاتة، وعلى ماجي هنا تكون بقت تلاتة ونص.

– طيب زي بعضه، تلاتة ونص، وتجيب معاك الحاجات.

– حاجيبهم إن شاء الله.

وحين انتهيا كان سيد لا يزال جالسًا على الفراش المقابل قاعدًا ورأسه بين ركبتَيْه، وكان حمزة قد أنزل البطانية من فوق أكتافه ولفَّها حول جلسته، والنار التي بدأت تخمد تضيء وجهه بألوانها التي تمتد من الأحمر الطوبي إلى الأصفر، وتعبث بملامحه المتعبة.

وكان ينظر إلى سيد نظرات طويلة، ويتذكر أول يوم قابله فيه قريبًا من وزارة الشئون الاجتماعية، ورجاه أن يكتب له طلبًا ليعمل في الحكومة كغيره من عمال القنال الذين تركوا المعسكرات ونزحوا إلى القاهرة، والذين كانوا لا يفترقون عنه إلا في أنه لا يحمل ما يثبت أنه كان يعمل في الجيش الإنجليزي.

وسأله حمزة فجأة: انت بتشتغل ايه في الوابور؟

– نقاش.

– نقاش؟ بتعمل ايه يعني؟

– بانقش حجارة الطاحونة.

– وتعلمتها فين يا أبو السيد الحكاية دي؟

ولوى سيد رقبته وأدار رأسه إلى ناحية كمن يقول: ياما اتعلمت.

وعاد وجهه إلى مكانه وراحت ألوان النار تعبث بحبات العرق التي كانت قد احتلت جبهته، وبعض أجزاء وجهه المستطيل المتغضن المرتكز على ركبتَيْه الذي لا تستريح ملامحه، وقال وهو ساهم وعيناه في النيران: ياما تعلمت من يوم ما سبت الفلاحة، كنت مرابع باشتغل عند واحد بأردبين دره في السنة، وهجيت، كنت زهقان وغاوي مكن، كنت أسرق قطن تاني جمعة وأبيعه وأشتري صندوق دخان للأسطى محمد سواق اللنز بتاع عزبة المردنلي عشان يخليني أسوق اللنز وأحرث بيه خط، كل خط بصندوق دخان ودفتر بفره.

وسكت سيد قليلًا ثُمَّ انتابت وجهه الرعشة العصبية التي كثيرًا ما تنتابه، وكز على أسنانه وقال: بس كله إلا الترب، وأبو دومة ومراته.

وقال له حمزة: دول ناس كويسين جِدًّا.

وانتابته الرعشة مرة أخرى وهو يقول: ومراته دي رخرة مناخيرها في السما بنت اﻟ…

– أبدًا يا سيد دي ست كويسة، هي عملت فيك حاجة؟

– هي تقدر تعمل حاجة؟

– إنت كل ساعة تجيب سيرتها.

– هي مين دي؟ دا إن مكانشي جوزها قادر عليها أربيها أنا.

– إنت مشغول بيها قوي.

فارتعش وجهه مرة أخرى وقال: يعني مشغول ببنت السلطان ياخي؟ دي …

وبصق مشمئزًّا.

وراقبه حمزة وهو يضم فمه بشدة ويحك أظافره في أظافره وينقبض وجهه وينبسط، وكان سيد هكذا دائمًا يحس حمزة كلما رآه أنه في قلق مستمر، حتى وهو صامت يضج صدره بالأزمة ويبدو على لسانه كلام لا ينطلق ووراء ملامحه كبت مستطير.

وقطع صمته وقال في صوت يجاهد ليفلت من أسنانه المضمومة: كل أمَّا بشوف واحد متعلم زيك وسايب عيشة لوكس وجاي يناهد ويانا احنا اللي الواحد بتطلع روحه علبال ما يطلع اللقمة، أبقى عايز اقوم على أولاد الكلب اخنقهم واحد واحد.

ثُمَّ لاحت ابتسامة شاحبة على وجهه وقال: وبعد ما يروحوا الانجليز في داهية، أظن مش حنشوفك.

وكانت النار قد خبت وتحولت إلى بصابيص تشع ضوءًا أحمر بلون وجه حمزة وسيد وكل ما حولهما من أشياء، حين قال حمزة: بس لما يروحوا، الحكاية يا سيد مش حكاية الانجليز؛ دي حكايتنا احنا، حياتنا ومستقبلنا على الأقل في الميت سنة الجايين، لغاية لما العيشة كلها تبقى لوكس زي ما بتقول.

ثُمَّ حل صمت طويل، ولم يكن ما هما فيه من سكون في حاجة إلى الصمت لتبدو النفوس خلاله كماء البحيرة التي لا يعكر صفاءها موج، فيكاد يرى الإنسان أعماق نفسه ويكاد يرى حادثات صغيرة عاشت معه لحظة من عمره وأسعدته ثُمَّ تهاوت إلى قاعه.

وكانت النار قد خمدت تمامًا وأصبح لا يضيء الحجرة إلا نور الشمعتَيْن الضئيل، ونشوة الشاي والدفء قد ذهبت وخلفت وراءها وجومًا. وكان لا بد إذن أن تنبعث تلك الدندنة من سيد خافتة أول الأمر، وكأنما يوشوش نفسه، ثُمَّ ترتفع ويرتفع معها رأسه، ويبدو عنقه طويلًا تكاد تبرز منه حنجرته، ثُمَّ يقول: يا ليل!

وما أروع الليل حين يُقال في الليل وفي مثل ذلك المكان، ويعلو صوته رنَّانًا له أنين الناي ورنينه، يغني يا ليل ويشيع الفجر في الليل، ويا عين ويستل النوم من العين، ويا ليل فيذوب البرد ويهاجر الظلام، ويا عين فترى العين النور ويملؤها دفء ومرح.

ولم يعد حمزة من الآفاق التي حملته إليها كلمات سيد ومواله، وأحس مرة أخرى بنفسه وحيدًا مع العوطف الدقيقة الواهنة التي تتسرب إلى ذاته وتنهشها وتشبعها نبضًا ولينًا وألفةً، وبدأت الأوتار الخفيَّة تعزف ويخرج لحنها يُغريه بأن يفضفض، وشعر برغبة أقوى منه تدفعه لأن يحكي عن فوزية وقصته معها.

ونظر إلى سيد الذي كان قد سكت وعاد رأسه بين ركبتَيْه، وقرر أن يحكي وبدأ بأن سأله: إلا انت ماحبتش أبدًا يا سيد؟

ولم يكن قد انتهى حين قال الفجر: الله أكبر!

١٧

استيقظ حمزة على شيء يضايقه ويكاد يسد فتحات أنفه.

وحين استعاد حواسه وجد للشيء رائحة جميلة.

وفتح عينَيْه ورأى شبه الظلام الذي كانت فيه الحجرة، ثُمَّ السقف المزدان بنقوش الفراعنة المقلدة، ثُمَّ وردة حمراء كبيرة فوق أنفه، وبزاوية عينه اليسرى لمح حذاءً أنثويًّا أنيقًا مخلوعًا ومُلقًى بإهمال تحت الفراش المقابل، وفوق الحذاء بمسافة قليلة رأى قدمًا صغيرةً تتلاعب أصابعها داخل الجورب.

ولم تكن المسافة بعيدة، فمد يده وأمسك بالقدم وجذبها، وفي نفس الوقت تصاعدت موسيقى خافتة تقول: صباح الخير.

وكان مستعدًّا أن يبقى على وضعه ذاك مدى الحياة لا يتكلم ولا يتحدث ولا يتنفس، ولكن الصوت الموسيقي عاد يقول: بلاش كسل قوم، عندنا شغل كتير.

وفي بطء جلس، ووجد فوزية جالسة على الفراش المقابل بوجهها الأبيض المسمسم الحلو، وعيناها منتفختان قليلًا إنما زادها ذلك جمالًا وجاذبية، وكان احمرار خفيف يلون شفتَيْها، وقال لها بصوت أجش غليظ طيَّر كل ما أحدثته تحيَّتُها من موسيقى: صباح الخير.

وفتح عينَيْه وأغمضهما كثيرًا ليرى أنها في جلستها تلك أرشق من أصابع عازف كمان، وأنضر من الوردة التي أصبحت في يده، وأنشط من كل ما قد يبعثه صباح شتاء من نشاط، وكانت ترتدي «بلوزة» بسيطة و«جيب» رمادي، وبادرته قائلةً: أوَّلًا، قوم اغسل وشك.

ووضع حمزة ساقًا فوق ساق وهو لا يزال ممددًا على الفراش، وقال في كبرياء:
  • أوَّلًا: دوَّري على النضارة لأني مش عارف حطيتها فين قبل ما انام.
  • ثانيًا: كان فيه واحد نايم هنا راح فين؟
  • ثالثًا: مافيش ميه عشان اغسل.
  • رابعًا: الساعة كام والنهارده إيه؟
  • خامسًا: تعرفي انك حلوة زيادة عن اللزوم؟

– أوَّلًا: النضارة أنت قاعد عليها وباينة منها حتة، وأنا جيت ومالقيتش إلا انت والمرحوم بس، والساعة الحادية عشرة من صباح يوم الجمعة الموافق كذا وعشرين من شهر فبراير سنة ألف وتسعمائة واحد وخمسين ميلادية، وأم محمود جابت الميه الصبح وح احط عليك تغسل، وانت اسمح لي كداب يا عزيزي حمزة حين تدعي أني جميلة من غير ما انت شايفني.

وكانت تقول هذا وحمزة قد قام ملسوعًا يبحث عن النظارة خوفًا من أن تكون قد أصابتها مُصيبة لا تُحمَد عقباها، ووجدها سليمة والحمد لله فوضعها على عينَيْه، وثنى رأسه يمينًا ويسارًا مدَّعيًا أنه يتفرج على فوزية، وقال بسخرية: يا خسارة نضارتي معمولة للنظر بس، لازم أعمل واحدة تانية لجمالك.

– يالله يا حمزة مش فاضيين.

وقام، وفي الفناء الموحش وقف وركع خافضًا رأسه وفوزية تصب عليه من الإبريق، وهو يتعمد أن يقترب منها حتى «تطربشها» قطرات الماء، وهي تخطو لتبعد عنه فيخطو ويقترب، وهكذا انقلب الغسيل إلى مطاردة مرحة لفَّا فيها الحوش مرات، وانتهت بأن صبت فوزية غير قليل من الماء في ظهره.

وعاد حمزة إلى الحجرة الأخرى وشعره مشعث، وقطرات مياه تتساقط من وجهه وقطرات أخرى تتساقط في سلسلة ظهره، وابتسامات كثيرة تنهمر من ملامحه، وناولته فوزية المشط وهي تقول: فطارك أهه.

وكشفت فوطة كانت تغطي جزءًا من سطح المائدة الكبيرة الموضوعة في الركن، فبدت أشياء سال لها لعابه؛ فهو فوق شغفه الكبير بالطعام لم يكن قد تناول شيئًا منه منذ غداء الأمس، فإذا به وجهًا لوجه أمام إفطار فاخر: فول بالزبدة، وبيض مقلي، وجبنة من ذوات الاسم الطويل، وطماطم حمراء مقسمة وعليها شطة وخل تمامًا كما يحبها، وزيتون أسود وأخضر، والأهم من هذا وذاك براد الشاي الذي كان لا يزال البخار يتصاعد من بزبوزه.

وقال حمزة: أنت أروع فوزية في الدنيا، بس بدي أعرف عملت البيض ده ازاي؟

– حتعرف كل حاجة يا سيدي، أصلي جبت لك وابور سبرتو وكنكة وبراد شاي وسكر وشوية حاجات كده.

– وجبت فلوس منين؟

– حتعرف كل حاجة بس ما تستعجلشي على رزقك.

– طيب تعالي بقى.

وأصرت فوزية على أنها شبعانة، ولكن ما كادت وهي تتأمل حمزة وهو يقطع اللقم ويحندقها ويحملها إلى فمه بمهارة، ثُمَّ يجيد مضغها ويفعل ذلك بطريقة توحي بأنه لا يأكل وإنما يتعبد، ويتعبد بطريقة تغري بتقليده، ما كادت تنقضي بضع دقائق حتى راحت فوزية تمضغ لعابها وقد تفتحت شهيتها، وما إن أفلتت من حمزة دعوة أخيرة حتى انضمت إليه بلا توان وشاركته في الإتيان على كل ما يؤكل.

وقالت فوزية أخيرًا: أنا جبت لك الجرايد، فاضية مافيهاش حاجة.

– إنتي مابتنسيش حاجة أبدًا، أنا مش عارف أقول ايه، على فكرة قبل ما أنسى، النهارده عندنا اجتماع الساعة تلاتة ونص هنا، خلاص حنبتدي.

وتركته فوزية ينكب على الجرائد كعادته، وأزالت بقايا الطعام ونظفت المادة، وفوجئت بأنه انتهى منها بأسرع ما قدرته فقالت: هه، فاضية، مش كده.

– ما تستهلشي الواحد يقراها، بس فيه خبر قبض على أنصار سلام يونانيين في إسكندرية.

– ما لحظتش حاجة تانية؟

– زي ايه؟

– أصلي شفت حاجة كده استلفتت نظري، شوفها في صفحة الأخبار الداخلية.

– وآدي الأخبار الداخلية، هيه، هيه، هيه، هيه مافيش حاجة.

– أهيه ياخي، بص.

ووجد في العامود المجاور لعامود الاجتماعيات برواز فيه:

ولدي حمزة

عد إلى المنزل، وحقك علينا.

والدك المكلوم: بدير

١٨

كان يومها من الأيام الدافئة التي تكثر في أواخر الشتاء وتنبئ بأنه قد شاخ، وبدأت أجنَّة الربيع تتوالد داخله وتنمو وتهدد بقاءه، وكانت هناك شمس ساطعة تتسابق حرارتها وأشعتها في الوصول إلى الأرض ساخرة بالشتاء الكهل، غارسة أصابعها التي لا نهاية لطولها في جسده، تكتم أنفاس زوابعه وتقهر برده وتطرد من السماء سحاباته، نافذة حتى إلى الأحياء تثير فيهم الحركة بعد السكون، والأمن بعد الخوف والانطلاق بعد التقوقع، وتدفعهم مثلها إلى مقاومة شتاء طال احتماله ودنت نهايته.

وحين خرج حمزة وفوزية من الداخل إلى الحوش بهرهما الضوء الساطع، وأحسَّا لليوم وشمسه بمرح كمرح الأطفال في صباحية عيد.

وجلسا خلف الحائط ينعمان بمقدم الدفء ولم يكن حولهما سكون ولا صمت، فعلى شجر الكافور وقفت مئات العصافير تتقافز وتغني وتزاول الحب وتُثير باحتفالها الكبير الحياة في قلب الجبانة.

وبعد قليل ضاق حمزة «بجاكتة بيجامته» فخلعها ووضعها فوق رأسه، وراح يحدِّث فوزية عن اللجنة التي قرر تكوينها منه ومنها ومن سيد وسعد، وعن مشاريعه لإحالة المدافن إلى ترسانة تستطيع بواسطتها اللجنة أن تقود كفاحًا لا يلين لتعبئ الرأي العام وتستأنف المعركة.

وأَبْدَت فوزية امتعاضها لتكوين اللجنة على تلك الصورة، متشككة فيما يمكن أن تقوم به عناصرها الضعيفة، ولكنه راح يحدثها في هدوء واتزان عن نقط البدء، وعن الأحلام والواقعية، وعن أن الثوار الممتازين لا يُستوردون من الخارج ولا يهبطون من السماء، وأن عليهم البدء من حيث هم ومن العناصر التي في متناول أيديهم، وكلفها بالذهاب إلى سعد وإحضاره.

وحدثته فوزية هي الأخرى عن خطتها حيال لجنة المدرسات، وكانت تبالغ في تلك الخطط حتى أنها أبدت استعدادها لتكوين جيش منظم من النساء في ظرف شهور.

وكان حمزة يحس أن مبالغتها صادرة عن حماس حقيقي، وتطرَّق الحديث إلى أبيها وكلامها معه عن الزواج وموافقته بشرطَيْن: أن يرى حمزة، وأن يسكنا معًا في نفس البيت، وكان أمل فوزية كبيرًا في إمكان تنازله عن الشرط الثاني، واتفق معها على أن يذهب لطلب يدها من أبيها رسميًّا في نفس الليلة، وكان الميعاد الذي اتفقا عليه أغرب ميعاد لخطوبة، الحادية عشرة مساءً، على ألا يعلم أحد غير الوالد وألا يخبر بعلمه أحدًا.

وأصرَّت فوزية على أن لا بد من موافقة عائلته، وأن مجرد إرساله خطابًا لا يكفي، ولم يكن هناك حل سوى أن تسافر وحدها إليهم لتراهم ويروها ثُمَّ تعود برأيهم.

وسألها حمزة إن كانت قد أخبرت إياها عن عائلته، وكانت قد فعلت، فقال لها أبوها: ما دام انتي عاوزاه اجوزيه، إن شا الله يكون أبوه عطشجي. وضحك حمزة كثيرًا متسائلًا عما يكون رأيه لو عرف أن العطشجي وظيفة كبيرة جِدًّا بالنسبة لعامل دريسة.

وكان حمزة في هذه الأثناء قد توسَّد فخذها اللينة الناعمة، والحديث كان يدور في نغمات هادئة مستحبة تغري بالإبطاء والاستمتاع بكل كلمة، وأجبرتهما كثرة الدفء على العودة إلى الحجرة، وأخبرها حمزة وهما يدخلان من الباب أنه يرشح أم محمود لعضوية اللجنة، ولم تصدق فوزية وأثارت جدلًا طويلًا انتهى باقتناعها كالعادة، وبابتسامة تسليم، ولمعت شفتاها وهي تبتسم في الحجرة نصف المظلمة، وأحب لمعة شفتيها تلك حين استحالت حمرتها من لون إلى نور، وأحب وجهها القريب منه وكأنه يراها لأول مرة، بل خُيِّلَ إليه أن ملامحها قد تغيرت وأصبح لها نكهة كالقهوة حين تُحلَّى بالعنبر، وأحس لرؤيتها الجديدة برغبة جامحة في تذوُّقها واعتصار كل ما في ملامحها وشفتَيْها من نار ونور ونكهة ليروي تيارًا من القلق اللاسع كان يجتاحه في تلك اللحظة.

ولم يقاوم رغبته تلك، ولم تقاوم فوزية، واقشعرَّ جسده بفرحة حب وهو يحس بها، بحبيبته، بفوزية تعتصر شفتَيْه هي الأخرى في ثورة عارمة مكبوتة، وظمؤها إليه يكاد يطغى على ظمئه إليها.

وولَّد فيه ذلك إحساسًا غامرًا بالاطمئنان، وبأن ما بينهما من حب قد أصبح لا يختلط بالخوف والرهبة والتشكك والخجل، وكلاهما قد وثق وأدرك أن ما يكنَّه الآخر له حقيقة واقعة يلمسها في كل خلجة من خلجات رفيقه وفي كل كلمة ونظرة وضحكة.

كانت قد انتهت مرحلة التسرع واللهفة وبدأت مراحل الاطمئنان، لم يقل لها هذه المرة أحبك ولم تقلها له؛ إذ لم يعد ما بينهما كلمة تُقال، بل استحالت المعاني إلى أعمال وإدراكات يُمليها الحب المصفى.

كانت أفكار كهذه تدور في عقل حمزة وهو ينظر بشغف، ويتابع حركات فوزية وتقلصات وجهها وطريقتها في إعادة النظام إلى شعرها حين توقفت فجأة عن كل ما تفعله وعضت شفتها السفلى، فسألها: مالك؟

– أتاريني بقول م الصبح أنا ناسية ايه؟ يا سلام على مخي! تصوَّر النمرة ردت النهارده ونسيت أقول لك!

واعتدل حمزة في الحال وكأن نافورة نشاط ضخمة قد تفجرت فيه، وسألها: صحيح؟ طلبتيها إمتى؟ وقال لك ايه؟ صحيح ردت؟ ازاي ساكتة م الصبح؟ ازاي تنسي؟ دي مسألة مهمة جِدًّا، ازاي تنسي؟ قال لك إيه بالظبط؟

– الأول كان متشكك، فلما قلت له أنا خطيبتك اداني ميعاد النهارده الساعة واحدة قدام محطة السيدة، معلش، مش عارفة نسيتها ازاي!

ونظر في ساعته بلهفة، كانت الثانية عشرة والثلث، واندفع يرتدي ثيابه على عجل وقلبه يدق بالحماس؛ إذ قطعًا سيعاود صلته بلجنة الكفاح المسلح عن طريق زكريا، وسألها وهو منهمك في ارتداء الجورب: وما خلتيش الميعاد بالليل ليه؟

– حاولت، قال لي إنه لازم يسافر النهاردة الساعة تلاتة، وإن دي هي الفرصة الوحيدة.

– يسافر فين؟

– ما اعرفش، ما سألتوش.

وسكتت فوزية قليلًا ثُمَّ قالت: آه، يا سلام على مخي! وقال لي حاجة كمان، قال لي إنك تقطع صلتك حالًا برشدي؛ لأنه ثبت انه بيشتغل دلوقتي مع البوليس السياسي.

– إيه! رشدي؟

– آه، دانا فضلت طول السكة اقول رشدي، رشدي، رشدي، عشان ما انساش اسمه.

وفي ومضة اختلط وجه رشدي الدائم الاحتقان المنتفخ بالسمنة، وعيناه الصغيرتان المدسوستان في ملامحه، وابتساماته الخجلة يوم ذهب إليه في العباسية ومعه حقيبة الديناميت واعتذر وتحجج بالأولاد، اختلط هذا بأيام أن كان يعمل معهم جنبًا إلى جنب في اللجنة، ولسببٍ ما أحس حمزة بالارتياح حين علم بتلك النهاية، كان لا يرتاح أبدًا إلى شك رشدي في الآخرين، وإلى كلماته الضخمة الجوفاء، وحبه اللزج المفرط لأولاده حتى إنه كان يحمل معه صورهم دائمًا ويُطلع عليها كل من يصادفه، ولا يتركه إلا بعد أن ينتزع منه كلمة إعجاب أو صيحة ثناء، أجل! إنه الآن مستريح؛ فمن المستحسن دائمًا أن نمدَّ الخطوط إلى نهاياتها.

وقال لفوزية حين انتهى من ارتداء ثيابه: أنا ماشي، حكاية رشدي دي حمست الواحد اكتر، لازم تروحي لسعد، بعد شوية، قهوة ماتاتيا في العتبة، ورا الأوبرا، الميعاد هنا الساعة تلاتة ونص، ما تنسيش!

– ما تخافش، بس الدنيا نهار وحاسب انت على نفسك، فاهمني ازاي؟

وخرجت «فاهمني ازاي» من فمها حلوة لذيذة كمذاق الآيس كريم في قيظ يونيو.

وحين غادر المدفن كان أنفه لا يزال يتنفس رائحة شعرها، وكان يحس بلوعة لفراقها مع أنه كان متأكدًا أنه سيلقاها بعد ساعات.

وكان قد ذهب ما بينهما من غربة وحلَّت الألفة والتعود، وأصبحت في نظره عادة حيوية متجددة لا يستطيع عنها استغناءً أو فراقًا.

١٩

وكان وهو في طريقه إلى الميعاد يرى في وجوه الناس ربيعًا قبل الأوان، وجدية في العمل، وبريق الأمل الذي يصاحب العمل. كان الناس قد أفاقوا من صدمة الحريق ورفعوا الرءوس في خوف أول الأمر وبدءوا يتهامسون بالشائعات، ثُمَّ علا الهمس حين تحققت بعض الشائعات وأصبحت حديثًا يُقال، وعرف الناس من الحارق ومن الضارب، والناس حين يحددون أعداءهم لا يترددون، وبدءوا يسخرون وانطلقت النكات بادئة برأس الرمح ووزرائه ولم تترك حتى الذيول. وشد الأعداء من قبضتهم ليغلقوا الأفواه، ولكن كانت السخرية قد أضاعت رهبتهم وهوَّنت من شأنهم، فقابل الناس الضغط بإحساسهم أن لا بد من التقدم خطوات أُخَر، وشعر الأعداء بالخطر، وانهالت ضرباتهم هوجاء ومع كل ضربة يزداد تجمُّع الناس ويتعلمون ويلتفون حول المضروبين، فيخاف الضاربون ويزداد البطش، فتقترب النهاية.

وكان في نفس حمزة إشراق لا تصنعه شمس؛ ستتكون لجنة أخرى، وسيلقى زكريا بعد حين ويعاود العمل الرائع الشريف من أجل الناس، ستعود المواعيد واللقاءات والبحث المضني وراء قضية الشعب، عشرات من الأشياء لا بد أن يخبرها لزكريا وعشرات لا بد أن يسأل عنها، وزوجة حسن محمد حسن وأولاده، ونقود السلاح التي لديه، والدبلة، دبلتين، وبدير لا بد من الذهاب إليه في ميعاد قريب، العدو قوي وسريع؛ سيكونون أقوى وأسرع، في الماضي أخطاء لن تعود، والمستقبل أكيد. النصر لم يعد أملًا لقد أصبح واجبًا.

ووصل إلى الشارع المجاور لخط حلوان، ومع كل ما كان يفكر فيه لم يفُتْه أن يلحظ أن هناك أناسًا يتسكعون حول الخط ويبدو ألا عمل لهم، ولم يطمئن وفكر في أن يرجع ولكنه عدلَ، فلا بد من مقابلة زكريا، وكل ما يحس به مجرد شكوك، أمَّا ميعاده مع زكريا فيقين، فهل يأخذ بالشكوك ويترك اليقين؟

وقبل أن يصل إلى المحطة دخل في حارة جانبية وخرج في شارع الخليج، ثُمَّ مشى بحذر في الشارع الواسع الذي يصل المحطة بالخليج، ولم يكن لحظتها ميعاد قطارات، فكان الشارع خاويًا، ورأى من بعيد وفي المكان الذي أمام المحطة مباشرةً شابًّا لم يشكَّ لحظة واحدة في أنه مخبر؛ فقد كان يرتدي جلبابًا واسعًا فضفاضًا وكوفية ضخمة، وتوقَّف وقرر أن يُلغي الميعاد، ولكنه قرر أيضًا أن ينتظر من بعيد ليحذِّر زكريا حين يجيء، وأثناء انتظاره راح يراقب الرجل الواقف الذي كان يروح ويجيء ويتلفت وكأنما هو الآخر على ميعاد، وخُيِّلَ لحمزة أنه رأى وجهه في مكان ما، ونظر إليه مرات أخرى ليتأكد، واكتشف مقهقهًا أن الشاب لم يكن سوى زكريا بلحمه ودمه، وقد تنكَّر في زيِّه ذاك.

وأسرع حمزة إليه، وحين أصبح على قيد خطوات منه عرَفه زكريا وتقدم نحوه، وتشابكت أيديهما في سلام قوي اقشعرَّ له جسد حمزة ورفرف بالفرحة، وقبل أن تترك يده زكريا كانت أيد كثيرة مفاجئة قد أطبقت عليهما بعنف، ومرت المفاجأة مرورًا خاطفًا.

وتلفَّت حمزة حوله فرأى نفس الأشخاص الذين مهما تغيروا فلا بد أن تقرأ العين على وجوههم كلمة مخبرين مكتوبة بحروف من جلابيب وطرابيش وسحنات.

وكان حمزة في كل مرة تحيطه أيدٍ مثل تلك يحس بنوع من الارتياح، وكأن مهمته قد انتهت وأصبح عليه أن يستريح، أو كأن القبض عليه حفلة تُتَوَّج فيها بطولته ويُعْتَرف له فيها بالجميل، ولكنه هذه المرة أحس بالأيدي كنصل حاد يهوي عليه فيبتره وينتزعه بعيدًا عن معركة الحياة والموت التي يقودها في سبيل الإنسان، وبعيدًا عن فوزية وكل ما يمت بصلة إلى الحياة.

وأحس بأصابع من حديد تدلف إلى زوره وتخنقه.

ونظر إلى زكريا وكأنما كان زكريا هو الآخر يترقب نظرته، ولم يتحدثا بكلمة، وفي ذلك الوقت كانت الأيدي تمسك بهما ريثما تحضر العربة التي ستقلُّهم أجمعين، والناس قد بدأ المشهد يسترعي انتباههم ويتجمعون، وتبين حمزة أن الأيدي القابضة عليهما تمت إلى أربعة: أفندي، وثلاثة بطواقي.

كانت المفاجأة لا بد منها.

ونظر إلى زكريا وقالت عينه شيئًا ثُمَّ توقفت، ولمعت فجأة تقول، الآن.

وتوالت الأحداث مسرعة.

في نفس اللحظة هوى حمزة وزكريا إلى الأرض فتخلصا من الأيدي التي شلتها سرعة الحركة، ثُمَّ اندفع كل منهما في اتجاه، وقبل أن يتحرك حمزة نالته صفعة قوية تريد عرقلته ولم تعرقله، فقط فجرت الدم من أنفه، ولكنه مرق بقوة اندفاع لا يمكن وقفها.

واختار الحارة الموصلة إلى شارع «الخليج»، لم تكن في رأسه وجهة معينة، كان يريد أن يجري ويجري ويبتعد بكل ما يستطيع عن ذلك المكان، وكانت أهم الأصوات التي تتلقفها أذناه هي أصوات أحذية مطارديه، لقد شعر بهم، لم يكونوا كثيرين، لقد نجح هو وزكريا إذن في جعلهم يترددون وينقسمون.

وفوجئ بأصواتهم تعلو وراءه: امسك حرامي، حلق.

ولم يكن في الحارة أناس عديدون، كانوا في شغل عنه بالدنيا والدكاكين والزبائن، ولكنهم حين كانوا يرونه قادمًا يلهث ورجال بملابس عادية يجرون وراءه وأصواتهم ترتفع من خلفه: امسك حرامي، كان يرى حينئذٍ في عيون الناس ترقُّبًا وتحفُّزًا، وكان لديه شبه يقين أن أحدهم سيجد بعد قليل في نفسه الشجاعة الكافية ويعترض طريقه ويمسكه؛ ولذلك انطلق صوته يجأر: أنا مش حرامي، أنا وطني.

وانفلت إلى حارة أخرى قبل أن يذهب تحفز الناس وقبل أن ينقضُّوا عليه، وسمع طرفًا من كلمات قيلت وراءه: صهيوني.

– بال شوفي.

– امسك حرامي.

– مش باين عليه.

وجد نفسه في شبكة غريبة من الحواري المتداخلة التي تفضي كل منها إلى الأخرى، أرضها حفر وطين، وأبوابها متقاربة، وحركة بطيئة تكاد تموت وهو المندفع وحده كالقذيفة، إلى أين؟ إلى أين؟ وأين المكان الذي يخفيه؟ أين المكان الخالي من الناس الذي يستطيع أن يأوي إليه بلا واحد يعترضه ويسد عليه الطريق ويقدمه متطوعًا للبوليس؟

واستمات يجري واضعًا كل ما يستطيع من قوة في ساقيه، ومع هذا كان يُخيَّلُ إليه أنه لا يتحرك من مكانه، أو أنه يجري ويدفع أمامه كتلًا ثقيلةً مظلمةً من حديد غير مرئي، ولم يكن يعرف إلى أين، كل ما يراه عيون ساهية لاهية لا تتفتح على آخرها إلا حين يجاورها، ولا يتحرك صاحبها إلا حين يكون قد ابتعد ويكون صوت مطارديه قد اقترب قائلًا: امسك حرامي.

فقط لو يعرف أين تقوده قدماه، خُيِّلَ إليه أنه يطرق أرضًا غريبةً، وثمة إحساس يتحرك حركات ملتوية رفيعة في نفسه ويقول: إنه ليس على ما يرام، وإن شيئًا ينقصه.

– امسكوه، حلق يا أخينا، حرامي، حرامي.

جاءه الصوت هذه المرة قريبًا، حتى خاله وراءه تمامًا، بل خُيِّل إليه أن الكلمات تخرج من رأسه هو، ووجد نفسه دون وعي يبتسم، إن مطارديه يقولون للناس حرامي لينتبه إليه الناس حتى يسرقوهم هم، ما ألطفها مسرحية، سيقولونها ذات يوم لفوزية.

لا بد من مكان يختفي فيه، أممكن أن يدخل في أحد الأبواب الكثيرة التي تمر أمامه؟ فقط لو تطول المسافة بينه وبينهم دقيقة واحدة كان يستطيع التفكير، إنه الآن لا يفكر ولا يرى أنه يجري، ويجري تقوده غريزة، وتقوده الجدران؛ الجدران المتماسكة المتراصة هي التي تحدد طريقه، أين هو الآن؟ إن هذه المباني لا تمت إلى السيدة ولا إلى المدبح ولا إلى زين العابدين، إنها غريبة وكأنه يجري في قرية من قرى الهند، دخل حارة ليس فيها أحد، خاوية إلا من عربة من عربات النظافة ذات العجل الكبير الواسع، العربة بعيدة عنه، إنه يخاف أن يصطدم بها، هناك قوة تجذبه إليها، حالًا ستشطره، فليبتعد، ليتجنبها بأقصى ما يستطيع، ولا يستطيع، جدران على اليمين، وجدران على اليسار، وعربة كبيرة هائلة الحجم تسد عليه الطريق، لا تدع له منفذًا، كيف حدث هذا؟ كيف؟ لقد مرت بجواره ولم تقتله، من أين جاء الفراغ الذي مرق منه؟ الحارة نهايتها تبدو قريبة، إنه يرى أناسًا كثيرين متجمعين عند نهايتها، إنهم قطعًا يتربصون به، وينتظرونه: أنا وطني أنا وطني! وتلفَّت خلفه، مطاردوه قد تكاثروا، أصبحوا عشرات، لا يمكنه التوقف، ولكن إلى أين؟ لا بد من مكان خالٍ، مكان أمين، بعيدًا عن الناس، يخفيه تمامًا، ولا يدع عينًا تراه.

إنه لا يحس بالتعب، ولا بالراحة، زكريا لديه فرص أوسع، إنه عدَّاء سريع، حتى لو أمسكوه سيكون زكريا قد أفلت ولن تموت اللجنة، لن تموت، الناس الذين عند نهاية الحارة كثيرون، إنه يقترب منهم في اندفاع أهوج، إنه لا يستطيع أن يمنع اندفاعه أو يقلل من سرعته، إنه يقترب جِدًّا من الناس، الأصوات تنبعث من خلفه امسك حرامي، عليه أن ينبه المتجمعين أمامه حتى يتركوه يمر وصرخ: أنا وطني أنا وطني!

وحتى لم يسمع الكلمات وهي تغادر فمه؛ فقد ضاع صوته تمامًا حين وجد نفسه في اللحظة التالية في شارع السد وفي ضجته الهائلة التي تتضاعف أيام الجُمع، ولدهشته كان الناس الذين خُيِّلَ إليه أنهم يترقبونه كانوا هم المزدحمين في الشارع لا أكثر ولا أقل، الرائجين الغادين الذين يتقابلون ويصطدمون ويتلاحمون كالعادة، وكان عليه أن يجري حتى لا يدركه المطاردون مخترقًا الصفوف المتكاثفة من الناس، لقد هبطت سرعته جِدًّا، أصبح لا يكاد يستطيع نقل قدمَيْه أو المسير، فقط المسير، المطاردون إذن قابضون عليه لا محالة.

وكان أخوف ما يخافه حمزة إذا وجد نفسه في ازدحامٍ ما أن تسقط نظارته، ولهذا وبحركة لا إرادية رفع يده إلى نفسه يمسك بها النظارة، ورُوِّعَ بأنه لا يجدها، لا على أنفه ولا على أذنَيْه، كيف حدث هذا؟ وأين سقطت؟ لا بد أنها وقعت أثناء محاولة فراره، لا بد أنها دُشْدِشَت تمامًا حين سقطت.

الله! وكيف كان يجري إذن؟ كيف استطاع قطع كل تلك المسافة دون أن يصطدم أو يتعثر أو يسقط؟ كيف؟ ثُمَّ كيف يمشي الآن بغيرها؟ إنه فعلًا يرى، لا يرى الأشياء والناس بكل دقائقها ولكنه يرى والرؤية واضحة.

وتطلع إلى الوراء — وكان قد تعمق داخل الازدحام — ليقدر المسافة الباقية للقبض عليه، ولم يرَ إلا قفًا ضخمًا يحجب عنه الرؤية، وقد سد الثغرة التي ناضل بقوة حتى اخترقها منذ هنيهة، بل لحمها القفا وكأنه «قصدير» بشري، ومال حمزة إلى اليمين عله يتمكن من التطلع ولكن كانت تسد اليمين امرأة تحمل ابنها فوق كتفها، وحاول أن يتطلع من اليسار ولكنه وجده مغلقًا تمامًا بشاب يحمل فوق رأسه قفص عيش طابونة، وصبي جزار حاملًا فخذة كندوز، ومدخنة فرن بطاطة فوق عربة يد، ورأس حصان يحاور الذباب ويداوره، ومقطف لا يرى من يحمله وكأنه معلق بين السماء والأرض.

الله! عليه أن يحدد مكانه بالضبط من مطارديه ليحدد سرعته وإلا ضاع، وحاول أن يزاحم ليصل إلى مكان غير مزدحم يستطيع منه الرؤية ولكنه لم يستطع حتى التحرك، بل وجد نفسه مسوقًا رغمًا عنه بحركة جيرانه وجيران جيرانه إلى التحرك قدمًا إلى الأمام.

وأصابه اليأس والضيق، ولم يكن في مقدوره أن يفعل شيئًا آخر ليحدد مكانه إلا أن يصيخ بأذنَيْه ليسمع نداءهم المعهود: امسك حرامي، وأصاخ آذانه ولكنه سمع هديرًا هائلًا من: معسلة قوي يا بطاطة، إمساكية السنة الجديدة، امسك شيش بيش، اسمع يا جدع، أمساء النجف، عسل يا تين، زي صدر البكارى يا رمان، يا جدع دانا اللي شاري الحلو وبابيعه، اوعى رجلك، أيها الناس اتقوا الله في أنفسكم واذكروا يومًا عبوسًا قمطريرًا، يا أم هاشم، امشي يا ابن اﻟ… اسمع يا جدع وصلي على الحبيب، دا الخواجة فلس وباع نصيبه …

وبدا له الأمر مستحيلًا، مستحيل أن يكون المكان الذي ظل يبحث عنه ليهرب من مطارديه ومن الناس الذين قد يتطوعون لإمساكه، أن يكون هذا المكان الأمين هو قلب الناس أنفسهم.

وراح يتطلع إلى الوراء مرات ليتأكد، ولم يجد سوى شمس وعرق وعمم وعصي وأكتاف وكوفيات وطرابيش، وشعور سوداء وبيضاء وحمراء بالحناء، ووجوه سمر وخمرية، وحواجب رفيعة منمقة، وبراقع وقصبات براقع، وتجمعات حول بائع الكينا المقوية للدم والأعصاب، وعمال ورشة يدفعون عربة قديمة وعربجية يبصقون ويتنخمون ويلعنون، وأحصنة لها أجراس تدق، وعربات تجعجع، ورائحة سمك مقلي وطعمية، وعطارة وماني فاتورة، وجعير، ولبد، وخناقات وقافيات، وعلى الجدران: عاش الكفاح المسلح، التحرر طريق السلام، لاعبو فريق الأسد المرعب، ومناطيل صفراء، وطواقي صوف، و«قصرية» فل بارزة من شباك، وألف أفندي مثله بنظارات وبلا نظارات، وأولاد بلد، وطلبة، وملاءات تنبعج بأرداف، وتضيق عند أوساط، وتُظهر سيقان و«عفاريت» زرقاء وصفراء وكبار وصغار، وأطفال روضة عائدات من المدارس وفي شعورهن أشرطة حمراء، وناس كثيرين، كثيرين من أمامه، ومن خلفه، وعلى جانبَيْه، وفي كل مكان.

•••

وما كاد يضع قدمه على باب المدفن حتى قابله صياح سعد: شفت بقى مين اللي فينا بيتأخر؟ بشرفي أنا هنا من تلاتة وربع، دا مش كلام، دا لعب، دا هزار، دا مش شغل، إيه اللي أخرك؟ كنت فين؟ وكمان جاي من غير نضارة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤