الكراسة الحمراء

«… أريد أن أكتب! نعم، لا بدَّ أن أكتب كلَّ ما عندي! إن نفسي غارقة في أمواجٍ من الانفعالات، لا يكفي في تسكينها أن أُفضي ببعضها إلى صديقة … لا بد أن أتكلم لأزيح عن نفسي ما يملؤها، ويكاد يخنقها من ضيقٍ ويأسٍ، وفرحٍ وأملٍ! إن إحساسي بضرورة الكتابة شيء لم يسبق لي أن عرفته أو فهمت له معنًى، ولكنها اليوم رغبة لا تُقاوم، أحسُّها في كلِّ كياني … أريد أن أعترف بكل ما خالجني، ويخالجني من أشياء قد تكون غريبة مخيفة، لكن مِمَّ أخاف ما دمتُ لن أُطلع مخلوقًا على ما أسطر ها هنا؟!

أليس لي حتى حق الهمس بما أحسُّ بين طيَّات الورق؟ سأقصُّ كلَّ ما حدث بالصراحة والدقة … وسأقول ما أعتقد، بالحق والصدق، ولن أدافع عن نفسي، أو أحاول أن ألتمس لتصرفاتي الأعذار … فما أنا في حاجة إلى ذلك في هذه الصفحات الخاصة. لستُ كذلك أريد هنا أن أدوِّن مذكراتٍ، أو يومياتٍ مرتَّبة مؤرخة، فهذا شيء لا يعني امرأة مثلي … إنما هذه الصفحات ليست أكثر من صيحات! نعم! كلُّ ما أريده هنا هو أن أصيحَ بملْءِ فمي … أصيح بدون أن يسمعني أحد … في مثل هذا الجو الذي أعيش فيه، لا بد أن تُعطى لي هذه الحرية على الأقل! آه … يا لي من شهيدة!

هذا المساء أيضًا أتحمَّل مشهدًا جديدًا من مشاهد الاضطهاد! إنها عمتي أوفدَتها أسرتي اليوم سفيرة إليَّ لتُلقي عليَّ دروسًا في الأخلاق! كلا، إن الأمر حقًّا أصبح لا يُطاق … وإنه لمن المستحيل عليَّ معالجة هذا الموقف الذي يسوء من يومٍ إلى يومٍ … وإني لأرى الآن جليًّا أنه لو تكرر هذا المساء — مرتين أو ثلاثًا — فإني لن أحجِم عن ترك كل شيء وأهرب، أو أقدِم على عملٍ ذي خطر! فكل شيء مباح لامرأة مُهانة على النحو الذي وقع لي اليوم! إني أحس أني مقيَّدة بالسلاسل! كأني كلب! على أن الكلب له على الأقل حق النباح، أما أنا فلا أستطيع الصياح … إذ لمن أصيح؟! هل أصيح للنجوم شاكية لها بأني أختنق في السجن الذهبي، الذي أُحاط فيه بسجَّانين، لا يلقون في نفسي غير الرعب والهلع؟ إن حياتي الصغيرة لتثور، إنها لترتعد بكل قواها المكتوفة! نعم … إني لأبحث عن مَثَلي الأعلى في موضعٍ مختلفٍ كل الاختلاف عن ذلك الذي صنعوه لي صنعًا!

إن حاجتي إلى حياة حرَّة كانت دائمًا حلمي المسيطر على نفسي الناشئة، ومع ذلك فقد نشأت في أسرة كبيرة عديدة الأفراد، كلهم متفق على مضايقتي إلى أقصى ما يستطيع، وكلهم يحاول أن يبحث في مجرد نظراتي، وأن ينقب في أعماق أفكاري؛ ليرى إذا كان يجوز لي أو لا يجوز أن أتصرف هذا التصرف أو ذاك! إنهم لا يكلُّون ولا يتعبون من مراقبتي وملاحظتي … لا أريد أن أقول إنهم شريرون، ولكني أريد فقط أن أقول: إني لا أتفق معهم أبدًا في الأفكار، وإن طريقة تفكيري وفهمي للأشياء تختلف عن طريقتهم على الإطلاق! إنه لَشقاء لي ولهم! إنها لَمصيبة من تلك المصائب التي تأتي بها الحياة فلا نملك لها دفعًا، ولا نستطيع لها تعليلًا! إني لست عاقلة جدًّا! أعرف ذلك، ولكنهم هم أيضًا ليسوا إلا خلاصة حقيقية لكل تلك الفضائل السخيفة المصطلَح عليها … إن ما يسمونه «العائلة» شيء مؤثر حقًّا … وشيء طيب، ولكنه شيء «يضايق»!

اليوم كان النزاع يدور حول «المرضعة»؛ فقد قيل إنها امرأة ذات سير معوج، وقد جعلت عمتي بالطبع تسرد عليَّ الأدلة والبراهين والحكم والمواعظ! وأنا أصغي إلى نصائحها غير الجذابة في هدوئي المعتاد، ولم أحاول حتى أن أغضب أو أتجهَّم! فلقد كان «قرفي» بلغ حدًّا زهَّدني في أي رد أو كلام … ولكني اكتفيت بأن قلت لها في ابتسامة مصطنعة: إني في الوقت الحاضر لا أرى في سلوك المرضعة المعوج خطرًا على طفلتي التي لم تبلغ العامين!

آه! إني لأكاد أجنُّ في عزلتي النفسية … لا شيء يخفِّف من شدتها أو يلطِّف من وقعها! آه … الحياة … الحياة … أريد أن أذهب إلى حيث تدفعني أهوائي وتقودني رغباتي! أريد أن أحلق في فضاء المغامرة! لا أن أقعد هنا كعصفورٍ كسروا جناحه! نعم … إني عَطْشَى لأن أُصغي إلى رجل … إلى رجال يقولون لي إني جميلة! توَّاقة إلى أن أرتجف تحت لمسات أيديهم المداعبة، وأستمع إلى رجائهم المنبعث من قلوب محترقة … فأتأبَّى عليهم وأتمنَّع! أو أسلم بجنون، وأتصرف في كياني وقلبي وجسدي! أمنح نفسي، أو أسترد ما منحت! وأهب جسمي، وأرجع في الهبة! أريد أن أعرف لعب الحب … نعم، أنا أيضًا أريد أن أحب، وأن أكون محبوبة! أريد أن يداعبني ويلاعبني رجل يحبني حبَّ الجنون! ولا بأس عندي بعد ذلك من أن يكون مصيري مصير الزهرة التي تُنتزع — وقد ذبلت — من صدر الثوب الأنيق! الحب! … الحب!

آه … لَكَم أقاسي في سجني هذا من داءٍ لا وصف له ولا دواء! حقًّا، إني أعلم عن نفسي أني أصبحت لا أُطاق، بأزمات صمتي وحالات كآبتي. والواقع أنه ما من شيء حتى ولا أبرع «نكتة» تستطيع أن تُدخل على قلبي السرور، أو تنتزعني على الأقل من ذلك الحزن العصبي الذي يخيم على نفسي … أنا المرأة الشابة التي في الخامسة والعشرين، الجميلة كما يقولون … التي تعيش إلى جانب زوج ذي مركز راسخ مستقر … لا أظن من المفيد توجيه اللوم إلى آرائي … إني معترفة بأني قد أكون على خطأ … ولكن ثِقوا أنه من الخير أن أُترَك في حالتي هذه … فهي أفضل من إرغامي على الخروج منها؛ لأني إن هوجمت في معقلي الأخير هذا، فإني أخشى أن أفقد توازني، أو أن يخرج من يدي زمام الأمر!

حقًّا إنه لَجَوٌّ لا أستطيع التنفس فيه … الجو الذي أعيش فيه، يحف بي ظلم هؤلاء الناس! من الإنصاف أن أزعم قليلًا أني على حقٍّ في هربي من هذا المحيط الجاف الجامد، وأني أحسنت صُنعًا بالْتجائي إلى مخدعي، محاولةً نسيانَ تلك المناقشات الحمقاء … مُفضِّلةً الحديثَ مع نفسي في حجرتي، على الحديث مع عمتي العانس، في أمثال ما عرضت له هذا المساء! نعم إن لي من العمر خمسًا وعشرين سنة … ولكن هل كُتب عليَّ أن أضيِّع حياتي كلها في أشباه تلك اللحظات التعسة؟!

لقد مضى نحو ثلاث سنوات وأنا زوجة رجل كامل الأخلاق، لا عيب فيه، مستقيم استقامة جديرة بأن تُعطَى مثلًا لشبيبة الجيل الحديث. وإني بالضرورة لا أستطيع أن أخالط من الأصدقاء غير أولئك الذين يسمح لي زوجي بمخالطتهم، وكلهم من طرازه وعلى صورته. على أنه ليس في المقدور أن يتمَّ بيني وبين زوجي حديث دون أن تصدمنا أبسط العبارات، وترغمنا على السكوت فجأة؛ إذ نلحظ في الحال أننا في سبيل أن نضلَّ، وأن أقدامنا إنما تسعى إلى حيث تختلف طبيعة كلٍّ منا ذلك الاختلاف الواضح!

نعم! ما من موضوعٍ نستطيع طَرْقَه معًا؛ فكل شيء يجب أن تلاحظ فيه قيود الزوجية وواجبات الوفاء الزوجي! ما أشقَّ العيشَ هكذا! كلا … ليس في بيتِنا رحابة الصدر، وسماحة النفس! ما من أحدٍ هنا يفهم عاطفة ملتهبة، أو يغفر زلة، أو يتغاضى عن جنون! على النقيض: كل شيء هنا يجب أن يفوح برائحة «الشرف» و«الحياء» و«العفة» … إلخ! أي رائحة البِلَى والقِدم والعوائد العتيقة والحجرات المغلَقة! أنا التي اعتقدت أنها ستنجو بنفسها، وتُعتَق من كل هذا بالزواج؟! إني لأتساءل الآن: أي الحياتَين أَقْبَضُ للنفس وأسخف؟! لعلَّ الفرق بينهما أنه، فيما سبق، كانت لي فسحة الأمل على الأقل، ولم يكن عليَّ عبء الزوج!

آه … إني وحيدة … لَكَم كان ينبغي أن يكون بين الزوج وزوجته ذلك الحب العنيف الذي لا طعم للحياة بدونه، لا ذلك الحب الفاتر الذي لا فرق بينه وبين الصداقة الهادئة، لَكَم كنت أطمح إلى تذوق طعم السعادة في هذا الاتصال الوثيق، الذي يسمونه «الزواج»، وأعرف ذلك الشعور الذي تحسُّه الجارية المعبودة من مولاها، وأبهر إعجابًا بذلك الرفيق لحياتي، الذي جعلته المقادير من نصيبي، فأرى كياني كله قد أضاء بما انعكس عليَّ من أشعة قوته، لطالما حلمتُ وتمنيتُ أن أحب حبًّا جنونيًّا من كلِّ قلبي! حبًّا يُفقدني رشدي وصوابي! دون أن يخطر ببالي البحث عن سبب هذا التفاني العارم، أو سر ذلك السحر الذي يمكِّن ذلك الحبيب المجهول من أن يجعل مني تلك العاشقة المفتونة الممنونة!

تلك الأحلام الذهبية المشرقة التي طالما شيدتها قد انجلت وأسفرت عن ماذا؟ عن زوجٍ وضعوني تحت وصايته، زوج جاد أكثر مما ينبغي، وها هو ذا أمري قد انتهى إلى ما صرت إليه: مومياء حية! لم يزل أكثر الناس لا يفهمون ما هو «الحب»؟ وإن العواطف القوية تُعَدُّ لديهم من الأشياء الضارة الخطرة، وإنه لا يجوز لنا أن نحب إلا ذلك الزوج الذي قيَّدتنا به الظروف، حتى وإن اختلفنا معه كل الاختلاف في الطبع والمزاج، والميول! إنهم لا يريدون أن يفهموا أن هنالك أنواعًا عدَّة من الحب، وأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بغير أن يحب من أعماق كيانه.

آه! يا لها من حياة … حياة البيت! ما أبهجها حقًّا! في الصباح ماذا أصنع وقد انتهيت من زينتي؟ لا شيء غير الخروج إلى الحوانيت مع بعض الصديقات … أو إلى حديقتنا أو حديقة بعض المعارف لنلعب «التنيس» مع الصديقات. بالطبع، فإن زوجي لم يعُد يجد فراغًا لِلَّعبِ معي أو مع غيري؛ فقد أصبح رجلًا مشغولًا بعمله ككل الأزواج، بعد العام الأول من عقد القران … فإذا لم أخرج، فليس عندي غير التسكُّع الكئيب في أرجاء المنزل! أترك حجرة لأدخل أخرى، إلى أن أستقرَّ آخر الأمر قرب «الراديو»؛ لأُصغي إلى الأغاني، وأجد في آهاتها صدى أحزاني. فإذا لم أجد في الأغاني ما يطربني لجأت إلى القراءة … آه … لقد أدركت … أدركت لماذا كان زوجي يوصيني دائمًا بالكتب، إنه كان يعلم أن السأم ينتظرني، ولكنَّ القليل منها، أجد فيه ما يروي ظمأ نفسي! لقد خاب أملي في الكتب ومؤلفي الكتب!

ويأتي زوجي من عمله متعبًا فنتغدى في صمتٍ، ثم نأوي إلى حجرتنا، أو أتركه يذهب إليها وحده أحيانًا، وأجلس أنا في الصالون أطالع بعض المجلات. فإذا جاء العصر، زارنا بعض أقارب زوجي ومن بينهم ابنة عم له … فتاة سخيفة تخفي — تحت مظهرها الساذج — نفسًا خبيثة شريرة! فنجلس نتحدث في شئون فارغة، ونقصُّ حكايات تافهة مضجِرة، إلى أن يحين وقت العشاء، ثم نأخذ فيما كنا فيه من باطل الأحاديث، أو ننكبُّ على مائدة «الكونكان» أو «البيناكل»، مع بعض المعارف، إلى أن تأتي ساعة النوم فنفترق … كلٌّ إلى فراشه بعد أن نلفظ العبارة المألوفة: «تصبحون على خير …» ونأوي إلى مضاجعنا، فننام ملْءَ جفوننا نومًا طويلًا هادئًا؛ كأنه نوم الأطفال المطيعين البررة!

إني لا أغالي في شيء، تلك هي حياتي، وإني يوم وطَّنت عزمي على أن أسطِّر اعترافاتي قطعت على نفسي العهد ألا أقول غير الصدق، مهما يكن قاسيًا أو شائنًا أو مخجِلًا!

آه! إني سئمتُ! إني ضجرة … وإني لأعذِّب نفسي بمحاولتي تذكُّر لحظة سعيدة مرَّت في تلك السلسلة التي لا تنتهي من أيامي التي سلفت، ولكني الآن قد سئمت … أريد اليوم أن أتنفَّس قليلًا! وأن أتذوَّق سحر الحياة … لكن كيف؟ ومتى؟ إني لا أجرؤ على سؤال الغيب عن مصيري! خشيةَ أن يقول لي إن غدي كأمسي!

أخيرًا … يبدو لي أن السماء قد سمعت زفرات قلبي … وأنها قد أزمعت أن تقف لحظة إلى جانبي … فها هو ذا زوجي يعود اليوم من ديوانه يعلن أنه مسافر غدًا لأعمالٍ مصلحية تقتضي غيبته بضعة أسابيع. لقد مضى عليه أكثر من عام لم يتركني يومًا واحدًا! لقد تنفَّست وهو يعلن إليَّ ذلك الخبر … ولكني كتمتُ ما بي، كي لا يظهر على وجهي الفرح، واتخذت هيئة القلق والكدر، وقلت له كالوالهة: «مسافر؟ يعني ضروري من سفرك يا «محمد»؟»

فقال: «ضرورة! مأمورية مستعجلة في الأقاليم!»

فعبَّرت له عن حزني لمجرد فكرة فراقه، ولو كان ذلك ليومٍ واحدٍ … وقد حرصت على أن تبدو على وجهي مظاهر الضيق والألم!

واليوم الثلاثاء، سأتناول الغداء في منزل والدتي، حيث يجتمع بعض أفراد العائلة، حسب العادة المتَّبعة كلَّ أسبوع، ويا لها من اجتماعات ثقيلة! بل هي سخرة لا بد من تحمُّلها؛ فأقل ما فيها من مشقة وجوب الحيطة والاحتراس في كل كلمة ألفظها؛ خشية أن تُفسَّر أسوأ تفسير … لذلك أفضِّل الصمتَ المطلَق على أن أُتَّهم بالجنون والخروج على قواعد الحشمة والأدب! على أني أحيانًا أوثر أن يتهموني بأي شيء على أن أشترك في تفاهاتهم وأباطيلهم وإشاعاتهم التي يغتابون بها الناس هناك … وهل أستطيع أن أردَّ على أقاويل عمتي، وهي تحكم — برجعيتها وضيق أفقها — على تصرفات صديقتي «مرفت» زوجة «البكباشي حسني» ابن خال زوجي، الذي يعزُّه دون بقية أقاربه؟! هذه الصديقة المسكينة كل جريمتها أنها أرادت أن تعيش، وأن تتنفَّس قليلًا! وأن تحيا كمخلوقٍ حرٍّ متمدِّن … ولكنها — في نظر عمتي وأمثالها من أفراد أسرتي — امرأة ساقطة؛ أفعالها وأحوالها تشبه أفعال وأحوال العاهرات! يا لها من ألفاظ شنيعة، تكاد أذني تثور لسماعها! وغير عمتي واحدة أخرى من قريباتنا لا تنسى أن تضيف: «الحق أن كل شيء في هذه المرأة يدل على الخفة والطيش والاستهتار … حتى العطر الذي تتعطر به!»

ويمضي على هذا النحو كلُّ مَن حضر! فيتبرع بكلمة ينهش بها تلك المرأة الشقية، متخذين منها، ومن مثيلاتها مادةً للحديث والسمر! لقد كنتُ أدرك أنه ما من جدوى في الدفاع عن مثل هذه المرأة في مثل هذه الولائم! فهي طبق ضروري من أطباق المائدة! وإن لحمها ألزم للحاضرين من لحم الضأن أو الإوز، أو الديك الرومي!

لقد كنت أكتم ازدرائي لهؤلاء الناس الذين يشتهون أن يتغذَّوا «بفضائح» الآخرين … حتى الشابات من فتيات الجيل الحديث، ممن أُومِنُ أن آراءهن في ذلك مخالِفة لآراء العجائز المحافِظات، يجدن اللذة عينها في هذا «الطبق»، وهذا اللون من الطعام؛ طبق «الفضيحة» و«الإشاعة» … ما من أحدٍ يلتمس العذر لمن يغتابونهم … فيذكر ضعفهم الإنساني الذي قد يكون هو المسئول أولًا وأخيرًا … لا … فالجميع مع إدراكهم لذلك يستمرئون استغلال هذا الضعف الإنساني لملذاتهم الاجتماعية … لَعَلِّي أنا وحدي التي كانت في قرارة نفسها تلتمس الأعذار لجميع الغوايات والغلطات على هذه الأرض … تاركةً حق الحكم عليها للديَّان وحدَه … الواقع أنَّ في أسرتي — كما في أكثر الأسر — أفرادًا يحبون التظاهر بالغيرة الكاذبة على الأخلاق، ويؤثِّرون على الآخرين من الضعفاء الذين لا يجرءُون على معارضتهم، حتى وإن كانوا في حقيقة الأمر لا يشاركونهم عين الرأي … إني لعلى ثقة بأنهم في غيبتي يحكمون عليَّ أنا أيضًا أشنع الأحكام … ولكن ماذا يهم؟ فليقولوا ما شاءوا … فإني لن آكل معهم هذا اللون من الطعام؛ لأن معدتي لا تقوى على هضمه!

في الساعة الرابعة … أختي الصغرى تسألني بالتليفون عما نصنع اليوم؟ سنذهب الآن عند بنت عمنا … لنلعب قليلًا من «الكونكان» أو «البوكر» أو «البيناكل»، وفي المساء نذهب إلى سينما «…»؛ لنشاهد الفيلم الجديد «هناء الغرام»؛ فقد حجزت لنا أختنا الكبرى «بنوار»، فلا مفر من الذهاب؛ لأن إرادتها عندنا أمرٌ لا بد من طاعته! على أني في الحقيقة أحب «السينما»! وتروقني بعض الأفلام المصرية! إنها على الأقل خير لي من مجالسنا العائلية! ولكن ما الذي يدعوني إلى إضاعة هذا العصر عند بنت عمي، أُصغي إلى بقية الحلقة التي لا تنتهي من «التشنيعات»؟ أما يكفي ما سمعت في الظهر عند والدتي؟! كلا … إني أفضِّل الذهاب مع زوجي ومع زوج أختي الكبرى إلى «ميناهاوس» نتناول الشاي؛ على الاستمرار في تناول الناس بالنميمة في منزل ابنة عمي!

آه … لو كنتُ أعلم ما يخبِّئه لي القدر! لو كنت أعلم تأثير ذهابي يومئذٍ إلى «ميناهاوس» على مجرى حياتي كلها لأحجمت عن الذهاب … إني كلما فكرت في ذلك لا أتمالك عن البكاء بدموعٍ غزار! لا دموع الندم، بل دموع أذرفها على ذكريات، هي — ولا ريب — أجمل وأروع وأغرب ما مرَّ بي في الحياة!

في نحو الخامسة، كنا في طريقنا إلى «ميناهاوس»، وكان الجو لطيفًا فاخترنا مائدة في الحديقة، وأقبل علينا الخادم، فسألني زوجي عمَّا أطلب، ثُم أوصى الخادم بإحضار ما طلبنا، وأدرنا أعيننا لنجيل النظر فيما حولنا، وإذا … وإذا عينان ترنوان إليَّ من مائدة أمامي على نحوٍ هزَّ نفسي! لقد كان صاحب هاتين العينين شابًّا، بديع القسمات، منتظم الملامح، معتدل القد، تبدو عليه أناقة تنمُّ عن سلامة ذوقٍ وحُسن اختيار! فحوَّلتُ في الحال عينَي إلى جهة أخرى … ولكن، على الرغم من ذلك، فإن نظراتنا تقابلت غير مرة … وفي مدى الساعة أو الساعتين لجلوسنا كانت عينا أحدنا تبحثان عن عينَي الآخر دون علمٍ منا، ثم تتجنبانها، ثم تعودان إليهما من جديدٍ! لطالما حاولتُ عبثًا أن أُقصي نظراتي عن نظراته … لقد حدث في نفسي شيء لا يمكن تفسيره … شيء عميق غامض، يجذبني جذبًا إلى ناحيته. وبغير أن يقوم بيننا تعارفٌ شخصي، شعرتُ لفوري أني واقعة تحت تأثيره … وليس هذا بالأمر الشائع الحدوث … فإنه ليصادفنا في حياتنا النسائية رجل عابر يعترض طرقنا، فتتحاذى الأكتاف، وتتقابل النظرات … ولكنها نظرات عدم الاكتراث … ثم يمضي كلٌّ منا لشأنه … بل إنه ليحدث أحيانًا أن نعرف شخصًا بالذات فلا يخطر على بالنا قطُّ أنه سيتخذ في أنفسنا محلًّا، ولا في وجودنا مكانًا … ولكن القضاء يشاء … فإذا الحب قد أوثَقَنا بسلاسله، وإذا نحن نتساءل: كيف وقع هذا؟ ولماذا؟ … فلا نتلقَّى غير إحساسٍ يصعد من أعماق قلوبنا صائحًا: إن هذا الحب كان دائمًا موجودًا.

هذا الشاب ليس عندي بغريبٍ … بل الغريب حقًّا؛ هو هذا الاتفاق أو المصادفة أو القدر الذي وضعني أمامه اليوم وجهًا لوجه … هذا الشاب الأنيق لم يكن غير «…» الممثل الأول، في فيلم «هناء الغرام»، الذي سنشاهده هذه الليلة … ولطالما شاهدته من قبل في أفلام أخرى … ولطالما سمعت بأخباره من الصديقات، وقرأت عنه في المجلات، أعجبت به ذلك الإعجاب العام الشائع الذي يكنُّه له كثير من النساء … ولكني … ولكني، منذ هذا العصر، أحس أن رباطًا خاصًّا وثيقًا يقيدني به!

ذهبنا في المساء إلى سينما «…» ورأيت هذا الشاب على الشاشة خيالًا نابضًا، وأصغيت إلى صوته يتدفق حرارة، خيِّل إليَّ أنها تنساب في مفاصلي، وتشيع في نفسي، وتصعد إلى رأسي، فتكاد تفقدني صوابي … تُرى أهو في الحياة كما هو في الرواية؟ أتراه في الواقع يحادث من يحب من النساء بمثل هذا الحديث العذب وهذه العاطفة الملتهبة التي يحادث بها هذه الممثلة التي تشاركه التمثيل؟ أتراه حقًّا يستطيع أن يحب هكذا؛ كما يتطلَّب دوره في الفيلم أن يحب؟ أتراه ينتصر دائمًا هكذا في ميدان الحقيقة ويفوز بأمتع النساء وأصعبهن منالًا، كما يستطيع ذلك في هذه الروايات؟

ليس في عزمي — مطلقًا — أن أرمي بنفسي في أحضان هذا السيد المفضال الذي لن أراه، ولا شك، بعد اليوم أبدًا، إلا من «بنوار سينما». ولكن لا بأس مع ذلك من مجرد التأمل ومحادثة النفس! لقد قلت في نفسي: إن رجلًا، في هذا الشكل والقد والتأثير، لو عُنيَ بأن يغزو قلب امرأة، لكان من المحتمل أن تخضع هذه المرأة، وإن كانت من أحرص النساء! ترى ماذا يحدث لو أن رجلًا مثل هذا وقف في طريقي، كلَّمني بهذا الصوت الساحر؟! لو أنه أمرني بتلك اللهجة التي تمتزج فيها شبه رقة حالمة، بشبه بهيمية عارمة! إذا أمرني بتلك اللهجة الحلوة الصارمة أن أتبعه، فماذا تراني صانعة؟ إن الجواب على هذا ليس بالشيء الهيِّن، ولا بالأمر اليسير!

لقد شعرتُ تلك الليلة بأني فريسة عواطف شتى حلوة وغريبة، وما استطعت — لحظة — أن أصرف ذهني عن التفكير في هذا الرجل! لقد جثم طيفُه على مخيِّلتي … وجعلت صورته تتبعني بغير انقطاعٍ؛ ذلك أن كلَّ شيء فيه يعجبني؛ نظرته وصوته وإشارته وإيماءته! لقد جعلت أفكر، وأتصور، وأعجب لمتناقضات الحياة! كيف يسمح لرجل ثري بدين مصاب بضغط الدم، أن يرقد في سرير ممثلة شابة جميلة، باعتبار أنه خليلها، مع ما في هذا المنظر من إيذاء لشعور كل ذي فهمٍ وذوقٍ … ولا يسمح لممثل شاب جميل مثل «…» أن ينام في فراش امرأة لطيفة من نساء الأسر؟! آه … إني لأتمنى ذلك مرة! مرة واحدة؛ أن أنام بين ذراعي هذا الرجل … يا لي من خاطئة! إن مجرد هذا التفكير خطيئة! ولكن … أليس الاعتراف بالخطيئة جديرًا ببعض الغفران؟ إن إخراج هذه الخواطر من صدري، ورفعها عن كاهلي، وإلقاءها في هذه الصفحات؛ ليشعرني بإحساس مَن تخفَّف من عبء ثقيل … ولكني مع ذلك لست أعرف ما بي … ولم أستطع الرقاد تلك الليلة، ولم أكفَّ عن المشي في الحجرة، أدور فيها، وأقطعها طولًا وعرضًا … حتى صاح بي زوجي آخر الأمر: «عجبًا لكِ … ألا ترقدين؟ ما لك تدورين هكذا؟»

ما لي؟! هل في إمكاني أن أصارحه بما بي! بي يا سيدي الزوج أني لو وجدت في فراشي رجلًا مثل «…» لكنت قد رقدت منذ زمن طويل!

هنالك شيء لست أفهمه؛ لطالما شُغِفَ الرجال بالممثلات، يغدقون عليهن الإعجاب، ويغرقونهن في البذخ والترف، فلماذا نحن النساء لا نفعل كما يفعلون، فنسبغ عطفنا على الممثلين، ونحوطهم بعنايتنا وحبِّنا؟ يقولون إنها الفضيلة والأخلاق تأبى ذلك علينا! إني لأعجب لهذه الفضائل والأخلاق التي تحلل لهم ما تحرم علينا، وتغفر لهم ما لا تغفره لنا أبدًا نحن النساء الضعيفات!

•••

استيقظت هذا الصباح مبكرة لأجهِّز الحقيبة لزوجي المسافر ضحى اليوم! ثم جاء موعد السفر فودَّع أحدنا الآخر وداعًا روحيًّا طيبًا … ثم أوصاني ببعض حاجات له أقضيها في أثناء غيبته … وذهب!

وها أنا ذي أشعر بجوٍّ من الحرية يغمرني … فتأهبتُ على عَجَلٍ للخروج، وغادرت المنزل بحجة شراء بعض الحاجات من الدكاكين، ولكني بدلًا من ذلك رحت أهيم على وجهي في الشوارع … أملأ عينَي الفرحتَين بألوان المارة وأصناف المعروضات في واجهات الحوانيت … وتعقَّب خطايَ رجل وسيم، وهو يقول: «أما شِيك صحيح!» أنا مستعد أكون تحت تصرفك طول حياتي.

فأسرعت في خطواتي، وأنا أقول له: «وأنا غير مستعدة أن أضيع وقتي مع حضرتك خمس دقائق!»

وأَلْهَتْنِي أمثال هذه الحوادث والمحادثات في أثناء سَيري في الطرقات، إلى أن جاء الظهر، فقادتني قدماي — على الرغم مني — قرب سينما «…» وما استطاعت نفسي أن تقاوم تلك الرغبة الملحَّة في دخول السينما … لقد دفعني إلى ذلك دافعٌ أقوى مني! لقد كان كل أملي هو أن أعرف شيئًا عن هذا الممثل «…» الذي شغل فكري بهذا المقدار!

ولكن ها هنا مفاجأة حياتي التي لا يمكن أن تدانيها مفاجأة! كلا … بل ذلك هو العجب الذي لا يرقى إليه خيال الروائي … فمهما خصبت قريحة الروائيين فإنهم لا يستطيعون الإتيان بمثل مفاجآت الحقيقة! إنهم قلما يصوِّرون الحقيقة؛ لأن الحقيقة أحيانًا أروع خيالًا مما يتوهمون … لو أني قرأت في إحدى القصص ما أرويه مما اتفق لي، لهززت كتفي غير مصدقة ولا مكترثة!

هل أنا أحلم؟ كلا … بل هي الحقيقة … أو قل هي المصادفة، أو القدر، أو النصيب! ما وطئت قدماي عتبة السينما، حتى أبصرت الممثل «…» أمامي واقفًا بجوار شباك التذاكر … فألجمتني عاطفة قوية … أهو وجوده المفاجئ الذي سبَّب لي هذا الاضطراب؟ أعتقد ذلك؛ فلقد ملكت نفسي حتى لا أُشعره بالْتفاتي إليه … وأخرجت سريعًا من حقيبة يدي نقودًا، وحجزت محلًّا لم أُعْنَ باختياره، ولم أَدْرِ أفي حفلة «الماتنيه» هو أم «السواريه»، ثم هممت بالانصراف على عَجَلٍ … وإذا المصادفة مرة أخرى، أو هو القدر! لست أدري ماذا أسمي ذلك الذي يصرِّف أمورنا على نحوٍ مباغتٍ غير متوقع الحدوث … لقد سمعت لدهشتي صوت الممثل «…» الحلو النبرات يناديني بأدبٍ قائلًا: لا مؤاخذة يا هانم … وقعت منك حاجة!

يا لكَ من منطقي بارع أيها الشيطان! ما أمهرك في اختراع الأسباب المعقولة، والمناسبات المقبولة! لقد حدث فعلًا وأنا أخرج النقود من حقيبة يدي أن سقطت منها ورقة، مدوَّن بها الحاجات التي سألني زوجي قضاءها، فالْتقطها الممثل «…» سريعًا وناولني إياها، فرفعت عينَي نحوه فألفيته يحدجني بنظرة غريبة من عينين تلمعان ببريقٍ فجائي كله نشوة! فأحدثت هذه النظرة هزَّة في كل جسمي، فمددت يدي لآخذ الورقة، فإذا يده تلامس يدي، فشعرت بيده ترتجف؛ كأنها مسَّت سلكًا مشبَّعًا بالكهرباء، فأحسستُ في تلك اللحظة كأني ثمِلة بخمرة مجهولة لذيذة، لا تستطيع قوة في الوجود أن تخرجني عن نطاق سحرها … ومع ذلك فقد تجلَّدت، وشكرته وتحركت للانصراف، ولكنه بادر قائلًا: «إني سعيد يا سيدتي لهذه المصادفة التي سمحت بأن ألقاكِ اليوم، فلقد رأيتكِ أمس الأول مرة في حديقة «ميناهاوس»، والآن عندما أبصرتكِ مقبِلة تملَّكني فرح، لا يقاس إلى جانبه أي فرحٍ آخر مهما عظم!»

كان يقول هذا وكأنما كان يتحدث بلساني … فأنا أيضًا تملَّكني لرؤيته مثل هذا الفرح، ولكني لا أستطيع مطلقًا أن أخبره بذلك. لقد كنت أمامه صامتة، ولكني أحسُّ سعادةً، لا قِبَل لي بوصفها، وأنا أسمع هذا الاستعطاف من فمِه، وبصوته الحار المترنم.

ودار بيننا هذا الحديث.

– إني امرأة خجلة، ولست أدري كيف أجيب.

– لا يا سيدتي! إني حقيقة لست أدري من أنت … ولا ماذا تصنعين؟ ولكن الذي أريد أن أعتقده هو ألا يكون من المستحيل أن تفكري فيَّ قليلًا! إني كثير الادعاء! أليس كذلك؟

فأخذت في الضحك … وقلت له: إنه ليتَّفق لي أن أفكِّر في أناس كل فضلهم أنهم يحبسونني في سجن من السأم … أفلا أستطيع أن أفكر أحيانًا في فنان استطاع بمواهبه أن يؤثر في نفسي؟

– لا أحب يا سيدتي أن يتَّجه اهتمامك إلى الفنان وحده … إن لديَّ شيئًا آخر غير هذا … لا تنظري إليَّ فقط بوصفي ممثلًا!

– وكيف تريدَني أن أنظر إليكَ إذن؟

– لا تؤاخذيني! إني أعرف أنك ستحكمين عليَّ حكمًا سيئًا … فهذا حقًّا عمل جنوني … وليس من حقي أن أطلب إليك تصديق رجل لا تعرفينه، ولكني أرجوك أن تثقي في إخلاصي! البارحة عندما رأيتكِ في «ميناهاوس» خُيِّل إليَّ أني أرى رؤيا إلهية … لقد غمرني إحساس بأنه كان ينبغي أن يعرف أحدنا الآخر منذ زمن طويل! إني أعلم أني لا أستحق منكِ هذا العطف … فأنت جميلة يا سيدتي، ولا شكَّ في أنكِ محبوبة … ومدلَّلة من أولئك المحيطين بك، ولكني، مع ذلك، أرجو أن تنظري إليَّ بعين التسامح … وألا ترفضي رجائي!

وهنا رأيت أن الحديث قد وصل إلى مرحلة خطرة … فأنا لست مدرَّبة بعدُ التدريبَ الكافي على هذا النوع من المغازلات الجريئة، حتى أستطيع اجتياز مثل هذه الأحاديث برشاقة ولباقة، دون أن أورِّط نفسي، أو أصدم شعور غيري … ثم إنه، فضلًا عن ذلك، فإن «…» لا يغازل، ولا يداعب، ولا يمزح! فهو جاد فيما أرى! أو على الأقل يبدو لي أنه كذلك؛ فصوته يغمره الشعور الصادق، وعيناه تنطقان برجاء يائس ذليل، وشفتاه تبتسمان ضراعة واسترحامًا، وخياشيمه تضطرب رهبةً وأملًا، ونفسه التي يقدمها كأنها قربان! كل هذا وجد إلى قلبي سبيلًا سهلًا ممهدًا … لعلَّ مَن تقع في يده هذه الصفحات يومًا يتهمني بالطيش وعدم الاتزان، ولكن هل نستطيع دائمًا أن نفسِّر كلَّ شيء بالعقل الرجيح والمنطق السديد؟

فليقف عاذلي موقفي؛ ليرى تلك الكلمات، ويطلع على ما اضطرم به قلبي … ثم ليرمني بعدُ بما يشاء … إني لواثقة بأنه سوف يقف حائرًا مترددًا، قبل أن يصدر في أمري حكمًا!

وقلت أخيرًا للممثِّل «…» وأنا أهمُّ بالصعود إلى السيارة: شكرًا! … و… وداعًا!

فقال وهو ما زال محتفظًا بيدي في يده: لا يا سيدتي! لا تقولي وداعًا … بل إلى لقاء هذا المساء … سأنتظر هنا في حفلة «السواريه» … إنها لقسوة منك شديدة إذا أنت لم تحضري … كوني كريمة … إني مع ذلك — بغير أن أطالبك الآن بجواب — سأنتظرك … وسأحِل نفسي الليلة من كل موعد أو اتفاق … لا تقولي شيئًا … أرجوكِ … دعي لي على الأقل حلاوة الأمل!

في هذه اللحظة أدركت أن الحبَّ قد أمسى سيدي ومولاي … ما من أحد يستطيع أن يدرك قوة تلك الكلمات التي قالها لي! لقد هزمتني، واكتسحتني، وسيطرت عليَّ … وما إنْ جاء المساء حتى كنت قد نسيت كل شيء، حتى تلك الحاجات التي كلَّفني زوجي باقتنائها، لم يكن في رأسي غير فكرة واحدة … لقد كنت على استعدادٍ أن أدوس كل ما يعترض سبيلي إلى رغبتي، ولو كانت الإنسانية جمعاء! لقد شعرت بأني أصبحت جارية رِقًّا لقوة غريبة مسيطرة. كان يجب عليَّ أن أتخذ واحدًا من أمرَين: إما أن أنساه، وإما أن أقع في ذراعيه، وقد وطنت عزمي على اختيار الأمر الثاني! لماذا انتهى بي الأمر إلى هذا الاستسلام! إلى هذه الحمى! إلى هذه التضحية بكل كياني؟ وكيف رضيتُ أن أعرِّض نفسي لأشياء لا أجرؤ على مجرد تصورها؟ ولكن عبثًا أحاول التماس الأسباب … إني منذ ساعات قد تسلط عليَّ حبٌّ أعمى، من العبث أن أقاومه أو أكافح في سبيل الانتصار عليه! إن مجرد ذكر اسم «…» أو مرور طيفه على خاطري كافٍ لأن يُلْقِيَ في رأسي الجنون! لقد أمسى بالنسبة إليَّ رمزًا لِسِحر الحياة الذي طالما تمنيته، وجريت خلفه؛ كما نجري خلف سراب! ليس من السهل أن أجد تعليلًا قويًّا لما سيحدث لي! إني أتهم نفسي بالمسِّ من الشيطان … لقد حاولت أن أخجل من هذا الحب، وأعمل على ازدرائه … ولكن كلما اقتلعت منه شعرة نبتت شعرات … إن القلب ليتخذ مائة طريق يصل بها إلى ما يريد!

لطالما قالوا إن الحياة رواية تُمثَّل … هذا صحيح … ولعلَّ الأصح أنها فيلم سينمائي، قد صنعه القدر في معمله صنعًا … وهيَّأ لكلٍّ منا دَوره الذي لا يتعداه؛ ليعرِضنا بعد ذلك خيالات تتحرك طبقًا لسابق مشيئته، على لوحة المكان تحت أشعة الزمان.

هكذا اعتقدتُ أنَّ القدر هيَّأني لهذا المصير، ولهذا لم أستطع مقاومة تلك الرغبة التي كانت تدفعني إلى لقاء هذا الرجل الخلاب. ولكن كيف الذهاب لِلقائه في دار السينما في حفلة المساء أمام الناس؟ هنا خالجني شيء من الرهبة، ولكن لا ينبغي أن أتفكَّر ولا أن أتدبَّر … لم يعدِ الزمام بيدي، فلأسيرنَّ كما يأمرني قلبي، نحو ذلك المجهول بمفاتنه ومخاطره.

إن «الحب» إذا تراءى لنا، نحن النساء، فإنه ليهبط علينا متدثرًا في أجمل المشاعر وأروع الإحساسات، فينبت — عندئذٍ — في صدورنا إيمان! … نعم … إيمان بأن لنا رسالة … رسالة نِسوية لا تدركها إلا الأنثى! هي أن تعطي السعادة لذلك الذي عرف كيف يعطينا السعادة! هذا الإيمان الذي يمدُّني بالقوة، ويجعلني أصيح قائلة: «إني أحب … إني أحب … وما من عقلٍ أو حَزم أو منطق يحُول بيني بعد الآن وبين الهدف! لا بد لي من بلوغ مأربي … وفي سبيل أن أفوز ﺑ «…» لن أُحْجِمَ — إذا لزم الأمر — عن ارتكاب جريمة.»

آه … لو وقع ما أكتب الآن في أيدي أولئك الغيورين على التقاليد، لثاروا عليَّ، وودُّوا أن ينشبوا أظفارهم في عنقي! ذلك أنهم لن يستطيعوا أبدًا فَهم عواطفي! إن عقولهم الهادئة، ومنطقهم المطمئن ليقف مشدوهًا بليدًا أمام امرأة تعوي وتخور؛ كحيوان جائع، صارخة: إني أحب … أحب … أحب …

ولكن ماذا أعمل لأخفي غيبتي؟! وأنا التي تتبعها عيون الرقباء من كل جانب؟ حتى خدمي يتجسسون عليَّ، وعندي الدليل … ليس من العسير عليَّ أن أجد طريقة … وأنا التي تُرغَم دائمًا على الالتجاء إلى الكذب في كل يوم.

رأيت أن أتصنَّع المرض، وأزعم أنَّ صداعًا شديدًا يضطرني إلى ملازمة حجرتي، والتبكير في النوم … وعلى هذا أخبرت الخدم بأني لن أتناول العشاء، وأن في مقدورهم إذا شاءوا أن يتصرفوا في ليلتهم كما يشتهون، ولقد بادروا — بالطبع — إلى تنفيذ هذا الأمر المحبوب!

على أني فيما بعدُ لم أشغل بالي إلى هذا الحد، بأمر إخفاء سهراتي الليلية!

في نحو التاسعة والنصف كانت الأنوار كلها قد أطفئت … وخيَّم على المنزل صمتٌ عميق.

آه … ما أسعد الإنسان بالحرية! ها أنا ذي حرة أخيرًا! من الدقة أن أتحرى في نفسي، عما إذا كانت تلك اللحظات الأخيرة قد أيقظت عقلي، ونبَّهت ضميري؟ لا أظن ذلك! الأمانة تقتضيني هنا أن أعترف بصراحة، إني لا أذكر مطلقًا أني راجعت نفسي في شيء، أو أني عيرتها بالخجل من تلك الساعات المقبلة التي قد تجرُّ عليَّ في أذيالها العار!

لم يخطر على بالي هذا … لقد كان ما يشغلني أهم من ذلك؛ لقد أردت أن أستجمع كل مواهبي لأجعل نفسي جميلة.

لو أن «…» استطاع أن يراني في تلك اللحظة لشاهد منظرًا عجيبًا رائعًا؛ ذلك منظري وأنا أمام مرآتي؛ كالقطة المتنمرة، هائجة هادئة في الوقت عينه، راضية عصبية، أتهيأ وأتجهز بعناية دقيقة، ورغبة عنيفة في أن أخلب لبَّ هذا الرجل!

واخترت ثوبًا من القطيفة السوداء، أعرف أنه «يَحْبِكُ» جسمي حَبْكًا يُظهِر محاسنه، ويبدي تفاصيله. وهو مع ذلك غاية في البساطة … ولم أُرِدِ التزيُّن بسوارٍ في معصمي، ولا بخاتمٍ في إصبعي، ولا بقرطٍ في أذني، نبذت كل حلية من الحلي، ولقد أردت أن أترك لوجهي وحده ولجسمي! لي أنا وحدي كل الفضل في سلب فؤاد هذا الرجل، وتأملت نفسي مرة أخيرة في المرآة، شدَّت من عزيمتي، وقوَّت من ثقتي بنفسي، غير أني لم أنسَ مع ذلك أن أجرع كأسًا من الويسكي، الذي يُعنى زوجي بتخيُّر أجوده … فأعانتني هذه الكأس على اكتساب تلك الإرادة الثابتة، وتلك البديهة الحاضرة التي يضفيها الكحول على العقول؛ كأنه السحر … ورفعت سماعة التليفون، حتى لا يدق جرسه في غيبتي … ثم … ثم في غير ترددٍ ولا إحجام، خرجت ذاهبة إليه.

في الساعة الحادية عشرة إلا ربعًا وقف بي «التاكسي» أمام دار سينما «…» فدخلت، وكان الفيلم الكبير قد بدأ، فسألت القائم بالباب عن الممثل «…» فأخبرني أنه دخل «الصالة» فقلت: إني أريد مقابلته!

فسألني: «نقول له من؟»

فشعرت بالدم يصعد في وجهي، فهذا سؤال محرج ما كان يحسن أن يُلقى على سيدة في هذا الموقف، ولم يخطر لي قطُّ أن أحدًا سيلقيه عليَّ. ومن الإنصاف والأمانة أن أورد هنا أني حاولت في تلك اللحظة فقط أن أُلقي على نفسي درسًا في الأخلاق، وأن أُثني عزمي على المُضِيِّ فيما أنا فيه، والعدول عن هذا اللقاء.

ولكن ماذا كان في مقدوري أن أفعل؟ إني لم أكن في وعيي، لقد كنت أشبه الأشياء بقشة تتقاذفها الأمواج … كنت قد ألقيت بنفسي في أحضان المغامرة وانتهي الأمر، وما من قوة وقتئذٍ كانت تستطيع الوقوف في وجهي! لقد كنت متأهبة للإقدام على كل شيء من أجله؛ فلتكن الفضيحة! ولتقع المأساة … كل شيء أقبله إلا الرجوع على أعقابي، والعدول عن غرامي … تلك هي التضحية الكبرى التي لن أقبلها من أجل شيء في الوجود … ومع ذلك شعرت بضربات قلبي تشتد وأنا في موقفي هذا!

وكان يجب أن أخرج منه سريعًا، فقلتُ على عجلٍ للقائم بالباب في لهجة جمعت بين عنف الأمر، ولطف الرجاء: «قل له واحدة ست طالبة تقابله!»

ولم يجد ذلك الرجل مناصًا من تنفيذ رغبتي، فذهب واختفى قليلًا ثم عاد وفي أذياله الممثل «…» يكاد يعدو نحوي … إلى أن اقترب مني، فأمسك في الحال بيدي، وجذبني برفقٍ إلى «بنوار خالٍ داخل السينما»! وهو يقول لي بصوته المتدفق بحرارة الفرح: آه يا سيدتي … يا له من فرح؟ أنتِ أنتِ … ها أنتِ ذي أخيرًا … إني لسعيد! وأجلسني في صدر «البنوار» … وتناول يدي، وطبع عليها قبلة، وكان الظلام — لحسن الحظ — مخيمًا، والجمهور مشغولًا بعرض الفيلم … فدار بيننا هذا الحديث في همسٍ كأنه همس الحلم:

– ألا تُدهَش قليلًا لمجيئي؟

– إني كنت أنتظرك، وكان يجب أن تأتي!

– ولكنك لن تتصور معنى مجيئي هذا، ولا ما ينتج عنه؟

– أظن أني أستطيع أن أتصور هذا، وأن أدرك موقفك! ولكن ثقي يا سيدتي العزيزة أنه كان مقدَّرًا لنا أن نتلاقى، وأن يعرف أحدنا الآخر … وأنه مهما نفعل فلن نتجنب هذا القدر … لقد أدركت ذلك؛ كما قلت لك منذ الساعة التي رأيتكِ فيها أول مرة في «ميناهاوس»، ولقد انتظرتك، وكنت واثقًا من أنكِ آتية … انتظرتكِ على الرغم من أني لم أتلقَّ منك جوابًا صريحًا بالمجيء … ولكن كنت أشعر بمصيرنا … هل تَشُكِّين أنتِ في أنه كان ينبغي لنا أن يحب أحدنا الآخر؟

وهنا كاد يثب قلبي من بين جنبي! لقد تحدَّث عن الحب … وامتلأتُ بفرحٍ بلغ مداه حتى كاد ينقلب حزنًا خفيًّا … وعندئذٍ حانت مني الْتفاتة إلى الشاشة، وما كنت منذ دخولي قد أعرتها التفاتًا، فلقد شاهدت الفيلم بالأمس … وما كان يشغلني اليوم أقوى وأروع من أن أُعْنَى بسواه … ولكني رأيت فجأة مشهدًا مثيرًا لحبيبي «…» الجالس إلى جواري في الظلام، يسكب في قلبي الغرام! رأيته وهو يعانق الممثلة الأولى في الفيلم! وقد كانت تتحرك بطيفها على الشاشة بجسمها الممشوق ووجهها الحلو الوضَّاء في ثوبٍ بديعٍ يكشف عن ذراعيها المطوقتين عنق «…» صاحبي. لست أنكر أن الغيرة بدأت تَعَضُّ قلبي! ولقد جعلت أتأمل هذه الممثلة الجميلة، أُصغي إلى حديثها لبطلها الممثل «…» وحديثه هو لها … وألفاظ الحب التي يناغي بها أحدهما الآخر … وتساءلت في أعماق نفسي: لِم لا يكون حديثه لها حقيقيًّا؟! إنهما كانا معًا بالطبع في أثناء صنع الفيلم، وليس بمستعصٍ على مثل هذه الممثلة أن تفوز به، وهن الخبيرات المدرَّبات الإخصائيات بسلب أفئدة الرجال … فهل تستطيع مثلي أن تنافس مثلها في هذا الميدان؟!

وشعرت عندئذٍ بطنينٍ في أذني وجفاف في حلقي … وخيِّل إليَّ أني أصحو وأهبط من حلمٍ لأرتطم فجأة بالحقيقة الخداعة … ها هو ذا الحب يُمثَّل أمامي على الستار الأبيض … فمن أدراني أنه لا يُمثَّل أيضًا إلى جانبي في هذا الظلام؟ إن الممثل هو عين الممثل في الحالين … فأين الحقيقة؟ وأين الرواية؟ أو تراه يميز هو بين الاثنين؟ أيعرف من كان مثله الفاصل بينهما؟ الحب؟ هل يستطيع «…» أن يحبني؟ إن عقلي وإدراكي لقاصران عن تلمُّس الحقيقة في هذا الظلام! كل ما أعرف الآن هو أني أنا أحبه … ولكن أي مدى بيني وبينه؟ وأي فارق بين حياته الصاخبة البراقة، وبين حياتي الهادئة الحبيسة؟ بل أي مكان فسيح — إذا جد الأمر — لآلامٍ كبرى لا بد أن أُعِدَّ لها نفسي … إني منذ الآن أرتعد لمجرد التفكير في كل هذا … أينبغي لي أن أحبَّ رجلًا مثل هذا، مهيَّأ لإلقاء الفتنة وبذر الاضطراب في قلوب النساء! المتعلمة منهنَّ والجاهلة، والخبيرة والبريئة؟! وهل في الإمكان الاحتفاظ بمثله وتقييده؟ آه … التقييد والقيود؟! ها أنا ذي أتحدث الآن عن القيود، وأنا التي أنفقتْ وقتها في لعن قيودها الموضوعة حول عنقها!

مهما يكن من أمرٍ فما أحلى القيود مع «…» وما أسعدني برباطٍ يشدني إليه أبد الدهر! ومررت بيدي على جبيني أفكِّر في كل هذه المغامرة، وخيِّل إليَّ لحظة أن من الحكمة أن أهرب بنفسي الآن، وأن الأجدر بي أن أعود من فوري إلى سجني وحظيرتي.

أأفعل هذا الساعة، وأخبره أني أشعر بدوارٍ وأنصرف؟ أم أنه ينبغي لي أن أمضي في هذا الطريق … هذا الطريق الخطر الذي تكفي فيه زلة قدم صغيرة؛ لأسقط في الهاوية؟! إني على الرغم مني أحسُّ أني فقدت كل إرادة … إني نائمة أو منومة … إن شيطان الغواية كان قد لبس نفسي وجسمي! … أوَلستُ امرأةً مثل الأخريات؟ ضعيفة! طيِّعة! قابلة للتأثير! خاضعة للمؤثرات؟!

لقد قلت في نفسي: ماذا يحدث لو عدلتُ الآن، ورجعت من منتصف الطريق؟

لا شيء سوى عودتي إلى حجرتي الباردة، أَعَضُّ بناني ندمًا على إحجامي وفراري من وجه ذلك المصير المجهول، والخطر المقنع الذي قد يخفي ابتسامة حلوة مع تقطيبه المخيف؟ ما فائدة المقاومة الآن؟ لقد أردتُ هذا الذي حدث ويحدث، وتمنَّيته، ورغبت فيه بكل قواي وكل جوارحي! إني الآن على أعتاب اللذة أو الألم … أوَلم أقل من قبلُ إني أفضِّل العذاب على هذا العدم الذي يكتنف حياتي؟

ومع ذلك، لماذا أفترض حدوث الألم؟! لماذا أقدِّر مسبقًا خيبة الأمل؟ ها هو ذا «…» إلى جانبي ينتظرني! تلك هي الحقيقة التي لا مراء فيها … تلك هي الحقيقة التي تستحق أن أحياها. وبدَّدت هذه الفكرة كل تردُّدي … فأشرق قلبي من جديد بضياء الرجاء … وكان الفيلم قد قارب النهاية دون أن أنتبه أو أصحو من خواطري! فما شعرت إلا ويد «…» تمس يدي بلطفٍ، وصوته يهمس في أذني قائلًا: «يحسن بنا أن ننصرف الآن، إذا شئت، قبل أن تضاء الأنوار!»

ولقد ارتحت لاقتراحه، وأعجبت بلباقته وفطنته! فمما لا شك فيه أني أخشى أن يراني أحد يعرفني، إذا أضيء المكان، فنهضت في الحال … وتناول هو يدي، فقادني إلى باب السينما، وقال: «إني تحت تصرفك … أين تحبين أن نقضي السهرة؟»

فترددت وتمنَّعت برفقٍ قائلة: ولكني في الحقيقة!

فأسرع يقول: «هدية القدر لي … فلن أفرط فيكِ بهذه السهولة! لا … لن أقبل عذرًا! … ولن أُصغي إلى اعتذار! … إنكِ …»

ونظر في معصمه إلى ساعته الأنيقة، وقال: الساعة الآن نصف الليل إلا عشر دقائق، لا بد أنكِ تودِّين أن تأكلي شيئًا … في منزلي طعام خفيف، أرجو أن يعجبك!

وقبل أن يسمع مني جوابًا أشار إلى أحد الواقفين بالباب ليحضر سيارة «تاكسي»! وكان «التاكسي» بالمصادفة على مقربة من الباب، فما لبثت أن تقدمت فأعانني «…» على الصعود إليها، واتخاذ مكاني بها، ثم صعد وجلس إلى جانبي، وأمر السائق بالذهاب إلى «الزمالك» … فسارت السيارة في ذلك الليل الهادئ وهمس «…» في أذني: «لا أريد أن أتسرع فأسألك عن اسمك … ولكنك لا شك تسمحين لي في أن أناديك بصديقتي!»

فقلت له: «بالطبع أنت صديقي!»

وهنا قال في عذوبة: ما دمت صديقك فلا أظنك تأبين عليَّ أن أقبِّلَك!

وطوَّقني برقَّة وحرص؛ كأنه يطوق شيئًا مقدسًا، ووضع شفتيه على شفتي وضعًا لطيفًا خفيفًا، قبلة شبه طاهرة؛ كأنها قُبلة الخطوبة!

ووقفت السيارة أخيرًا أمام عمارة فخمة في حي «الزمالك»، فنزل «…» وأعانني على النزول، ووضع في كف سائق «التاكسي» ورقة نقدية، ثم تأبط ذراعي وصعد بي إلى مسكنه، وهو «شقة» ظريفة أنيقة فلمحت في ركن الصالون مائدة منصوبة، عليها أطباق من اللحم البارد والحلوى وزجاجة من الويسكي، وساعدني في خلع معطفي … بينما شفتاه تلمسان يدي، وذراعي ونحري، لمس النسيم!

لقد تجنَّب في كياسة — تشبه الحياء — أن يتعجَّل أيَّ الْتصاق بين جسمينا! لكأني به ذلك الذواقة، الذي يريد أن يستمرئ الكأس على مهلٍ. وقال لي بابتسامة وديعة: «أرجوكِ أن تعتبري البيت بيتك.»

وجعل ذراعه حول خصري، واتخذ رأسي من كتفه شبه وسادة … فقادني إلى حجرة نومه وتلقى جسمينا «ديوان» وثير!

وقال لي في همسة عذبة: يا حبوبتي!

وطوَّقني والْتصقت شفاهنا، وتنفَّسنا والعين في العين، فخيِّل إليَّ أني أشرب أنفاسه شربًا، وأنها تهبط إلى سويداء قلبي، فأدركت عندئذٍ أن جسدي كان جوعان حبًّا! وأن هذا الرجل يستطيع أن يصنع بي ما يشاء … وهنا شعرت بأصابعه اللبقة تفك أزرار ثوبي، وتجردني منه بغير لهفة ولا عجلة … ثم جعل يعجب بي وأنا هكذا … ثم أخذ يداعبني بيده وفمه … إنها عين القبلة التي عرفتها فيما مضى … ولكنها من قبل كانت تُطبَع على جسد هامد … يتمنى في قرارته الخلاص، ويود لو يدفع عنه تلك المداعبات الثقيلة التي يتكلَّف احتمالها تكلُّفًا.

أما هذا الحبيب «…» فلا شيء منه أكرهه قطُّ، لقد خُيِّل إليَّ أني أريد بدَوري لو أغطي جسده بقبلاتي … وأخيرًا حملني، وأنا في شبه غيبوبة إلى سريره المعطر، وتركني واختفى لحظة، ثم عاد متدثرًا في «روب دي شامبر» خفيف من الحرير «الستان»، لم يخلعه عنه وهو يطرح جسمه إلى جانبي، وبدأ المداعبة والملاعبة من جديد!

وجعل يهدهدني بكلمات الحب: «يا حبيبتي … يا معبودتي … يا حياتي … إلخ!» إلى أن صرنا جسمًا واحدًا … لا تفصل بيننا شعرة.

آه! اليوم فقط أدركت لماذا تحطِّم النساء كلَّ قيدٍ يحُول بينهن وبين الرجل الذي يكشف لأعينهن العمياء عن ملذات الحب! أين كنت غافلة عن اللذة الكبرى؛ لذة منح النفس للحبيب والفناء فيه، والإحساس بأني شيء ضعيف هش بين يديه، وانتظار أحلى المشاعر التي يهيجها في! ما أسعدنا نحن النساء بأن نذعن لمثل هذا الرجل، وأن نطوي إرادتنا تحت جناحيه!

إني لأحس أني الآن امرأة جديدة إلى حد الاعتقاد بأني لم أكن أكثر من بكرٍ بريئة، قبل أن يدخل الممثل «…» في حياتي، وإنه لَحَقٌّ ما أعترف به هنا … فهناك رجال نجد في الاتصال بهم ألمًا وعنفًا يملؤنا سخطًا … وإنهم ليُمعِنون في أنانيتهم، دون أن يلقوا بالًا إلى الاشمئزاز الذي يثيره فينا أحيانًا منظرهم هذا الدال على الاستهانة الصريحة، ودون أن يُعنَوا في موقفهم هذا بإخفاء معنى الآلية و«الروتين» … أو سترها ولو بقليلٍ من المداعبة اللطيفة، والمغازلة الرقيقة … هذا الشعور بالازدراء والاشمئزاز الذي قد يعتري المرأة، عند لقائها برجل للمرة الأولى، قلما يتغير … إلا إذا استطاع أن يغلف كل شيء في دِمَقْسٍ من لباقة الحسِّ والإحساس، لا يجرح ولا يخدش!

إني مع «…» لم أرَ شيئًا صدمني على الإطلاق؛ فإن كياسته قد غمرتني في جوٍّ مشبَّع باللذة الحالمة، وحَمَتْني من مجرَّد التنبُّه إلى ملاحظة ما يصنع أو أصنع … لقد تَمَّ كلُّ شيء في نشوة من الملاطفات والقبلات! وبعدُ؟ … وبعدُ فما أثر ذلك عنده بعد أن وقع هذا الأمر؟ لقد بدا عليه شيء من الاعتراف بالجميل! ولقد كانت ذراعه تسندني إلى صدره في حركة المالك القابض على ملكه … أما أنا فكنت آوي إلى جسمه وأدعه، وكان مجرد التفكير في الانفصال عنه يملؤني حزنًا … لقد تمنيت لو أبقى بين ذراعيه طول الخلود!

ولبثنا هكذا حتى مطلع الفجر … وما كانت تلك الليلة إلا عناقًا طويلًا … وعرفت عندئذٍ أني امرأة مثل الأخريات أستطيع الاستمتاع! لقد كشف لي هذا الرجل عن المجهول فيَّ … وعرَّفني إلى نفسي، ولقد سكرت من تلك النشوة الحلوة، ومن همسات أغنية الغرام التي كان ينشدها لي طول الليل، فاسترخت أعضائي ولانت، ودبَّ النعاس بين أهدابي بطيئًا بطيئًا … ورحت في نومٍ بين ذراعيه لذيذ … كم من الوقت نِمت؟ لست أدري! ربما نِمت ساعة أو أكثر أو أقل … كل ما أعلم هو أني استيقظت فألفيت «…» مستندًا إلى مرفقه … ورأسه مائل على رأسي، وهو يرنو إليَّ … فابتسمت!

فقال عندئذٍ بصوتٍ يقطر رقة: «كنت أتأملك في أثناء نعاسك … لقد خيِّل إليَّ أني ثملت بعطرك الساحر … إنك تحسنين اختيار عطورك فيما أرى … لقد كنت أمسك أحيانًا بأنفاسي خشية إيقاظك … لقد كنتِ تبتسمين في نومكِ؛ كأنكِ في حلم، وغدا وجهك عذريًّا كأنه وجه طفلة!»

وهنا طلبت إلى «…» مرآة لأستوثق من نفسي بنفسي، وأصلح من شأني … وكانت نظراته تلتهمني. ولكني لم أشعر بحياء يدفعني إلى ستر جسمي العاري. بل كنت سعيدة … فإن المرآة قد ملأتني ثقة واطمئنانًا على محاسني!

على أنَّ الطلاء القرمزي، الذي كان يصبغ البارحة شفتَي، تحوَّل إلى لون وردي، والسواد المحيط بأجفاني تبدَّد، وبدا كأنه هالة رسمتها أنامل التعب المسترخية حول أهدابي! وشعري المرتَّب تبعثر، وتناثرت خصلاته على وجهي المحموم … لقد اتَّخذت هيئتي وضعًا غريبًا؛ لكأني أنظر في المرآة إلى «اللذة» مصورة في إطار! ولقد أخذت «…» شبه رعدة، وهو يتأملني هكذا، فخطفني بين ذراعيه من جديد، اختطاف النسر للحمامة، وضمَّني ضمة شديدة مجنونة، فأحسست في تلك اللحظة بشعورٍ من الزهو والتيه، يغمرني غمرًا لا عهد لي به من قبل! وجعل كلٌّ منا يرمق الآخر بنظرات كلها اضطراب وفزع؛ كأنه لا لقاء بيننا بعد الآن! وأخذت أشعة الشمس الأولى تتسلل من خلال أستار النافذة، وتلقي دنانيرها الذهبية على سجادة الحجرة! ثم انعكست على مقابض أدوات الزينة الفضية، فوق منضدة «التواليت»، ثم أضاء نورها وجه الساعة الموضوعة هناك، فإذا نحن في السادسة … وكان لا بد إذن من الانصراف! فنهضت في الحال، ونهض «…» تاركًا لي الحجرة لألبس فيها ثيابي، وذهب هو ليرتدي ثيابه في الحجرة المجاورة، ثم نزلنا على عجلٍ إلى الطريق، وصعدنا إلى سيارة «التاكسي»، ونحن نستقبل بوجوهنا الملتهبة نسيم الصباح، وقد كان مطلع النهار جميلًا، وَصَفَتِ السماءُ صفاءً أحسَّته نفوسنا؛ كما أحسَّته عصافير الأشجار التي حولنا فزقزقت، وعبَّرت بلغتِها عما لا نستطيع نحن التعبير عنه، وأوصلني «…» إلى منزلي، وافترقنا على أن نعود إلى اللقاء في المساء … ودخلت بيتي … ويا لها من وحشة! لقد خالجني فجأة شعور بأني أدخل سجنًا! لأعيش وحدي وقد بترت عني سعادتي بترًا … إن من المستحيل عليَّ بعد سحر تلك الليلة أن أتصور استئناف حياتي المخيفة، التي جاء الكذب أيضًا — الكذب الجسيم — ليزيدها كربًا: آه! يا لها من ليلة! لن أنسى هذه الليلة ما حييت! لقد أضحكني منظر صديقتي «مرفت» وهي فاغرة فمَها دهشةً، عندما رويت لها خبر هذه المغامرة … لقد قالت لي: «وكيف تسلِّمين نفسك من أول ليلة؟»

ولكن لم تلبث أن سلمت معي مقتنعة، وأنا أجيبها باسمة: لأني لستُ امرأة من الطراز القديم … تلك التي كانت تحاول دائمًا أن توهم الرجل أنها قاومت طويلًا حتى غُلِبت على إرادتها … لماذا هذا؟ أوَكُتِب على المرأة أن تؤدي دائمًا دور مسلوبة الإرادة؟! لا يا عزيزتي «مرفت»! هذا ليس خليقًا بامرأة تعيش في عصرنا! إن المرأة يجب أن تُفهِم الرجل أنها مساوية له، وأن الأمر بإرادتها هي أيضًا، وأنها تعطي عندما تريد هي أن تعطي … في الليلة الأولى أو الليلة الأخيرة سيان عندها ذلك، ما دامت هي تريد، وتحس أنها تريد!

وتعاقبت بعد ذلك أيام لذيذة، على غرار تلك الليلة المشهودة … نعم، قد أُتهم بالجنون … ولكن آه … ما أحلى الجنون إذا كنا نجد فيه ذراعين مفتوحتين دائمًا لضمِّنا إلى صدرٍ كالعش الأمين … يخفق فيه قلبٌ بحبِّنا وإعزازنا!

لقد كانت لنا في كل يوم أحلام وآمال … ففي هذا المساء قال لي وأنا في حضنه: ماذا تقولين لو سافرنا معًا، وهربنا بعيدًا بحبنا؟

فقلت له: «وبيتي وأهلي؟»

فقال: «اتركي كل شيء، وتعالَي نظلُّ سعادتنا تحت أشجار البرتقال في فلسطين!»

وا أسفاه! … مشروعات كهذه لم تكن سوى أوهام … لو أن الأمر يتعلق بقلبي وحده لما ترددت في اللحاق به إلى آخر الدنيا … ولكني بعد أيام فكرت في الأمر مليًّا، وحكَّمت عقلي طويلًا فيما أنا مُقدِمة عليه … إن زوجي على الرغم من فتوره الحالي نحوي، وقربه الذي لم يعد يثير فيَّ أي عاطفة قوية، ما أساءني قطُّ يومًا، بل إنه ليعزني ويودني … وفجأة بدا لي شبح عملي المخيف البشع، وما سوف يحدثه له من آلامٍ لو أني أطعت هواي، وهربت من بيتي، أو قطعت صلاتي الزوجية بمثل هذه الفضيحة! وتيقظتْ في نفسي تلك اللحظة بقية ضميرٍ وإخلاص، فلم أقبل بحالٍ أن أجعل زوجي وطفلتي ضحايا ضعف وأخطاء وعواطف هي عندي أقوى من إرادتي! إن الخوف من الإساءة إليهما كتَّفني وشلَّ عزيمتي!

ثم هنالك شيء آخر: لقد فكَّرت في مصير تلك المرأة التي تذهب إلى رجلٍ لتضع حياتها بين يديه، دون أن يكون في جيبها قرش؟ حقًّا، كيف أستطيع، وأنا المجردة من كل ثروة خاصة — إذا انفصلت عن أسرتي، وترفعت عن مدِّ يد السؤال إلى أموال والدتي — أن ألقي بعبئي على كاهل «…»، وأفرض عليه أمر معاشي وكسوتي وزينتي وترفي! إن كرامتي لتأبى ذلك، وإذا أرغمني حبي وضعفي على التفريط في هذه الكرامة، فهل يطيق هو أن يتحمَّل هذا العبء طويلًا؟ … لا … لا ينبغي أن يضلَّني الحب إلى هذا الحد، وليس من الضروري أن ينتهي الحب دائمًا بالهرب مع الحبيب، وهو لا شك لم يخطر بباله قطُّ هدم عش الزوجية، والانطلاق معه بعد قطع الرباط الرسمي المقدس، لأنه يدرك عواقب ذلك!

إن مثل هذه الفكرة وحدها كفيلة بإطفاء جذوة غرامه … إنما الذي أراده ولا ريب بتلك العبارة، التي لفظها ونحن في نشوة الغرام؛ أن أدبر وسيلة، أو أخترع حجة للسفر معه بضعة أسابيع إلى فلسطين أو غيرها، دون أن يفطن زوجي أو تتنبَّه أسرتي للباعث على هذه الغيبة. ولكن هذا مستحيل، ومهما أوتيت من سَعة الحيلة فلن أجد الوسيلة، حسبنا إذن هذا القدر من اللقاء، ولا يجب أن نطمع في أكثر منه، وإلَّا تعرضنا لكارثة لا يحب كلانا أن تقع!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤