الجميلة تقرأ

مضى أسبوع آخر، وجلس ذلك الصباح ينتظر … إنه اليوم المحدد لمجيئها، وخطر له خاطر فقام إلى النافذة يبحث عن الشمس. إنها مختفية خلف الغمام، والنهار قاتم، والجو بارد … لا شيء يحُول إذن بينها وبين الحضور … ولم يَخِبْ ظنه، فما إن وافتِ الساعة حتى طُرق بابه، ودخلت الفتاة في معطف من الفراء الثمين، وحيَّته بابتسامة مرحة، وأخذت تخلع قفازها، وتقول: ها أنا ذي أجيء بلا تأخير!

فنظر إلى النافذة، وقال بنبرة تهكُّم غير ملحوظ: «التنيس» هذا الصباح غير مرغوب فيه؟!

فقالت بصوتٍ جاد: نعم، الطبيعة كئيبة والشمس غائبة!

فقال من الفور: فعلى الأدب إذن أن يبتسم لك، ويشرق!

فسرَّها هذا الجواب، وجلست أمامه، كالطفل «العاقل» الذي ينتظر تفاحة بهيجة تُقدَّم له بعد قليل. ومرَّت لحظة دون أن يقول شيئًا، ولم يعرف في الحقيقة ما يقول ولا ما يصنع! وجعلت عيناه تفحصان فراءها ووجهها وشعرها، الذي يلمح فيه يد الحلاق البارع ومكواه! وذكر عندئذٍ — ليس يدري لماذا — تلك الكلمات الملتهبة التي قالها الراهب «بافنوس»، مخاطبًا «تاييس»، فاختلج قلبه، لكنه ملك نفسه سريعًا، وضحك للمقارنة، ضحكة خفيفة مفتعلة فهمتها الفتاة بالطبع على غير وجهها، فأسرعت تقول: أتراني لست جديرة؟!

لفظتها أيضًا كالطفل الذي يخشى أن يُحرم الهبة الموعودة، فقال لها، وهو يفكِّر مطرِقًا وكأنه يناجي نفسه: إنك جديرة بأن أجنِّبَكِ مرارة الدواء … إنك تكرهين الكتب، ولست أدري كيف أقدم لك الأدب بغير الكتب، ويشق على نفسي أن أرغمك على ما تكرهين!

وسكت، وجعل يتأمل ما قال، فخُيِّل إليه أنه مخطئ، لا شيء يُكتسب على هذه الأرض بغير جهدٍ وبغير إرغام النفس على الكد، وكلما سما الغرض كبرت المشقة! إنه أمام هذه الفتاة كأب أمام طفلته، فلا ينبغي أن يُحجم عن أخذها بالشدة إذا اقتضى الأمر ذلك. ينبغي أن تحبَّ الكتب إذا أرادت لفكرها سموًّا، ولا شيء غير ذلك. فليكن حاسمًا قاطعًا في القول، فإما أن تذعن وتروِّض نفسها على حب المطالعة وتصغي إلى نصحه، وتصدع بأمره، وتُبدي على الأقل حُسنَ استعدادها لمعاونته في الخطة التي ينتهجها لها، وإما أن تنصرف من الآن غير آملة في شيء، فإنه لا يصنع المستحيل.

وتغيَّر وجهه، واتَّخذت ملامحه لونًا آخر كله صرامة، وفتح فمه ليعلنها بكل هذا، ولكن شيئًا أغلق فمه وسكن ثائره! إنه خوف غامض يسبح في أعماق نفسه!

نعم، إنه يخاف أن ينفر هذا العصفور الجميل، فينطلق هاربًا زاهدًا في تعلُّم التغريد على يديه، قانعًا بما كان فيه من زقزقة جوفاء فوق الغصون، ونظر إليها مترددًا حائرًا: أيتها الآنسة!

وأدركت بذكائها شيئًا كثيرًا مما يجول بخاطره، فبادرت تقول له: لا تخف! إني سأقوم بما تأمرني به … لقد قلت لك إني قوية الإرادة!

فتشجع، وقال لها: أتقرئين؟!

فقالت في الحال: كل ما تأمرني بقراءته!

فاندفع قائلًا: وتكتبين؟!

فقالت بغير توقف: كل ما تأمرني بكتابته!

فصاح فرحًا: المسألة إذن قد حُلَّت!

فقالت مع شيء من التفكير: نعم، إني أستطيع أن أجد دائمًا وقتًا كافيًا قبل النوم للقراءة والكتابة، وأنا في فراشي تحت مصباحي الوردي، لكن هناك صعوبة واحدة.

فقال قلقًا: ما هي؟!

فقالت كالمخاطبة لنفسها: إنك بالطبع ستمتحنني فيما أقرأ … وأقول لك مقدمًا إني ساقطة في الامتحان!

فضحك: إنك تسيئين الظن بقيمتك!

فابتسمت: لا، إنَّ عيبي الأكبر هو أني لا أطيق مطلقًا أن أقف موقف من يؤدي امتحانًا … إن كل ما قرأت يطير من رأسي عند ذلك كالدخان، ولن أستطيع أن أثبت لك أني قرأت بالفعل.

فبدا على وجهه الارتياب: أيتها الآنسة! أتتخابثين عليَّ، وتدبِّرين من الآن خطة الهروب؟

فضحكت عن ثغرها البديع: ثِق بأن فكرة الهرب بعيدة عن رأسي، ولكني أبيِّن لك مواضع ضعفي حتى تكون على حذرٍ!

فتفكَّر في قولها لحظة، ثم صاح كمن وجد الفرج: اسمعي أيتها الآنسة! لقد اهتديت إلى وسيلة ترضيك.

– ما هي؟

– ما قولك في أني أنا الذي يقف بين يديك موقف من يؤدي الامتحان؟

فضحكت، حتى كادت تدمع عيناها، وهي تقول: أنت؟ أنا أمتحنك أنت؟

– ولِم لا؟

وتناول كتابًا قريبًا من يده، وقال لها: ستقرئين هذا الكتاب، وعند زيارتك المعتادة في الأسبوع المقبل، توجِّهين إليَّ ما شئتِ من أسئلة، ولن أوجِّه أنا إليك سؤالًا واحدًا.

فنظرت إليه نظرة من يقول: «يا لكَ من ماكر!» ولم يسعها إلا الإذعان، ثم تناولت من يده الكتاب، ووزنَتْه في كفِّها، وقالت: أقرأ كل هذا في أسبوع؟

فأجابها: اقرئي بعضه، اقرئي عشر صفحات، أو خمسًا … لست أطلب إليك قراءة كتاب بأكمله … أنا نفسي، قلما أقرأ كتابًا بأكمله.

فنظرت إليه دهِشة: عجبًا … وكيف تلمُّ بموضوع الكتاب إذن؟

فقال لها باسمًا: ليس يعنيني في كل الأحوال الإلمام بموضوع الكتاب! إن مثلي مثل الطاهي الذي يدخل مطابخ الآخرين … إنه ليس محتاجًا في كل مرة إلى أن يتناول أكلة كاملة، ليحكم على جودة الصناعة، بل يكفيه أن يأخذ «لعقة» من كل إناء، فيدرك في الحال كيف صُنع اللون، وما استُعمِل في إعداده، وماذا أُدخِل في تركيبه.

فقالت: ولكني أنا …

ففهم مرادها: نعم أنت أيضًا أكتفي منك بهذا القدر … إن الأسئلة التي ستوجهينها إليَّ عن الصفحات التي قرأتها، ستدلُّني على مبلغ نفوذك في عالم المعاني، فكمية الصفحات التي تقرئينها لا دخل لها في الأمر إلا من حيث تذوقك، وعدم تذوقك لما تقرئين.

فصمتت قليلًا، وأرخت أهدابها، وفتحت الكتاب وجعلت تقلب صفحاته وهي تفكر، ثم قالت في براءة وسذاجة، وهي تقرأ عنوان الكتاب: «تاييس» … من «تاييس»؟ حتى أعود إليك الأسبوع القادم، رافعة الرأس!

فأجاب، وقد ابتسم ابتسامة غامضة: ستعرفين، إذا قرأتِ!

•••

نعم … كان الكتاب الذي وضعه بين يدي الفتاة، هو كتاب «أناتول فرانس» … لماذا فعل ذلك على وجه التحقيق؟ … ألأنه كان قريبًا من متناول يده تلك اللحظة، أم أنه تدبير مقصود؟

في الواقع إنهما معًا! إن هذا الكتاب قد فرغ من قراءته البارحة، ولم يقرأه حديثًا إلا من أجلها هي، ويود لو تقرؤه هي أيضًا، ففيه مواقف يجب أن يعرف مدى فهمها إياها … ومن يدري؟ … لعلَّ اختيار هذا الكتاب لها من أول الأمر توفيق منه، فقد تدرك منه بعقلها أو بشعورها قداسة ذلك الجمال العلوي، الذي نبذت، في سبيله، «تاييس» كلَّ عرض الدنيا وثرائها وبهجتها، وهذا بعض ما يريد لهذه الفتاة؛ أن يغمر قلبها نور جديد، مبعثه السماء لا الأرض، وأن تؤمن إيمانًا صادقًا بالجمال المعنوي، الذي لا تعرف اليوم معناه ولا مداه … كل هذا قد تستشفه من قراءة «تاييس». يخشى أن يستطيع ذكاؤها إماطة اللثام عن شخصية الراهب «بافنوس»، وأن تنفذ عيناها إلى أعماق عواطفه، فترى ما لا يريد لها الآن أن تراه. لماذا؟ وهنا اختلجت نفسه مرة أخرى … لا، إن المقارنة بعيدة، وينبغي دائمًا أن تكون بعيدة، إذا فطنت الفتاة إلى أي شبه بينه وبين «بافنوس»، فقد انتهى كل شيء بينهما … إنه لن يتردد يومئذٍ عن رجائها في عدم المجيء!

•••

ونهضت بالكتاب … ووضعت قفازها في أصابعها، ومدَّت يدها مودِّعة: أرجو ألا يشغلني شيء عن قراءة هذا الكتاب، حتى أعود إليكَ الأسبوع القادم، رافعة الرأس!

وابتسمت، ولكن الهواجس كانت ما تزال تساوره، فمدَّ يده إليها، لا للتحية، بل لاسترداد الكتاب: أخشى أن أكون قد أسأت الاختيار، ردِّي هذا الكتاب، وخذي كتابًا آخر.

وظهر القلق والاضطراب جليًّا في صوته، وتفرَّست الفتاة بعينيها البراقتين في وجهه، وقالت بعزيمة: لا … إني أريد أن أعرف من هي «تاييس»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤