هل قرأت؟

عادت الفتاة بعد أسبوع، وطرحت أمامه الكتاب، وتنفَّست الصعداء، كأنها تُلقي حِملًا ثقيلًا … فبادر يسألها، وهو يحدُّ البصر إليها قلقًا: أقرأتِه؟

فتجنَّبت النظر إليه … وقالت: بضع صفحات وضاق صدري.

فتنفَّس الصعداء هو الآخر اطمئنانًا … إنها إذن لم تعرف شيئًا مما احتواه، غير أن شعور الراحة هذا لم يَطُلْ كثيرًا، فسرعان ما انقلب الأمر، وأحسَّ الأسف والغيظ وخيبة الرجاء لما حدث. فالتفت إليها قائلًا في صوت الحانق: إذن فشلت التجربة!

فقالت وهي تصبغ شفتيها بإصبع الأحمر: ليس الذنب ذنبي!

فلم يعجبه هذا الجواب، ولم يرضَ كثيرًا عن مسلكها، وهمَّ أن ينتهرها طالبًا إليها أن تكفَّ عن هذا التزيُّن والتصنُّع في حضرته، وأن تحرص قليلًا على احترام الفكر. ولكنه ذكر أن ليس له عليها هذا الحق، وأنَّ الذنب حقيقةً ذنبُه؛ إذ أسرف في حسن الظن بمثلها، ووضع بين يديها كتابًا لا تستطيع أن تقدِّر قيمته.

وفرغت من أمر بهرجها، فالتفتت إليه وقرأت على وجهه كلَّ تلك المشاعر، ثم ابتسمت وقالت: أغضبتَ؟ ألم تقل لي إنك تكتفي منِّي بقراءة بِضْع صفحات؟ ها أنا ذي قد فعلت!

نعم! لقد قال لها ذلك حقًّا، فما الذي أغضبه؟ لا شكَّ أنَّ في نفسه منبعًا مجهولًا تنبعث منه كلُّ هذه المشاعر المتناقضة.

فنظر إليها وقد عاد إليه الهدوء: نعم!

ثم فكَّر قليلًا، وقال وهو يعبث بصفحات الكتاب: وما الذي منعكِ عن المُضي في قراءته؟

فقالت وهي مطرقة: الملل!

– إنه ليس كتابًا مملًّا … شهد الله لقد استيقظت في جوف الليل لأقرأ فيه، ولم يستطع النوم أن يقهرني وهو معي!

فقالت له بابتسامة غامضة: لا أعجب … إنك تحبُّ سِيَر الرُّهبان والمعتزلين، أمَّا أنا فما الذي يحملني على متابعة القراءة في صفحات كلها وصف لنساك الصحراء الذين يعيشون في بطون الرمال مع العقارب والثعابين، وينفقون شبابهم وأعمارهم مع أطياف الملائكة وأشباح العفاريت؟!

ونظرت الفتاة حولها على الرغم منها، وجال بصرها في المكان، وانتقلت عيناها سريعًا إلى أكداس الكتب القديمة المرصوصة، كأنها المقابر تحوي أفكارًا بغير جماجمَ، وأرواحًا بغير أجسادٍ، إلى النافذة المغلقة التي تحجب الشمس والهواء، كأنها فوهة جبٍّ أو كوَّة دير، إلى ذلك المصباح الأخضر الذي يشرف على حياته المظلمة بأجنحته النورانية، كأنه ملاك لطيف، ويفترس، في ذات الوقت، أعمار لياليه الجميلة ليلةً ليلة، كأنه غول أو عفريت مخيف!

وعاد بصرها من هذه الرحلة في أنحاء المكان، ووقع عليه، وأحسَّ شعاع عينيها ينفذ في روحه فأطرق.

وساد صمت، قطعته الفتاة بقولها: إني بدأت أرتاب.

لفظتها في صوتٍ منخفضٍ، وكأنها تخاطب نفسها.

فرفع رأسه، وقد سرت في جسمه رعدة، وأراد أن يستفسرها مرمى عبارتها، ولكنها سبقت في الكلام: أتذكر يوم جئتك أول مرة ورأيت نور الشمس لا يدخل هذا المكان؟

فقال كَمَن لا يفهم المقصود: نعم أذكر!

فمضت تقول: أتذكر بماذا أجبتني عند ذاك؟

– لا … لست أذكر!

فقالت للفور: لقد كان جوابك: إنا نكتفي دائمًا بالنور المضيء في نفوسنا!

فقال، كمن يؤمِّن على قولٍ بديهي، أو نصٍّ سماوي: هذا صحيح!

فبادرت تقول: هذا ليس بصحيح!

فحملق فيها دهشًا، ورأت اتِّساع حدقتيه، فقالت باسمة: أيدهشك هذا القول؟ … أظنك ستدهش أيضًا إذا قلت لك شيئًا آخر!

– ماذا ستقولين؟

– شيئًا لا يخطر لك على بال!

– إذن قولي وأسرعي!

فقالت بتؤدة: أريد أن أرجو منك أن تشرِّفني بالحضور، لمشاهدتي في لعب «التنيس» صباح الغد!

فنظر إليها مليًّا ليرى مبلغ جِدِّها من هزلها، ونظرت إليه خائفةً لترى مبلغ حلمه من غضبه … وفكَّر هو في الأمر: ماذا يقول لهذه الفتاة؟! لكن … قبل كل شيء لا ينبغي أن يثور، وليأخذ الأمور باللين والرفق.

– أيتها الآنسة، ماذا تقصدين؟

فنظرت إليه بعينين متسعتين: أكلامي مغلق مظلم يحتاج إلى نور كثير؟

– من غير شك!

فحدجته بنظرة غريبة: تقول هذا، أنت الذي اعتدت الحياة فيما هو مغلق مظلم!

فصدمته هذه الجملة … ولكنها أسرعت تشير بيدها إلى المكان: لست أقصد طبعًا غير هذا!

فلم يُحِرْ جوابًا، ولبث بلا حراكٍ ينظر إليها ويسأل نفسه: أتراها تُرسل الكلام بسيطًا بريئًا، أم أنها تنطلق بكلامٍ مبطَّن بمعانٍ أخرى غير المدلول الظاهر؟ إذا كان هذا الأمر الأخير فهو عجب من العُجاب! وله أن يبحث عما ترمي إليه أولًا، وعما علَّمها لغة الرموز ثانيًا.

على أنه يحسن به أن يحتاط فلا شيء منها ينمُّ بعدُ عن اتجاهٍ بعينه، وينبغي دائمًا أن يُسِيء الظن بهواجسه، فليست هذه أول مرة تختلط فيها الأشياء برأسه … إن خياله الذي اعتاد طويلًا خلْق الأشباح من الحقائق، وذهنه الذي تعمره مخلوقات بعضها يعيش في الحياة، وبعضها يعيش في الكتب، ونفسه التي تسبح في أعماقها عوالم، وتقوم بين طياتها دول، وتدول دول، وتشرق شموس وتغيب شموس، وروحه المنعزلة التي تدور في فلك لها بسُدُمها بعيدةً عن مدار الأرض. كلُّ هذا يقصيه أحيانًا عن حقائق هذه الحياة، ويضعه في موضع مَن يرى الدنيا من خلال كرة بلُّورية، تحملها يد ساحر ساخر فوق دخان البخور وغمام الأوهام!

على أنَّ هذا الساحر في حالته إنما هو هو نفسه! نعم هو الذي صنع بيده كرة البلور، هو الذي خلق من مادة ذهنه دنيا أخرى مماثِلة للأولى، هو الذي يضع كلا العالمين في كفٍّ، وإذا هو يلعب بالكرتَين لعب الحواة حتى الْتَبَسَ عليه الأمر، وما عاد يميِّز عالمَ الوهم من عالم الحقيقة! نعم … تلك كارثته الكبرى، وتلك هي النقمة التي تُصَب على كل ساحر!

•••

واسترسل في تأملاته حتى كاد ينسى وجود الفتاة، وإذا صوتها الرقيق ينبِّهه، ويُخرجه إلى منطقة الوعي: لم أتلقَّ جوابك بعدُ … أتأتي لمشاهدتي غدًا؟

– لمشاهدتك غدًا؟!

– في لعب «التنيس»، كما قلت لك!

– ما شاء الله! … ما شاء الله!

فقالت باسمة: ليس هذا جوابًا!

فقال حانقًا: أهنِّئك وأهنِّئ نفسي لهذا النجاح الباهر! لم يَكفنا العجز عن إدخالك عالم الفكر، حتى تعملي أنتِ على إخراجي إلى عالم اللعب!

فراعَه منها أنها ضحكت … نعم، ضحكت بفمها الجميل ضحكَ المسرور المرح، ومَضَت في ذلك وأكثرت، حتى كادت تضحكه، وخَشِيَ على جلال موقفه، وعلى طبيعته الجادة، وعلى سموِّ العلاقة التي بينهما، ونُبل الغاية التي يَرمي إليها، فمَلَك نفسه في الحال، وقال بشيء من الصرامة: أخبريني، كيف خطرت لك هذه الفكرة؟ وما الذي دفعك اليوم إلى مثل هذا الطلب؟ وكيف تهيَّأ لك أن تحادثيني في مثل هذه الأشياء؟ ولماذا؟

فقاطعته قائلة: السبب بسيط.

وسكتت كالمفكرة، فاستعجلها: ما هذا السبب البسيط؟

فرفعت رأسها: تلك الصفحات التي قرأتها من كتاب «تاييس» أفهمتني أن الراهب «بافنوس» هو الذي ذهب إلى الغانية في ملعبها لينتشلها … أنت أيضًا ينبغي أن تفعل ذلك … يجب أن تهبط إلى ملعبي لترتفع بي … هكذا فعل الرسل والأنبياء دائمًا! يهبطون إلى الناس، حتى يستطيعوا بعد ذلك أن يصعدوا بهم إلى السماء، ولم يحدث قطُّ غير ذلك، ولا تنتظر أن أصعد أنا إليك توًّا بغير أن تهبط أنت إليَّ، وتأخذ بيدي!

سمع منها هذا الكلام وهو لا يكاد يصدق أذنه … ولقد اشتبه عليه الأمر، وخيِّل إليه أنها سريرته التي تدوِّي بهذا الكلام وتصبُّه في أذنه … ولكن فم الفتاة يتحرك، وصوتها ينطلق جليًّا صافيًا كأنه يتدفق من ينبوع!

لقد أدهشه قول الفتاة حقيقةً، وعجب أن شفتيها اللتين لا تعرفان غير مسِّ إصبع الأحمر، يمكن أن يخرج من بينهما هذا الكلام العميق … نعم إن الرسل والأنبياء ينبغي أن يتركوا سماءهم، ويهبطوا إلى الأرض كي يصعدوا بالبشر!

هنا قوة الأنبياء والرسل، وهنا التجربة القاسية والامتحان الصارم الذي كتب عليهم أن يجوزوه. فعلى الرسول أن ينزل بين الناس، ويمرَّ بأدرانهم كما يمرُّ شعاع الشمس بدود الأرض وحشرات التراب، ويخرج من بينها وضَّاء نقيًّا لم يَعْلَقْ به من القذر شيء! ثم هو فوق ذلك يخترق بطون الأشياء وصدور الكائنات، فيملؤها صحة وقوة، ويرتفع طاهرًا كما نزل طاهرًا، بعد أن غمر الوجود بالطهر والنور!

ذلك هو النبيُّ الحق، لطيف كالضوء، خفيف كالهواء، إنه من مادة السماء، فهو دائم الاتصال بها مهما تركها. أمَّا من هبط فرسب ولم يستطع العودة إلى الأعالي فهو الرسول الكاذب، وإن الأرض لخدَّاعة، وإن جمالها لبرَّاق، وإنَّ ابتسامتها لمغرية … وإنها لتنتقم أحيانًا من أولئك الهابطين لاستنقاذ البشر من بين أحضانهم … ويلذُّ لها أن تُوقعهم في حِبالها، وتمرغهم في أوحالها، وتضحك من أجنحتهم البيضاء وقد عفَّرها التراب، ومن أرديتهم المقدسة وقد لطَّخها الطين! وتذكَّر الراهب «بافنوس» مرة أخرى، وتخيل كارثته ومأساته، وسقوطه في نهاية أمره إلى عشق «تاييس» ذلك العشق الآثم، بينما ارتفعت هي إلى طهارة الروح، وبلغت مراتب القديسات.

لقد كان «بافنوس» مؤمنًا زائغًا.

وترك الفتاة تمضي ذلك اليوم، دون أن يصغي إلى طلبها، فقد قال لها إنه لن يغادر مكانه ولا كتبه من أجل شيء. ومهما يكن من أمر حجَّتها القوية، فإنه لا يستطيع، على كل حال، أن يخرج مع فتاة، أو أن يذهب لمشاهدتها وهي تلعب «التنيس»، وإن كل صلته بها لا تعدو — ولا ينبغي أن تعدو — الغرض النبيل الذي جاءت له، وهو التحدث في شئون الفكر!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤