السُّهاد

انصرمت أسابيع أخرى، لياليها بيض من السهاد، وأيامها سود من القنوط … وهو على حاله ما تغير … فهو لم يستطع أن ينساها على الرغم مما بذله من جهودٍ، وما فرضه على نفسه من إرادة، وما تشبَّث به من عنادٍ. فكل شيء حوله كان يذكِّره بها؛ فهذا الباب الذي كانت تدخل منه، وهذا المقعد الذي كانت تجلس عليه، وهذه النافذة التي كانت تلتمس منها ضوء الشمس، وهذه الخزانة التي كانت تتأمل كتبها المرصوصة، وهذا المكتب الذي كانت تنظر إلى ورقه المبعثَر؛ بل إن الجدران كانت تذكِّره بصدى ضحكاتها الرقيقة وأحاديثها وأكاذيبها … وحواره معها؛ ذلك الحوار الذي لم يكن يأخذه على سبيل الجِد.

ولم يكن يدري أنه سيضطر يومًا إلى الحرص على ذكراه، والاعتزاز بكلِّ كلمة كلماته، والتعلق بكل نبرة من نبراته … إن حديثه معها الذي كان حينًا تافهًا وأحيانًا باردًا، هو عنده اليوم شيء نفيس لا يُقدَّر بمال … إنه غذاؤه الذي تعيش عليه الآن روحه … إنه يخرجه من ذاكرته في كلِّ يوم بنصِّه ليحدِّث به نفسَه من جديد … إنه ليجترُّ اجترارَ البعير لغذائه القديم، وهو سائر يتضوَّر في مجال الصحراء الجرداء … بل إنه ليفرغه — كل مساء — من رأسه ليتأمله كلمة كلمة؛ كمن يفرغ اللآلئ من صندوقها ليرى وهجها لؤلؤة لؤلؤة … كل هذا صنعه في تلك الأسابيع الطويلة بعد أن يَئِس اليأس كله من لقائها … على أنه أحيانًا كان يندم الندم المرَّ على ذهاب تلك الأيام، في مثل تلك الأحاديث!

آه … لو علم لخاطَبها بكلامٍ رائعٍ حقًّا، وأسال بين يديها نفسَه كلَّها، ولكنه مع ذلك لم يندم على سلوكه معها ذلك السلوك الرفيع؛ فهي امرأة متزوجة، وما كان ينبغي أن يكون بينهما أكثر مما كان! ربما هو يطمح الآن، في قرارة نفسه، إلى شيء من المودة! من المودة الحارة العميقة، يربط أحدهما بالآخر … ولكن من ذا يضمن له أن طموحه كان يقف عند هذا الحد؟ ما من شكٍّ لديه في أنه أحسن صُنعًا بإسدال الستار على هذه القصة في الوقت المناسب؛ فهو ليس الرجل الذي يحيد عن واجب الشرف، أو يصرف زوجة عن واجبها المقدس نحو زوجها … لقد قام بواجبه المحتوم، وما كان في وسع مثله أن يفعل غير ذلك.

أما الألم الذي عاناه بعدئذٍ ويعانيه، فهو شيء خَفِيٌّ لا يراه أحد، ولا يعلم به إنسان، ولا ضرر فيه للناس، ولا مساس فيه بحقوق الغير! وما دام قد سمح له بهذا الألم، فلماذا لا يسمح له أيضًا بالحب؟ بهذا الحب الخفي الذي لا يراه أحدٌ، ولا يدري به حي! واستيقظ «راهب الفكر» ذات مرة في جوف الليل، وأضاء مصباحه، وجلس إلى مكتبه، وقد وطَّن العزم على أن يستأنف حديثه مع مَن أحب … ويمضي في تلك الصلة الروحية مع طيفها … ذلك الطيف الذي يوقظه في ليله، ولا يفارقه في نهاره، فليفرِد لها صفحات يدوِّن فيها رسائل إليها … لن تطَّلع هي، ولا ريب أبدًا، عليها؛ فربما كان في ذلك تسرية عنه، وربما كان فيه أيضًا إكبار للحب بغير إنكار للواجب!

•••

ودقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وهو يمسك بالقلم ليسطر إليها هذه الرسالة:

صديقتي!

آه … لو أتيح لكِ أن تعلمي ما حدث لي بعد ذهابكِ؟ إنك تنامين الساعة مِلْءَ جفنيْك، ولن يخطر على بالكِ أن هنالك رجلًا ساهرًا من أجلك … ومَن هذا الرجل؟ هو ذلك الذي ترككِ تذهبين دون أن يبدو عليه اهتمام بحضورك وغيابك. إني ألمح الدهشة في عينيكِ لو علمتِ ذلك، ولكنك لن تعلمي أبدًا، ولا ينبغي أن تعلمي أبدًا! كل ما أطمع فيه أن أحادثك هنا طويلًا، وليس من الضروري أن تبادليني الحديث؛ فإني أعرف وقع ما أقول في نفسك، وأرى ابتسامك لما يروقكِ من القول، وتقطيبك لما يسوءك منه، فأنت حاضرة أمامي مُتتبِّعة لكلامي بوجهك، وأهدابك، ونظراتك، وشعرك، وثغرك!

سأحدثك كثيرًا عن كل ما يجول بنفسي من أشياء، دون أن أخشى أن أثقل عليك، وهُنا فضيلة الحديث على هذا الورق الصامت، فهو يستطيع أن يخدعني على الأقل، ويوهمني بأنك لا تضيقين بي ذرعًا، وأنك تصغين إليَّ، وبك عطف عليَّ.

آه … ما الذي يجعلني أذكر «العطف اليوم»؟ تلك كلمة لم ألفظها منذ زمن طويل … إن حياتي في الحق لأقتم مما كنت أتصور … نحن أهل الفكر نسير دائمًا في صحراء محرقة؛ فلا نفطن إلى مشقة الطريق إلَّا يوم تصادفنا واحة خضراء، فنجلس في الظلِّ ساعةً، وقد تبدَّت لنا قسوة الحياة علينا، وتساءلنا: كيف احتملنا كلَّ ذلك حتى الآن؟ ثم لا يلبث أن يدعونا واجبنا إلى المسير، فننتزع أنفسنا انتزاعًا؛ لنقذف بها في ذلك الجحيم من جديدٍ! كوني أيتها الصديقة لي عزاءً … وليكن طيفكِ لي رفيقًا يمشي إلى جانبي … إني في حاجة إلى مجرد طيفك، لأن طريقي موحش حقًّا … إنه ليس الصحراء كما قلت لك الساعة، فالصحراء فيها على الأقل متعة السكون! وإن النفس لتصفو في إصغائها إلى السكون، ولكني أسير في عالمٍ يضجُّ بالسفالة والقبح، وأسبح في بحرٍ يصطخب بالحقارة والسخف! إني لأثور على نفسي أحيانًا وأقول: لماذا لا أترك كلَّ هذا وأعيش كما يعيش الآخرون؟ ولكني لا أستطيع، لأني أريد أن أحلم بأشياء جميلة، ولا بدَّ دون ذلك من الثمن، وهو تحمُّل سخرية الناس بنا على الأقل … ثقي أيتها الصديقة بأني لا أجني أحيانًا غير ذمِّ الناس؛ كأني قد ارتكبت جرمًا لا يُغتفَر … لعلَّك قد قرأتِ كثيرًا مما يُكتَب عني في الصحف، ورأيت أي صورة يصنعونها لي من حين إلى حين … لقد كان ذلك يؤلمني في أول الأمر، ولكني لم ألبث أن اعتدت ذلك، ثم انتهيت إلى الاعتقاد بأن هذا هو ما يجب أن يكون، فما ينبغي أن يُحسَن الظنُّ بالناس أكثر مما ينبغي! إنهم كذلك دائمًا، وكانوا هكذا في كل زمان غير قديرين على أن يصوِّروا الأشياء إلا على صورتهم، وها أنا ذا اليوم كلما رأيت صورة لي، أو وصفًا في صحيفة من الصحف ابتسمت قائلًا: تلك هي الصورة التي لا يستطيعون أن يصنعوا غيرها، أو يروا سواها.

آه … إننا لفي حربٍ دائمة … لا من أجل فنِّنا وحده، ولا في سبيل مُثلنا العليا وحدها، ولكن مع أولئك الذين كرَّسنا حياتنا لنعطيهم شيئًا جميلًا!

لا أريد أن أطيل في هذه الرسالة الأولى؛ خشية أن تنفري! إني حريص على خيالك حرصي على حقيقتك؛ لأني لا أملك غيره، فلأضنَّ به حتى على نفسي، وأتمنى لكِ نومًا هنيئًا!»

وطرح القلم من يده، ونهض ليسلم نفسه لنومٍ لا يدري أيجيء أم لا يجيء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤