الكينونة والاستخلاف

ضميمة

يبدو أنَّ كلَّ ميادين المعنى بالنسبة إلى الحيوانات البشرية، التي نبتت فجأةً أو مؤقتًا على الأرض، دون أي تبرير أو غاية أخرى واضحة، يمكن ردها إلى ثلاث بؤر معنى سابقة على غيرها؛ ألا وهي: الجسد، حيث نجد أنفسنا ملقًى بنا سلفًا، دون أي استشارة تُذكر؛ والقوة: التي يستطيع أي جسد أن يسلِّطها على جسد آخر؛ والأفق: حيث يمكن للأشياء أن تظهر لنا فندخل في علاقة معها بوصفها ليست نحن أو تغايرنا. هذه البؤر هي ورشات المعنى التي خرجت منها أجهزة الوجود التي تحكم كل علاقة بأنفسنا أو بالآخرين: منها خرج «الجنس» سواء أكان منظورًا إليه بوصفه تصنيفًا عضويًّا أو فنًّا شبقيًّا أو بنية اجتماعية. ومنها انبثقت «السلطة» مهما كان الشكل الذي تأخذه في كل عصر وكل سردية، من أول شيخ قبيلة إلى آخر رئيس دولة أو إمبراطورية. وأخيرًا، منها أيضًا انبجست كل غواية أو إغراء بتوثين «معبود» أو «إله» ما مهما كانت طريقة عبادته أو ترتيب العلاقة العمودية معه. وبناءً على ذلك، لا معنى لجسد بلا جنس يخصصه؛ ولا معنى لقوة بلا سلطة تنفذها؛ ولا معنى لأفق بلا إله يؤسسه.

ربما يمكن ردُّ كل إثباتاتنا حول أنفسنا أو حول الأرض التي نقف عليها إلى ثلاثة بنًى بدائية تحولت مع الوقت إلى أجهزة هووية نحتمي بها أو ندافع عنها؛ لأنه لا يوجد أيُّ تبرير آخر لوجودنا كما نعرفه: إثباتات الجسد؛ وإثباتات القوة؛ وإثباتات الأفق. «نحن» (مجرد إشارة نحوية إلى الجهة التي نجد فيها أنفسنا، مهما كانت هذه الجهة) مجرد أجساد وقوًى وآفاق. وكل تصريف آخر سوف يقودنا إلى «ترجمة» هذه المعطيات الأولية الموروثة بشكل أو بآخر إلى أجهزة هووية طويلة الأمد. ويمكن منذ الآن أن نثبت أن الأسرة (أو أي شكل آخر من إنتاج الأجساد وحراستها) والدولة (أو أي شكل آخر من إنتاج السلطة وحراستها) والدين (أو أي شكل آخر من إنتاج الآفاق وحراستها)، هي الأجهزة الهووية الأساسية الطويلة الأمد التي أقام عليها الحيوان البشري شكل وجوده على الأرض إلى حد الآن.

هذه الخطاطة ليس لها من صلاحية سوى قدرتها الاستكشافية لتلك الميادين التي تراكمت عليها لغات متعددة جعلت الدخول في علاقة تأويلية معها تجربة محفوفة بالمخاطر. نحن لا نكاد نعرف أجسادنا من فرط القواعد الجنسية التي تراكمت فوقها، وحوَّلت سكنى الجسد إلى تقنية أخلاقية لإنتاج الأقنعة. كل جسد له قناع يؤمِّن له الاستعمال الجنسي (بالمعاني الثلاثة المشار إليها آنفًا: العضوي والشبقي والاجتماعي)؛ كل قوة تفترض جهازًا سياسيًّا يحولها إلى سلطة؛ كل أفق يغري باختراع مدى أو مجال لإنتاج نوع من الآلهة والتعلُّق بها، لكن ما يحدث غالبًا هو انسحاب التجربة البدائية لأنفسنا (تجربة الأجساد بلا أسرة؛ تجربة القوة بلا دولة؛ وتجربة الأفق بلا آلهة). لا يعني ذلك أن علينا أن نرجع القهقرى إلى مرحلة ما قبل الأسرة أو ما قبل الدولة أو ما قبل الآلهة! بل فقط، أن نلاحظ أن اللغات قد تراكمت فوق الجسد ولم نعُد نرى غير منقوشات جنسية تصنفنا سلفًا، وتحرمنا من علاقتنا البدائية بمساحة من اللحم والدم لم تُصنَّف بعد؛ وأن المؤسسات قد تراكمت فوق القوة، ولم نعُد نرى غير مدونات قانونية تحكمنا سلفًا وتمنع أي علاقة حرَّة مع مساحة القدرة التي لم تُهيكَل بعدُ؛ وأخيرًا، أنَّ الأديان قد تراكمت فوق الأفق، ولم نعُد نرى سوى أوثان سردية تقرِّر سلفًا شكل الغواية المناسبة للرغبة في التعالي، وتحرم أي اتصال غير ديني بالأفق البعيد لأنفسنا.

إنَّ الفلسفة غير ممكنة دون الدخول في مناظرة جذرية مع البؤر الأساسية للمعنى التي نستمد منها شكل أنفسنا. وكل انحصار في بؤرة دون أخرى أو دون البقية سوف يُفضي إلى فلسفة بتراء. لا يمكن أن يظهر فيلسوف لا يفكر إلا في طبيعة الأجساد؛ ولا أصالة تُذكر لمن يحصر الحاجة إلى الفلسفة في خطابة السلطة أو السؤال عن ماهية الدولة؛ وأخيرًا، لا يُعوَّل على متفلسف يحتقر كل أسئلتنا عن الجسد، أو القوة، ويسجن نفسه في مناجاة الأرواح. إن أفق الفيلسوف، حيث يمكن اللقاء مع الأسئلة البعيدة عن الآلهة بوصفها تقنياتٍ فانيةً لاحتمال ثقل الأفق، سوف يظل صحراء بلا مفهوم، ما دام لم ينخرط في مساءلة جذرية لجسده، حيث يمكنه التصدي لكل الحفائر الجنسية التي ارتسمت على جلده قبل الوعي بمن يكون، أو في تحمُّل حيوي لقوته، حيث يمكنه أن يقيم كل مفاعيل الأمر والنهي التي تحرسه دون أن يدري باسم متعالٍ لا يراه.

لا يجب أن نقرأ هذه التوقيعات الهووية البدائية لمصادر أنفسنا باعتبارها محرمات أو آلات تحريم. كل تاريخ المحرم أو الحرام هي بدورها كانت مجرد لغات تراكمت فوق أجسادنا وقوانا وآفاقنا، حتى سدت علينا الطريق إلى أنفسنا. كما أنه قد صار من الساذج تحويل الفلسفة إلى فن محصور في نقد المحرمات أو مؤسسات التحريم. إنَّ المُشكل الذي يهمُّنا ليس نقديًّا ولا يتعلَّق بالمحرم. بل نحن أمام رغبة في التضامن الفلسفي مع سياقات تم طمس الطريق إليها. «هناك»، في وقت كانت فيها الأجساد والقوى والآفاق في اتصال حر وبريء من كل أنواع اللغات والمدونات والسرديات؛ كان يمكن اللقاء بالحياة بوصفها إمكانًا جذريًّا لا تشوبه شائبة جنسية أو سياسية أو دينية.

صحيح أننا (هذا الجيل من الحيوانات البشرية المهددة بالانقراض) قد صرنا نوجد «بعد» أنفسنا القديمة؛ ومن ثم أننا صرنا نستمد من التوقيعات الهووية (الجنس، الدولة، الدين)، إيجابًا أو سلبًا، مقدارًا كبيرًا ممَّا نسميه «أنفسنا» أو «نحن» في السياق الراهن للنوع، لكن ذلك ليس سببًا مفيدًا كي نحصر مهمتنا في المرض الحديث ﻟﻟ «نقد» الذي تتماهى معه «ذات» لا تجد أي مستمسَك لقيمومتها سوى مفعول الاعتراض على العالم كما هو: إن نقد العالم هو نفسه مرض تاريخي. وهو نوع من الأعراض السردية عن ترهُّل أو تهرُّم التوقيعات الهووية الطويلة الأمد. ونعني بذلك أنَّ كل تعويل على مجرد النقد بوصفه موقفًا رسميًّا لعقولنا تجاه ما يدعو إلى التفكير؛ هو جزء لا يتجزأ من السردية الهرمة التي نقاومها، لكنَّ المقاومة مدينة دومًا لِعَدُوِّها؛ هي تستمد منه سبب وجودها وشكل علاقتها بنفسها. إن ما حدث ليس سببًا كافيًا لنا، أو هو لا يسحب منَّا كلَّ مساحة الصدفة التي ألقت بنا في الكون. نحن مصادفات جذرية، وفي كل مرة؛ وهذا يعني أنه لا يمكن لأحد أن يمتصَّ منَّا كلَّ قدرنا. ثمة دومًا مقدار من أنفسنا أو جهة من جهات وجودنا في العالم لم يُسرق منا؛ ومن ثم يمكننا استعادته أو تنشيطه أو استئنافه بشوق جديد.

ليست مهمة الفلسفة أن تضيف توقيعًا هوويًّا آخر؛ ولذلك هي ليس من شأنها أن تحصر نفسها في نقد الجندر أو نقد الدولة أو نقد الدين. هي يجدر بها فقط أن تعيد ربط الصلة مع تلك الطبقة من أنفسنا التي لم ينجح أي توقيع هووي في سحبها منا أو في محوها. كل جسد هو طبقات من العلاقة بنفسه، ونحن لا نعبِّر إلَّا عن الطبقة الأخيرة منه. إن تاريخنا الوراثي يقذف بنا عميقًا في مراحل جينية لا يمكن لأي تأويل معاصر أن يستولي عليها أو أن يطمسها. كذلك، فإنَّ كل قوة عضوية أو حيوية هي مجرد استعمال لجزء عَرضي من إمكانية الحياة التي بحوزتنا، ونحن لا نمثل إلا الاستعمال الأخير منه. إن تاريخ النوع يُعيدنا إلى صراعات بقاء لا يمكن لأحد اليوم أن يدجِّنها أو أن يحتكر عنفها لنفسه. وأخيرًا، فإنَّ كل أفق هو مجرد إغراء عرضي يغوي البشر الفانين بتخليد مرورهم على الأرض، ونحن لا نحكي لأنفسنا سوى الحلقة الأخيرة منه. إن تاريخ التعالي يقص علينا مغامرات الشعوب المتعاقبة في التسلل إلى الأفق وصيد الألوهة بواسطة السرد، وذلك على نحو لم يعُد يمكن لأي مؤسسة دينية أن تحرِّمه أو أن ترفع مُقدَّسَها فوقه.

إن ما نستشكله في التوقيعات الهووية للإله والدولة والجنس هي أنها بناءات لاحقة على أحداث سابقة، لم نعد نراها من فرط ما أصبحت متردمة تحت اللغات والمدونات والسرديات. منذ وقت طويل، منذ أن أصبح «الناس» يحملون صبغة «الإنسانية»، صار من غير الممكن ملاقاة الجسد دون جنس، أو القوة من دون دولة، أو الأفق من دون إله. بذلك صار من المفيد أن نتصور مهمة الفلسفة بكونها أقرب إلى تحرير الجسد من جنسه، وتحرير القوة من منطق الدولة، وتحرير الأفق من الأديان، لكنَّ ذلك لا يعني أن معارك «التحرير» هي مجرد تمارين «نقدية» ضد سياسة الحقيقة السائدة في كل مرة، ولا أنها معارك منفصلة الواحدة عن الأخرى. ذلك أنَّ أصل هذه المقالة هو التنبيه على سبيل التفلسف بوصفه فنَّ الاشتباك مع البؤر الثلاث لإنتاج «المعنى» في كرة واحدة، بوصفها ورشة واحدة متعددة الملامح أو الأدوار أو النوافذ أو الترجمات. ثمة ما يشبه الشبكة الأصلية لصيد البشر. ولأن البشر مجرد حيوانات لها مجرد أجساد تتمتَّع بمجرد قوى تسرح في مجرد آفاق على الأرض، فإن الحياة لا تعدو أن تكون مجرد شبكة لصيد الأجساد والقوى والآفاق في قبضة أو رمية واحدة. كل رمية فلسفية لا تفرق بين ما تصيده من الأجساد أو القوى أو الآفاق؛ فهي جميعًا سمك العالم كما هو ممكن على الأرض. لا يوجد جسد بلا قوة ولا أفق؛ ومن ثم لا فائدة من فلسفة لا تعيد الجسد إلى قوته ولا تضعه في أفقه. فإذا ما تجرَّأت على ذلك أمكن لها عندئذٍ أن تطرح سؤالًا مناسبًا عن «الجنوسة»؛ بوصفها الإطار الراهن لتدبير الأجساد، أو أن تبني استشكالًا جيدًا عن «الدولة»، بوصفها شكل السيادة الحديث الذي امتصَّ كلَّ ممكنات الحياة من الشعوب المعاصرة؛ أو أخيرًا، أن تستقرئ ملامح «المقدس»، بوصفه الوجه الأخير للآلهة على الأرض بعد أن تقطعت بها السبل السردية للطوائف والجماعات والهُويات.

لكنَّ مهمة الفلسفة لا تنحصر في هذه التمارين. لا فائدة من تفلسف يحصر مهمته في معرفة قواعد الجنوسة، أو في تشخيص أشكال الحكم أو في التأريخ للمقدسات. ذلك بأنَّ الفلسفة لا هي نقد للمحرمات ولا هي إنتاج معرفي للقواعد والحكومات والمعتقدات.

لا ترفض الفلسفة ما تفكِّر فيه، بل تستدعيه إلى منصَّة البحث حتى تعيده إلى الركح الذي غادره مبكرًا. نحن نرى الناس أو الآخرين، لكننا منذ وقت طويل لم نعد نرى الأجساد؛ لقد تدرَّبنا بصرامةٍ شديدة على عدم رؤية اللحم والدَّم. ما نراه هو مجرَّد تصنيفات جنسية، سواء أكانت عضوية أو شبقية أو اجتماعية؛ ولذلك لا يجدر بالفلسفة أن تنتظر كثيرًا من أي رغبة تأسيسية في معرفة الجسد كما هو، فهو ليس أو لم يعد هو منذ وقت طويل. كان التجريد اليونانيُّ تحت اسم «الهيولى» مكرًا ثقافيًّا اخترعه شعب معيَّن لحرمان الأجساد من حضورها، وتحويلها إلى إمكان فارغ من أي توقيع، في نوع من الاستيلاء الميتافيزيقي عليها. عندئذٍ فقط يصبح من السهل الترجمة النحوية لها إلى تمييزات المذكر والمؤنث والمفرد والجمع، لا تجد من تبرير لها أكثر من مجرد الإشارة النحوية إلى «جنسها». كل لغة هي نحو يفرغ الأجساد من محتواها الحيوي، ويعاملها بوصفها مجرد عوامل نحوية في جملة لا تراها. وحيثما يسُد النحو تكُن الأجساد قد غادرت منذ وقت طويل لا يتذكَّره أحد، لكن ذلك ليس هو الطريق الذي مشى فيه الطبُّ وعلم الوراثة وعلم الأعصاب … إلخ، ومشى فيه أي تناول «علمي» للأجساد: إن العلم بالمعنى الحديث هو بُشرى سارة للأجساد؛ لأنه يحررها من تاريخها الأخلاقي، من كل استعمالاتها الدينية والقانونية والاجتماعية، ويعاملها بوصفها مجرد مساحات أو صيرورات بريئة للحياة. إن العلم يُسقط كل توقيعات الجسد الأخرى من قبيل اللون والجنس واللغة والدين والعصر … إلخ؛ ومن ثَم هو يعيد لنا أجسادنا في صيغتها «الخاصة». وعلى الفلسفة أن تنتظر كثيرًا مما سيقوله العلم عن الأجساد.

وعلى الرغم من كلِّ تأويلاتنا المتعاقبة للجسد، فإنَّ القوة تظلُّ التوقيع الأصليَّ لهذا الجسد أو ذاك؛ ومن ثم فإنَّ أول علامة على دخول الحيوانات البشرية في تاريخ الأخلاق أو السياسة هو تجريد الجسد البشري من قوَّته ونقله إلى مستوًى آخر من السيادة على نفسه أو على الآخرين: إنه مستوى السيادة بلا قوة، بل ربما السيادة بلا جسد. منذ أول استعمال للقوة ضد بشريٍّ من نفس النوع، انبثقت أجيال متعاقبة، ولكن عرضية دومًا من استعمال الأجساد بوصفها كائنات معرضة للاستعمال بشكل مطلق. إن أيَّ جسد هو لأول وهلة جسد للاستعمال، وليس للمتعة أو للسلطة. هو إمكانية معطاة بشكل بدائي ومتاحة لأيٍّ كان، لكنه استعمال ناجم عن شَبَه أصلي معنا، وليس عن عداوة سابقة. ما يُشبهنا يجرنا إليه مثل امتداد في مساحته الخاصة أو في مساحتنا؛ ولذلك كان لا بدَّ أن يمرَّ وقت طويل قبل أن تتبلور فكرة الجسد «الآخر»، ذاك الذي يشبهنا بلا رجعة؛ ومن ثم فإنَّ أول دلالة لاستعمال الأجساد هي سياسة التماهي مع الشبيه، والرغبة في التشبُّه به إلى حد معاملته بوصفه امتدادًا هوويًّا لنا؛ وذلك يعني أن أصل أي سياسة هي الرغبة في التشبه بالشبيه في شكل امتداد هووي له. إنَّ الرغبة في السيطرة هي ترجمة متأخرة لانفعالات هووية سابقة لم تكن تعرف مفهوم السلطة أو السيادة، بل فقط علاقة الأشباه ببعضها البعض. كلُّ سياسة إنما كانت رغبة هووية في خلق الجسد الآخر على «صورتنا»؛ ومن ثم هي مجرد «تصوير» لهوية ليست لنا أو ليست نحن. وعلينا أن نراقب كل سياسة من جهة علاقتها بالجسد؛ إذْ لا تفعل أي دولة سوى مراقبة إنتاج الأجساد وحراستها. هي على يقين من أنه لا وجود لأي سلطة خارج مساحة الأجساد. ولا توجد دولة على الموتى إلا بالنسبة إلى الأحياء الذين يواصلون تأمين علاقة الدولة بأجسادهم. إلا أنه علينا أن نلاحظ أن المراقبة هي وظيفة تصويرية وهووية، وليست عملًا أمنيًّا إلَّا بشكل متأخر. مَن يراقب يحرس الصورة أو يحمي علاقة بالصورة بهويتها من التلف أو الضياع.

إنَّ الدولة مؤسسة تحرس علاقة الأجساد بصورها. وليست الهوية غير مفعول ميميائي لتنظيم حراسة الأجساد بواسطة السيطرة على «صورها»؛ نعني على قدرتها على «التشابه». بذلك لا تعدو الدولة أن تكون مؤسسة هووية لحراسة التشابه بين الأجساد وتقنينه واستعماله بوصفه مادة سلطة، لكن الأجساد لا نجدها أبدًا حيث نتركها. إنها قوة تشكيلية لإنتاج الصور والتشابيه، لكن ما يميِّز هذه القوة حقًّا هو أنها تتشبه بالمجهول: بالصورة البدائية لأنفسنا، وهو ما عوضناه بصورة الجد الأول أو السلف أو القدوة أو المعلم … إلخ، ذلك النموذج الهووي النائم في كل جسد، وعليه أن يواصل التشبُّه به إلى ما لا نهاية. إنَّ الدولة غير ممكنة من دون تجهيز هووي للأجساد حتى يمكن استعمالها؛ ولذلك تتحوَّل الأنساب إلى مادة قانونية للتحكم في الأجساد ومعاقبتها. لا يحق لنا أن نعاقب جسدًا لا نعرفه، نعني جسدًا لا نتماهى معه بأيِّ شكل كان؛ ولذلك فإنَّ الدولة لا تحكم الغرباء إلا عرضًا، نعني من حيث هم فقط بشر ليس أكثر. إن دولة تعاقب الحيوانات هي دولة خرجت عن مقاس البشر.

حين نجح الحيوان البشري في رسم خطٍّ بينه وبين بقية العائلة الحيوانية، باختراع التصنيفات الجنسية التي تخفي مضامينها الأخلاقية، هو قد دشن تاريخ الدولة. إنَّ أول أثر لظاهرة الدولة هو رسم الخطِّ بين البشر وبين «غيرهم» من الموجودات. لكنه خط سرعان ما تطور إلى رسم خط آخر بين «نحن» البشر و«هؤلاء» البشر. هذه النزعة المبكرة إلى نصب الحدود وبناء الأقاليم ليست مشكلة معزولة عن فنِّ استعمال الأجساد. لا يصبح الجسد «نفسه» إلا عندما يبدأ في الانفصال عن غيره من الأجساد. ولا تبدأ الدولة في التشكُّل إلا عندما يبدأ جيل من الناس في استثمار الحدود بين الأجساد وتنظيم قدرتها على الانفصال. إنَّ جسدًا معزولًا هو مادة مناسبة للسُّلطة، لكنَّ السُّلطة لا تظهر هنا إلَّا لأنها كانت هنا من قبلُ، كانت منتظرة بمقتضى طبيعة الجسد نفسه بما هو كائن لا يوجد إلا منفصلًا عن الأجساد الأخرى مولدًا ومماتًا. إن الدولة مؤسسة تستغلُّ الانفصال بين الأجساد باعتباره مساحة السلطة المفضلة. إنَّ ما نسميه «المجتمع» لا يعدو أن يكون جملة المناطق الفارغة التي تنتج عن انفصال الأجساد؛ مما يتيح للدولة السيطرة عليها واستعمالها بوصفها بمثابة قوة «الفراغ» أو «الفضاء» العمومي.

إنَّ الانفصال بين الأجساد هو الفراغ الذي تؤثِّثه الدولة، لكنها لا تفعل ذلك إلا باستعمال الجنس ضدَّ الأجساد. لا تملك الدولة أيَّ وسيلة أخرى لتدبير الأجساد غير تصنيفها التناسلي والنحوي والاجتماعي. الفراغ هو بنية تصنيفية تجرِّد الأجساد من قواها الحيوية وتقذف بها في شبكة غريبة عنها تقع خارجها، ولكن بواسطة المدونات القانونية. يوشك كل جسد أن يبقى خارج اللغة ما دام لم يأخذ بعدُ مكانَه داخل مدونة قانونية للأجناس. لا يصبح مؤنثًا أو مذكَّرًا من دون مصادقة تشريعية على هذه الحادثة الجنسية. ما يوجد خارج التقييد الجنسي الذي تفرضه الدولة هو مساحة انتماء بلا هُوية؛ ولذلك فكل نقاشاتنا عن المساواة بين الجنسين سوف تظل دومًا في حاجة إلى سلطة تأسيسية تُشرعن ماذا نعني بهذه المصطلحات من قبيل الأنثى والذكر. لا يعني ذلك أنَّ الدولة تنتج أو تتدخل في إنتاج أعضاء الأجساد كما تريد. بل فقط: إن الدولة هي التي تمنح الأجساد هُويتها الجنسية؛ ومن ثَمَّ هي التي تصادق أو لا تصادق على دلالة أعضائها.

ولكن كيف أمكن لجهةٍ ما أن تفرض سلطةً تدَّعي أنها قادرة على المصادقة، أو عدم المصادرة على مدى انتماء الأعضاء إلى الأجساد؟

إنه لا يمكن لأيِّ جهة أن تدَّعي أنها تملك «حقًّا» أصليًّا في المصادقة أو عدم المصادقة على أعضاء الأجساد، إلا إذا كانت تدعي بشكل أو بآخر أنها مقدسة أو تنبع من قداسة ما. لا يمكن ادِّعاء أي سلطة على حقيقة الأجساد من دون مقدَّس أو ما يشبه المقدس؛ ولذلك ليس ثمة من أصل آخر لظهور الآلهة البدائية غير هذا المُشكل: كيف يمكن أن نضفي على هذه الطريقة أو تلك في استعمال الأجساد قدسية ما؟ لم يكن يمكن أن تنجح أي سلطة في تثبيت هذه السلطة الميتافيزيقية على الأجساد، من دون ادِّعاء قداسة ما تتكلم باسمها، أو الادعاء بأنها هي نفسها التي تخاطب البشر. وأول ظهور للمرويات المقدسة لدى كل الشعوب القديمة لم يكن يمكن أن يكون إلَّا من هذا الجنس. نعني: إضفاء قدسية ما على استعمال الأجساد؛ ممَّا يتيح «حقًّا» مطلقًا في تصنيفها وإنتاجها وحراستها. إنَّ نصب المقدس في أفق شعب ما هو أصل أيِّ نوع من السلطة، لكنَّ أصل الحاجة إلى المقدس ليس شيئًا آخر سوى «السياسة»؛ أي الغربة الحاسمة والاستثنائية في معالجة مسألة الحق في استعمال الأجساد. كانت الصعوبة من أصل سياسي: مَن يحق له استعمال الأجساد؟ لكن الحلَّ المقدَّم قد كان دينيًّا: لا يمكن امتلاك أي حق في استعمال الأجساد من دون إضفاء شرعية مقدسة على سلطة ما. تبدو السلطة إذن مشكلًا متأخرًا؛ لأنها نتيجة الحل الذي قدَّمه الإنسان القديم لمشكلة الحق في استعمال الأجساد، لكن السياسة سابقة على أي سلطة: إنها متعلقة رأسًا بتدبير الأجساد حسب ما تمنحه تلك الأجساد من إمكانيات التحكم فيها. وأول ما تمنحه الأجساد من فرص السيطرة عليها هي السمات الجنسية بمختلف أنواعها.

نحن نفترض أن أفضل ورشة لاختبار هذه الأفكار هي التراث التوحيدي، حيث نلاحظ روابط قوية بين تصوُّر الأجساد وتقنيات السياسة وأسماء الإله. وذلك كله في لغات أو مدونات أو سرديات هي نفسها مترابطة على نحو أصلي. لا يمكن أن نفهم أجسادنا (بوصفنا نواصل الانتماء إلى ذلك التراث؛ أي بوصفنا «آدميين») بمعزل عن تاريخ الملة أو بمعزل عن معنى الإله الخالق. إنَّ بين «آدم» (منزلة الحيوان البشري الذي ارتقى إلى رتبة «المخلوق») وبين «الملة» (شكل السياسة التي تقوم على سلطة تأسيسية مستمدة من «شريعة» إلهية) وبين «الإله الخالق» (الذي يتميز عن بقية الآلهة القديمة بالقدرة على «الخلق من عدم») قرابة ميتافيزيقية تأكدت على مستوى اللغات (عبرية، آرامية، سريانية، عربية) والمدونات (الوصايا العشر اليهودية، الكنيسة المسيحية، الشريعة الإسلامية …) والسرديات (الكتب المقدسة). وهذا يعني أنه بعد انتصاب هذه اللغات والمدونات والسرديات التوحيدية لم يعُد يمكن لأي جسد أن يلتقي بنفسه خارج هذه الشبكة، أو دون الوقوع تحت سلطتها بشكل أو بآخر. لقد تحولت مع الوقت إلى أجهزة هووية عميقة لا يمكن الإفلات من تأثيرها الجذري.

وذلك يعني عندنا أنَّ تاريخ الأجساد لا يُكتب بنفس الطريقة أو الدلالة في كلِّ ثقافة. إن الأجساد هي نفسها مصادفات هووية أو أشكال عرضية من الحياة لا يجب ادِّعاء أي «طبيعة» مفارقة لها. وعلى خلاف التاريخ الميتافيزيقي للجسد الذي يمتدُّ من أفلاطون إلى فوكو، علينا أن نقبل بالتحدي الذي يثيره تاريخ الأجساد في التراث التوحيدي الذي يمتد من سفر التكوين إلى القرآن. لن يتعلق الأمر بتاريخ «الجسم» (sôma) بوصفه «سجن» (sêma) النفس (كما ذكر ذلك الشاعر اليوناني فيلولاوس وبعده أفلاطون)، بل بذاك الذي «خلقه الله على صورته» (سفر التكوين).

وعلى الفلسفة أن تساعدنا في طرح الأسئلة المفيدة حول هذا «الحدث» العميق الذي أصاب نمط «الكينونة» في العالم الذي يميز التوحيديين. وهي أسئلة من هذا النوع:

  • (١)

    كيف يمكن أن نؤرِّخ لأجسادنا بحيث يمكنها في نفس الوقت أن تفهم سيرتها الخاصة بقدر ما تتحرَّر من الرواسب الهووية التي صارت معيقةً للحياة داخلها؟

  • (٢)

    كيف أجاب التوحيديون عن السؤال عن معنى «الكينونة» في العالم، بحيث تمكَّنوا من توفير التبرير الميتافيزيقي المناسب لتبرير استعمال الأجساد، وفَرْضه على الأجيال على ذلك النحو بوصفه هُوية طويلة الأمد «للبشر» بوصفهم «آدميين»؟

  • (٣)

    بأيِّ معنًى علينا أن نستشكل الهُويَّة النموذجية للآدميين؛ نعني هُوية «الاستخلاف»، بحيث نساعدها على استئناف العناية بنفسها وَفقًا للسؤال عن أشكال الحياة في المستقبل؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤