الفصل الأول

الإبراهيميون والعدم

السيرة الخفية للاستخلاف

توطئة

مَن هم «الإبراهيميون»؟ يعترف مؤرخون غربيون بأنَّ عبارة «الأديان الإبراهيمية» مثلها مثل عبارة «أهل الكتاب» هي ذات أصل إسلامي.١ ذلك أن عبارة «يهودي-مسيحي» المستعملة في الغرب، والتي تكوَّنت ما بين ١٨٨٠م و١٩٢٠م، هي لا تغطي المسلمين؛ وكان لا بدَّ من انتظار ١٩٦٠م حتى تصبح صفة «الإبراهيمي» مستساغة، وتضم الطيف المسلم الذي فرضته الهجرة.
لكن استثمار رمزية «إبراهيم» لدى المعاصرين هو قد بدأ في القرن التاسع عشر؛ وبالتالي فإن مصطلح «الديانات الإبراهيمية هو مفهوم حديث»،٢ حيث نقرأ منذ ١٨١١م عن «الميثاق الإبراهيمي» (the Abrahamic Covenant) الذي يجمع بين المؤمنين في الغرب.٣ وذلك قبل أن يتحوَّل اسم إبراهيم إلى اصطلاح بحثي لدى المؤرِّخين في الخمسينيات من القرن العشرين، رسَّخه لويس ماسينيون في مقالة نشرها سنة ١٩٤٩م تحت عنوان «الصلوات الثلاث لإبراهيم، أب كل المؤمنين»،٤ ثم تحولت «الديانات الإبراهيمية» إلى حقل دراسات مستقلة بنفسها.٥
وهو اهتمام إشكالي رفعه جاك دريدا، انطلاقًا من ماسينيون، إلى رتبة المفهوم التفكيكي في فلسفة الدين: حيث يعتبر أنَّ العنصر «الإبراهيمي» هو شرط فكرة الدين بما هي كذلك؛ ومن ثمَّ إنَّ كل الذين فكروا في أفق هذا النوع من الانتماء هم في تقديره قد عملوا على عنصر إبراهيمي واحد بات اليوم متفجرًا.٦ وبالفعل، فإنه بعد أحداث ١١ أيلول ٢٠٠١م فقط، إنما انبجست نقاشات جدية٧ حول إمكانية جمع شتات المنتمين إلى الأديان الكبرى الثلاثة تحت راية «الديانات الإبراهيمية»؛ بحثًا عن أواصر السلام المشتركة روحيًّا فيما بينهم بوصفهم «وُرَثاء إبراهيم»٨ وعليهم التعاون التأويلي على فهم ما وقع لهم أو فيما بينهم.

ولكن ما هو القاسم المشترك العميق الذي يجمع بين الإبراهيميين؟

يبدو أنَّ أصلَ كل مقالات الإبراهيميين حول أنفسهم هو طريقة سامية في معالجة مشكلة الموت؛ ولذلك قد لا يكون أخطر اختراع روحي نجح فيه الإبراهيميون هو الله، بل العدم. لا يمكن خلق العالم إلا في أفق حضارة طوَّرت مفهومًا مناسبًا عن العدم. ومن سفر التكوين إلى القرآن، مرورًا بكتابات آباء المسيحية الأوائل، ثمة خيط أنطولوجي مشدود إلى فكرة العدم أخذ مفردات شتى. ومن هناك صارت سردية التوحيد ممكنة برمَّتها. إلَّا أنه لا يمكن إصلاح الانتماء إلى أمم الكتاب إلا بترتيب علاقة جديدة، أي صحية ومناسبة، مع تجربة الموت. ولا يمكن إصلاح معنى الموت إلَّا في نطاق تفكير روحي استطاع إعادة النظر في فكرة العدم. بعد ذلك فقط تصبح فكرة الله مستساغة في أفق البشر؛ أي مفيدة أخلاقيًّا بالنسبة إلى نوع البشر الذين هم نحن. وعليه، يمكن التمييز بين الحضارات بحسب ما تتوافر عليه من اختراعات روحية حول تجربة الموت باعتبارها بؤرة المعنى الخلفية في كل ثقافة.
لكن العدم يقال على وجوه شتى. مثلًا: إنَّ الحضارات البوذية (الهند والصين واليابان) لم تعرف مفهوم العدم، بل عرفت شيئًا يسمونه «السونياتا» (Śūnyatā)؛ أي «الخواء» أو «الفراغ»: فراغ الوجود من ذاته.٩ كما أنَّ الفلاسفة اليونان لم يعرفوا مفهوم العدم، بل شيئًا يسمونه «اللاموجود» (mê eon) (إن الكائن هو غير بالضرورة، وإن الغير نوع من اللاوجود كما في سفسطائي أفلاطون).١٠ وهكذا علينا أن نسأل: كيف وصل الإبراهيميون (أي اليهود والمسيحيون والمسلمون) إلى بلورة مفهوم «العدم» بوصفه المساهمة الميتافيزيقية العليا الخاصة بهم، في إطار النزاع الروحي مع مسألة الموت؟ وهو مقام تأويلي يبدو أنَّ مفهوم هيدغر عن «الكينونة نحو الموت»١١ هو الهالة العليا لأفق الفهم الذي يفترضه. وهو غير ممكن التصور في ثقافة غير إبراهيمية.

لا نموت بنفس الدلالة في كل ثقافة. الموت الذي يتمُّ في أفق فكرة «الفراغ» البوذية (أنَّ العالم فراغ) هو يختلف لا محالة عن الموت في نطاق فكرة «اللاوجود» اليونانية (أن أصل الأشياء «الكاووس» أو الفوضى)، كما أنه يختلف بلا ريب عن الموت في أفق معنى «العدم» لدى الإبراهيميين (أن الله خلق العالم من عدم). لنقل مؤقَّتًا: إنَّ «العدميين» لا يمكن أن يظهروا إلَّا في نطاق حضارة قامت أُسسها الروحية العميقة على فكرة «الخلق من عدم». ومن هنا يمكننا أن نبدأ في التمييز بين العدميين الإبراهيميين وبين «الفراغيين» البوذيين و«اللا-وجوديين» الوثنيين اليونان. إنَّ مجتمعات الهند أو الصين أو اليابان يمكن بلا ريب أن تعاني من النمط البشري «الفراغي» لكنها لن تعرف أبدًا نمط البشر العدمي كما يمكن أن يظهر في فلك مجتمعات الكتاب. إنَّ المؤمن الإبراهيمي مثله مثل الملحد الإبراهيمي (أي الذي يظهر في مجتمعات الكتاب) هو كائن «عدمي» وهو يختلف لا محالة عن المؤمن/الملحد البوذي الذي هو كائن «فراغي»، كما يختلف أيضًا عن المؤمن/الملحد اليوناني الذي هو كائن «لا-وجودي».

لكن بيت الداء هو هذا: كيف نصلح تجربة الموت في أفق ثقافة إبراهيمية؟ نقول: بإصلاح فكرة العدم. ولكن كيف نصلح فكرة العدم؟ بأن نؤرخ لها جيدًا بقصد مراجعتها. بلا ريب، لا يمكن أن نواصل الإجابة عن إشكال كهذا بوسائل سردية مغلقة على الكتب المقدسة. ذلك أنَّ الواقعة الكبرى هي أنَّ الإنسانية في عصر التكنولوجيا الفائقة قد غيَّرت شطرًا واسعًا من سرديتها العميقة؛ ومن ثَم غيَّرت جزءًا حاسمًا من معنى الموت التقليدي. لقد تمَّت كتابة تاريخ جديد، أي غير ديني، للعالم بل للكون غير المتناهي بشكل يتخطَّى كل تصورات الشعوب التقليدية عن «العالم» ما دام «الكون» مفهومًا غير تقليدي تمامًا.

لقد عرفت الإنسانية (نعني فكرة الهُوية التي بلورها النوع الإنساني حول نفسه منذ آلاف السنين) أطوارًا سردية متمايزة بشكل هووي، لكنها تدور كلها حول رهان واحد: إنه رغبة الخلود، نعني ترتيب سردية للانتصار الرمزي على الموت. الخلود هو الإجابة التقليدية التي اخترعتها الإنسانيات المتعاقبة على مشكلة الموت. ويمكن الافتراض بأنَّ الخلود هو أفق المعنى الأساسي الذي حرَّك كل تجارب الموت في أفق النوع الإنساني إلى حدِّ الآن. لكن الإجابة عن مشكلة الخلود/مشكلة الموت لا تتمُّ بنفس الطريقة في كل حقبة. وبإمكان «المؤرخ» (أي «الأنا» العالِم في كل حقبة) أن يلاحظ تطورًا في تقنيات الخلود التي يضطر الحيوان البشري أن يخترعها في كل مرة. يتطلب الخلود في كل مرة تقنية تعبير عن العلاقة مع الأبدية كما تتجلَّى في أفق نوع من البشر. والأبدية اسم لكلِّ أنواع التعالي التي يمكن أن يكتشفها الأنا الروحي لشعب من الشعوب في كلِّ مرة. مثلًا: إن «الآلهة» هي تقنية خلود خاصة بنوع أو جيل من الناس ظهر في حقبة معينة من تاريخ الحيوان البشري. من «يهوه» إلى «الله» مرورًا بكل مفردات الألوهية التي تم تطويرها في سرديات الإبراهيميين، تمَّ تنصيب جهاز التعالي الذي احتاجته تلك الإنسانية (إنسانية الكتاب والكتابيين) التي ننتمي إليها إلى حدِّ الآن. لنقل: إنَّ جهاز التعالي هو جهاز ترجمة فقط. هو جهاز ترجمة العلاقة مع الأبدية، والتي تدور عليها كلُّ تجارب الخلود وكل تجارب الموت الخاص، تلك التي كانت بمثابة الخلفية الرمزية العميقة لظهور فكرة العدم في أُفق الإبراهيميين في وقتٍ معلوم، ووَفق نموٍّ روحي معيَّن بات علينا أن نؤرِّخ له وليس أن ندافع عنه ضدَّ «الكفار» كأننا متكلمون جُدد.

إنَّ المفهوم الجامع الذي يختفي وراء كل هذه المسائل والصعوبات هو الاستخلاف. لا معنى لمفردات مثل «الشخص» و«النفس» و«الروح» و«المكلف» … إلخ في ثقافتنا إلا بالنسبة إلى «الآدميين»؛ أي إلى رهط بشري «يؤمن» بالإله الشخصي، «الخالق» أي الإله الإبراهيمي، نشأ تاريخيًّا في نطاق الشعوب السامية، وأدى إلى بلورة سيرة محدَّدة جدًّا لنمط السلطة على البشر. ليست فكرة «الخلافة» غير تعبير من جملة تعبيرات أخرى عرفها الإبراهيميون من التوراة إلى القرآن. ويبدو أنَّ فرضية التفكير هنا هي: لا يمكن إصلاح نمط السلطة على «البشر» الذين تمَّ تصنيفهم بوصفهم «آدميين»، وتحول هذا التصنيف إلى هُوية أخلاقية لهم طيلة آلاف السنين، إلا بإصلاح تصوراتهم لتجربة الموت، وهو أمر لا يمكن النظر في نواته الروحية إلَّا بمراجعة أطروحة «الخلق من عدم»١٢ التي لئن أخذت أمدًا طويلًا حتى تتكوَّن، فإنها تحوَّلت بنجاعة مرعبة إلى تبرير ميتافيزيقي أخير لعلاقتنا بأنفسنا ولرؤية العالم التي ننتمي إليها.

(١) العدم الإبراهيمي والفراغ البوذي

ما يميِّز الإبراهيميين حقًّا هو مفهوم العدم. والعدم يختلف عن «الفراغ» البوذي بشكل مثير. ويبدو أنَّ كلَّ تعاليم البوذية عن الفراغ إنما تدور حول ما يسمُّونه «السونياتا» أو «السوناتا». وهي مسألة تجادل فيها البوذيون — بما فيهم بوذا نفسه — طيلة أكثر من ألفَي عام.١٣ السونياتا ضرب من الوعي بالفراغ. والسؤال هو: «هل يمكننا أن نسكن في المكان الفارغ من نفسه؟» لكن المحذور الأكبر هو هذا: «لا يمكنك القبض على فراغ الزان من خارج. ينبغي عليك أن تجربه.»١٤
الفراغ بوصفه خاصية ما «لا ذات له» (no-self)، بلا هُوية ولا ماهية ولا مستقبل؛ لأنه خالٍ من أي طبيعة خاصة؛ ولذلك هو يقال على أنحاء شتى: يمكن أن يكون حالة تأمُّل أو سِمة للأشياء أو نوعًا من الوعي، لكن المعنى العام هو تحرير النفس بواسطة الفراغ. لا نتحرَّر إلَّا بقدر ما نفرغ العالم من أي وجود خاص. أن ننظر إليه بوصفه شيئًا «غير قابل للموضعة» (unobjectifiability).١٥

ومعنى الفراغ مبثوث مثلًا في كلِّ نواحي الحياة اليومية اليابانية: في المعمار حيث تكون الأبواب والجدران متحركة لإنتاج «الفضاء»؛ وفي الرسم حيث تكمن قوة الرسم الياباني في جذب الفراغ والقبض عليه كما هو، وتركه مرتجلًا وغير مكتمل: ترك شيء يمكن للمتفرج أن يُكمله. وفي الزان والتاوية ينكشف الجمال عندما ينجح المتفرج في إكمال ما تُرك غير مكتمل. وجاء في مذهب الدفاع عن النفس: «في هذه الرياضة، على المرء أن يعمل على جذب قوة الخصم وامتصاصها بواسطة عدم المقاومة؛ أي بواسطة الفراغ، وذلك مع المحافظة على قوته الخاصة من أجل القتال النهائي.» وثقافة «الزان» هي تمارين في البحث عن الفراغ واستعماله بشكل مناسب من أجل إنتاج السكينة.

وعلى خلاف ثقافة «الغرب» التي تقوم على قيمة «الامتلاء» و«الممتلئ»، كتقنية تملُّك رسمية، حيث إنَّ الفارغ ليس له سمعة طيبة، ومن هنا تم تكريس مبدأ يجري من اليونان إلى ديكارت يقضي بأنَّ «الطبيعة تخشى الفراغ»، يعتقد الياباني أنَّ ما لا يقوله المرء هو ملح النقاش. وفي تعاليم الزان أنَّ التأمُّل موضوعه هو الفراغ: إنتاج الفراغ الباطني. وحده الفراغ يهيئ مكانًا للقاء مع الآخر، سواء أكان شخصًا أم عالمًا.

بَيْد أنَّه إذا كان الفراغ البوذي فضاءً فهو ليس فوضى (مثل اللاموجود اليوناني). الفراغ عنصر من النظام، مقبول ومحمود. وهو ليس ثابتًا، بل هو ما يساعد الأشياء على الحركة؛ ولذلك فإنَّ الحرب هي محاصرة الفراغ والسيطرة عليه. الفراغ هنا مصدر معنى. والبوذي ناغارجونا (١٥٠–٢٥٠) الذي أحدث في الهند مبدأ الفراغ قال إن الأشياء «لا هي موجودة ولا هي غير موجودة.» بل إن الفراغ هو الطبيعية الحقيقية للحياة. والتأمُّل الروحي ليس له مضمون، بل هو فَهْم الفراغ في وجودنا. السونياتا تعني خلاء الموجودات والأشياء من ذات أو ماهية سابقة أو لاحقة لها. والقصد هو أنه لا شيء يمتلك سلفًا وجودًا خاصًّا به، فقط هو يوجد في علاقته بشيء آخر. هو فراغ في معنى أنه خالٍ من الوجود الخاص أو الذاتي أو الجوهري: الأشياء لا ذات/ماهية لها.

لكن السونياتا ليست عدمًا؛ ومن ثم فإن البوذية ليست عدمية كما ظنَّ نيتشه الذي نبَّه في تصدير جنيالوجيا الأخلاق إلى خطر أن تنقلب الثقافة الأوروبية إلى «بوذية جديدة … بوذية أوروبية؛ أي إلى عدمية». لكن البوذية الآسيوية هي مذهب شرقي في الفراغ. وهو «غير غربي» تمامًا، نعني ليس يونانيًّا ولا إبراهيميًّا. إنَّ الراهب البوذي ليس فيلسوفًا (ليس له قول في غيرية اللاوجود)؛ وهو ليس نبيًّا (ليس له كتاب مقدَّس في الخلق من العدم)؛ بل هو حكيم الفراغ.
والفراغ البوذي ليس مجرَّد «تعالق» بين الأشياء كما يفهم العقل الغربي؛ بل هو حدس لمستوًى من الحياة علينا اختراعه. جاء في بعض نصوص البوذية: «الفراغ هو شكل والشكل هو الفراغ».١٦ وبهذا المعنى، فإنَّ العالم برمَّته ضرب من الفراغ. إنَّ الفراغ البوذي معناه غياب الاتصال الواقعي الثنائي بين كيانين منفصلين هما «الإنسان» و«العالم»، بين «الشخص» و«الشيء». فإن الإنسان البوذي مثله مثل العالم ليس له وجود «في ذاته». وتعلم البوذية أن الأشياء من حبة الرمل إلى جملة الكون هي فارغة. والفراغ فيها له معنًى محدد: هي فارغة من «نفسها» أي من وجود خاص بها، ثابت وباطني ومستقل برأسه. إنَّ الفراغ البوذي هو فراغ من الذات، من ادِّعاءات السيطرة على أيِّ شيء. والأشياء لا وجود لها إلا اسمًا فقط. فالفراغ يكتنفها من الداخل (من جهة الذات) ومن الخارج (من جهة الموضوع). والفراغ نفسه ليس موضوعًا لذاته، بل هو يوجد بشكل فقاقيعي؛ والفراغ حجاب (المايا) لكنه لا يحجب شيئًا؛ ولذلك فالحرية القصوى (النيرفانا) ممكنة لأن الوجود فارغ واللاوجود فارغ، ونحن لسنا مختلفين عن المطلق. وخواطر النفس مثل العصافير: تعبر سماء روحك ولا تترك أثرًا.

(٢) سردية العدم الإبراهيمي ١: «توهو وبوهو» التوراتي

نقرأ في مفتح سفر التكوين: «في البدء خلق الله السموات والأرض، وإذْ كانت الأرض مشوشة ومقفرة (توهو وبوهو)» (١: ١–٢) أو في ترجمة أخرى: «في البدء خلق الله السموات والأرض. كانت الأرضُ قاحلةً وفارغةً.»

إن العبارة التي تهمُّنا هنا هي «مشوشة ومقفرة» أو «قاحلة وفارغة»: فهي مدار نزاعات تأويلية خطيرة. ونكتة النزاع تنصرف حسب الترجمة المقترحة من العبرية إلى لغة أخرى، وأولها بلا ريب هي اليونانية. ذلك أن ترجمة العهد القديم من العبرية إلى اليونانية — (وهو ما سُمِّي الترجمة السبعينية) حوالي ٢٧٠ قبل الميلاد بطلب من بطليموس الثاني (توفي سنة ٢٤٦ق.م.) الذي هو ملك فرعوني حاول التوفيق بين الحضارة اليونانية والحضارة المصرية، إنما كانت بمثابة حدث ميتافيزيقي وسياسي من الطراز الكبير، ليس فقط على صعيد روحي، بل على مستوى التحوُّل الجذري للتقليد الإبراهيمي لاحقًا، نعني بالنسبة إلى تشكُّل فكرة الإنسانية «الغربية» بعامة.

إن اللفظة العبرية في المقطع المشار إليه هي «توهو وبوهو» (Tohu-va-Bohu). «tohu» () أي بلا شكل؛ و«bohu» () أي خالية، فارغة. وهي عبارة مركبة من لفظَين مشتقَّين من جذرين غير قياسيين، وتنطوي على معاني انعدام الشكل والشواش والفراغ والخلاء وعدم التمايز.
وقد تمَّت ترجمتها إلى اليونانية في معنى «غير مرئية، غير مشكَّلة وغير منظَّمة، غير معدَّة» (aoratos kai akataskeuastos). وهو ما أخذت به الترجمات اللاتينية (inanis et vacua) التي أخذت تظهر ما بين القرنين الثاني والرابع بعد الميلاد، والتي تمَّت أول الأمر عن الترجمة اليونانية. وكان ذلك قرارًا تأويليًّا يقع تحت تأثير الفلسفة، وخاصة الأفلاطونية التي تذهب إلى أن العالم كان في البداية غير منظَّم، ثم تم تنظيمه وإدخال التناغم والجمال عليه.

والمتصفِّح لاستعمالات هذه العبارة في العهد القديم يكتشف أنها تقال على معانٍ عدة، ولكن متقاربة: مقفرة، فارغة، موحشة، خربة، قاحلة، صحراء، غير متشكلة، غير مهيأة، فوضى …

نقرأ في سفر التثنية: «وجدهم في أرض قفر وفي خلاء موحش» (٣٢: ١٠)؛ وفي سفر صموئيل الأول: «ولا تحيدوا؛ لأنَّ ذلك هو اتِّباع الفراغ، وهو لا يفيد ولا ينقذ، ذلك أنَّ الأصنام هي فراغ» (١٢: ٢١)؛ وفي سفر أيوب: «فتحيد القوافل عن طريقها، وتوغل في الصحراء/التيه فتهلك» (٦: ١٨)؛ وفي سفر المزامير: «يصبُّ الله الهوان على الرؤساء، ويضلهم في فوضى/أرض تيه ليس فيها طريق» (١٠٧: ٤٠)؛ وسفر إرميا (المكتوب أصلًا بالآرامية): «ونظرت إلى الأرض: كانت فوضى/كاووس/خربة خاوية» (٤: ٢٣).
والسؤال عندئذٍ هو: ما معنى «خلق» («برأ» في العبرية) عندئذٍ؟ أين أطروحة «الخلق من عدم» في العهد القديم؟١٧ إلى أي مدًى يمكن فهم «توهو وبوهو» على أنه يعني «العدم»؟
علينا الإقرار بأنَّ أطروحة الخلق من عدم ليست موجودة حرفيًّا في سفر التكوين ولا في أي موضع آخر من العهد القديم أو التوراة العبرانية، لكن من الممكن أن نراها ضمنية في روح الكتاب، وخاصة في دلالة فعل «برأ» في العبرية؛ أي معنى «الخلق» القرآني. وخاصة غياب الإشارة إلى أيِّ نوع من «المادة»، بل «كلمة» الله هي التي تخلق.
لكن ما ينبغي تسجيله هو أنَّ فهمًا جديدًا قد أخذ يتشكَّل لمعنى الخلق في سِفر التكوين: إنه فهم فلسفي يتأوَّل «توهو وبوهو» العبري في معنى «الكاووس» اليوناني. وبدأ القارئ «الغربي» يُدخل نبرة جديدة غير عبرية، بل يونانية على النص: أن «الخلق» هو خلق انطلاقًا من «فوضى» سابقة. وهو معنى ترجمة «برأ» العبرية بلفظة «epoiēsen» اليونانية أي «صنع»، وذلك في نطاق تقليد يوناني يعود إلى هزيود (القرن الثامن ق.م.): الذي يتحدَّث عن «كاووس» الإله السابق على كل العوالم وكل الآلهة. ولكن علينا التنبيه للتوِّ بأنَّ تأويل «توهو وبوهو» العِبري، على أنه يعني «كاووس» اليوناني هو مقترح غير مناسب؛ لأنه يُفقِد المفردة العِبرية روحها (أي إنَّ كلمة الله هي التي «تخلق» العالم من عدم)، ويقتصر على حرفيتها ويقرؤها بشكل وثني مثل نصٍّ بابلي أو يوناني (أن الله «كوَّن» الأشياء انطلاقًا من تنظيم «الفوضى» السابقة). وكان فولتير في ترجمته للكتاب المقدَّس هو أول من أعاد اللفظة العبرية «توهو وبوهو» إلى الترجمات الغربية الحديثة سنة ١٧٦٤م. وهو نوع من التنبيه إلى أنه لا توجد لفظة «غربية» (أي من جذر يوناني أو لاتيني) مناسبة للإيفاء بالمفردة العبرية، والأغلب أنها تدور كلها في مساحة المعنى التي ضبطتها الترجمة السبعينية؛ أي الترجمة اليونانية: معنى أن الأرض (كما هو متكرر في الترجمات الإنجليزية المختلفة) كانت «بلا شكل وفارغة» (formless and empty)، مع معانٍ مصرفة في هذا المنحى مثل «خشنة»، «مقفرة»، «خالية»، غير متشكلة …
بكلمة جامعة: إن «توهو وبوهو» العبري هو إشارة نحو أطروحة الخلق من عدم، لكنها إشارة لا تعبِّر عنها صراحةً، فهي تعبير لا يزال يعوِّل على معجم وثني للإشارة إلى معنًى غير وثني، لكن الترجمة السبعينية قد أدخلت نبرة جديدة سرَّعت الطريق إلى تلك الأطروحة. وذلك عندما ضخَّت معنى «اللاوجود» (mê eon) في لغة العهد القديم حين صار يُقرأ باللغة اليونانية. وصار الخلق لا يعني كلمة «كن فيكون» بل صنع الأشياء «انطلاقًا من اللاموجود». إن النص الإبراهيمي قد تم ضخه في اللغة الغربية الكبرى — أي اليونانية — بوصفه قابلًا للفهم في معجم الوثنيين: عندئذٍ تم ترجمة اﻟ «توهو وبوهو» العبراني في «مي أون» اليوناني، وانتقلنا من سيرة «إلوهيم» الخالق بواسطة كلمة «كن» إلى تدبير «زوس» الصانع الذي ينظِّم «الكاووس».
علينا أن نلمس التقدم الضئيل ولكن المتين من معنى «توهو وبوهو» العبري (الوصف الوثني للخلاء أو للصحراء) إلى «اللاموجود» اليوناني (الذي ينجح في جوهرة «النفي» وتحويله إلى مقام أنطولوجي كما نرى ذلك من قصيدة بارمنيدس إلى محاورة السفسطائي).
إلا أنه ثمة معطًى لا بدَّ من التعرض له في هذا الطور من البحث: أن فكرة «الخلق من عدم» لئن كانت غريبة عن أسفار العهد القديم المعترف بها في التوراة العبرانية؛ فهي قد وجدت طريقها إلى كتاب أسفار العهد القديم في فترة متأخرة من تاريخ اليهودية، ونعني بالتحديد في القرن الثاني قبل الميلاد، في سِفر المكابيين الثاني، (المكتوب على الأغلب حوالي سنة ١٢٤ قبل الميلاد وباللغة اليونانية مباشرةً، وهو سِفر غير معترف به في التقاليد اليهودية)، حيث نقرأ قصة أم مؤمنة ترى أبناءها السبعة تُسلخ جلود رءوسهم وتُجدع أطرافهم أمام عيون إخوتهم، وهي تحثهم على أن يموتوا بشجاعة:

«انظر، يا ولدي، إلى السماء والأرض، وإذا رأيت كل ما فيهما فاعلم أن الله صنع الجميع من العدم، وكذلك وُجد جنس البشر.» (٧: ٢٨)

هذه الترجمة تحتوي على تأويل بعيد علينا أن نؤرِّخ له: إنَّ المفردة المستعملة في هذا السِّفر ليست «من العدم» كما نقرأ اليوم، بل «من اللاموجود»، أو «ليس من الموجودات» (οὐκ ἐξ ὄντων) انطلاقًا من الترجمة اليونانية. وهو ما أعطى في اللاتينية لاحقًا عبارة «creatio ex nihilo» الشهيرة، «الخلق من عدم» في مقابل «الخلق من مادة» (creatio ex materia).

ومع ذلك، فإن الباحثين يُنبِّهون إلى أنَّ أطروحة «الخلق من عدم» تبقى غريبةً عن المعجم العبراني، ولن تتشكَّل إلا حوالي سنة ٢٠٠ بعد الميلاد. فإن الأم المكابية لم تطرح «مفهوم» الخلق من عدم، بل إنَّ كلامها يظلُّ في حدود الخطاب الدعوي عن آداب الشهداء. إن المؤمن اليهودي هو الذي يكتب هنا باللغة اليونانية عن تجربة الاستشهاد الغريبة عن معجم المجد الوثني: يكتب ضد اليونان الذين يريدون فَرْض آلهتهم الوثنية على اليهود، حتى يتركوا الإله الإبراهيمي. وكان أقصى وصية ترفعها الأم المكابية لأبنائها الشهداء هو التذكير بأن الله قد خلق كل شيء مما لا يمكن لليوناني أن يفهمه، ولا لليونانية أن تقوله إلا تحت عبارة «اللاوجود».

سردية العدم الإبراهيمي ٢: أطروحة «الخلق من عدم» (Creatio ex Nihilo) المسيحية

كما في سرديات المصريين والبابليين، كانت سردية الماء قد لعبت أيضًا في نصوص العهد القديم دورًا أساسيًّا في بلورة فكرة خلق العالم. لكنَّ شيئًا جديدًا قد أتى به سفر التكوين الإبراهيمي؛ فهو «قد أعطى أولويةً للمكر الإلهي على القوة التكوينية للمياه.»١٨ إنَّ التوراة العبرانية لئن كانت تُثبت القدرة اللامتناهية للإله الخالق، فقد كانت صامتةً حول المعنى الدقيق لخلق العالم: كان فعلُ الخلق أهمَّ من المادة التي خُلق منها العالم. وبعد الترجمة السبعينية التي أنطقت التوراة العبرانية باللسان اليوناني حوالَي سنة ٢٧٠ قبل الميلاد، ظهر يهود مُهَلْيَنُون (hellenized Jews) مستعدون للقبول بالتعاليم اليونانية عن مفهوم المادة، ودوره الأساسي في أي تخريج لفكرة الخلق.١٩ ففي سِفر الحكمة المعروف بعنوان «حكمة سليمان» (وهو سِفر يخمِّن المؤرخون أنَّ تاريخ كتابته يعود إلى عهد كاليغولا ٣٧–٤١ بعد الميلاد)،٢٠ جاء ما يلي:
«ولم يكن صعبًا على يدك القادرة على كلِّ شيء، التي صنعت العالم من مادة غير مصورة (ἐξ ἀμόρφου ὕλης)، أن تبعث عليهم جمًّا من الأدباب أو الأسود الباسلة.» (١١: ١٧)
هذا الموقف القابل لمذهب اليونانيين في الخلق من مادة غير مصوَّرة أو غير مشكَّلة؛ قد كان سائدًا حتى القرن الثاني بعد الميلاد، ونجده مستقرًّا لدى كتَّاب وفلاسفة يهود آخرين، كما هو الحال خاصَّة لدى فيلون اليهودي، الذي انتهت مسيرته على الأغلب حوالَي سنة ٤٠ ميلادية، والذي فكَّر في مفردات أفلاطون عن مقولة «الوعاء» الذي يحوي الموجود، إلَّا أنه كان يفهم معنى «المادة» فهمًا رواقيًّا بوصفها «مبدأً منفعلًا» مقابل العقل بما هو «مبدأ فعال».٢١
بَيْد أنه في النصف الثاني من القرن الثاني بعد الميلاد،٢٢ وعلى نحوٍ لا يجد أصلًا حقيقيًّا له، لا في العهد القديم ولا في التأويل اليهودي له، ودون أي مرتكزٍ يشهد له في نصوص العهد الجديد، إنما ظهرت فجأة أطروحة الخلق من عدم باعتبارها موقفًا يمكن تبنِّيه لاهوتيًّا والدفاع عنه. إنه موقف قد اتَّخذه لاهوتيون مدافعون عن المسيحية (apologists) في أواخر القرن الثاني من قبيل تاتيان السوري (Tatian، ت: ١٧٣م) وثاوفيلوس الأنطاكي (Theophilus، ت: ١٨٥م)، ثم طوَّره جيل لاحق من اللاهوتيين مثل إرينايوس (Irenaeus، ت: ٢٠٢م) وترتوليان الآتي من قرطاج الرومانية، والذي عُدَّ أبَ المسيحية اللاتينية (Tertullian، ت: ٢٤٠م) وأوريجانون (Origen، ت: ٢٥٤م).٢٣

هذا الجيل من الكتَّاب المسيحيين الأوائل هو الذي رسم وطوَّر أطروحة الخلق من عدم، التي أعطت للمعنى الإبراهيمي لفكرة الخلق، وخاصة لمفهوم الإله الخالق، كل هالتها.

لا ينبغي التعامل مع أطروحة الخلق من عدم، وكأنها مواصلة تأويلية لسِفر التكوين العبراني بشكل يعبر العهد الجديد المسيحي إلى حدِّ القرآن المحمدي. بل علينا أن نقرأها بوصفها تجديدًا فظيعًا في التقليد الإبراهيمي. وعلينا أن نؤرِّخ لها بشكل مناسب؛ وذلك لما تنطوي عليه من دورٍ استراتيجي مهيب في بلورة معنى الاستخلاف، وعلاقتنا بسردية الموت في تراثنا العميق، نعني ادعاء الإنسان الديني أنه يستطيع أن يمارس نوعًا من التعالي اللاهوتي على موته وعلى غيره من البشر، بقوة استثنائية يقتبسها من إيمانه بالإله الشخصي للإبراهيميين، ذاك الذي يستمدُّ ماهيته من القدرة غير المتناهية على الخلق من عدم. وعلينا أن نسأل: ما الحاجة الروحية أو الفكرية التي دَعَت المسيحيين الأوائل، وبالتحديد في النصف الثاني من القرن الثاني بعد الميلاد، إلى افتراع فكرة الخلق من عدم؟ يقول أحد الباحثين بهذا الصدد: «Creatio ex nihilo يمكن أن تُفسَّر كأفضل ما يكون باعتبارها دفاعًا عن الجزء الأكثر جدلًا من البشارة (kerygma) المسيحية، نعني البعث من الموت.»٢٤
إنَّ أول مُشكلٍ تثيره فكرة البعث المسيحي هو تعارضها المطلق مع مفهوم الموت، كما حدَّه الفلاسفة اليونان: لا يمكن لمادة هي وعاء للكون والفساد أن تصبح مقرًّا لإيواء كائن إلهي. ومن ثَم فإن الحلَّ هو إما التنازل للعقل اليوناني والقبول بأن البعث لم يكن جسديًّا، كما فعل بعض الغنوصيين، وإما تغيير ماهية العقل البشري والبحث عنه في مكان آخر؛ بحيث يمكن أن يقبل بأن البعث قد كان بعث الجسد، وليس فقط بعث الروح. وهو ما فعله تاتيان وثاوفيلوس اللذان حوَّلا أطروحة الخلق من عدم إلى سلاح لإثبات معنى البعث بعد الموت ومهاجمة القول اليوناني بالخلق من مادة غير مصوَّرة،٢٥ ولكن خاصة من أجل الدفاع عن فكرة إله خالق يذهب في الحرية إلى أبعد ممَّا تسمح به مقولة السببية في الفلسفة اليونانية،٢٦ وذلك مع الإقرار بأنَّ الكتاب المقدَّس برمَّته لا يتطلَّب أطروحة الخلق من عدم،٢٧ وأنَّ العهد الجديد لا يقرِّر إلا أنَّ الخلق يدين بنفسه إلى «الكلمة» (λόγος) وهو خاضع لها وحدها.٢٨
ويبدو لمؤرخي الأديان أن تاتيان السوري هو أول من قال بأنَّ المادة نفسها مخلوقة من طرف الله. وهو قولٌ سوف يتحوَّل إلى عقيدةٍ حول الكتاب المقدس بقدر ما سينجح المسيحيون في بلورة تفكير خاص بهم في مساجلاتٍ مطردةٍ مع المذاهب الفلسفية المعاصرة لهم،٢٩ لكنَّ المسيحيين ربما لم يأتوا إلى فرضية الخلق من عدم إلَّا لتفسير مفارقة الإله الذي له جسد، ولا سيما مسألة البعث من بين الأموات.٣٠ هذا يعني أنَّ نصوص العهد الجديد تخلو هي الأخرى من أطروحة الخلق من عدم، وأنها تالية عليها، بل هي قد ظلَّت في بعض جوانبها حبيسة التقاليد الشرقية في تفسير الخلق بواسطة سردية المياه،٣١ كما نقرأ ذلك في رسالة بطرس الثانية:
«إنهم يتناسون، عمدًا، أنه بكلمةِ أمرٍ من الله وُجدت السموات منذ القديم، وتكونت الأرض من الماء وبالماء. وبكلمةٍ منه أيضًا، دُمِّر العالم الذي كان موجودًا في ذلك الزمان، إذْ فاض الماء عليه.» (٣: ٥)
كل حديث عن أطروحة الخلق من عدم في نصوص العهد الجديد هي تخريجات واستنباطات، ولكن لا نعثر على قول فصل يقطع مع تقاليد سفر التكوين.٣٢ وأول استنباط هو فهم كلمة «كنْ» (Γενηθήτω φῶς، Fiat lux، ليكن نور) أي التكوين بواسطة الكلمة، على أنها تعني الخلق من عدم. وأفضل مثال على ذلك من أعمال المعاصرين هو تأويل رودولف بولتمان الذي قرأ العبارة في إنجيل يوحنا (١: ١–٣؛ وكذلك ١٧: ٢٤) على أنها تعني الخلق من عدم. وفي المقطع الأول لا نقرأ سوى هذه الجملة: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله. وكان الكلمة هو الله. هو كان في البدء عند الله. به تكوَّن كل شيء، وبغيره لم يتكوَّن أي شيء مما تكوَّن.» وهذا التأويل هو حسب أحد الباحثين مجرد إسقاط أنثروبولوجي.٣٣
وهو معنًى قد تمت محاولة استنباطه أيضًا من الرسالة إلى العبرانيين: «وعن طريق الإيمان، ندرك أنَّ العالم كله قد خرج إلى الوجود بكلمةِ أمرٍ من الله. إنَّ عالمنا المنظور قد تكوَّن من أمور غير منظورة» (١١: ٣). لكن الخلق انطلاقًا ممَّا هو «غير منظور» أو «غير ظاهر» هو مصطلح مريح بالنسبة إلى تقليد أفلاطوني أو رواقي؛ لأنه يشير إلى مادة بلا صفات.٣٤ نحن لا نزال أمام نصوص تقبل فكرة الخلق من مادة وليس من عدم.
أمَّا الإطار الأنطولوجي الخفي الذي يحكم أطروحة «الخلق من مادة» (creatio ex materia) فهو لا يزال بلا ريب مفهوم «اللاموجود» كما ضبطه اليونان في قصيدة برمنيدس. وهذا ساطع — على سبيل المثال — في رسائل بولس، كما نرى ذلك في الرسالة إلى أهل رومية:
«كما قد كُتب: «إني جعلتك أبًا لأمم كثيرة». (إنه أب لنا) في نظر الله الذي آمن به، والذي يُحيي الموتى ويستدعي إلى الوجود مما كان غير موجود.» (٤: ١٧)
ثمة مسافة مفهومية لا يزال يجب قطعها من أطروحة الخلق «من غير الموجود» (ek mê ontos) إلى أطروحة الخلق «من عدم» (ex nihilo). كان القرن الأول الميلادي والنصف الأول من القرن الثاني، بمثابة مرحلةٍ وسيطةٍ دشَّنت ورشة تدريبية لإعادة تأويل معنى «التكوين» في مفردات أفلاطونية، تقول بفكرة «الخلق من مادة» سابقة وغير متشكِّلة. حيث يقول جوستينوس النابلسي أو جوستينوس الشهيد٣٥ في مصنَّفه الأبولوجيا الأولى للمسيحيين (المكتوب ما بين سنة ١٥٣ و١٦١): «ولقد علمنا أن الله في البدء لأن وجوده خير، هو قد أخرج العالم من المادة التي لا صورة لها من أجل الإنسان.»٣٦ وهي مصطلحات أفلاطونية تمامًا إلَّا أنَّ جوستينوس يفترض أنَّ أفلاطون نفسه قد اقتبسها هو بدَوره من سِفر التكوين.٣٧
كان لا بدَّ إذن من انتظار النصف الثاني من القرن الثاني بعد الميلاد، حتى تتبلور أطروحة الخلق من عدم بشكل صريح لدى تاتيان الذي ذهب إلى مدًى أبعد من أستاذه جوستينوس، وطرح «استعمالها بمثابة تبرير لانبعاث الميت»٣٨ من القبر. وصار ممكنًا الربط عندئذٍ بين مسألتَي الخلق والبعث، حيث تنبثق حدَّة العلاقة المشتبكة بين العدم والموت، بين الخلق من عدم والبعث من الموت. لكنَّ الرهان بلا ريب لم يكن فلسفيًّا، بل كان يتعلَّق بمسألة حارقة هي تفسير طبيعة المسيح الذي تقرَّر معناه بوصفه «ابن الله» الذي وُلد بلا أب، وصُلب وانبعث من بين الأموات. وهذه مفارقات لم تكن الفلسفة اليونانية قادرةً على توفير إطار اصطلاحي ملائم لفَهْمها من الداخل.
ولذلك كان أول مطلب طرحه تاتيان هو إثبات «قِدم الله»، أو معنى كونه خارج الزمان؛ أي «لا بَدْء له» (ἄναρχος)، وهو «بَدْء لكل شيء»؛ لكونه معنًى مقومًا لمقولة «البشارة»، وهو معنًى يتناقض مع القول الرواقي عن الله والمادة بوصفهما مبدأَين اثنَين. ولا مخرج من صعوبة كهذه إلَّا بالدفاع عن إله يوجد وحدَه بالكلية، ويكون قادرًا على خَلْق المادة نفسها. وبذلك كان تاتيان أول من قال تاريخيًّا بأطروحة الخلق من عدم.٣٩ وإن كان ثمة مَن ينسب أول استعمال لهذه الأطروحة إلى ترتوليان.٤٠
يقول تاتيان: «وذلك أنَّ المادة ليست، مثل الله، بلا بداية؛ ولا هي، من حيث هي بلا بداية، تملك قوةً مساوية لقوة الله؛ إنها مخلوقة، وليست منتَجة من قِبل أي موجود آخر، بل هي قد حُملت إلى الوجود من قِبل صانع كل شيء وحده.»٤١
ليس من الصدفة أنَّ قول تاتيان في إثبات أنَّ المادة مخلوقة وأنَّ الله لا يخلق من مادة؛ قد جاء في كتاب عنوانه «إلى اليونانيين» (πρὸς Ἕλληνας): لم يكن يمكن توجيه معركة التحرر من مفردات الأنطولوجيا اليونانية إلَّا إلى اليونانيين. ومن المثير أنَّ تاتيان يفتتح خطابه بدعوة اليونانيين إلى التواضع أمام الأمم «البربرية» التي اقتبسوا منها كل شيء يفتخرون به، قائلًا لهم مخاطبًا: «هل ثمَّة واحدة من مؤسساتكم لا تدينون بها في الأصل إلى البرابرة؟»:٤٢ الفلك من البابليين، والسحر من الفرس، والهندسة من المصريين، والكتابة من الفينيقيين … إلخ، ثم يسرع إلى التخرُّص على الفلاسفة اليونان مثل ديوجان الذي عاش في برميل ومات بسبب أكله أخطبوطًا نيئًا، أو أفلاطون الذي بِيع في سوق النخاسة، أو أرسطو الذي تملَّق الإسكندر الفتى المعتوه وقال بأنَّ الله لا يعلم ما دون فلك القمر … إلخ.٤٣ كان تاتيان — في صيغة مثيرة من النزعة «الديكولونيالية» — يدافع عن حقِّ البرابرة في إنشاء مؤسساتٍ خاصة بهم، وخاصة عن حقِّهم في الإيمان بما لا يمكن للفلسفة اليونانية أن تقوله، أو تُبرهن عليه.
قال: «أيها اليونانيون، لماذا تصنعون من اختلاف المؤسسات سلاحًا وتصوِّبونه ضدَّنا، كأننا في حلبة ملاكمة في الإلياذة (pugilat)؟ لماذا تكرهونني مثل مجرم خطير لمجرد أنني لا أريد أن أتوافق مع عادات البعض؟ … أنا أعرف ما معنى العبودية؛ وذلك أنه ينبغي تكريم الناس طبقًا لطبيعة البشر، ولكنَّ الله هو وحده الذي يجب أن أخشاه. الله الذي هو غير منظور لأعين البشر، الذي لا حيلة لهم في إدراكه … إنَّ إلهنا لا بدايةَ له في الزمان، فهو وحده البداية، وهو نفسُه بدايةُ كل شيء. إن الله روح؛ وليس هو بمحايث للمادة، بل هو الخالق لأرواح المادة وخالق الصور التي فيها … نحن نعرفه بخلقه، وبآثاره نحن نتصور قدرته غير المرئية. وأنا لا أريد أن أعبد مخلوقاته، التي صنعها من أجلنا.»٤٤
نحن أمام تحرُّر مختلف التعبيرات: فبعد التحرُّر الأنطولوجي من التصور الفلسفي للخلق من مادة، أقدم تاتيان على تحرُّر هووي من كبرياء اليونانيين باختلافهم، وتوَّج ذلك بتحرر أعلى رتبة هو التحرر الروحي من المفهوم اليوناني للألوهية. وأقوى تعبير علينا ذكره هنا هو إدخال مفهوم «الروح» الذي هو توقيع إبراهيمي تمامًا، يقطع المسافة التي يرتبك أمامها الفلاسفة، تلك التي تفصل معنى «النفس» (ψυχῇ) الوثنية عن «الروح» (Πνεῦμα) التوحيدي. وبهذه العدَّة أقدم تاتيان على الدفاع عن فكرة البعث بعد الموت التي هي ترجمة تفصيلية لأطروحة الخلق من عدم.

إنه لا يمكن (حسب العقل اليوناني الأفلاطوني أو الرواقي) أن نتصوَّر البعث الشخصي للجسد بعد موته، إلا إذا قبلنا بفكرة الخلق من عدم. كان هذا أمرًا محذورًا تمامًا بالنسبة إلى اليونانيين؛ ولذلك فإنَّ المسيحية لم تكن ممكنةً بوسائل الفلسفة اليونانية، على الرغم من أنَّ لغة الكتابة والترجمة للنصوص المقدسة قد كانت هي اليونانية. وكان ذلك بمثابة تمرين رائع على معنى الخلق من عدم: لقد نجح المسيحيون في خَلْق لغة يونانية خاصة بهم بإمكانها خَلْق أطروحات وأفكار غير يونانية تمامًا، نعني غير أفلاطونية أو غير رواقية؛ فاللغة لم تكن حاجزًا أبدًا، بل كانت ورشةً للتمرين على الانتماء إلى ثقافة لم توجد بعدُ.

لقد عاد تاتيان إلى فكرة سِفر التكوين عن «البدء»، لكنه نقل معنى «كن» من البداية في الزمان إلى البداية في «الكلمة» أو في «اللوغوس». الخلق هو «قوة الكلمة» (λόγου δύναμιν)، وليس مباشرة «المادة» من قِبل «الصانع». ولأن الكلمة هي أول ما يخرج من الله، فإن الكلمة كانت ولا شيء معها، فالخلق لاحقٌ على وجودها. ويقيم تاتيان توازيًا مثيرًا بين الخلق والكلام: إنَّ الخلق الإلهي هو فعل كلامي محض. كل مادة مخلوقة هي نطق أو تعبير (προβάλλω، proballo) في معنى نمو البذرة أو الورقة أو الانبثاق، وهو لفظ ورد في نصوص العهد الجديد.٤٥

وبهذا المعنى فقط — أن الخلق محض كلمة — كان الله «وحيدًا». إن توحُّده الأصلي السابق على الخلق شرطٌ لبلورة فكرة الخلق من عدم. ويلجأ تاتيان هنا إلى استعارة المشعل: مشعل واحد يمكن أن نقتبس منه نيرانًا عدَّة، كذلك كلُّ مَن ينطق بالكلمة فهو يقتبس من خلقه. إن الوجود مثل اقتباس النار من مشعل واحد سابق وأصلي ووحيد. وهذا المشعل لا يدين لأحد ولا لأي شيء بشيء. وهنا بالتحديد يصبح الدفاع عن إمكانية البعث من الموت ممكنًا بوسائل جديدة.

قال: «وكما أنني لم أكن قبل أن أولد، وكنت أجهل مَن يجب أن أكون … وكما أنني، بعد أن وُلدت، أنا آمنت بوجودي بمقتضى ولادتي، كذلك، أنا الذي ولدت، والذي بسبب موتي لن أكون ولا أحد سيراني بعدُ، أنا سوف أكون من جديد، تمامًا كما وُلدت بعد زمن فيه لم أكن موجودًا. وإذا ما أحرقت النار جسدي البائس، أو ضعت في نهر أو في بحر، أو مزقت الحيوانات المفترسة أشلائي، فإنني أمانة (dépôt) في مخزن سيد موسر. والفقير — أي الذي لا إله له (ἄθεος) — لا يعرف هذه الأمانة، لكن الله، مولاي وسيدي، متى شاء ذلك، فهو سوف يرمم الشخص (ὑπόστασιν) الذي لا يراه إلا هو وحده ويعيده حالته الأولى.»٤٦

كان القصد من أطروحة الخلق من عدم — إذن — هو تحرير الله المسيحي من سطوة الأنطولوجيا اليونانية، التي حرمته من أقدس صفاته: أن يخلق بشكل حرٍّ، وكان لا بدَّ بذلك أن يكون سابقًا على مادة العالم بل خالقًا لها، ولكن بيت القصيد في كلِّ ذلك لم يكن الله بمجرده، بل كان لب المسألة هو بلورة سياق يجعل فَهْم طبيعة المسيح، فَهْم طبيعة الكلمة، أمرًا ممكنًا. كان ثمة رؤية جديدة للعالم تحتاج إلى تبرير روحي، حتى ولو لم يكن تبريرًا ميتافيزيقيًّا على عادة اليونان. كان ثمة حاجة إلى بلورة إنسانية جديدة قادرة على فَهْم ما وقع والانتماء إليه من الداخل. كان القصد السياسي هو وضع حدٍّ فاصلٍ بلا رجعة بين قدرة الله وقدرة البشر: بين من يخلق من مادة ومن يخلق من عدم، بين الأنثروبولوجيا الوثنية واللاهوت التوحيدي. وفي هذا السياق أصبح ممكنًا بلورة رابط غير مسبوق بين الحرية والتعالي: إن الله وحده يمكنه أن يكون حرًّا؛ لأنه يمكنه أن يتعالى على مخلوقاته، لكن ذلك لم يكن يمكن تصوره أو الدفاع عنه من دون إقرار أطروحة الخلق من عدم.

وإنه مع ثاوفيلوس (ت: ١٨٣م)٤٧ – وهو من البطاركة السريان في أنطاكية، والذي خاض معارك عنيفة دفاعًا عن المسيحية الناشئة ضد الوثنيين اليونان كما ضد اليهود المعاصرين — إنما تبلور خروج مسألة خلق العالم من فلك الكسمولوجيا، ودخل إلى أفق اللاهوت، وصار الحديث مستقرًّا عن الخلق الإلهي من عدم، بناءً على أنَّ الله هو الذي خلق المادة الأولى نفسها.
قال: «إنَّ أفلاطون وتلاميذه يعترفون حقًّا بأنَّ ثمة إلهًا غير مخلوق، هو أب وصانع لكل الأشياء، لكنهم يضعون في نفس الوقت مبدأَين غير مخلوقَين؛ الله والمادة التي يقول إنها قديمة معه. فإذا كان هذان المبدآن غير مخلوقَين بنفس القدر، فإنه ينتج عن ذلك أنَّ الله لم يصنع كل الأشياء وأن هيمنته ليست مطلقة، كما يدعي أصحاب أفلاطون. وفضلًا عن ذلك، إذا كانت المادة غير مخلوقة مثل الله، فهي سوف تكون مساويةً له وتكون مثله غير متحركة … ففي أي شيء سوف تتمثَّل قدرة الله، إذا كان قد خلق العالم من مادة موجودة سلفًا؟! فلو أعطيتم لأحد العمال المادة التي هي ضرورية في عمله لَصنع لكم كلَّ ما تريدون. أما قدرة الله، فإنما هي في أنه يُخرج كلَّ ما يشاء من الذي لا يكون (ex ouk onton)… في أنه يُخرج وأخرج من الذي لا يكون كل ما أراد وعلى النحو الذي أراد.»٤٨
قد نبَّه بعض الباحثين إلى فرقٍ لطيف في التعبير عن معنى العدم بين عبارتَين تم تداولهما في اللغة اليونانية المستعملة في هذه النصوص، سواء أكانت وثنية أو مسيحية: إنه الاختلاف في الصياغة بين الإشارة إلى أنَّ العالم هو بالنسبة إلى الله من قبيل «غير الموجود» (μὴ οντα ,mē onta) في معنى اللاوجود أو العدم النسبي الذي توصف بها الأشياء التي تحدث أو تولد بعد أن لم تكن؛ وبين القول بأن الخلق من عدم؛ أي من شيء لم يكن ولا يكون (ouk ontos ,οὐκ οντως)، في معنى اللاوجود المطلق أو العدم.٤٩ إنَّ ما وقع هو القرار التأويلي الذي اتَّخذه دارسون ومؤرخون كبار للنصوص المسيحية بأن يفهموا «الذي لا يكون» على أنه هو المقصود من عبارة ex nihilo التي سادت في النصوص المسيحية اللاتينية؛ أي عبارة «الخلق من عدم». وهو قرار تأويلي وليس تقريرًا معرفيًّا.٥٠
إنَّ الخلق من عدمٍ فكرة لا توجد في نصوص المسيحية قبل أواخر القرن الثاني، وهذا يعني أنَّ أطروحة الخلق من عدم قد ظهرت بشكل صريح، عندما صار الخلق مسألة لاهوتية صرفة، ولم تعُد تدين بمفرداتها إلى الجدل الكسمولوجي على طريقة اليونان. ولأول مرة طُرح السؤال بشكل محض عن الله بوصفه خالقًا وليس بوصفه «صانعًا» (δημιουργός ,démiourgos) بالمعنى الأفلاطوني الذي هيمن على مفهوم الله منذ محاورة طيماوس (المكتوبة حوالي ٣٦٠ قبل الميلاد)، لكنَّ الظهور المفاجئ لأطروحة الخلق من عدم حوالي سنة ١٨٠م في نصوص تاتيان السوري وثاوفيلوس الأنطاكي؛ هو قرار لاهوتي تمخَّض عن جدل عنيف مع الرواقيين، وخاصة مع الأفلاطونيين المعتدلين. وكان ذلك بمثابة نتيجة فلسفية٥١ لجدل في مسألة بعينها هي التصور الأفلاطوني المعتدل لمفهوم الإله المكتفي بذاته.٥٢

عند هذه العتبة وقع تغيُّر جذري في إشكالية التكوين/الخلق التوحيدية، عندما دخل مفهوم «العدم» بوصفه مفهومًا صريحًا ومركزيًّا. وهذا خطٌّ سوف يستمر مع مجيء القرآن، ثم مع أسئلة علم الكلام حول حقيقة العدم، وهو تساؤل سوف يظل حيًّا يقضُّ مضجع الفلاسفة واللاهوتيين إلى تخوم الفلسفة المعاصرة من هيغل إلى دريدا، لكنه في كل المرات هو قرار نظري ينبثق من نزاع تأويلي تحركه إوالية سياسية خفية، هي العلاقة الهشَّة والمركَّبة بين تقنيات الاستخلاف (أو مواصلة الله بوسائل بشرية)، وتأويلات العلاقة مع الموت، بوصفه الأفق المعياري الداخلي لكلِّ أنواع الحرية. فحين يكتشف الإنسان أنه حرٌّ إزاء موته تصبح كل تجارب الله ممكنة.

١  Cf. Gil Anidjar, “‘Once More, Once More’: Derrida, the Arab, the Jew”, in Jacques Derrida, Acts of Religion. Edited and with an Introduction by Gil Anidjar (New York and London: Routledge, 2002), p. 3, Note 4.
٢  Mark Silk, “The Abrahamic Religions as a Modern Concept”, in The Oxford Handbook of the Abrahamic Religions. Oxford: Oxford University Press, 2015, pp. 71 sqq.
٣  Cf. Daniel Daw, A Dissertation on the Sinaitic and Abrahamic Covenants (Hartford: Printed by Peter B. Gleason and Co., 1811), pp. 7, 9, 14, 27, 29-30, and 47.
٤  Louis Massignon, Les Trois Prières d’Abraham, Père de Tous les Croyants, Paris, Éditions du Seuil, 1949, pp. 20–23.
٥  Cf. Francis E. Peters, The Children of Abraham (Princeton: Princeton University Press, 1986); The Monotheists: Jews, Christians, and Muslims in Conflict and Cooperation (Princeton: Princeton University Press, 1994).
٦  Jacques Derrida, Acts of Religion, Op. Cit., pp. 7–11.
٧  Jacques Derrida, Jürgen Habermas. Le “Concept” du 11 Septembre. Dialogues à New York (Octobre–Décembre 2001).
٨  Jon D. Levenson, Inheriting Abraham: The Legacy of the Patriarch in Judaism, Christianity, and Islam. (Princeton University Press, 2012) Chap. 6, pp. 173–214.
٩  Melvin E. Miller, “Dwelling in the Emptying Place”, in D. Mathers, M. E. Miller, and O. Ando, Self and No-Self: Continuing the Dialogue between Buddhism and Psychotherapy (London and New York: Routledge, 2009), pp. 79 sqq.
١٠  Cf. Platon, Le Sophiste, 253-e-259-a.
١١  قارن: مارتن هيدغر، الكينونة والزمان. ترجمة فتحي المسكيني، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، ٢٠١٢م، الفقرات ٤٦–٦٠.
١٢  Cf. G. May, Creatio ex Nihilo: The Doctrine of ‘Creation Out of Nothing’ in Early Christian Thought. (1978) T&T Clarck Ltd., 1994.
١٣  Melvin E. Miller, “Dwelling in the Emptying Place”, Op. Cit., p. 80: “Definitions of Sunyata”.
١٤  Ibid.
١٥  Ibid., p. 81.
١٦  Ibid., p. 79.
١٧  Cf. Paul Copan and William Lane Craig, Creation out of Nothing. Published by Baker Academic, 2005, pp. 29 sqq.
١٨  J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo: Matter, Creation, and the Body in Classical and Christian Philosophy through Aquinas. A Dissertation in Religious Studies. University of Pennsylvania, 1995. https://repository.upenn.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=2119&context=edissertations 08/07/2018, p. 79: “However, in contrast to both Egypt and Babylon, Genesis prioritizes the art of God over the generative power of waters”.
١٩  Ibid., pp. 89 sqq.
٢٠  David Winston, The Wisdom of Solomon, Anchor Bible Series, Garden City, NY, Doubleday, 1979, p. 3.
٢١  J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. Cit., pp. 91–95.
٢٢  Gerhard May, Creatio ex Nihilo: The Doctrine of “Creation out of Nothing” in Early Christian Thought, Edinburgh, Clark, 1994.
٢٣  .Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. Cit., pp. 102 sqq.
٢٤  Ibid., p. 102: “Creatio ex Nihilo can best be explained as a defense of the most controversial part of the Christian kerygma, the resurrection of the dead”.
٢٥  Ibid., p. 103.
٢٦  Gerhard May, Creatio ex Nihilo: The Doctrine of “Creation out of Nothing” in Early Christian Thought, Op. Cit., p. 2.
٢٧  Ibid., p. 24.
٢٨  Ibid., p. 29.
٢٩  Ibid., p. 150: “Tatian is the first Christian theologian known to us who expressly advanced the proposition that matter was produced by God. We are concerned here with an idea which sooner or later had to be drawn from the biblical belief in creation, as soon as Christian thought engaged in a critical debate with the philosophical doctrine of principles”.
٣٠  Jonathan Goldstein, “Creatio ex Nihilo: Recantations and Restatements”, in Journal of Jewish Studies 38 (1987), No. 2, pp. 187–194.
٣١  J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. Cit., p. 107.
٣٢  Ibid.
٣٣  Robert Kysar, Voyages with John: Charting the Fourth Gospel. Baylor University Press, Waco, Texas, 2005, pp. 12 –15.
٣٤  J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. Cit., p. 108.
٣٥  Justin de Naplouse ou Justin Martyr (100–165).
٣٦  Justin, Apologies. Texte grec et Traduction. Paris, 1904. Première apologie, X, 2, p. 17.
٣٧  Ibid., LIX, 1–6, pp. 123–125.
٣٨  J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. Cit., p. 114.
٣٩  Ibid., p. 118.
٤٠  Gerhard May, Creatio ex Nihilo: The Doctrine of “Creation out of Nothing” in Early Christian Thought, Op. Cit., p. 137.
٤١  Tatien, Discours aux Grecs. Paris, 1902, Chap. V.
٤٢  Ibid., Chap. 1.
٤٣  Ibid., Chap. 2.
٤٤  Ibid., Chap. 4.
٤٥  إنجيل لوقا، ٢١: ٣٠ (في معنى «أورقت» الأشجار)؛ أعمال الرسل، ١٩: ٣٣ (في معنى «الدفع» نحو الأمام).
٤٦  Ibid., Chap. VI.
٤٧  J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. Cit., pp. 121 sqq.
٤٨  St. Theophile d’Antioche, Les Trois Traites à Autolycus. Livre Second, IV: “… La puissance de Dieu consiste à tirer du néant tout ce qu’il veut… c’est qu’il tire et qu’il a tiré du néant tout ce qu’il a voulu et de la manière qu’il l’a voulu”.
٤٩  Blake T. Ostler, “Out of Nothing: A History of Creation Ex Nihilo in Early Christian Thought”, in FARMS Review 17/2 (2005), pp. 264 sq.
٥٠  Ibid., p. 266.
٥١  Ibid., p. 319.
٥٢  J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. Cit., pp. 123 sq.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤