الفصل الثالث

من وصلته «رسالة الغفران»؟

سردية المؤمن الحزين

بناء الإشكال

ماذا لو كان كلُّ ما نكتبه هو مجرَّد رسائل إلى سكَّان المستقبل؟ إذْ ربما صار علينا أن نسأل: ماذا تبقَّى كي نقوله للمعاصرين حول عالمهم؟ إن الحياة أو الكينونة في العالم بمجردها، في عُريها البذيء، هي أقصى وأكمل رسالة يمكن أن نبعث بها إلى شخصٍ ما في عصر ما. إنَّ كونك أنت نفسك وليس شيئًا آخر هو واقعة لا تعادلها كل دروس الأرض. ما عدا ذلك، لن يكون للسؤال عن الخلود في الأدب أو في الفكر أي معنًى يُذكر. نحن مجرَّد مراسلين لمن لم يولدوا بعدُ. وبهذا المعنى تحديدًا يجدر بنا أن نقرأ رسائل السابقين على العصور الحديثة، من أبيقور إلى القديس بولس، ومن أغسطينوس إلى المعري، بوصفها لم تُكتب لأهل ذلك الزمان، بل هي مشفَّرة من أجل قرَّاء المستقبل؟

بهذا المعنى علينا أن نسأل دون مجاز كثير: مَن قرأ هذه الرسائل باعتبارها موجهة إليه خِصِّيصَى؟ مَن وصلته، مثلًا، «رسالة الغفران»١ بوصفها كُتبت له من طرف مؤلف أعمى تُوفِّي سنة ١٠٥٧م؟ إنَّ هذه الرسالة مثلًا هي بمثابة وثيقة نهائية تضع كلَّ مصادر أنفسنا القديمة موضع سؤال. وليس ذلك بمجرد الردة إلى دين آخر أو الإلحاد الأخلاقي أو الدحض المنطقي، بل فقط بالتهكُّم السردي من الداخل. التهكم هو القدرة على رسم مساحة الضحك المستحيل إزاء مقدَّس ما. والأدب هو فن المستحيل بمجرده، وهو يختلف عن الفلسفة في كونه لا يخون ألمه من أجل أي نوعٍ من الحقيقة.

لم يكن المعري مجرد أديب آخر؛ إنه الحالة الأدبية القصوى التي كانت ممكنة في أفق العصور الوسطى الإبراهيمية في آخر عهدها؛ ولذلك كانت «رسالة الغفران» رسالةً إلى آخر التوحيديين في جميع ديانات الكتاب، وبهذا المعنى هي لا بد أنَّها عبرت سماء دانتي نحو «الكوميديا الإلهية». إلَّا أن طرافتها الخاصة هي كونها تستعمل الأدب، لكنها لا تسكنه أو لا يحيط بها. ولا بدَّ هنا أن نستحضر السياق الذي كُتبت فيه: إنها رسالة على رسالة، ولكن دون أن تكون ردًّا بالمعنى الدقيق.

يذكر المؤرخون أنها جواب على رسالة أديب معاصر للمعرِّي يُدعى ابن القارح، على أنَّ هذا الاسم ربما كان لقبًا سرديًّا، أما اسمه الحقيقي فهو علي بن منصور الحلبي، والذي لا نملك من خبر عن تاريخ وفاته سوى أنه لا بدَّ مات بعد سنة ٤٢٤ﮬ/١٠٣٣م، السنة التي نعلم أن المعري قد أملى فيها «رسالة الغفران». ولأنها رسالة تمثِّل إجابة عن رسالة ابن القارح، فقد تحوَّلت فجأة إلى وثيقة حاسمة على تاريخ وفاته. لا أحد من الكتَّاب يعلم لأي سبب سوف تضطر الإنسانية لتذكره. فبعض العقول الفذة قد تتحوَّل لاحقًا إلى جملة، وربما إلى أقل من ذلك، لكن ذلك لن يمنعها من البقاء طويلًا في ذاكرة اللغة.

(١) سردية المؤمن الحزين

كانت رسالة ابن القارح ضربًا غريبًا من أدب السيرة، وإن كانت سيرة المؤمن الحزين، ذاك الذي لا يكف عن شكوى أو ذم الدنيا، لكنه يجد عزاءه الغامض في التجديف على الملحدين، لا يحرِّكه — حسب تعبير ابن القارح — سوى «حنين نفسه النفيسة إلى الحمد والمجد» (ص٢٢). كل سردية المؤمن الحزين مركوزة هنا: ما يسمِّيه الإيمان هو في نواته «حنين» إلى مجال التعالي؛ حيث يمكن لما يسميه «نفسه» (أي «أنفس» ما في وجوده من العناصر) أن تبيع «الحمد» (البشري) مقابل «المجد» (الإلهي). كل إيمان هو حنين إلى مقايضة من نوع متعالٍ، حيث يبيع الناس «نفوسهم» (أي يحوِّلون لغتهم إلى سرديات محمدية)، وذلك مقابل ضرب ما من «المجد» (أي من الرضا الملكي حول مصيرهم).

لم يكن ابن القارح غير البطل الأخير في ثقافة المؤمن الحزين تحت سقف الملَّة، حيث يتم خلط سيرة الأديب بسيرة المؤمن في بلاد مخيَّلة لا تراه. يصبو المؤمن إلى وطن من نوعه لكنه لا يعثر إلَّا على مدن تعبد نفسها. قال:
«إذا زرت أرضًا بعد طول اجتنابها
فقدت حبيبًا والبلاد كما هِيَا»
(ص٢٥)
سردية المؤمن وسردية الغريب تتساوقان، ونواة الرحلة هي نفسها في الحالتَين: أن «البلاد كما هي»؛ يعني: أنها لا ترى من يحبها؛ ولذلك فإنَّ المؤمن مثل الغريب ليس له من ثروة غير اللغة. كلَّما تقلَّصت إمكانية المدينة في جسد ما، توسَّعت إمكانية اللغة، وتحوَّل الناس إلى منشدين، حيث ينقلب الكلام إلى حرفةٍ كئيبة تقوم على تبادل الرسائل الأخيرة؛ ولذلك لم يكن ابن القارح (الملقَّب باسم «دَوْخلة»، أي الخوص المثقبة بحيث لا يبقى فيها شيء) يحمل معه من هدية إلى المعري وهو يأمل في لقائه سوى رسالة «استودعه» إيَّاها «كاتب حضرة نصر الدولة» (ص٢٦) لكنها سُرقت. يبدو الأديب مجرد خيط واهن يحمل رسالة مسروقة من الدولة إلى أديب آخر.

قال: «استودعنيها، وسألني إيصالها إلى جليل حضرته، وأكون نافثها لا باعثها، ومعجِّلها لا مؤجِّلها. فسرق عديلي رحلًا لي، الرسالة فيه، فكتبت هذه الرسالة أشكو أموري وأبث شُقُوري … وما لقيت في سفري من أقوامٍ يدَّعون العلم والأدب، والأدب أدب النفس لا أدب الدرس.» (ص٢٦–٢٧)

لا يحمل الأديب غير رسالة مسروقة إلى أديب آخر. فيضطر إلى كتابة رسالة أخرى حتى يستمر الأدب في إنتاج إمكانيته الخاصة. وأول إمكانية للأدب هو الشكوى من الأدباء المزيفين. الأدب المزيف هو مجرد ركام من «التصحيفات» (ص٢٧) على أدب آخر يعتم عليه. رسالة ابن القارح إذن رسالة على رسالة أخرى سابقة قد سُرقت. وعلى خلاف «الرسالة المسروقة»، لإدغار ألان بو، فإن ابن القارح لن يبحث عن الرسالة الملكية، ولن يعوِّل على أي منطق للعثور عليها. هي رسالة ضياعها هو الوصف الوحيد لها. إنها، على خلاف رسالة لاكان، رسالة تغيِّر من قدرها في كل مرة. وبعبارة دريدا إنَّ قدرها ليس التكرار مثل لا وعي من الظلال، بل الانتشار. هي لن تعود أبدًا إلى نقطة البداية.

ولذلك ما حاوله ابن القارح هو تعويض كاتب الرسالة الذي استودعه إياها «كاتب حضرة نصر الدولة» بكاتب آخر. هناك دومًا كاتب ما يختفي تحت الدولة أو في ظلها، وهو يكتب رسائل يحملها الأدباء إلى الأدباء. ولأنها رسائل معرضة للسرقة، فإن «الأدباء» يتحوَّلون إلى «كتاب» مهمتهم هي تعويض الكاتب المسروق. الدولة كاتب مسروق؛ ولذلك تضطر دومًا إلى تكليف كتَّاب آخرين بكتابة رسائل جديدة. وهكذا حين الْتقى ابن القارح بكاتب الدولة مرة أخرى في مدينة أخرى، كتب له رسالة جديدة، لكن ابن القارح لم يكن يريد أن يكون «كاتب دولة»، بل كاتب «نفسه»؛ ولذلك تحوَّلت الرسالة من بين يدَيه إلى عنوان آخر هو قول المتنبي «أذم إلى هذا الزمان أُهَيْله». وأول مذموم بدأ به هو المتنبي نفسه، إذْ «لا يجب أن يشكو عاقلًا ناطقًا إلى غير عاقل ولا ناطق» (ص٢٩).

إنَّ نقد المتنبي ينطوي هنا على دلالة خاصة؛ ليس فقط لأنَّ ذمَّ الزمان هو بمثابة تراجع عن أكبر مكسب أخلاقي للدين الإبراهيمي (نعني قرار «تكريم» الإنسان برتبة وجودية تعلو به عن الحيوان)، بل لأنَّ المتنبي قد كسر الحاجز الأخلاقي عن «النبي»، مجيبًا عليَّ بن عيسى الوزير؛ إذ «قال له: أنت أحمد المتنبي؟ فقال: أنا أحمد النبي. وكشف عن بطنه فأراه سلعة فيه، وقال: هذا طابع نبوتي وعلامة رسالتي» (نفسه).

المؤمن الحزين يغتاظ من أيِّ ادِّعاء للنبوة. وليس ذلك لأنه يحبُّ الورعين، بل لأنه لا يؤمن بنفسه؛ ومن ثم فإن المؤمن الحزين ليس متدينًا بالضرورة، بل قد يكون أيًّا كان. هو «فلان» بلا ملامح. وليس له من أصالة خاصة سوى التخرص على الملحدين. وهذا هو منبت تهمة الزندقة: الزنديق هو في ظنِّه كل من آمن بنفسه إلى حد النبوة. كان المتنبي نموذجًا وليس مجرَّد شاعر. هو النموذج الروحي لكلِّ المتمردين على سردية المؤمن الحزين التي ينخرط فيها الأديب الفاشل حتى يواصل الانتماء إلى سردية الملَّة تحت خوف مرعب من تهمة الإلحاد. لم يكن نقد المتنبي إذن شعريًّا، بل كان من مستوًى آخر. قال ابن القارح: «وهذا غير قادح في طلاوة شعره ورونق ديباجته، ولكني أغتاظ على الزنادقة والملحدين الذين يتلاعبون بالدين … ويستعذبون القدح في نبوة النبيين» (ص٣٠). كل المشكل هو في وجه اللقاء بين سلطة الشعر وسلطة النبوة: يريد المؤمن الحزين أن يظلَّ الشعر خارج مجال التعالي؛ وذلك لأنه ما من طريقة أخرى كي يظلَّ الانتماء إلى الملَّة ممكنًا. والحال أنَّ الشعر هو في جوهره خروج عن الملَّة إلى الأدب؛ أي تدرُّب مفتوح على النبوة الخاصة بوصفها تجريبًا على الذات يقع خارج سلطة الأديان.

كلُّ مؤمن حزين يخفي تحت كمِّه رسالة سوف يكتبها ابن قارح جديد، يظهر في كل عصر: رسالة تذمُّ الزمان لكنها لا تجد العزاء إلا في التجديف على الملحدين. علينا أن نفكِّر بهذه العلاقة الخفية بين الزندقة والعزاء: إن ما يزعج المؤمن الحزين ليس الإلحاد، بل نجاح الملحدين في التمتع بإلحادهم. قال: «ويتظرَّفون ويبتدئون إعجابًا بذلك المذهب: «تيهُ مغنٍّ وظَرفُ زنديقِ»» (ص٣٠).

هذا المقطع من بيت لأبي نواس يكشف عن طبيعة أخرى للمشكلة التي يثيرها المؤمن الحزين: ما يؤلم في أقوال الملحدين هو أنهم جعلوا من الزندقة سيرة سعيدة؛ ومن ثم يشدِّد ابن القارح على أن حبس المتنبي أو قتل بشار هو قِصاص مناسب، ولا بدَّ من الاحتفاء به على نحو يحول الشماتة إلى الشكل الوحيد من سعادة المؤمن. قال: «وأخذ غفلتَه السياف، فإذا رأسه يَتَدَهْدَأُ على النطع» (ص٣١). هذا قول شاعر عن شاعر آخر. إن ما يفصل بينهما هو سردية الملَّة، تلك التي تجعل الأدب بمجرده تهمة. وعلينا أن نرى كيف أن الخوض في حديث الزنادقة هو بحدِّ ذاته قد انقلب إلى متعة أدبية قائمة برأسها. وهو ما جعل رسالة ابن القارح بمثابة توثيق مقلوب لتجارب الإلحاد في نطاق الملَّة، يلعب فيها البطل أو الكاتب دَور المؤمن الحزين. إلَّا أنَّ تصفُّح قصص الملحدين سرعان ما يكشف أنَّ لبَّ التهمة في كل مرة هو التجرؤ على منافسة المقدَّس على مجال التعالي. لا يتعلَّق المقدس بالألوهية فقط؛ إذْ إلى جانب المقدس العمودي (الله) هناك أيضًا مقدس أفقي لا يقل خطورة وإرعابًا عن الأول: إنه الجنس.

قال: «والصناديقي، في اليمن … خوطِب برب العزة، وكوتِب بها، فكانت له دارُ إفاضة يجمع إليها نساء البلدة كلها ويدخل عليهن ليلًا. قال من يوثق بخبره: دخلت إليها لأنظر، فسمعت امرأة تقول: يا بني! قال: يا أُمَّهْ، نريد أن نُمضي أمرَ وليِّ الله فينا! وكان يقول: إذا فعلتم هذا لم يتميز مالٌ من مال ولا ولدٌ من ولد، فتكونوا كنفس واحدة» (ص٣٢).

إنَّ المثير هنا هو أن الإلحاد ليس له من رهان آخر غير الاستيلاء على آلة المقدس واستعمالها، وليس زهدًا في نجاعتها. لكن الصادم هو أن مساحة الله في ثقافة الملة هي تتَّسع للجميع مؤمنين وغير مؤمنين: ما كان يريد الزنديق غير افتكاك خطاب العزة وتملكه بوسائل إنجازية؛ إذ لا تعني حقيقة المعبود غير القوة الإنجازية للخطاب الذي توجهه للمؤمنين بها. قال: «خُوطب برب العزة وكوتب بها». المخاطبة والمكاتبة هي المقومات التداولية للحقيقة. وهو ما كان يريد الصناديقي الاستيلاء عليه. ولأن الجنس يؤدي في كل السرديات الدينية دورًا محوريًّا من جهة كونه يبقى دومًا الشكل الوحيد لحفظ النوع البشري بوسائل بشرية، فإنَّ استعمال النساء يتحوَّل إلى تقنية بيوسياسية لتوحيد المال والنسل والنفس. مال واحد ونسل واحد ونفس واحدة، ثلاث خطوات بيوسياسية للاستيلاء على مجال التعالي وتحويله إلى تقنية سلطة.

لكن السلطة لا تمثِّل سوى جزءٍ فقط من مساحة الإلحاد التي يجدِّف عليها المؤمن الحزين. وهي تشمل كل سرديات التمرد على سيرة المؤمن الذي تقبَّل الدين بوصفه طاعة محضة، حسب نموذج الملك الذي تأسست عليه دول الشرق الأوسط القديم. وكما تختلط ثلاثية الله/الملك/الأب التي تشد سرديات الإبراهيميين، كذلك تختلط مواقف الإلحاد مع أشكال التمرد السياسي على كل سلطة عمودية. لا يتعلق الأمر بالتمرد على الحاكم بعامة، بل على الطابع العمودي للسلطة في سرديات الدين التوحيدي؛ ولذلك فإن التمرد يمكن أن يقوم به خليفة المسلمين نفسه.

قال: «والوليد بن يزيد أقام في الملك سنةً وشهرين وأيامًا، وهو القائل:

إذا مت يا أم الحُنَيْكِل فانكحي
ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا
فإن الذي حُدثتِه من لقائنا
أحاديثُ طَسْمٍ تترك العقلَ واهيا!

ورمى المصحف بالنشاب وخرقه، وقال:

إذا ما جئتَ ربك يومَ حشرٍ
فقل: يا رب خرَّقني الوليدُ»
(ص٣٣)

ثلاثة عناصر سردية تعود في خطاب الإلحاد: المرأة والعقل والقرآن. الإلحاد هو توديع المرأة بلا رجعة؛ إذ ما دام هناك مؤنث فإنه سوف يكون هناك عالم؛ ولذلك فإنَّ استحالة اللقاء مع المرأة بعد الموت هو إعلان الحداد الوجودي على العالم كما نعرفه. الإلحاد ليس تهمة وثنية بالرذيلة، بل هو قرار يقضي بتعليق الأمل في اللقاء بالمرأة بعد الموت. وهو قرار مؤلم وليس فخرًا لأي حيوان مائت. ومصدر الألم هنا ليس علَّة البدن بل «وهْيُ» العقل (الوَهْيُ هو الحمق والوهن والسقوط) من «الطواسيم» (طواسين الحلاج). يُقال: «أحديث طَسْم» لما لا أصل له. وطسم إحدى قبائل العرب البائدة، أو اسم لصنم قديم. تظهر سردية الآخرة هنا في مظهر «أحاديث طَسْم تترك العقل واهيا». والمثير هو حرص الزنديق على عقله. وذلك على عكس المؤمن الحزين الذي لا يُقيم لعقله اعتبارًا كبيرًا، لكنَّ الإلحاد لا يعني أكثر من تعليق الآخرة في عقله؛ فهو لا يملك أي يقين أو أي ادعاء صلاحية يسمح له بتكذيب الطواسيم. أما ضرب المصحف بالنشاب فهو مجرد سخرية من الحواس. وحده «المصحف» (أي الجسم المرئي) يوجد في متناول الحواس، أمَّا القرآن (مجال الوحي) فهو شأن آخر. وأن يقوم بذلك الخليفة نفسه فهذا يرقى إلى مستوى المفارقة: إن خليفة المؤمنين يرمي المصحف بالنشاب ويخرقه لسبب لا يتعلق بالإيمان بمجرده، بل لسبب آخر، وهو سبب غير ديني أصلًا. فإنَّ ما يدفع على الزندقة هنا ليس عدم الإيمان، بل الحداد الشِّعري المرعب على استحالة اللقاء. إنَّ ما يؤلم الشعراء هو أنه لا لقاء بعد الموت، أو هكذا يشعر الحيوان «الذي يسكن الأرض شعرًا». وضرب المصحف بالنشَّاب كان في خاصة نفسه عملًا شعريًّا وليس موقفًا وثنيًّا. هو تقنية حِداد وليس ثأرًا لاهوتيًّا من أحد.

ثم تأتي سرديات الخمر كي تمنح تجارب معاندة المقدس بواسطة الحواس دورًا علاجيًّا أخيرًا، يحولها إلى تقنية حداد نموذجية يستعملها الملحدون بوصفها معركة المرئي والمتناهي ضد اللامرئي واللامتناهي بواسطة الحواس. والمثال الذي يدفع بتجربة الخمر كتقنية حداد كوني إلى أَجْلَى أدوارها، هو عزم الخليفة الوليد بن يزيد على أن «يُنفذ إلى مكة بنَّاءً مجوسيًّا ليبني له على الكعبة مشربة، فمات قبل تمام ذلك» (ص٣٣). بناء مشربة خمر فوق كعبة مكة هو أقصى محاولة استيلاء على مجال التعالي بواسطة الحواس. أما «موت» البنَّاء المجوسي قبل إتمام رغبة الوليد، فهو يعني أن الخمر لا يمكن أن تنتصر على التناهي، وأن مجال المقدس يظل خارج متناول الفانين.

ولم يكن الجنابي القرمطي مختلفًا عن الوليد في استعمال الحواس ضد اللامرئي؛ فقد استعمل «القتل»/«قتل بمكة ألوفًا» (نفسه)/و«الجنس»/«استملك من النساء والغلمان» (نفسه)/و«التجديف»/«أخذ حجر الملتزَم وظن أنها مغناطيس القلوب» وأمر بأن يتم قلع «ميزاب الكعبة» (نفسه) ... وهي كلها أدوات بيو-سياسية للسيطرة على مجال المقدس بوصفه جهازًا روحيًّا مرئيًّا، وافتكاكه كما هو دون تغيير من صاحبه الأصلي، وهو يسميه «محمد المكي»/قال: «ورأيت رجلًا منهم قد قتل جماعة وهو يقول: يا كلاب، أليس قال لكم محمد المكي: «ومن دخله كان آمنًا»؟ أي أمن هذا؟» لم يكن الملحدون يطمحون إلى شيء آخر غير تملُّك المقدس واستعماله؛ ولذلك كانوا يعاملونه بوصفه جهازًا مرئيًّا يمكن السيطرة عليه أو افتكاكه، وليس بوصفه تجربة وحي لا تتكرر.

أما أقصى تجربة يذكرها ابن القارح فهي تألُّه الحلاج. قال: «وكان متهورًا جسورًا يروم إقلاب الدول ويدعي فيه أصحابُه الإلهيةَ، ويقول بالحلول، ويُظهر مذاهب الشيعة للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة، وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية قد حلت فيه» (ص٣٦). علينا أن نرى هنا إلى أن هذا الوصف لشخصية الحلاج هو صادر عن مؤمن حزين حوَّل شكوى الزمان إلى تخرص على الملحدين. وهذا الأسلوب هو تقنية عزاء للمؤمن الذي يشعر أن مِلَّته لا تؤمن به. في حقيقة الأمر لم يكن الحلاج يريد أقل من تجربة التألُّه التي تجاوز فيها مرتبة النبي. وهذا الموقف هو أقصى حالة تمرد في أفق الملة: الاستيلاء على منصب الألوهية الذي بدأ يظهر شاغرًا. وليس ثمة معنًى آخر لظهور رهط غريب ومتحرر من الشعراء المتألهين الذين حولوا الشعر العربي إلى ظاهرة غير مسبوقة: ظاهرة «التصوف». كان تصوف الحلاج أقصى تجريب ممكن في أفق الملة للاستيلاء على منصب الألوهية، بوصفه منصبًا بقي شاغرًا في مستوى البشر بعد انسحاب الأنبياء. كان وجود الأنبياء بمثابة حاجز أخلاقي مثير يحمي الناس من تجارب التألُّه القديمة. وعلينا أن نفهم النبي الإبراهيمي بعامة على أنه كان في وقته تمردًا رائعًا على الملوك المتألهين أو «الفراعنة». كان لب النبوة الإبراهيمية هو الحياء: الحياء من الجرأة على التأله بوسائل بشرية. وحين تم ختم النبوة انفتح باب التأله من جديد، ولكن هذه المرة بشكل صوفي. ومن هنا، فإنَّ القول بالحلول أو ادِّعاء الإلهية ليس مجرد انفعال متهور أو خاطر مريض، كان يمكن تلافيه بالسيرة الحسنة، بل هو جوهر التصوف. ولا يختلف سائر المتصوفة عن الحلاج إلَّا في النبرة أو الدرجة أو التعبير. أما مؤمن الملة فلا يمكنه أن يفهم تجربة التألُّه إلا بشكل سياسي: إن الحلاج «يروم إقلاب الدول.» وهذا التأويل السياسي للتألُّه هو الذي برَّر محاكمته وصلبه سنة ٣٠٩ﮬ/٩٢١م. لم تكن الدولة هي التي تعادي المتصوِّف بل المؤمن الحزين.

وهذه التجربة عن التألُّه لم تكن معزولة، فإنَّ ابن القارح يذكر أيضًا شخصًا آخر يصفه بأن «صورته صورة الحلاج ويدعي عنه قوم أنه إله» (ص٣٨). وهو يُدعى ابن أبي العزاقر: «وكانوا يُبيحونه حرَمَهم وأموالهم يتحكم فيهم، وكان يتعاطى الكيمياء» (نفسه). وهذا يعني أن التألُّه هو الآخر لا يستغني عن مجال الحواس: الجنس والمال والسلطة. هو تألُّه مقلوب؛ لأنه لا يخرج من العالم بل يعود لتملُّكه.

بَيْد أنه علينا التنبيه إلى أن تجارب التأله عند المتصوفة، هي في الواقع ليست سوى نوعٍ فقط من معارك المقدس في أفق المِلَّة، وفي آخر المطاف هي لا تُزعج المؤمن الحزين إلا عَرَضًا؛ فإنَّ ما يقضُّ مضجعَه حقًّا هو ظهور علوم تزعم الاستغناء عن ثقافة الملَّة. والمثال الأقوى الذي ذكره ابن القارح هو ابن الراوندي في صورة مرتدٍّ ميتافيزيقي. قال: «وكان أحمد بن يحيى الراوندي … حسن الستر جميل المذهب، ثم انسلخ من ذلك كله بأسباب عَرضت له؛ ولأنَّ عِلمه كان أكثر من عقله» (ص٣٩).

من الطريف وصف المنسلخ عن الملَّة بأنه شخص «علمه أكثر من عقله.» كان العلم المقصود هنا هو ما جاء في كتبه الكثيرة التي تعدُّ مكتبةً متكاملة في الإلحاد أو نقد الدين في عصر الملة، بواسطة مفاهيم كلامية وفلسفية. فهو يحتج لقدم العالم (كتاب التاج) وإبطال الرسالة (كتاب الزمرد) وتسفيه التكليف (كتاب نعت الحكمة) والطعن في نظم القرآن (كتاب الدامغ) وإثبات أنَّ علم الله محدث (كتاب القضيب) وبيان اختلاف أهل الإسلام (كتاب المرجان) (ص٣٩-٤٠). ولأنَّ هذا العلم قد كان هو نفسه علم ذلك العصر، ويتقاسمه الراوندي مع المتكلمين والفلاسفة في عصره، فقد تم الردُّ عليه ونقض دعاويه باعتماد نفس طريقة الحجاج. وهي معارك رأي انتهى نظام الخطاب الذي كانت تستمد منه ادِّعاء صلاحيتها.

لكن ما يهمنا هنا هو التلميح إلى خطر العلم على العقل. إن من يعلم أكثر من عقله يمكن أن يُلحد. وهنا علينا أن نحدِّد إذن معنى «العقل». إنه عقل مختلف عن العقل الفلسفي؛ لأنه عقل يمكن أن ينهزم أمام العلم. وهو عندئذٍ عقل المؤمن الحزين. ويتعامل ابن القارح مع العقل بوصفه شيئًا يمكن العناية به دونما حاجة إلى علم المتكلمين أو المتفلسفة؛ ومن ثَمَّ يمكن فهم الدين بوصفه حماية للعقل من خطر العلم. هذه النزعة الحمائية هي التي تقود تصور المؤمن للحقيقة: إنها شيء عليه أن يحميه، و«حقيقة الرجل: ما يلزمه حفظه والدفاعُ عنه.» وهو بلا ريب المعنى الأصلي للفظة الحقيقة كما استعملها شعراء الجاهلية والإسلام الأول؛ حيث تتكرر عبارة «حامي الحقيقة». في هذا السياق علينا أن نفهم «حفظ العقل»: إنه متاع خاص على الفرد أن يحميه ويدافع عنه.

لكن ثقافة الملة تعطي للفشل في حفظ العقل طرافة خاصة، فهي تلاحق المؤمن في تفاصيل مرعبة من حياته الخاصة؛ ولذلك سرعان ما ينقلب الإيمان الحزين إلى تلصُّص مستمر على المؤمنين الآخرين. وهو ما فعله ابن القارح حين ذكر سيرة ابن تمام مع ترك الصلاة، أو تجربة ابن الرومي مع الموت؛ إذ يلومه على التفكير في الانتحار من فرط الألم، حيث قال: «والخنجر، إن زاد عليَّ الألمُ نحرت نفسي» (ص٤٠). لا يولي المؤمن الحزين لآلام الاحتضار أي قيمة إنسانية، بل يعامله معاملة فقهية بحتة: لا يمكن تبرير الانتحار بدرجة الألم. لا توجد لديه فكرة عن «الموت الرحيم»، بل يعامل الألم على أنه لا شيء، حلقة فارغة من الإيمان على المؤمن أن يخرج منها سالمًا.

إنَّ السِّمة العامة في رسالة ابن القارح هي سيرة الإيمان الحزين القائم على «شكوى العصر» المخلوطة بالتخرُّص على الملحدين. قال: «ولو استقصيت القول في هذا الفن لطال جدًّا … بل لو قلت كل ما أعلمه، أكلت زادي في محبسي» (ص٤٣). هو إيمان لأنه يواصل الدفاع عن أُفق الملة لكنه حزين؛ لأنه يعترف بأنَّ جروحه شخصية ولا يمكن أن تُشفى بجروح شخصٍ آخر. قال:
«أحمل رأسًا قد مَلِلتُ حمله
ألا فتًى يحمل عني ثقله

وأستريح إلى أن أنشد:

ليس يشفي كلوم غيري كلومي
ما به به، وما بي بي»
(نفسه)

إن سيرة المؤمن الحزين لم تبدأ مع الحداثة، بل كانت قد بدأت قبلها بوقت طويل وفي فلك ثقافة الملة نفسها. والقرن الرابع الهجري هو ورشة المؤمن الحزين. في ذلك القرن أصبحت تجربة النبي مجرَّد سردية بعيدة على المؤمن أن يذكر بها وأن يصنع منها ذاكرة مناسبة. لكنَّ شكوى العصر توحي بأنَّ هذه الذاكرة كانت مثقوبة، وأنَّ أفق الفهم الذي قامت عليه مهزوز بشكل مؤلم. وكل رسالة ابن القارح تجميع لشتات هذه الذاكرة المثقوبة، وبحث يائس عن وسائل بقاء أخلاقية جديدة، لكنه يأس عجوز وليس يأسًا أخلاقيًّا أو وثنيًّا. قال: «فأقلق وأبكي بكاءً غير نافع ولا ناجح، ويجب أن أبكي على بكائي» (٥٢). الإيمان الحزين هو بكاء على البكاء؛ ولذلك هو ليس حزنًا مدنيًّا، مثل ذاك الذي حلله أرسطو: الحزن السعيد الذي يقترن في نواته العميقة بالعبقرية. بل هو حزن متديِّن؛ أي يقيم حقيقته على سردية الطاعة في أقصى أطوارها بعد عصورٍ سحيقةٍ من الاستبداد الشرقي، والتي يقتبس منها كل ادِّعاءاته حول نفسه أو حول الآخرين.

لكن ما يرعب المؤمن الحزين حقًّا هو أن يموت بغتةً قبل موته، أي قبل توفير ميزان حسنات مناسب للعبور: إنه أحرص المخلوقات على امتلاك اللحظة الأخيرة من الزمن، مع شعور فظيع بإمكانية النهاية في كل لحظة. كل معضلة المؤمن الحزين نابعة من مفهوم سيئ عن الزمن: أن الزمن صفقة خاسرة دائمًا. صفقة مقابل آخرة قد لا تحدث وقرض من أجل خلود مؤجل. ويتمثَّل ابن القارح لمثل هذا الموت/الصفقة الخاسرة، بقصة رجل من بغداد اسمه «فاذوه» هو «لا يتورع عن ركوب كل مخزية» وإذا لامه الناس قال: «لمَ تدخلون بيني وبين مولاي وهو الذي يقبل التوبة من عباده؟» (ص٥٤). لكنه مات بغتة إذ كان يمرُّ في شارع وإذا بامرأة تُسقط على رأسه مهراسًا «فهرس رأسه … وأعجله عن التوبة» وصار الواعظ يقول للناس: «احذروا ميتة فاذوه» (نفسه). كل عناصر الإيمان الحزين متجمعة هنا: الرغبة المتلصصة على إيمان الآخرين حتى في موتهم. لم يستطع إيمان الملة أن يشعر بحريته؛ أي ببراءته الأصلية. كان دومًا إيمانًا متلصصًا، يستمد من التلصص على قلوب المؤمنين الآخرين طرافته الوحيدة. والتلصُّص ناتج عن كون المؤمن الحزين لا يعترف في قرارته بحقِّ المؤمنين الآخرين في التوبة التي يحوِّلها في سرِّه إلى امتياز مظنون به على غير أهله.

وفي الحقيقة لم يكن المؤمن الحزين يضنُّ بالحق في التوبة على غيره من المؤمنين، إلَّا لأنه يشعر بعجزه العميق عنها. وهو عجز خطير؛ لأنه نابع من عجز آخر أعمق غورًا: إنه العجز عن الحِداد. لا يريد المؤمن الحزين، ولا يستطيع أن يتقبَّل موته بوصفه قدرًا مناسبًا لشكل الحياة التي تتميَّز به فصيلة الحيوانات التي ينتمي إليها، لكنه بقدر ذلك لا يرضى أن يتوب العاصي، فيفوز بالجنة الموعودة دون أن يدفع تكاليف الطاعة المضنية التي كان عمره مقابلًا لها. إنَّ توبة العصاة تجعل حياة المؤمن الحزين صفقة خاسرة. ولبيان هذا المعنى لا يتمثَّل ابن القارح بموقف أحد البشر، بل بما جاء على لسان جبريل نفسه. قال: «قال جبريل في حديثه: خشيت أن يُتمَّ فرعون الشهادةَ والتوبة، فأخذت قطعة من حال البحر فضربت بها وجهه» (ص٥٥). إن حرص المؤمن الحزين قد اخترق شخوصه السردية، وصار له حليف سماوي في الملاك جبريل. كان يمكن تصور فرعون ينطق بالشهادة، فرعون تائب، لكن ذلك سوف يجعل كل سيرة المؤمن الحزين بلا جدوى.

(٢) «رسالة الغفران» أو الخلاص مشكل لغوي

هي رسالة تبدأ ببحث لغوي في معنى «الحماطة». قال: «قد علم الجَبْرُ الذي نُسب إليه جبريل … أنَّ في مسكني حماطة.»٢ كل الرسالة هي اقتفاء سردي لهذا الخيط المتواري بين الجبار والحماطة؛ أي بين نسبة الألوهية وبين منزلة من كان في «مسكنه» حماطة؛ أي من كانت في قلبه «حرقة». مبدأ الرسالة إذن هي «حماطة القلب». و«جبريل» يعود إلى لفظٍ معناه «رجل الله». لا يقف رجل الله أو النبي في أفق الإبراهيميين إلَّا من الجهة التي يكون فيها متعلِّقًا باسم يأكل الأسماء جميعًا؛ اسم «الله»، لكنه يقف دومًا في حماطة، حيث لا يكون التألُّه ممكنًا. الحماطة هنا هي كينونة المكان البشري. حرقة القلب علاقةُ حماطةٍ بالمكان الذي لا وجود له. قال: «وتوصف الحماطة بإلفِ الحيَّات لها» (ص١٣٠). الحماطة هنا في معناها الأصلي: كضربٍ من الشجر ينبت في الجبال. إنَّ السارد هنا يستعيض عن مكان العالم بمكان آخر: يستعيض عن حماطة الأرض بحماطة القلب. وسرعان ما يعتذر للمخاطب بأن جسده لا يعرف إلا حماطته الخاصة. قال: «وإن في طمري لَحِضْبًا وُكِّل بأذاتي … ما هو بساكن في الشقاب ولا بمتشرف على النقاب … ولا مر بجبل ولا خيف» (ص١٣١). يصف الجسد الهزيل بأنه «طمر» بالٍ. لكن ما يسكن هذا الطمر هو «حِضْب» أي ضرب من الحيات، كناية عن القلب الذي به حماطة.

لا يَعِدُنا المعري ها هنا ﺑ «شعاب» هيدغر، وهو معنى «الشقاب» و«النقاب» هنا. تلك الشعاب حيث يمكن لنا أن نذهب فيما أبعد من أنفسنا القديمة، وأن ننبت من جديد. إن المؤمن التوحيدي لا يزال يقف قبل ما يستطيعه الجسد، ينظر إليه كأنه لباس يمكن أن ينزعه أو يخرج منه إلى نواة أخلاقية أخرى لا يعرفها بعدُ؛ ولذلك هو يعوِّل دومًا، كما هو الأمر في بداية رسالة المعري، على «القلب» (وليس على العقل مثل الوثنيين) مهما كانت أسماء هذا القلب الإبراهيمي مزعجةً فهي لدى المعري هنا أسماء حيَّات مثل «الحضب» و«الأسود»، تحب سكن الحماطة. ليس البشر هنا غير حماطة تألفها الحيَّات. إن تسمية القلب بأنه «أسود» قد انقلب في سردية المعري هنا إلى تيبولوجيا عامة عن «الأساودة» عند العرب: عن عدد مثير من الأشخاص الذين حملوا اسم «الأسود» أو «السودة» دون استثناء للأشياء أيضًا (ص١٣٢–١٣٨). تاريخ القلب لم يُكتب في هذه الثقافة، لكن المعري قد دشنه من جهة تاريخ السواد بوصفه الاسم السري الذي «هو أبدًا محجوب، لا تُجاب عنه الأغطية ولا يجوب» (ص١٣٣)، الاسم السري للقلب، هذا «الأسود» الذي «إذْ يُذكَر، ليُؤنَّث في المنطق ويُذكَّر، وما يُعلَم أنه حقيقي التذكير، ولا تأنيثه المعتمَد بنكير» (نفسه). يقع القلب إذن في منطقة حيث التأنيث والتذكير أمرٌ لا يُعوَّل عليه، نعني منطقة الحقيقة. وما يصبو إليه المعري هنا هو رسم الموضع الذي يصبح فيه انطلاق الخطاب البشري ممكنًا: إنه موضع القلب الذي يحتمل الجنس لكنه لا يستغرقه. وذلك يعني أنَّ رسالة الغفران لا يمكن أن تكون مجنوسة: إنها ليست «حقيقية التذكير»؛ لأن تأنيثها ليس أمرًا «نكيرًا» بالضرورة. نحن في وضع يؤنَّث ويذكَّر حسب درجة معينة من الحماطة.

حماطة القلب التي لا جنس لها هي المقام الذي هيَّأه المعري على نحوٍ يجعل تقبُّل رسالة ابن القارح حدثًا سرديًّا يجدر به أن يرد عليه. هي الرسالة التي «من قرأها مأجور، إذْ كانت تأمر بتقبل الشرع، وتعيب من ترك أصلًا إلى فرع» (ص١٣٩). في الواقع، لا تحتوي رسالة ابن القارح على أي جديد سردي أو معياري من حيث منطق الملة. بل هي قد بدت للمعري رسالة منافقة، متملقة تستعمل كل فنون الكلام من أجل أن تحرس وضعية الخطاب التي تأسست عليها الملة؛ ولذلك كان الرد الذي أملاه المعري جوابًا عليها موقفًا سرديًّا غير مسبوق تمامًا؛ أنه لا يمكن التحرر من رسالة الملة إلا بتحويلها إلى رسالة غفران معممة، حيث يجب قراءتها بوصفها حدثًا إنجازيًّا مفتوحًا.

كل طرافة رسالة الغفران تكمن في كونها قد فتحت قنوات اللغة كما تقول نفسها، بكل ممكنات الكلام النائمة فيها. إنها كرمٌ سردي من نوع مثير. ولأن الدين لا يعدو أن يكون عملية نقل سياسي للكلام من خطاب الوضع إلى خطاب الشرع، فإنه لا يمكن التحرر من سلطته إلا بإعادة المعنى إلى معدنه الأصلي: مجال اللغة. إن كتابة المعري بعامة هي أفعال سردية تنمُّ عن جهد شرس وكلبي؛ من أجل إعادة المعاني الدينية إلى مجالها اللغوي النائم، حيث يتم تجريدها بقسوة فنية من هالتها المقدسة و«إسالتُها» (Verflüssigung) — حسب تعبير هابرماس عن إسالة المقدس في قنوات التواصل — في قنوات لغوية كان منطق الملة قد أحكم إغلاقها بواسطة الأحكام أو «النصوص» بالمعنى الفقهي. لقد حوَّل المعري القول في المقدس إلى سياسة معنًى تتجسَّد عن طريق السرد الحر، الذي يفتح اللغة على عواهنها، ويجعلها تتدفق في «جمل» غير متناهية في حالة سيلان أبدي هو وحده الطريقة الملائمة لتحرير مجال اللغة من إرادة الخطاب، التي تسيطر عليها وتضبط قنواته سلفًا. يمكن القول بعبارة ليوتار: كل رسالة الغفران هي hypobiographie/سيرة افتراضية حيث تستعيد «الجُمل» مفعولها الإنجازي وتنعتق من إرادة الخطاب المسيطر. كل جملة لدى المعري هي هنا لا تعدو أن تكون «ما يحدث» لو أننا أزلنا حاجز الملة داخل الخطاب، وسرَّحنا قنوات المعنى خارج حدودها المفروضة. كل جملة هي مفاجأة، مغامرة، مقاومة، وما سماه ليوتار «فلسفة الجملة» نعثر عليه في رسالة المعري في هيئة نضرة ومتوثبة كأقصى ما يكون. إن الجمل هي التي تخلق المتكلمين بوصفهم كائناتٍ سرديةً تتقاذفها الخطابات المنتصرة والمهزومة على حدٍّ سواء. وذلك أنه لا توجد «جملة أخيرة» يمكن لهذا الخطاب أو ذاك أن يدَّعيها لنفسه كما يفعل خطاب «الوحي»، وهو ما فعلته رسالة ابن القارح. لا توجد «لغة» الملة بل فقط «هناك» لغات وألفاظ وكَلِمٌ في الجمع، في حالة تدفق لا متناهٍ للمعاني التي لا ترى «من» يتكلم إلا عرضًا. وليس علينا سوى أن نستأنف السرد، ولكن ليس حيث توقف خطاب الملة، بل في ما يتدفَّق خارج حواجزه دون علمه.
كانت رسالة ابن القارح بمثابة حالة نموذجية عن طريقة الملة في تقعيد الخطاب وتحويله إلى آلة عملاقة لإنتاج المعنى المعلَّب بالحقيقة، كما يمكن السيطرة على مفاعيلها. ولم يجد المعري من طريقة للإجابة عليها سوى بفتح ما تقوله على مجال اللغة الذي يختبئ فيها تحت حراسة الخطاب. ما هو إنجازي هنا هو الأفعال «القولية المؤثرة بالقول» (perlocutionary acts) التي أطلقها المعري في كل ردهات الرسالة: كل ما يُقال أو يُسمى لا يقف عند «النصوص»، بل يطفح عنها ويسيل على أطرافها، ويقول نفسه خارجها ويدنس سلطتها ويثور على ادِّعاء صلاحيتها، ويرسم فضاء حرية لا يمكن لأي إرادة خطاب أن تمنعه أو تحد حدوده. وهكذا يتحوَّل السرد لدى المعري إلى عملية إطلاق حثيث للجمل من معاقلها في خطاب الملَّة، وإن كان يوحي لنا بأنه يفعل ذلك دون أي قدرة على اقتراح مستوًى آخر من شرعية المعنى سوى التهكم، بوصفه أقصى فعل إنجازي ممكن في أفق الملة. علينا أن نعامل كلام الملة وكأنه «أنطولوجيا الجمل» حسب تعبير ليوتار، ولكن الأنطولوجيا التي تنتظر من السامع أن يصدق بالطابع الإنجازي لما يُقال: أن محتوى الخطاب ليس «معاني» الوضع اللغوي بل «أحداث» الخلق الإلهي، وقد وجدت في سردية «الآخرة» شكل الكينونة المنشود. كل ما يُقال باسم المقدس هو يدعونا سلفًا إلى أن نعامله و«كأنه» قد «وقع» بلا رجعةٍ في مستوًى «آخر» من أنفسنا.

قال: «ولعله، سبحانه، قد نصب لسطورها المنجية من اللهب، معاريج من الفضة أو الذهب، تعرج بها الملائكة من الأرض الراكدة إلى السماء … وهذه الكلمة الطيبة كأنها المعنية بقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا. وفي تلك السطور كَلِم كثير، كله عند الباري، تقدس، أثير.» (ص١٤٠).

لا يمكن مقاومة الملة من خارج منطقها المحروس بإرادة الخطاب؛ ولذلك لا يرى المعري حلًّا آخر دفع منطق الرسالة إلى أقصاه: أنها ليست مجرد خطاب ملقًى به في العالم، بل أنها حدث إنجازي: أنَّ ما تقوله الرسالة يكون قد تحقَّق بعدُ في العالم الآخر، وتجسَّد بعدُ في نمط الوجود الذي يحمل اسم «الآخرة». الآخرة هي مصطلح الإبراهيميين في إعادة تأثيث العالم بما يتعالى عليه، بمجال من نوع آخر، لم يكن في حوزتهم من إمكانية للعثور عليه إلا مجال اللغة. كل كتب الإبراهيميين هي هدايا لغوية قصوى، حيث تألَّهت اللغة وصارت لسانًا مقدسًا يتكلمه الآلهة ولا يعافونه؛ لأنه لم يعد شأنًا بشريًّا. قال هلدرلين: «اللغة هدية الآلهة.» لكن الحقيقة أنها هي المجال الوحيد؛ حيث يمكن للبشر أن يعدُّوا هديةً مناسبة للآلهة من أجل استدعائهم إلى أفق البشر. وتلك كانت تقنية الإبراهيميين الوحيدة لكسب معركة الخلود؛ أي لتحويل الموت إلى خبر سارٍّ.

إن حماطة القلب قد حوَّلها المعري إلى حماطة فردوسية:

«فقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل، إن شاء الله، بذلك الثناء، شجرٌ في الجنة لذيذ اجتناء، كل شجرة منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظِل غاط، ليست في الأعين كذاتِ أنواط … والولدان المخلَّدون في ظلال تلك الشجر … يقولون …: نحن وهذه الشجر صلة من الله لعليِّ بن منصور، نخبأ له إلى نفخ الصور.» (ص١٤٠–١٤١)

يقرأ المعري اللغة بوصفها نوعًا من النبات هو الواسطة بين عالمين: فما يُقال في عالم الحواس ينبت في مجال التعالي. والله هنا هو شرط الإمكان الميتافيزيقي الذي ينقل المعاني من عالم إلى آخر. هو يعامل اللغة بوصفها حدثًا إنجازيًّا من خلاله يترجم البشر مستويين من الكينونة، ولكن داخل لغة واحدة. «نحن وهذه الشجر» طريقة تعبير ينسبها المعري إلى «الولدان المخلَّدون»؛ حيث يمَّحي الفرق الجنسي بين البشر والشجر من فرط كونهم نباتات أخروية مخبأة من أجل «رجل الله» إلى نفخ الصور؛ أي بشكل أبدي. يعامل المعري الأبدية بوصفها مجرد حدث إنجازي لغوي، حيث يصبح الكلام البشري عملية ترجمة آنية تحوِّل المعاني الدنيوية إلى نباتات أخروية.

تبدو الآخرة بمثابة مجال حيث تصبح الكينونة نوعًا من النبات. نحن لا نوجد من عدم بل ننبت. والخالدون هم شجر الجنة. وتخريج كهذا يعني أن الخلود ليس قفزة ميتافيزيقية في المجهول، بل هو استئناف لقدرتنا على النبات ولكن في عالم آخر. إن المعري قد واصل استثمار استعارة النبات بوصفها الطريقة المناسبة لفهم طبيعة الخلود: أنه العثور على «ماء الحيوان» الذي يجعل النبات مرَّة أخرى أمرًا ممكنًا.

قال: «وتجري في أصول ذلك الشجر، أنهار تختلج من ماء الحيوان، والكوثر يمدُّها في كل أوان؛ من شرب منها النغبةَ فلا موت، قد أمن هنالك الفوت.» (ص١٤١)

«الحيوان» يعني هنا الحياة الكاملة التي تنبت في مجال التعالي، نعني الحياة التي تلغي خصميها الفانيَيْن: الموت والزمن، لكن المعري لا ينزلق في أي حديث أخروي عن الحياة الأبدية، بل سرعان ما يفاجئ القارئ بتنشيطه لترسانة سردية حول ماء الحيوان المقصود: ذلك الذي تعوَّدت الحواسُّ البشرية على اعتباره ماء الخلود الوحيد الممكن في أفق الفانين. ونعني بذلك الخمرة بوصفها المجاز السريَّ للخلود عند الشرقيين، سواء أكانوا وثنيين أم توحيديين.

قال: «وجعافرُ من الرحيق المختوم، عزَّ المقتدر على كل محتوم. تلك هي الراح الدائمة، لا الذميمة ولا الذائمة … ويعمد إليها المغترف بكئوس من العسجد، وأباريق خُلقت من الزبرجد، ينظر منها الناظر إلى بَدِيٍّ، ما حلم به أبو المهدي، رحمه الله، فقد آثر شراب الفانية …» (ص١٤٢-١٤٣)

إنَّ الجنة هي عبارة عن انتقال إنجازي (بواسطة اللغة) من «شراب الفانية» إلى «ماء الحيوان». لا يعدو الأمر أن يكون فرقًا بين نوعين مختلفين تمامًا من الخمر، ماء الموت الذي يُعين على احتمال الفناء وماء الحياة الذي يجعل الخلود ممكنًا. يكتفي المعري بتمديد ميتافيزيقي لما تحكيه الملة عن وقائع الآخرة، وهو لا يتعداها أبدًا: هو لا يغيِّر طبيعة الخلود، بل يعيد تقويم وسائله. هو يواصل كتابة تاريخ الحواس كما يترجم عن نفسه في تيبولوجيا أسماء الخمرة عند العرب (ص١٥٠–١٥٣)، لكنه ينقل عملها إلى مجال التعالي؛ ومن ثَم فإنَّ الثواب الأخرويَّ هو جنَّة الحواس، ولكن بواسطة الله. وهو ثواب لغوي أو غير ممكن من دون الاستعمال الإنجازي للغة. إنَّ اللغة هي مجال التعالي الوحيد الذي يمكِّن البشر من تحقيق جنة الحواس بواسطة الله. إنَّ الجنة هدية لغوية للفانين. وقد فهم المعري أنَّ الخلاص لغوي، وليس من وسيلة مناسبة لتحقيق ذلك مثل إطلاق عنان السرد الأخروي الذي أجلته الملة إلى حياة أخرى.

علينا أن نفهم السرد لدى المعري بمعنى إنجازي وليس بمعنى وصفي. قال: «فقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل، إن شاء الله، بذلك الثناء، شجرٌ في الجنة.» لا يتعلَّق الأمر بالوصف هنا، بل برصد الفعل «المتضمن في القول» (illocutionary) الذي يلمِّح له المعري: إنَّ «الثناء» قد أنبت «شجرًا في الجنة». وهذا معنى لا يمكن لنا أن نحدد سياقه ما لم نهتدِ إلى طبيعة فعل الخلق أو التكوين لدى الإبراهيميين، وهو أمر لن يبطئ المعري في التذكير به.

قال: «ويعارض تلك المدامة أنهار من عسل مصفًّى ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في مومٍ متوارٍ، ولكن قال له العزيز القادر: كنْ فكان، وبكرمه أعطى الإمكان.» (ص١٥٣)

نحن نعثر هنا على معنى أن لغة المعري في رسالة الغفران هي إنجازية وليست وصفية: إن قصده هو الاستيلاء السردي على فعل «التكوين» وتحويله إلى فعل بِشري أو من حق البشر، ما دام نسيج الآخرة قد قُدَّ هو أيضًا من نفس النسيج الذي قُد منه عالم الدنيا، نعني من اللغة بما هي كذلك. نحن بمحضر كائنات سردية تعبر العوالم فقط لأنها مصنوعة من معدن اللغة، ولا فضل لعالم على آخر إلا بالحبكة. «كنْ» ليس أمرًا أنطولوجيًّا كما درجنا على قوله، بل هو أمر سردي، لكن سرد من نوع مخصوص تمامًا؛ وذلك لأنه ذو طبيعة إنجازية.
وهو أمرٌ ظلَّ القارئ محجوزًا دونه بسبب فرضية التهكُّم. ربما كان التهكُّم موقفًا إنجازيًّا، لكنه سرعان ما يفقد قوته الإنجازية بمجرد أن يُحصر في دائرة النقد الفني. لم يكن المعري متهكمًا فقط. كان يفكر؛ نعني: كان يبحث عن مقام «تأويلي» أحسن (ص١٥٥)، يجعل التحرر من إرادة الخطاب التي تحرسها أحكام الملة معركة حقيقة بأن يخوضها العقل الحر. ومن المفيد أن نلاحظ أن المعري يتحاشى فقه «الأحكام» أو «النص» أو «الإجماع»، ويعكف في كل مرة على مقطع سردي كان حرَّره للتوِّ من سياقه الأول، وألقى به في تيار حكائي غريب عنه. ما يهمه ليس تكذيب ما تقوله الملة عن نفسها من خلال بوابة الفقه، بل تسريح أكبر عدد ممكن من «الشخوص» السردية لتراث الملة، والزج به في عملية تحرير واسعة النطاق للغة التي ردمتها نصوص الملة وقامت مقامها. ويُحصى في رسالة الغفران ما يُقارب ٥٣٠ شخصية سردية. صحيح أن ابن القارح هو مبعوث المعري إلى الآخرة، لكن الآخرة لم تكن مسرحًا فارغًا من الشخوص، بل يقدمها المعري وكأنها مكتبة ميتافيزيقية لتجريب كل أنواع اللقاء المستحيل مع الخالدين الذين يمنع زمان العاجلة أن يجمع بينهم في عصرٍ واحد.

كل أطوار الرسالة هي تفريعات سردية على أصول ضاع سياقها أو تمَّ ردمها. والمعري لا يتوانى عن استعمال الصيغة السردية صراحة. قال: «ويُفرَّع عن هذه الحكاية فيُقال …» (ص١٥٥). علينا أن نستحضر هنا أن كل سرديات الإبراهيميين هي من طبيعة «حكائية». وهذا «القصص» التأسيسي تحرص الملة على احتكاره؛ ولذلك تكمن طرافة المعري في الجرأة على استئناف الحكي بدون ضمانات لاهوتية. كل الرسالة هي عبارة عن استئنافات متكررة ومتوازية ومتقطعة ومنفصلة لأنساب سردية مبثوثة في القرآن، أو في الحديث، أو في مدونات العرب المختلفة، والزج بها في سياقات جديدة وإعادة تسييقها حيث يتم العمل على تسريح كل الممكنات السردية النائمة فيها، وإعادة بنائها في شكل أفعال إنجازية. لا يتعلق الأمر بالسخرية من حكم ديني بعينه، بل بإعادة تنشيط سردي لما كانت الملة قد قالته دون أن تلتزم به في صيغتها الفقهية. الفقه هو ما قالته الملة ولكن من دون خيالها السردي؛ ولذلك لا يمكن إعادة تملك خيال الملة إلا إذا تم تنشيط قوتها السردية، ولكن في معنًى إنجازي.

ربما يتعجَّب القارئ الحديث من كثرة تشقيقات المعري اللغوية، وكأنه يتعمَّد الإبطاء في تفاصيل تجعل الرد على رسالة ابن القارح أمرًا مؤجلًا دومًا. وهذا التأجيل المستمر للفراغ من الرسالة بالتوقف غير المتوقع عند الفروق اللغوية، والتأويلات المتنافسة، ورصد الاحتمالات التي لا تُحصى عددًا في تخريج هذا المعنى أو هذا القصد، هذا التأجيل لم يكن سبهللًا. كان دريدا قد تحدَّث عن «التأجيل» بوصفه جزءًا من ماهية الاختلاف؛ وكان ريكور تكلم عن «استراتيجية الإبطاء» في طرح المسائل الحاسمة. لكن المعري لا يؤجِّل إلى غاية معلومة، إنه يؤجل فقط. وهو لا يعتني بأي أثر للاختلاف، هو يريد فقط أن يسرِّح اللغة دون ادِّعاء مسبَّق بأنها تحتمل اختلافًا مؤجلًا، أو مسألة حاسمة لم تُطرح بعد. تسريح اللغة لا يُقصد منه أكثر من تملُّك فعل التكوين بوسائل بشرية. «كن» هي الغرض التأويلي البعيد من معاملة السرد وكأنه فعل إنجازي. وهو لا يفعل ذلك مثل «ذات» حديثة أو ترنسندنتالية لا «تعرف» شيئًا إلا بقدر ما «تموضعه»، بل هو يريد استعادة المعنى الأصلي لفعل «كن»: أنها ضرب مستحيل من «الكرم» المقدس. قال: «وبكرمه أعطى الإمكان.» هذا التخريج يعيد للكينونة الشرقية دلالتها الخاصة: أنه ضرب من الكرم. إن كرمًا من نوع ما هو الذي جعل الكينونة في العالم ممكنة. وهو معنًى رائع سوف يلتقطه ابن عربي لاحقًا ويصبح عنده: «لولا الجود لما كان الوجود.» لكنَّ امتياز المعري أنه ليس متصوفًا، بل «أديب» بالمعنى الجذري للكلمة، أي إنه «سارد» أو «مُسرِّد» (ص١٥٤) بالمعنى الجذري، نعني يعيد اللغة إلى سيلانها البريء الأصلي الذي طمرته الملَّة، حيث تصبح القدرة على استعادة «الحكاية» الأصلية للتكوين نوعًا عاليًا من الكرم الميتافيزيقي.

كأنَّ المعري قد أخذ هذه «الأمة» بما قالت: أنها رهنت نفسها في اللغة؛ وأن مستقبل «الروح» داخلها هو في «معجزات» لا يمكن أن تكون بالنسبة إليها إلا من طبيعة لغوية. وكتابة المعري هي الوضعية الروحية القصوى لهذه الأمة: استئناف المعجزة اللغوية المطمورة تحت لسان كلِّ واحد منا، ولم يقلها. وإن رسالة الغفران هي استطرادات لغوية على أنفسنا. وإن أكثر من نصف الرسالة استطراد بالمعنى الحرفي (ص١٣٩– ٣٧٩)، ولكن علينا أن نسأل ليس فقط: لماذا أجل المعري رده على ابن القارح كل هذه المساحة من تأليف الرسالة؟ بل: لماذا جعل كل أسباب البطء السردي في الإجابة متعلقة بمناقشة قضايا لغوية؟

تبدو اللغة بمثابة مجال المعنى الوحيد للإبراهيميين: لا يمكن أن تظهر «كتب» مقدسة من دون تأليه معين للغة. ربما من العُسر بمكان تمييز ذلك عن علاقة الوثنيين باللغة مثل اليونان أو الهنود، لكن ما يختلف به الإبراهيميون هو على الأرجح ظاهرة الكتب المنزلة أو «الكتاب-الوحي»؛ ومن ثم من المفيد جدًّا الفصل بين سرديات المقدس في أي ثقافة أو لدى أي شعب، وبين ظاهرة الوحي. إنَّ طرافة المعري هو كونه يستعمل الأدب من أجل أن يزاحم المعجزة اللغوية للتنزيل، دون أن يمسَّ بجوهر الوحي؛ ولذلك هو يمضي شوطًا خطيرًا في استعمال الأدب من أجل تجريد المقدس من احتكاره اللغوي، ما دام هو يحمل «التوقيع» القومي لشعب ما؛ ولذلك هو يتجرَّأ على مواصلة نقاشات أدباء الدنيا مع «ندامى من أدباء الفردوس» (ص١٦٩)، ناقلًا نكتة الإشكال من السؤال عن وجود الأدب في الجنة إلى الاستفادة السردية ممَّا جاء في القرآن من انعدام «الضِّغْن» (نفسه) بين أدباء أهل القيامة. وسوف يقول نيتشه في آخر القرن التاسع عشر بأن «الضغن» هو أصل كل «تمرد» أخلاقي؛ ولذلك لم يرَ المعري من سبيل إلى رفع مقام الضغينة الدنيوية سوى مواصلة النقاش بين أدباء الآخرة، ولكن من أجل تفاهم بلا ضغينة تأويلية. لقد اهتدى إلى إفادة ما في نقاشات الفردوسيين: أن يتصالحوا أدبيًّا. وهو «نعيم» أدبي يتحسر «الشيخ» (ص١٧٢) في مجلسه الأدبي في الجنة على أن الأعشى قد حُرم منه؛ لأن قريش قد ردته عندما عزم على مقابلة الرسول.

قال: «ولو أنه أسلم، لجاز أن يكون بيننا في هذا المجلس، فينشدنا غريب الأوزان، مما نظم في دار الأحزان …» (ص١٧٤)

يبدو «الإسلام» هنا بمثابة صكٍّ للغفران «الأدبي»، لكن حسرة الناجين لا تتعلق بما لم ينالوه من النعيم الأخروي، بل بما حُرموه من متع الأدب الذي منع الدخول إلى الفردوس. إن المعري قد جعل حديث الخالدين يدور حول حسرة أدبية على ملاقاة أدباء محرومين من الجنة لأسباب لا عَلاقة لها بالأدب، كأنَّ أكبر خسارة يمكن أن تلحق بالمؤمنين يوم القيامة هي خسارة الأدب، وليس شيئًا آخر. وهذا تلخيص لماهية الدنيا في كونها لا تعدو أن تكون مجلسًا أدبيًّا ممتعًا لا غير؛ ومن ثم إنَّ النعيم الحقيقي ليس دخول الفردوس من أجل متعة غير دنيوية، بل لقاء «الندامى» المناسبين من أجل إنشاد «غريب الأوزان»، ولو كان منشدها «كافرًا». يقدِّم المعري الأدبَ باعتباره مقامًا لا يبالي بين المؤمنين والكفار؛ لأنه يصدر عن متعة عابرة لمستويات الكينونة. ولا فرق عندئذٍ بين الدنيا والآخرة إلا بالأدب المناسب لمجلس الندامى بعد أن يتم توفير المطلب الأقصى لكل نوع من الكائنات، نعني «طعام الخلود» (ص١٧٦). يلمِّح المعري إلى أن الخلود يكون مُمِلًّا أو لا معنى له إن كان بلا أدب جيد. وهو لا يشمل الشعر فقط، بل أيضًا «المنادمة» (ص١٦٩) و«اللعب» (ص١٧٢) و«النزهة» (ص١٧٥) حسب ما كان يسمى «في الدار الفانية» (نفسه).

الأدب الجيد هو الذي ينجح في السخرية من الموت باختراع نوعٍ من «طعام الخلود»، يبدو أن المعري قد وجده في الأدب؛ ومن ثم يُصِرُّ على أنه خلود ليس دينيًّا إلا عَرضًا؛ ولذلك يكثر المعري من الأسئلة التي تجعل الغفران الديني مفارقةً عجيبة. وقد استعمل حالة الأعشى مرَّة أخرى بوصفها محكًّا لاختبار معنى الغفران. فمن جهة هو قد كتب شعرًا في مدح النبي «ولكن صدته قريش وحبه للخمر» (ص١٨١) عن مقابلته، وبهذا «شفع» له، لكنها من جهة أخرى شفاعة بلا نعيم. قال: «فأُدخلت الجنة على أن لا أشرب فيها خمرًا … وكذلك من لم يتبْ من الخمر في الدار الساخرة، لم يُسْقَها في الآخرة» (نفسه).

من المفيد أن نقرأ تسمية الدنيا بأنها «دار ساخرة». ووجه السخرية هنا يكمن في توقيت العلاقة بين الأدب والحرام، مركزًا هنا في شرب الخمر. يوحي المعري بأن الدنيا توقيت سيئ للجمع بين الأدب والحرام؛ ولذلك فإن شرب الخمر ليس محرمًا في ذاته بل في توقيته فقط؛ ومن ثَمَّ إن الآخرة هي المكان المناسب أو التوقيت المناسب لكي يشرب المغفور لهم الخمر دون وقوع في الحرام. وهكذا، فالغفران نفسه هو تفاوض حول حقوق الخلود التي لا يمكن أن يفوز بها أهل الجنة على قدم المساواة.

قال الشيخ سائلًا زهير بن أبي سلمى عن سبب الغفران: «بمَ غُفر لك وقد كنتَ في زمان الفترة والناس هَمَلٌ، لا يحسن منهم العمل؟ … أفأُطلقت لك الخمرُ كغيرك من أصحاب الخلود؟ … فيقول زهير: … هلكت أنا والخمر كغيرها من الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء، فلا حجَّة عليَّ. فيدعوه الشيخ إلى المنادمة، فيجده من ظراف الندماء …» (ص ١٨٣-١٨٤)

إنَّ المعري يهدم هنا فاصلًا أخلاقيًّا حاسمًا بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب: أن الحرام تاريخي وليس أبديًّا، وأن تحريم الخمر سنَّة متأخرة في تاريخ الإبراهيميين وليست أصلًا دينيًّا. ووجه الطرافة هنا هو تأكيد المعري على أن الغفران لا يتعلق بما «يعمله» الناس، بل بما يؤمنون به. وهو إيمان مجرد من أي مضمون إلا من توحيد الله. وعلى مدى كامل الرسالة لم يقدِّم المعري أي سبب مفيد للغفران غير فكرة الله، وما عدا ذلك هو ضجيج ديني لا يمكن أن ينقذنا منه إلا مجالس الأدب. ونكتة الأمر هنا هو إيحاء المعري بأنَّ خلاص العرب ليس في الأحكام الفقهية، بل في مواصلة الأدب. كل ما في رسالة الغفران يوحي بأنَّ الخلاص مُشكل لغوي، وأنَّ الغفران لا يعدو أن يكون فعلًا إنجازيًّا.

أجل، يواصل المعري الاعتقاد بأن الجحيم هو مشكل «عملي»، يدخله المؤمن الحزين لأنه اقترف هذا الذنب أو ذاك، لكنه يحرص في المقابل على التلميح المتكرِّر إلى أنَّ الآخرة غير ممكنة خارج ما تقوله لغتنا؛ ومن ثم إنَّ الجنة مشكل لغوي، ولا يدخلها إلَّا من سبق أن «قال» شيئًا ينفعه يوم القيامة. القول وحدَه ذخيرة مناسبة لما بعد الموت، وليس كالأدب تقنية روحية للاستثمار فيه. لا يهم «زمن» الملة (ص١٩١، ٢٠٣) لأن التقسيم يومئذٍ لن يكون بين الملَّة وما قبل الملة، بل بين «أيام الحياة» (ص١٨٦) أو «الدهر الأول» (ص١٩٩) وبين «الآخرة». ولن يهنِّئ الناس بعضهم البعض بالسلامة من «الموت» بل ﺑ «السلامة من الجحيم» (ص١٩٥).

ولأن آخرة المعري سردية بحتة، فإن السؤال الذي يهيمن على لغته ليس سؤال الوثنيين: «ما هو؟» بل سؤال الإبراهيميين: «من؟» إنَّ الرسالة تبدأ في صيغة «أنا» المؤلف يحكي عن حماطة قلبه، لكنه لا يفعل ذلك في تأمل مغلق بل من أجل أن يجعل الإحالة على «هو» سردي غائب أمرًا ممكنًا. وهذا «الهو» الغائب قد نعته بعبارة «مولاي الشيخ الجليل»، وظل يحيل عليه دون أن يجعله محور القول، بل يعامله بوصفه مجرد تعلَّة سردية لمواصلة القصِّ بلا نهاية. وسريعًا ما ينسحب «أنا» المؤلف تاركًا وراءه حديثًا متشعبًا موجهًا إلى هذا «الهو» الغائب، من أجل تحويله إلى بطل سردي. لقد أصبح ابن القارح في سردية الغفران بمثابة المسلم «الأخير» الذي وجد نفسه محكومًا عليه بعبور الآخرة وحده ومن دون ضمانات. ولا يتخيَّل المعري ضمانة أحسن من الأدب بوصفه الخاصية الميتافيزيقية الوحيدة التي يتميز بها العرب. ولا بدَّ أن تكون هي الوسيلة الوحيدة لخلاصهم؛ ولذلك هو لا يتصور الجنة إلا في شكل مجلس من الأدباء الذين يواصلون سجالاتهم حول صحَّة هذا البيت أو «تصحيف» (ص٢٠٦) هذه الرواية أو نطق هذا الحرف. وهو لا يتخيَّل أي مجال آخر لاختبار «حرمة» (ص١٧٨) الغفران غير اللغة. وأكبر خوفه لا يتعلَّق باقتراف ذنب يؤدي به إلى الجحيم، بل باقتراف خطأ لغوي في قراءة بيت أو نسبة قول إلى غير صاحبه، فيفسد متعة الخلود (ص١٧٩). لا يمل المعري من السؤال: «لمن هذا الشعر؟» (ص١٧٦) و«لمن» هذان القصران (ص١٨١) و«من الرجل؟» (ص١٩٩) أو «من أنتما؟» (ص٢٠١-٢٠٢) و«من أنت؟» (ص٢٠١٥) … إلخ.

إنَّ غرض المعري هو بناء سردية تناسب «من؟» الإبراهيمية، ولكن على نحو يخلصها من مضمونها الديني ويحولها إلى مغامرة أدبية؛ ومن ثمَّة هو لا يهتمُّ يوم القيامة إلا بمن يُسمِّيهم «أدباء الفردوس» بوصفهم الأبطال السرديين الوحيدين الذين يطرحون مشكلة الغفران على طريقتهم.

قال: «فيقول، أعلى الله قوله: مَن هذه الشخوص الفردوسية؟ فيقولون: نحن الرواة الذين شئت إحضارهم آنفًا. فيقول: لا إله إلا الله مكونًا مدونًا … كيف تروون أيها المرحومون قول النابغة في الدالية …» (ص٢٠٦)

يتعلَّق الأمر فِعلًا بما سماه «الشخوص الفردوسية»، وهي شخوص تشبه ما سيسميه دولوز «الشخوص المفهومية» إلا أنها لا تفكر بواسطة «المفاهيم» بل تسرد «القَصَص» التكويني. كل ما شغل المعري يوم القيامة هو سؤال «المرحومين» في ما بعد الموت عن رواية دالية النابغة بشكل سليم، لكن هذا الحرص ليس متكبرًا في شيء ولا هو صادر عن اضطغان أدبي في غير وقته. فإن المعري لا يحاسب الرواة من أجل معاقبتهم، بل هو يقترح أن نقرأ التصحيف في الرواية ليس «على معنى الغلط والتوهم» (ص٢٠٧) كما هو حال أهل الدنيا، بل حسب ما سيقوله نابغة بني ذبيان في حديث فردوسي: «ما أجدر ذلك بأن يكون» (ص٢٠٨). بل هو يبحث للناسين أشعارهم يوم القيامة متى سُئلوا بشأنها عن أعذار. إن النسيان هو هنا عذر أدباء الفردوس، إذْ يقدمه المعري على أنه فضيلة قرآنية. قال: «يا أبا ليلى، لقد طال عهدك بألفاظ الفصحاء … فنسيت ما كنت عرفت، ولا ملامة إذا نسيت ذلك، {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}» (ص٢٠٩-٢١٠).

ومع أنَّ الأدباء سوف يدافعون عن أنفسهم ضدَّ تصحيف المتأخرين بأنهم مولعون «بالمنحولات» (ص٢١٢) حتى يستأنفوا هجاء بعضهم البعض الذي تركوه في الدنيا (ص٢٢٨ وما بعدها)، فإنَّ المعري يقدِّم النسيان على أنه هو الغفران الحقيقي. ما ننساه نغفره لأنفسنا؛ وذلك أنَّ ما نرفض وقوعه على سبيل الغلط والتوهُّم هو «أجدر بأن يكون». وما يكون هو قالته اللغة؛ لأنه لا يوجد هنا إلَّا ما يُقال. واللغة لا تخطئ نفسها.

١  أبو العلاء المعري، رسالة الغفران. تحقيق عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، القاهرة: دار المعارف، ط٩، ٢٠٠٩م. ملاحظة: كل الإحالات تأتي ضمن المتن.
٢  أبو العلاء المعري، رسالة الغفران. تحقيق عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، القاهرة: دار المعارف، ط٩، ٢٠٠٩م، ص١٢٩. ملاحظة: كل الإحالات تأتي ضمن المتن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤