الفصل الرابع

في تأويلية الرحمة

تقديم

في تفسير الإصحاحات ٣–١١ من إنجيل يوحنا، تلك التي تحكي قصة المرأة التي أحضرها الفريسيون إلى يسوع المسيح، وسألوه عما يقول في حكم رجمها كما تقضي شريعة موسى،١ وقد «سألوه ذلك لكي يحرجوه فيجدوا تهمة يحاكمونه بها»،٢ لم يجد أغسطين في وصف المشهد أفضل من هذا التعليق الرشيق: «Misericordia et Misera» «الرحمة والشقاء»، الرحمة أمام البؤس البشري.
كل مساحة المعنى التي يرسمها اسم «الله» في الديانات الإبراهيمية تجتمع هنا في نكتة هذا الإشكال: لا معنى لإله غير «رحيم»، وذلك في مقابل مساحة الخطاب التي يحدها اسم «البشر» في هذه الديانات: لا يوجد مقام معنوي أكثر إفادة لما هو «بشري» من مقام الامتحان أو «الشقاء»، وهو ما كُرس في المسيحية تحت عنوان «الخطيئة». إنَّ تاريخ الإله التوحيدي لا ينفصل عن تاريخ فكرة الرحمة في التجارب الروحية للشعوب السامية. كما أنَّ تاريخ الإنسان الديني في الشرق الأوسط لا يمكن كتابته بشكل مناسب، إلا بقدر ما نراقب الدور الذي أداه مفهوم الخطيئة، أي الخطأ المرتبط بالجنس كأصل حاسم للنزاع المرير «بين الأنا والأنا» (الاعترافات، الكتاب العاشر، ٣٠)، في بلورة سلم القيم الأخلاقية حول أنفسهم.
وتعني الرحمة في ديانات الكتاب (بمختلف تعبيراتها) مقامًا أو حالًا أكثر من مجرَّد الشفقة على الغير. هي، في العهد القديم، صفة داخلة في طبيعة الإله نفسه في علاقته بشعب مختار، وليست في أول أمرها انفعالًا بشريًّا، وإنْ كانت تُطلق أيضًا على العلاقة بين الرجل وزوجته٣ أو الأب والابن٤ أو الضيف والمضيف٥ أو بين الأصدقاء٦ أو بين الملك والرعية،٧ لكن المعنى الحاسم هو أن نفهم مغزى أن تصبح الرحمة اسمًا رسميًّا للإله التوحيدي: «الرحيم» صفة تستغرق ماهيته في أفق البشر.٨ والقصد الأسنى هو أن تصبح الرحمة الإلهية تجاه البشر نموذجًا يقتدي به هؤلاء البشر هم أنفسهم فيما بينهم. ليس من علاقة مع الله في أفق البشر ولا للبشر مع البشر بعد الإيمان به إلا علاقة الرحمة بما هي كذلك. أما في العهد الجديد، فإن وجه الجدة بوجهٍ ما هو أن الرحمة الإلهية لم تعد تتعلَّق بالصفح٩ عن شعب بعينه، بل بإنقاذ الإنسانية بما هي كذلك، ولكن كيف يمكن الصفح عن الإنسانية بعامة؟
قال أغسطين: «وبقي يسوع وحيدًا، مع المرأة؛ الرحمة مع الشقاء. بقيَ وحيدًا؛ لأنه وحده كان بلا خطيئة … ولذلك كانت المرأة بلا ريب في حالة رعب، وتعتقد أنه سيدينها.»١٠ لكنه صفح عنها،١١ وهو صفح يتأوَّله أغسطين بأنه «حكم رحمة». وهو حكم تدرج في حديث المسيح مع المرأة الزانية من السؤال عن الذين يتهمون١٢ إلى الصفح عن المتهَمة١٣ والتحذير من الخطيئة.١٤ لا يحق لأحدٍ أن يتَّهم أحدًا إلَّا بما لا يقترفه هو نفسه؛ ولا أحد مذنب إلى حدٍّ بحيث لا يمكن الصفح عنه؛ وأنَّ الحكم العادل لا يريد موت المخطئ، بل محو الخطيئة. قال أغسطين: «وذلك ليس بعجب؛ لأن الله لم يرسل ابنه في العالم من أجل الحكم على العالم، بل من أجل أن يتم به إنقاذ العالم؛ إذ قال: أنا لا أريد موت المخطئ.»١٥ من يصفح «يدين الخطيئة وليس الطبيعة»١٦ البشرية؛ ولذلك قال لها: «وأنا لا أحكم عليك. اذهبي ولا تعودي تُخطئين.»١٧ تبدو الرحمة غير ممكنة من دون نوع معيَّن من الوعي بالزمان قائم على بُعد المستقبل. لا معنى لأي صفح لا يتوجَّه إلى المستقبل. كما أنَّ كل خطيئة هي ذاكرة تستعمل الماضي ضد نفسها؛ بحيث لا يمكن الخروج منها إلا بالصفح، ولكن هل من طبيعة الألوهية أن تكون قائمة على الرحمة؟ وإلى أي مدًى ينبغي تأسيس الرحمة على الصفح؟

بلا ريب، علينا أن نأخذ في الاعتبار أنَّ بعض المسيحيين أنفسهم قد ذهب فعلًا إلى أنَّ إله العهد القديم هو إله خالق وعادل، ولكنه غضوب ومستبد، وأنه لم يصبح ودودًا وحنونًا إلَّا مع مجيء يسوع المسيح الذي هو وحده الإله الأعلى؛ لأنه إله المحبة. وهي فكرة تعود إلى أفكار لاهوتي غنوصي من معلِّمي المسيحية المبكرة اسمه مرقيون السينوبي (٨٥–١٦٠ ميلاديًّا)، رأس الأمر في دعوته التي كلَّفته الطرد من الجماعة المسيحية هو الفصل بين التوراة اليهودية والإنجيل المسيحي، على أساس الفصل بين إله الغضب الذي أوحى التوراة العبرانية، وإله المحبة الذي أوحى الإنجيل المسيحي.

هذا النوع من التأويل قد يوحي بأنَّ ثمة نوعًا من الانقلاب في استعمالات مفهوم «الرحمة» من سِفر التكوين إلى رسائل القديسين. وقد يتحوَّل إلى نزعة صريحة تقصد إلى اختراع معنًى جديد أكثر إحاطة من قيمة «الرحمة» هو مقام «النعمة»، إلى حدٍّ يمكن الكلام فيه عن الفرق بين الرحمة التوراتية والنعمة الإنجيلية، لكنَّ قارئ الكتاب المقدس في جملته لا بدَّ وأنه يلمح استمرار استعمال المسيحيين للرحمة التوراتية، وإن كان ذلك في إطار أنموذج جديد منصرف غالبًا إلى تصريف مقام النعمة.

إلَّا أنَّ ما هو أوكد للباحث هو أنَّ الرحمة أمر مختلف عن النعمة إلى حدٍّ؛ بحيث يجدر به أن يتساءل عن حق: إذا كان مفهوم الرحمة قد عرف منازل متباينة على مدى جملة الكتب المقدسة الإبراهيمية من سِفر التكوين إلى القرآن، ألا يؤدي ذلك إلى تغيُّر جذري في دلالة الرسالة الإبراهيمية بعامة؟ أم أن تغيُّر المنزلة هو مشكل أسلوبي في خطاب الرسالة ليس له أن يؤثر على محتواها الروحي؟

ولكن ما هي منزلة قول أغسطين في مسألة الرحمة في عصرنا؟ ألم يكن ناقدًا لاذعًا لآباء الكنيسة الأوائل الذين أُطلق عليهم اسم «الرحمانيين»؟ بل إن بعض الباحثين المعاصرين لم يتردَّد في اتِّهامه بأنه قد رفض فكرة «إله الرحمة» كما دافع عنها أوريجان (١٨٥–٢٣٢م)، صاحب أول مصنف لاهوتي نسقي في المسيحية، وغيره من «الآباء الرحمانيين»، وقرأه وكأنه نموذج المسيحية الدغمائية والمتشائمة القائلة بالخطيئة الموروثة والتجسد القرباني وأولوية المسيح المعذَّب والجحيم الأبدي.١٨ وذلك اتهام ثقيل دفع البعض الآخر إلى الدفاع عن رحمانية أغسطين١٩ ونقد «الآباء الرحمانيين»، تلك الفرقة من اللاهوتيين الشرقيين الذين ذهبوا في القرون الأولى للمسيحية إلى أنَّ الجحيم لن يمسَّ المذنبين، إلا لفترة محدودة، وأن الله في النهاية سوف يغفر للناس كافة؛ الأشرار والأخيار، لأنه إله رحيم. بل إن البعض منهم، مثل أوريجان، اللاهوتي الكبير في الإسكندرية، قد ذهب إلى حدِّ الحديث عن المغفرة للشيطان نفسه، ولجميع الأرواح الشريرة التي تشملها الرحمة مع الملائكة القديسين.٢٠ وهو ما يُعرف تحت مصطلح apocatastasis؛ أي كون الله سوف يعيد كلَّ شيء في نهاية الزمان كما كان في أصله، ويتم الغفران لكل المخلوقات،٢١ وهو مصطلح لم يظهر في العهد الجديد إلَّا مرَّة واحدة (أعمال الرسل ٣: ٢١)٢٢ ويجد جذرًا له في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثس (١٥: ٢٨).٢٣
هل يمكن نقد الرحمانيين باسم نموذج أكثر صرامة عن الرحمة؟ ذلك ما فعله أغسطين، ولكن كيف يمكننا اليوم قراءة أغسطين بعد نيتشه مثلًا؟ نعني بعد ما يقول فيلسوف موت الإله المسيحي على لسان بطله السردي زرادشت: «أنا لا أحب الرحمانيين»؛٢٤ لأن الرحمة تنطوي دومًا على «إهانة» ما. قال: «ذلك أنَّني لمَّا رأيت المتألم يتألم خجلت من أجل حيائه؛ أمَّا عندما قدمت له يد المعونة فقد طعنته بعنف في كبريائه.»٢٥
هذا التقابل البعيد بين أغسطين ونيتشه — وهما يعملان على نموذج سردي مسيحي واحد — هو مثال مثير كي نفهم طرافة تنشيط مفهوم «الرحمة»: إنه خطٌّ أخلاقي فاصل بين ثقافة المجد الوثنية (التي يسعى نيتشه لإحيائها في أُفق الإنسان الأخير الغربي) وبين ثقافة التقوى التوحيدية (حيث تحرك أغسطين). لا معنى للرحمة في أفق ثقافة المجد الوثنية؛ ولذلك كانت ظاهرة «الأنبياء» في نطاق الشعوب السامية بمثابة تجربة معنًى حاسمةٍ للانتقال من ثقافة الطاغوت إلى ثقافة الرحمة، ولم يكن ذلك ممكنًا دون إقحام الآلهة نفسها وقد تجمَّعت في إله واحد («إلوهيم» العبراني). والسؤال هو: إلى أيِّ مدًى ما يزال ممكنًا للنداء التوحيدي (الرحمة الإلهية بديلًا عن الثأر الوثني) أن يساعد الإنسانية المعاصرة، التي قطعت شوطًا واسعًا في علمنة قيمها الأساسية، على اختراع مساحات جديدة للتضامن «الكوني»٢٦ بين البشر بما هم كذلك، وليس بما هم تحت هذا التوقيع الهووي أو ذاك؟ إلى أي حدٍّ يمكن للنعمة المسيحية أن تؤسِّس وجودنا المعاصر، على سبيل المثال فيما يخص مفهوم «الموت الرحيم» في الطبِّ ما بعد الحديث، كما يمكن استشكاله في أفق الديانات الإبراهيمية؟ كيف نفهم النقاش المعاصر عن الصفح العلماني كما طرحه ريكور ودريدا (وهو نقاش خاض فيه آسياويون غير توحيديين أيضًا) في ضوء المفهوم التوحيدي عن الرحمة؟

(١) مفهوم الرحمة في العهد الجديد

لا بدَّ من الإقرار بادئ الأمر بأنَّ مصطلح «الرحمة» متواتر في جملة أسفار العهد القديم٢٧ ومختلف أناجيل العهد الجديد؛٢٨ ممَّا قد يعني أنَّ المسيحية ربما لم تغيِّر من دلالة مفهوم «الرحمة». وصحيح أيضًا أنَّ التراجم لا يلتزمون دومًا بالفرق الاصطلاحي بين اللفظين، بل يتم تعويض أحدهما بالآخر (مع ألفاظ أخرى مثل الرأفة أو الشفقة …) في أغلب الترجمات الغربية. ومع ذلك، فإن مفهوم الرحمة في المسيحية لم يعُد كما كان.
ومن المفيد أن نسأل بادئ الأمر: هل الانتقال من اللفظ العبري «رحميم» (ra’hamim) المستعمل غالبًا في العهد القديم إلى اللفظ اليوناني «إليوس» (eleos) المستخدَم في نصوص العهد الجديد (خاصة في إنجيل متى ولوقا ورسائل بولس)٢٩ قد أدخل تحولًا حاسمًا على دلالة مفهوم «الرحمة» الكتابي؟ مع الأخذ في الاعتبار أنَّ معجم «الرحمة» متعدِّد بشكل مثير: سواء في العبرية (إذْ يُشار إلى هذا المعنى بألفاظ عديدة أخرى أساسية من قبيل ḥesed, hen, ḥanan, hāmal) وهي تدور حول معاني الرحمة والحنان واللُّطف والرأفة والإنقاذ والأمانة، أو في اليونانية (من قبيل charis (النعمة)، أو oiktirmon (الرحيم) أو splagchna (العطف على المحتاج)).٣٠ بل لا يخلو العهد القديم من استعمالات سالبة كما نقرأ في سفر الأمثال (٣٠: ١٦): «ثلاثة أشياء لا تشبع قط … الهاوية، والرحم العقيم، وأرض لا ترتوي من الماء.»

ثمة معجم إذن متكامل في الكتاب المقدس؛ حيث يؤدي مفهوم الرحمة أدوارًا دلالية مختلفة، لكن السؤال هو: ما الذي انتقل إلى الغربيين المسيحيين من المعنى التوراتي لهذا المصطلح؟

نقرأ في العهد القديم: وقال موسى: «أرِني مجدك.» فقال الرب: «أجيز إحساناتي أمامك، وأذيع اسمي أمامك (يهوه). أغدق نعمتي على مَن أشاء ورحمتي (ra’hamim) على من أريد.» (سفر الخروج ٣٣: ١٩).
ونقرأ في العهد الجديد: «الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون، فإنكم تؤدُّون حتى عشور النعنع والشبت والكمون، وقد أهملتم أهمَّ ما في الشريعة: العدل والرحمة (eleos) والأمانة» (إنجيل متى ٢٣: ٢٣).
إلا أنَّه ثمة معنًى لم يدخل اللغات الغربية الهندو-أوروبية من اللفظ العبري (والعربي) «رحمة»: إنه معنى الإحالة الخفية أو الضمنية على معنى «الرحم» (ré’hèm)، أي معنى «الأحشاء». وهي إحالة لا بدَّ وأن تضع الله في تناسب لطيف مع المرأة أو الأم: ليس أرحم من أم، ومع ذلك فالمرأة قد تنسى طفلها؛ ولذلك فإن الله الذي لا ينسى هو أشد رحمة منها: «هل تنسى المرأة رضيعها ولا ترحم ابن أحشائها؟ حتى هؤلاء ينسين، أما أنا فلا أنساكم» (سفر إشعياء ٤٩: ١٥). «لا ترحم ابن أحشائها» عبارة تظهر بشكل صريح في ترجمة أندري شوراقي للكتاب المقدس إلى الفرنسية٣١ من خلال فعل منحوت هو «matricier».٣٢ ومن ثَم صار ممكنًا لأول مرة القول بلغة غربية (الفرنسية) «الله الرحيم» (El malé ra’hamim)، وهو ما تعوَّد الغربيون قراءته في ترجمة يونانية أو لاتينية «الرب الذي ملؤه عطف القلب على البؤساء» (Dives in Misericordia). وهو منحًى طريف طبَّقه شوراقي على ترجمته للقرآن أيضًا (وأخذ به جاك بارك)٣٣ للقرابة السابقة بين العبرية والعربية٣٤ وغربتهما عن اللغات الغربية.
والمثال الساطع على غربة الغربيين عن المعنى التوراتي والقرآني لمفهوم «الرحمة-الأرحامية» هو الترجمة اليونانية للفظ العبري بواسطة لفظة «eleos» اليونانية التي استعملها أرسطو في كتاب الخطابة، والتي تعني في الفرنسية الحديثة مثلًا «pitié» — «الشفقة»، وهو ما نقلته الترجمة العربية القديمة (السقيمة حسب عبارة عبد الرحمن بدوي) للكتاب بلفظة «الهم».٣٥ كيف نفهم الانزياح من معنى «الأرحام» العبري إلى معنى «الشفقة» اليوناني؟ هو انزياح من حكم «كتابي» متعلِّق بهشاشة الوجود البشري إلى انفعال «وثني» يجد مصدره في فضيلة مدنية يمكن تقاسمها مع الغير.٣٦

إن مكانة الرحمة في المسيحية لا تنكشف لنا جيدًا إلَّا بقدر ما نرصد الطريقة التي تمَّ بها تجنيد «الشفقة» الوثنية من أجل ترجمة «الرحمة» العبرانية في اللغات الغربية؛ أي غير السامية. ونكتة الصعوبة هي في مدى وجاهة استعمال المعجم الوثني، من أجل التعبير عن القصد الكتابي.

جاء في إنجيل متى (٩: ١٠–١٣): «وبينما هو متكئ في بيت متَّى، إذا جُباة وخُطاة كثيرون قد جاءوا واتكئوا مع يسوع وتلاميذه. فلما نظر الفرِّيسيون قالوا لتلاميذه: «لماذا يأكل معلمكم مع الجُباة والخُطاة؟» فلما سمع يسوع قال لهم: «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلموا ما هو: إني أريد رحمة (Ἔλεος) لا ذبيحة؛ لأني لم آتِ لأدعوَ أبرارًا بل خُطاةً إلى التوبة».»
كيف نفهم الفرق هنا بين الرحمة والذبيحة؟ أي بين إله الذبائح وإله الرحمة؟ يبدو أن المسيح يُدخل ها هنا دلالة جديدة في المعجم الكتابي أكثر من كونه يصحِّح مكانة الرسالة: إن موضوع الألوهية ليس الذبائح اليهودية، أي تكنولوجيا الكهنوت الرسمي الذي يؤدِّي في النهاية إلى تفريغ أية ديانة من قصدها الروحي الأصيل، ويحوِّلها إلى آلة ابتزاز أخلاقي للمؤمنين بها، بل موضوعها هو الرحمة؛ أي العناية بهشاشة الوجود البشري متى نُظر إليه من زاوية الخطيئة، أي من زاوية نوع غير بدني من «المرض». هذا الدمج الاستعاري بين «الخطيئة» و«المرض» اعتبره نيتشه في كتابه جنيالوجيا الأخلاق المعادلة الأكثر قوة للمسيحية. وهو ما حوَّلها إلى أكبر مؤسسة عزاء عرفها تاريخ الحيوان البشري بوصفه في ماهيته «كينونة مريضة».٣٧ إنَّ اعتبار الخطيئة مرضًا سوف يعامل الإيمان بوصفه تقنية عزاء نموذجية. لا يعني ذلك أن الدين لا يتوجَّه إلى «الأصحاء»، بل فقط أن الطبيعة البشرية مريضة سلفًا، ولا يمكنها أن تقف في وجه الشمس من دون رحمة ما. لا تتعلق الرحمة — إذن — بمجرد شفقة وثنية بين الفانين، بل بالتنبيه إلى أنَّ البشرية بعامة هي مقام لا يمكنه أن يحفظ ماهيته إلا متى قبل مساعدة من نوع غير بشري، صادرة عن نوع غير وثني من التضامن؛ لأنها توجد خارج إمكانية الإنسان.
وحين نقرأ الإصحاح الأول من إنجيل لوقا (١: ١–٨٠) نرى كيف تم «تدوين قصة» (١: ١) يسوع المسيح بناءً على مجموعة متتالية من أعمال الرحمة التي «حدثت» على «أشخاص» مختارين، دُعي كلٌّ منهم من أجل «أن يتقدم أمام الرب ليعد طرقه» (١: ٧٦). تلك هي سردية الرحمة بشكل «مسيحي»؛ أي بشكل يهمُّ تجارب المعنى الخاصة بمجموعة من الأشخاص كل منهم كان له «دَور» مخصوص في تدوين قصَّة يسوع، بما في ذلك مؤلف الإنجيل نفسه، لوقا، الذي اعتبر نفسه قد انتقل من «شاهد عيان» إلى «خادم للكلمة» (١: ٢) وذلك من خلال وظيفة السرد التي اعتنقها تلاميذ المسيح، وعن طريقها اخترعوا مهمة أخلاقية جديدة لم يعرفها اليونان؛ لأنها ليست وظيفة وثنية، أي ليست تراجيدية، بل وظيفة روحية أخذت اسم «البشارة» أو الخبر السار. لم يعد شقاء الفانين يدور حول القدر الذي يقهر المائتين، بل حول الخلاص من الكينونة نحو الموت بواسطة الولادة من جديدٍ باسم ملكوت من نوع آخر؛ لأنه غريب عن هذا العالم مهما كان كسموسًا مثيرًا للدهشة الفلسفية. ولا معنى للخلاص إلَّا بامتلاك صيغة مناسبة عن المستقبل. وهو معنى الرحمة من حيث هو مقام مفتوح على استعمال المقدَّس، بوصفه هو أفق المعنى الوحيد الذي يمكن أن نَعِد به البشر. كان الوثني في ماهيته «مواطنًا» (politès) أو «حيوانًا مدنيًّا» (zoon politikon)؛ مع المسيحية هو قد صار «مخلوقًا» (ens creatum) أو «عبدًا» (ovadia بالعبرية أي «خادم يهوه»). يحتاج المواطن أو الحيوان المدني إلى نواميس مدنية، أما المخلوق أو عبد الله فيحتاج إلى سردية مقدسة. وكل الشخوص السردية التي ذكرها لوقا، نعني زكريا وزوجته أليصابات وابنهما يوحنا المعمدان ومريم العذراء، هي مخلوقات رحمة وليسوا مواطنين في أي مدينة دنيوية. وزبدة الحكاية هي ميلاد يسوع المسيح. كلُّ المسيحية هي سردية رحمة، على أوجهٍ عدَّة:
  • (١)

    أن ميلاد يوحنا كان رحمةً للمرأة أليصابات العجوز العاقر (١: ٥٨)، ولكن من أجل أن «يهيِّئ للرب شعبًا معدًّا» (١: ١٧) ومن جهة الرب، «ليتم رحمته نحو الآباء» (١: ٧٢).

  • (٢)

    أنَّ بشارة مريم بمولود من دون رجل بَشري هي معجزة، لكنها «رحمة للذين يتقونه جيلًا بعد جيل» (١: ٥٠).

  • (٣)

    أنَّ دَور يوحنَّا هو بناء النموذج: «ستتقدم أمام الرب لتعدَّ طرقه، لتعطي شعبه المعرفة بأن الخلاص هو بمغفرة خطاياهم بفضل عواطف الرحمة لدى إلهنا» (١: ٧٦–٧٨).

إنَّ الرحمة في كل هذه الحالات نوع من الوعد السردي، الذي يساعد المؤمنين على احتمال ثقل هشاشة الكائن البشري. «بشري» تعني في الأناجيل عندئذٍ ما هو تحت خطيئة أصلية سابقة على وجوده الشخصي؛ ومن ثَم محتاج بطبيعته إلى مساعدة من نوع غير بشري، وليس من وصف جامع لتلك المساعدة المتعالية سوى مفهوم الرحمة.

(٢) أنموذج أغسطين في معنى الرحمة

يقول أحد الباحثين: «الرحمة لدى أغسطين ليست موضوعًا للتصنيف، بل هو يتحدَّث فيها عن تجربة. وإذا ما كان استطاع أن يفلت من ضلالات المانويين، تلك الفرقة التي تاه في حبائلها طيلة تسع سنين، فهو لا ينسب ذلك إلى أداء شخصي، بل فقط إلى رحمة الرب.»٣٨ إنَّ النكهة الخاصة بالمفكرين الدينيين هي تماهي القضية والشخص. ثم يصبح المؤلف في وقت لاحق متماهيًا مع الذين اعتنقوا مذهبه؛ ولذلك علينا أن نقتصر هنا على مؤلفات أغسطين لأن تاريخ الأغسطينية قد بدأ بعد موته.٣٩
يصرُّ أغسطين دومًا على التفكير تحت سلطة السؤال «من؟»٤٠ وليس تحت سلطة السؤال «ما هو؟» على عادة الفلاسفة اليونان. سؤال «من؟» هو السؤال المسيحي بامتياز. وهو سؤال استأنفه نيتشه وهيدغر وحنا أرندت وريكور بطرق غير دينية، وكل ذلك تحت هيبة اعترافات أغسطين. ربما هم قد بقوا عند حدود السؤال «من هو الإنسان؟» أما أغسطين فقد دفع بالسؤال إلى أقصاه وتساءل: «من هو هذا الذي يهيمن على قمة روحي؟ فلأصعد مستعينًا بروحي ذاتها إليه.» (الكتاب العاشر، ١١). وإنما في هذا المنحى هو يخاطب الله قائلًا: «أنت الطبيب، وأنا المريض؛ أنت رحيم، وأنا بائس (misericors es, miser sum)» (الكتاب العاشر، ٢٨). لا تكون الرحمة إلهية إلَّا متى كان البؤس شخصيًّا، مثل المرض. وهذه نكتة الإشكال في التجربة الدينية: هي مثل المرض لا تكون إلا شخصية، لكنها لا تتعلق أبدًا بما هو شخصي، بل بمستوًى من الوجود الذي يتجاوزنا.
وعلاقة أغسطين مع مسألة الرحمة نموذج مثير على هذا المنحى. لم نعُد أمام المعنى العبراني للرحمة (النموذج الأمومي أو «الأرحامي» للحنان الإلهي على البشر الذين اختارهم لقصته)، بل صرنا أمام معنًى مسيحي مبتكر: أن «الرحمة» (misericordia) تستمد دلالتها من واقعة «الشقاء» (misera) البشري بما هو بنية كينونة متقاسمة بين البشر، وليس حالة عابرة في حياة دنيوية، نعني بما هو حال من الهشاشة الروحية بسبب قدرة أصلية في طبيعة البشر على الخطيئة، لم يعُد فيها الفصل الفلسفي اليوناني بين «الجسد» و«النفس» ممكنًا.
قال أغسطين: «من يجهل أن اسم الرحمة متأتٍّ من كونها هي ما يجعل القلب يتألَّم للبؤس الذي يصيب الآخرين.»٤١
إن الرحمة تنزاح هنا من نطاق السؤال العبراني عن «العدل» إلى أفق التجربة المسيحية ﻟﻟ «النعمة». كان العبرانيون يبحثون دومًا عن رحمة الإله العادل؛ أمَّا مع المسيحية فإن المطلب قد صار متعلقًا برحمة النعمة. كان المؤمن العبراني لا يزال يعوِّل على آدميةٍ قادرةٍ على الاختيار وقبول النداء الإلهي؛ أما المؤمن المسيحي فهو ينطلق من «خطيئة أصلية» تجعله آدميًّا معطوبًا منذ البداية؛ وبالتالي لا معنى لأي قصاص أو عدل مقدس معه. هذا الفرق بين رحمة العدل ورحمة النعمة، بين آداب الإجلال لإله عادل وأخلاق الشقاء أمام إله مصلوب، قد اعتبره نيتشه تفوقًا أخلاقيًّا مثيرًا للعهد القديم على العهد الجديد.٤٢
لكن طرافة موضوع الشقاء تتخطى سخرية نيتشه الذي يخلط بين شفقة شوبنهاور وبين الشفقة المسيحية.٤٣ إن الشقاء مسبَّقة تأويلية تجعل العلاقة مع البشر، سواء أكانت إلهية أو إنسانية، خارج إطار العدل وداخل إطار النعمة، وذلك يعني خارج إطار الحساب وداخل إطار الصفح. إن الإله المسيحي قد انطلق من أن البشر بؤساء بلا رجعة؛ ومن ثم إنهم غير قادرين على النجاة؛ وبالتالي إن هذا القدر الإلهي لا يمكن أن يغيره إلَّا إله؛ ومن ثم فهو قد ضحَّى بنفسه من أجل البشر، سواء بالتجسد مثلهم (معاناة اللحم والدم)، أو بالموت على الصليب مثلهم (احتمال واقعة الموت). وهذا نموذج على كل مسيحي أن يحذو حذوه: عليه أن يقبل بأن بنية الكينونة في العالم هي البؤس الوجودي الناجم عن الخطيئة الأصلية، التي هي رمز أخلاقي للتعبير عن الكينونة نحو الموت؛ ومن ثم إن طريق الخلاص الوحيد هو النسج على منوال المسيح نفسه؛ أي قبول ذنوب الغير واحتمالها مثلهم، أي الصفح عنها صفحًا هو الشكل الوحيد من استحقاق الغفران الإلهي.
قال أغسطين: «إنَّ الوسيط الحقيقيَّ الذي برحمتك الخفية قد أرسلته وأظهرته للناس، حتى يتعلَّموا من قدوته معنى الخشوع … هو قد تجلَّى بين الخطاة المائِتِين والعادل الخالد: مائِتٌ مثل البشر وعادل مثل الله.» (الاعترافات، الكتاب العاشر، ٤٣).

لا يمكن فهم الرحمة حسب أغسطين إلا بوصفها ضربًا من «التوسُّط» الروحي بين البشر والإله، بين الموت والحياة، ولكن دون ادِّعاء أي نوع من التعالي الخاص. أن نرحم يعني أن نكرِّر على أنفسنا ما قام به المسيح تجاه الخطاة: القدرة على إنقاذ الميت من موته، ولكن قبول الموت مثله (المصدر نفسه). الرحمة عمل يؤدي فيه البشر دور إلهٍ، لكنه يفعل ذلك بوسائل فانية. وسر الرحمة هنا أنها ليست عملًا بطوليًّا أو تراجيديًّا مثل عمل وثني. هي ليست شفقةً عمودية من قويٍّ على ضعيف؛ بل هي عطف أفقي من بَشري مخطئ على بَشري مخطئ آخر، إنها تبادل للقدرة الإلهية على الرحمة بواسطة أجساد بشرية ضعيفة، تحمل إمكانية الرحمة دون أن تدري.

إنَّ شقاء الآخرين هو بذلك موضوع الرحمة الوحيد المتاح للمؤمن الحقيقي، ذاك الذي يجعل عَلاقته بالغير هي شرط العلاقة مع الإله. «إنَّ الشفقة في المسيحية هي لفظ آخر للإشارة إلى الصفح؛ ولهذا السبب هي مختلفة عن المعنى الدقيق للتعاطف [الشوبنهاوري]. إنَّ المسيحي يشفق على الغير حتى يشفق الله عليه ويمنحه الرحمة، في حين أن الشفقة لدى شوبنهاور هي تتقاسم العذاب مع الآخرين في عالمٍ عبثي.»٤٤
قال أغسطين: «حين نتألم نحن أنفسنا، فهذا بؤس أو شقاء، أما حين نتألم مع الآخرين، فهذا هو الرحمة» (الاعترافات، الكتاب الثالث، ٢، ٢). «إذْ ماذا يمكن أن تكون الرحمة إن لم تكن تعاطف قلوبنا مع بؤس الآخرين، الذي يدفعنا إلى نجدتهم متى وجدنا إلى ذلك سبيلًا.» (مدينة الله، الكتاب التاسع، ٥)
إن نقطة ضعف التفلسف المعاصر هو كونه يقف في أفق عالم فقد تبريره الذاتي، وتحوَّل إلى مسرح عبثي انسحب منه الآلهة (Entgötterung حسب عبارة هيدغر.)٤٥ لكن أغسطين لا يزال يعوِّل على أنَّ العالم هو مساحة مفتوحة لتجارب المعنى، وذلك ما دامت حياة البشر هي بحد ذاتها نوع من «الغواية» حُمِّلها الإنسان تحميلًا (الاعترافات، الكتاب العاشر، ٢٨). إن شأن البشري بعامة هو حسب أغسطين أن يوجد «بدلًا عن ذاته»٤٦ كما وجدها، وفي «مكان ذاته» الذي يسمح له بتمرين جذري على الولادة الأخرى الممكنة في قلب كل شخص. وهو معنى أنَّ الحياة هي «امتحان» مطلق؛ لأنها عبارة عن محاكاة لحياة أخرى تقع على مستوًى من التعالي المستحيل لمن كان «بشريًّا فقط».
لا يمكن التغلُّب على التعالي بوسائل بشرية إلَّا متى فهمنا الرحمة في أفق الرجاء، أو بوصفها أعلى تقنيات الرجاء المتاحة للكائن الذي قبِل بمقام «المخلوق» الإبراهيمي، وتخلَّى عن مقام «الحيوان العاقل» الوثني. قال أغسطين: «كلُّ رجائي لا يوجد إلَّا بقدر اتِّساع رحمتك» (نفسه، الكتاب العاشر، ٢٩). إنَّ المؤمن ليس مَن يكون «ذاته كأنه غيره» (soi-même comme un autre) حسب تعبير ريكور، بل من يكون «ذاته بفضل غيره» (soi-même par un autre)٤٧ حسب تعبير ماريون. وعلى خلاف الإله العبراني الذي ما انفكَّ يطالب بالعدل البارد، يبدو الإله المسيحي بمثابة الذات الأخرى الحميمة التي تُعيد الناس إلى أنفسهم. هكذا فهم أغسطين الاعتراف: أن تشعر النفس بأنها توجد «خارج نفسها» مهووسة بأن «تحب وأن تُحَب» (نفسه، الكتاب الثالث، ١). ومن ثم إن عليها أن تعيد الأمانة إلى طريقها، وهو معنى أن الله عنده هو رحيم: أي أن يشعر بالأسى لبؤسه، وأن يستجيب لندائه بالعودة إلى ذاته. الرحمة تنقل مركز المحبة من الأنا إلى الذات؛ ومن ثمة يصبح «الاعتراف» بديلًا صريحًا عن «التفلسف» أو حب الحكمة (نفسه، الكتاب الرابع، ٦). قال: «حتى عندما ينجح الفلاسفة في قول الحق، فإنه كان يجب عليَّ أن أتجاوزهم محبةً لك» (نفسه، الكتاب الثالث، ٦). الرحمة هي المقام الوحيد حيث تصبح المحبة امتيازًا رائعًا على الحقيقة.
لكن المحبة المسيحية قد جرَّدت الحب الوثنيَّ من خاصيته الأساسية: لذة السعادة. لقد تم نقل اللذة البشرية من سعادة الجنس إلى بهجة الصفح عن الذنوب. لقد صار المحبُّ يوجد خارج «جسده»؛ أي خارج اللحم والدم الحيوانيين فيه، وتحول إلى «نفس» توجد بواسطة الاعتراف. قال أغسطين: «إن ما هو حقًّا بفعل رحمته هو أن يطهرنا من خطايانا، وأن يحررنا بلا رجعة من بؤسنا (miseria)» (تعليق على المزامير، المزمار ١٣٥، ٤).

يبدو بوجهٍ ما أنَّ كل رهان المسيحية هو تحويل الوجود إلى خطيئة؛ ومن ثَمَّ فهم كل ما هو بشري على أنه محتاج إلى الرحمة، مثلما أنَّ كل ما يمتلكه هو مجرد نعمة؛ ولذلك لا ينبغي أن نفهم «الخطايا» في معنى أخلاقوي وكأن المؤمن هو فاسق بطبعه. بل إن الخطيئة هي وضع وجودي وليس تصرفًا شهويًّا يمكن تفاديه. ولأن الوضع البشري هو نفسه نوع من الخطيئة الأصلية، فإنَّ الرحمة لا يمكن أن تكون إلَّا إلهية. لا يمكن لِبَشريٍّ أن يغيِّر ماهيته. وهو لا يستطيع أن يساعد بَشريًّا آخر إلا بقدر ما يحاكي سلوك الإله المسيحي نفسه: أي أن يصفح عن جميع الذنوب؛ لأنها في واقع الأمر ليست ذنوبًا بالمعنى الوثني، أي أخطاء بشرية، بل هي أوضاع وجودية لا شفاء لها، إذ تدور كلها حول نمط الكينونة المريضة الممنوحة إلى البشر كنوع من الغواية المقصودة لحكمةٍ ما.

قال أغسطين: «لا شيء يفصلنا عن الله سوى الخطيئة، وفي هذه الدنيا لا نتنقى بقوتنا بل برحمة منه، ولا بقدرتنا بل برأفة منه لا متناهية. وفي الواقع، فإنَّ هذا القدر اليسير من القدرة التي لنا ليست منَّا، بل إنها هبة من صلاحه. ولولا عفوه علينا، بماذا ندعي نحن الذين نعيش في أطمارنا البالية حتى اليوم الذي فيه نتخلَّى عنها؟ بالوسيط وصلتنا النعمة حتى يمحو شبه جسد الخطيئة ما تلطَّخ به جسدنا الخاطئ. تلك هي النعمة الإلهية التي تشهد لرحمته الحقيقية، الفائقة الوصف؛ لتقودنا في هذه الحياة بالإيمان، وترفعنا بعد الموت بالمشاهدة الصافية للحقيقة التي لا تتغير حتى الكمال التام» (مدينة الله، الكتاب العاشر، ٢٢).
تؤدي الخطيئة في بلورة مفهوم الرحمة، بل وجملة مفاهيم المسيحية، دورًا خطيرًا. دون مذهب الخطيئة لن يكون للمسيحية أي معنًى؛ فهي وسيلة تجريد الكينونة من براءتها. قال: «لا، يا إلهي، لا توجد براءة طفولية» (الاعترافات، الكتاب الأول، ١٩). ومتى تم تثبيت فكرة الذنب في صلب معنى الكينونة، تحوَّل الوجود منذ أول أمره إلى «دَيْن» لا يمكن قضاؤه إلا بالإيمان. الإيمان طريقة تسديد دَين وجودي سابق على الأنا الذي ندعي أننا هو. ومن هنا نفهم لماذا يؤكِّد أغسطين أن النقاء أو التطهر من الخطيئة ليس بقوتنا الخاصة، بل برحمة إلهية. إن نقل التطهر من معجم القوة إلى معجم الرحمة هو جزء من خطَّة تأويلية لإخراج الإرادة من معجم القدرة إلى معجم الهبة. نحن لا نريد ما نستطيع، بل نريد ما يوهَب لنا. والإله ليس علة أولى تمكِّن من تفسير العالم، بل نعمة تمنح العالم إمكانية الخروج من العدم إلى النور. والجسد البشري هو عالم صغير لا يعود إلى العدم إلا بقدر ما يقبل الهبة؛ أي يقبل الصفح الإلهي عن خطيئة الوجود البشري الأساسية: ادِّعاء البراءة المطلقة تجاه الذات.
قال أغسطين: «الرحمة الحقيقية هي أن تعطي وأن تصفح، وأن تستمرَّ في إعطاء المزيد … ومن لا يفعل ذلك فليس له سوى رحمة ناقصة … وحتى ذلك ليس كافيًا بالنسبة إلى مَن هو رحيم حقًّا. ينبغي أكثر من ذلك أن يطلب من الله، بصلواته، الصفح عن الذين ظلموه … إن الله رحيم مطلقًا، ويحب الرحمة حبًّا لا حدود له عند الآخرين.»٤٨
لا تكون الرحمة حقيقية متى لم يخالطها الصفح عن الذين ظلمونا. وذلك يعني أنَّ الرحمة هي استعمال العطاء بوصفه نوعًا من الصفح: ليس فقط الصفح عن الخطايا، بل الصفح عن الفقر والعجز وعن المرض أيضًا. وفي هذا السياق تحديدًا يمكننا أن نُعيد إيضاح العَلاقة بين الرحمة والعدل في مفهوم الإله الإبراهيمي. قال: «احذروا من الاعتقاد بأنَّ هاتين صفتان يمكن الفصل بينهما داخل الله. قد يبدو بالفعل أنهما متناقضتان، وأن الرحمة لا يجوز لها أن تصدر حكمًا، وأنَّ الحكم يجب أن يتمَّ بلا رحمة. لكن الله قدير، وفي رحمته هو يحقق العدل، كما أنه في الحكم هو لا ينسى الرحمة أبدًا.» (تعليق على المزامير، المزمار ٣٢، ٢)
عثر أغسطين آخر المطاف على سياق مناسب؛ لتخفيف التقابل الحاد بين الإله العبراني والإله المسيحي، بين إله الغضب وإله المحبة. إن الرحمة ليست حكمًا، والحكم لا يقوم على الرحمة، ومع ذلك فإن الحل موجود في مكان آخر: إنه موجود في القدرة الإلهية، وليس في جدل المفاهيم على عادة الوثنيين. لا توجد علاقة برهانية بين القضيتين. بل فقط الثقة بقدرة الإله نفسه على تحقيق العدل دون نسيان الرحمة، كما يحدث مع البشر. الثقة مفهوم ينقل النقاش من مستوى الإقناع الخطابي الوثني الذي ينقده أغسطين في الكتاب الأول من الاعترافات، إلى مستوى الإيمان القائم على تقنية الرجاء. لا يؤمن الناس لأنهم اقتنعوا بفعل ترتيب منطقي للحجج، بل فقط لأنهم يثقون في قدرة مقدسة على مساعدتهم من جهة غير مفهومة بقدر ما هي مستحيلة في أفق المخلوقات. لا يمكن تحقيق الرجاء بواسطة العلم الطبيعي (الكتاب الخامس، ٤).
كل الحداثة منذ ديكارت هي ادِّعاء «الأنا» أنه يملك «العالم» الذي يسيطر عليه بقدر ما يعمل على تحويله إلى «موضوع». ولا معنى لتصريف الرحمة إزاء موضوع. وإن طرافة أغسطين هي كونه يقف في الطرف الآخر من الخيط الذي يمسكه ديكارت والمحدثون: إنه قد صنع في سردية الاعترافات فنَّ الذات دون ادِّعاء الأنا. وهو فنٌّ كان ممكنًا لأنَّ الإنسانية لا تزال قريبة من رؤيةٍ لعالمٍ تواصل حمايته من اللامعنى بواسطة الإله الخالق، ومن التملُّك الوثني بواسطة الرحمة الإلهية، لكنَّ الحداثة قد هدمت أفق المعنى الذي يؤمِّنه الإله الخالق، عندما حوَّلته إلى مجرد فكرة ترنسندنتالية. ولكن خاصة أنها قد قوضت مفهوم الرحمة، عندما حوَّلت الذات المؤمنة إلى أنا متغول بالعقل الأداتي عوَّض أفق النعمة ببرنامج تملُّك تكنولوجي للعالم. قال هيدغر: «إنَّ خمرة تفكير أغسطين قد أُغرقت بالماء الذي صبَّه فيها ديكارت. إنَّ يقين الذات والقيام بالنفس في معنى أغسطين هو مختلف تمامًا عن البداهة الديكارتية للكوجيطو.»٤٩ كل تصوُّر أغسطين عن الرحمة مؤسَّس على تصوُّر دقيق للأنا الذي يفكِّر: إنه «أنا» لا يقوم «بذاته»؛ ولهذا هو يحتاج إلى الرحمة لأنَّ وجود الأنا دون امتلاك ذاته هو المعنى الميتافيزيقي للبؤس الذي يقصده أغسطين. نحن بؤساء سلفًا؛ أي «أناوات» دون «ذوات»؛ ومن ثم فإنَّ كلَّ وجود هو «هبة» من جهة غير مفهومة، ولا يمكن فهمها أبدًا إلَّا على سبيل الرجاء.

خاتمة: النعمة المسيحية والموت الرحيم: آداب جديدة في الصفح

إذا كانت الرحمة تعني في لفظها اللاتيني (misericordia) الذي استعمله أغسطين هي التألُّم لبؤس الغير، فهل يمكن أن يكون مفهوم «الموت الرحيم» (euthanasia من اليونانية «الموت الجيد» أو الموت المريح) تطبيقًا لمفهوم الرحمة التوحيدي، أم هو مناقض تمامًا لشريعته الروحية؟ هل يمكن أن نساعد أحدًا على موته من أجل أن نضع حدًّا لآلامه باسم الحفاظ على كرامة الكائن البشري؟ هذه أسئلة تطرح مسألة «العدل» الإلهي والبَشري على المحك بدلالة غير مسبوقة.
ربما يصطدم هذا النداء (ما بعد الديني وما بعد العلماني معًا) عن الموت الرحيم بما تنصُّ عليه الكُتب المقدسة التوحيدية جميعًا على «عدم قتل النفس».٥٠ ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ أغسطين قد خصَّص الأقسام ١٦-٢٨ من مدينة الله لإدانة الانتحار مهما كانت الدوافع إلى ذلك، اللهمَّ إلا هروبًا من الخطيئة.
لكن العهد القديم٥١ (مثله مثل القرآن) هو يأمر أيضًا بقتل من يُضلُّ الناسَ عن عبادة الإله التوحيدي. وبهذا المعنى أشار أغسطين أيضًا إلى أنَّ الله ليس رحيمًا من دون تمييز، بل فقط تجاه من كان هو أيضًا رحيمًا، بناءً على الربط الضروري بين أن تصفح وأن يُصفَح عنك (تعليق على المزامير، المزمار ٣٢، ٢، ١). كان الموت في التوراة العبرانية حدثًا عاديًّا تمامًا، بل بعض القتل كان عملًا ممجدًا (سفر الملوك الثاني: ٣٠). إلَّا أن المسيحية أيضًا، وخاصة في زمن الاضطهاد الروماني، لا تخلو من تجارب موت ربما تدخل في باب الموت الرحيم الذاتي أو الإرادي (auto-euthanasia)، مثل ما فعلته القديسة بربيتوا (Perpetua – ١٨١–٢٠٣م)٥٢ التي كانت بمعيتها خادمتها فيليسيتا (Felicitas) من أوليات الشهيدات المسيحيات في تونس الرومانية، وقد حُكم عليها في سن الثانية والعشرين في قرطاج وهي أمٌّ ترضع وليدها، وأُلقي بها في عرين البقر الوحشي حتى تموت دهسًا، ولأن الدابة لم تنجح في قتلها فهي قد أمسكت السيف وأدخلته في حنجرتها لإجهاز موتها. وهذا تعليق أغسطين على الحادثة التي ماتت فيها بربيتوا وخادمتها فيليسيتا في بعض مواعظه: «ما يسطع بنوره في هذا المجمع من الشهداء، هو الفضيلة، هو اسم بربيتوا وفيليسيتا، الخادمتين القديستين للرب؛ وذلك أن التاج يكون أعظم مجدًا، حين يكون الجنس أكثر ضعفًا، وأنَّ النفس تظهر بلا ريب أكثر فحولة في جسم امرأة، عندما لا تنهار هذه المرأة تحت ثقل هشاشتها … فيهما تجلى [الرب] في هيئة ما لا يُقهر، هو الذي جعل نفسه ضعيفًا من أجلهما … هو الذي جعل هاتين المرأتين تموتان ضحيةً لشجاعتهما ووفائهما، بعد أن كان قد تكرَّم في رحمته بأن اتَّخذ من امرأة أمًّا له.»٥٣
لقد وجد أغسطين صِلة خفيَّة وعميقة بين الشهادة والرحمة، وأسَّسها على فهم رشيق لِدَور الجنس في منح هذه التجربة معنًى استثنائيًّا. الشهادة مثل الرحمة موقف جذري يُبطل التمييز بين الجنسين.٥٤ وحين تستشهد امرأةٌ دفاعًا عن إيمانها فهذا يدفع بمعنى الشهادة إلى أقصاها، فتتحوَّل إلى تجربة مقدسة. إنها حسب أغسطين نوع من ردِّ الجميل للإله المسيحي الذي تفضَّل بأن كان ضعيفًا يُقتَل على الصليب، وبأن كان طفلًا تلده امرأة من البشر. والرحمة التي رحم بها البشر حين قبِل بأن يكون بشريًّا يموت مثل البشر، هي قد جعلت موت البشر محاكاة مقدسة له، هي وسيلتهم الوحيدة ليرتفعوا إلى رتبة الخلود؛ ومن ثم إنَّ الشهادة حسب أغسطين ليست عملًا شخصيًّا: «إذ بمحبة القوة التي يبثُّها القديسون الشهداء في عذاباتهم، علينا أن نصرف عنايتنا إلى إظهار النعمة تجاه الرب. فهؤلاء الشهداء لا يريدون أن نشكرهم في ذات أنفسهم، بل فقط في من نقول عنه: «في الرب تتمجَّد نفسي».»٥٥
ولكن هل كان أغسطين لِيَقبل بالموت الرحيم؛ ومن ثَمَّ أن يعامل المرض الذي لا شفاء منه والألم الذي لا حدَّ له معاملة الجمهور الوثني الذي كان يصيح في المسرح الروماني، ويسخر من «الأجساد المقدَّسة وهي تُلقى إلى الحيوانات المفترسة»،٥٦ ومن ثَمَّ أن يضحك منه كما كان الرب «الذي يسكن السماء يضحك من جموع الوثنيين»؟٥٧ إنَّ الشهادة الدينية، كما تأوَّلها أغسطين، هي درس أخلاقي رائع يمكن الاستناد إليه من أجل تبرير قرار الموت الرحيم. إنَّ النعمة الإلهية لا تهمُّ الحياة بأي شكل، بل الحياة الكريمة، أي الجديرة بهذا الاسم؛ ومن ثَم فإن الرحمة يمكن أن تكون العلاج المناسب لما لا يقبل الحياة، أو ما يجعل الحياة الكريمة مستحيلة. وهذا هو السياق المناسب لطرح مسألة «الله محبة». لا معنى لمحبة لا ترحم، أي لا تساعد الحياة على أن تكون كريمة أو لا تكون. والكتاب المقدس لا يخلو من تمجيد لمن ماتوا دفاعًا عن وطن (سفر المكابيين الثاني ١٤: ٤١). كما أن المماهاة المسيحية بين الخطيئة والمرض قد تفتح البابَ أمام تأويلية ثاقبة عن الموت الرحيم، بوصفه ينطوي في ثناياه المؤلمة على نوع من «الصفح».
وحسب حنَّا أرندت فإن «يسوع الناصري هو الذي جعلنا نكتشف دَور الصفح في ميدان الشئون الإنسانية».٥٨ والقصد من هذه الإشارة هو التأكيد على أنَّ الصفح عمل بشريٌّ وليس إلهيًّا فقط. إنَّ الصفح عن الخطيئة أو عن الجريمة هو نسيان رحيم، والنسيان الرحيم هو المعنى الديني للغفران. وفي نموذج أغسطين: النعمة لا معنى لها من دون رحمة. الرحمة هي إطار المصالحة بين العدل اليهودي والنعمة المسيحية. اللقاء المناسب بين الإله العبراني (العدل قبل النعمة) والإله المسيحي (النعمة قبل العدل). ونحن نرى أغسطين وهو يخطو خطوةً ثقيلة وصامتة نحو الرحمة القرآنية، فإنَّ الخصومة ضد «الرحمانيين» لدى أغسطين لها نظير في القرآن. الرحمة الأصيلة نوع من الاعتراف؛ اعتراف نهائي بهشاشة الوجود البشري، بأنه يعاني سلفًا من وضع وجودي لا مخرج منه إلَّا بالإقدام على ولادة أخرى؛ ولذلك فإنَّ الرحمة تبدو معطوبةً في ظلِّ ثقافة «الأنا» الفرداني الحديث: لا يرحم إلَّا من قَبِل بأن يوجد «خارج ذاته»؛ لأن ذاتًا أخرى يمكن أن تساعده على احتمال التناهي دون حساب دنيوي. الرحمة لا معنى لها سوى تأمين المعنى للمخلوقات؛ لأن الوجود يبدو وثنيًّا بلا رجعة. و«الفاني» الوثني يشفق لكنه لا يرحم؛ أما المخلوق التوحيدي فهو يرحم لكنه لا يشفق: إن الشفقة تحتوي على معنًى وثني لا يجدر بالمؤمن التوحيدي أن يرضى به؛ لا يشفق إلا كائن متكبر. والكبرياء الوثنية تشفق، أمَّا التواضع الإبراهيمي فهو يرحم ولا يشفق فقط. وأنت لن ترحم إلَّا إذا نظرت إلى المخلوق على أنه أمانة مقدسة لها حرمة تتجاوزها هي حرمة الخلق. وهو وضع وجودي عابر للبشر وعابر للأديان. قال أحد الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين؛ هو أندري كونت-سبونفيل: «إن الرحمة، كما أفهمها، هي فضيلة الصفح، أو — بالأحرى، وبشكل أفضل — هي حقيقته».٥٩
وضد كل سجال لاهوتي مغلق على ملة دون أخرى، تمنحنا مسألة الرحمة محاولة تبادل تأويلي وتعاون إتيقي طريف بين «أهل الكتاب» جميعًا، أو بين التوحيديين حول القيم الرحمانية: (التعاطف، الحنان، الرأفة، الإيثار، التضامن، التسامح …) بوصفها المساهمة الأخلاقية الرسمية لأديان الكتاب في بلورة المشروع المعياري العالمي للإنسانية في القرون القادمة. لا يعني ذلك الاكتفاء بمجرد علمنة لمعنى الرحمة في المفهوم السوسيولوجي للتضامن (ديركهايم)، بل الدعوة إلى التفكير في القيم الروحية للكتابيين حسب مقتضيات العيش ضمن «مجتمعات ما بعد-علمانية»، حيث صار متاحًا ومندوبًا إليه أن يتعاون جميع المخاطبين على إرساء أكثر ما يمكن من تمارين الرحمة الأفقية بين البشر، مهما كانت مفردات النقاش فيما بينهم. «إنَّ خبز حياة الجماعة هو الرحمة. وإنَّ الصفح عن أولئك الذين اعتدوا علينا من شأنه أن يصلح الأواصر المقطوعة، وأن يبارك إمكانية التواصل في بُعدها الأفقي.»٦٠ وليس من طريقة أخرى لأن نثبت، حسب بول ريكور، «أن الطِّيبة أكثر عمقًا من الشر.»٦١ وهي طِيبة لم يعد لها من مجال إلَّا آداب الضيافة بوصفها تمرينًا إبراهيميًّا عريقًا في ثقافة التوحيديين. ذلك أن «العيش معًا» هو حسب دريدا لم يعد ممكنًا من دون آداب جديدة «للضيافة»، بوصفها الترجمة ما بعد الدينية للرحمة (rahamim).٦٢
وعلينا أن نسأل: إلى أيِّ مدًى أعددنا العُدَّة لبلورة هذا النوع من تأويلية الرحمة في الديانات الإبراهيمية؟٦٣ ومتى يحين موعدها الكبير؟

قال لويس ماسينيون سنة ١٩٥٦م في أعياد الميلاد (والذي عاد إليه دريدا بحثًا عن آداب الضيافة):

«بالنسبة إلى هؤلاء الذين تَمَّ التخلِّي عنهم، لم يعد ثَمَّة سوى عمل رحماني واحد؛ هو الضيافة، وإنما من خلالها فقط، وليس بالقيود القانونية، نحن نستطيع أن نتجاوز عتبة المقدس: إن إبراهيم قد علَّمنا ذلك.

لنبحث إذن مع إبراهيم، عند المسلمين الذين حاصرناهم إلى حدِّ اليأس الأكثر شناعةً، في المدينة الملعونة حيث نطاردهم — مدينة الرفض الجوهري، رفض الضيافة، الذي طُلب من لوط — لنبحث عن هذه الشرارة الأخيرة من الإيمان.»٦٤
١  قارن: سفر اللاويين، ٢٠: ١٠.
٢  إنجيل يوحنا، ٨: ٣–١١.
٣  سفر التكوين ٢٠: ١٣.
٤  سفر التكوين ٤٧: ٢٩.
٥  سفر يشوع ٢: ١٤–١٤.
٦  سفر صمويل الأول ٢٠: ٨، ١٤–١٧.
٧  سفر صمويل الثاني ٢: ٥.
٨  قارن: المزامير ١١٦: ٥.
٩  عن العلاقة بين الرحمة والصفح: سفر الخروج ٣٤: ٩؛ العدد ١٤: ١٩؛ إرميا ٣: ١٢ ...
١٠  Saint Augustin, Commentaire de l’Evangile de Saint John. Traduction sous la direction du père Marie-Dominique Philippe. Las Editions du Cerf, 2006, § 1135.
١١  Cf. Dominique Greiner, Matthieu Lefrancois, “La peine et le pardon: Jésus et la femme adultère”, in Lumière & Vie, Juillet–Septembre (2006), pp. 91–101.
١٢  Ibid. § 1137.
١٣  Ibid. § 1138.
١٤  Ibid. § 1139.
١٥  Ibid. § 1138.
١٦  Ibid. § 1139.
١٧  إنجيل يوحنا، ٨: ١١.
١٨  Cf. J. Duquesne, Le Dieu de Jésus. Paris: Grasset 1997, pp. 199-200.
١٩  Cf. Kolawole Chabi, Saint Augustin. Chantre de la Miséricorde Divine. Mimshach Editions, 2016.
٢٠  Ibid., pp. 13–15.
٢١  Cf. “Apocatastasis”, in Catholic Encyclopedia http://www.newadvent.org/cathen/01599a.htm.
٢٢  أعمال الرسل (٣: ٢١): «الذي ينبغي أن السماء تقبله، إلى أزمنة رد كل شيء، التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر.»
٢٣  الرسالة الأولى إلى أهل كورنثس ١٥: ٢٨: «ومتى أخضع له الكل فحينئذٍ الابن نفسه أيضًا سيخضع للذي أخضع له الكل؛ كي يكون الله الكل في الكل.»
٢٤  فريدريش نيتشه، هكذا تكلم زرادشت. كتاب للجميع ولغير أحد. ترجمة علي مصباح. بيروت: دار الجمل، ٢٠٠٧م. حديث عن أهل الشفقة، ص١٧١-١٧٢: «الحق أقول لكم، إنني لا أحبهم أولئك الرحيمين المغمورين غبطة داخل شفقتهم: إنهم يفتقرون افتقارًا بالغًا إلى الحياء. (...) الحق أقول لكم، لقد قمت بهذا العمل أو ذاك من أجل المتألمين، لكن كان يبدو لي دومًا أنه كان أجدر بي وأولى أن أتعلَّم كيف أفرح بطريقة أفضل.»
٢٥  نفسه، ص١٧٢.
٢٦  قارن: أغسطين، الاعترافات، الكتاب الثالث، الفصل ٧.
٢٧  سفر التكوين ٤٣: ١٤؛ سفر التثنية ١٣: ١٧؛ سفر صموئيل الثاني ١٥: ٢٠؛ سفر الملوك الأول ٨: ٢٣؛ سفر أخبار الأيام الثاني ١: ٨؛ ٦: ١٤؛ ٣٠: ٩؛ سفر يشوع ٢: ١٣؛ سفر المزامير ١٨: ٥٠؛ ٢٣: ٦؛ ٢٥: ١٠؛ ٣٢: ١٠؛ ٥١: ١؛ سفر طوبيا ٣: ٢؛ ١٣: ٩؛ ١٣: ٨؛ سفر الحكمة ١١: ٢٤؛ سفر عزرا ٧: ٢٨؛ سفر نحميا ١: ٥؛ ٩: ١٧؛ سفر يهوديت ٨: ١٢-١٣؛ ١٠: ١٢؛ سفر أيوب ١٠: ١٢؛ ٣٧: ١٣؛ سفر الأمثال ٣: ٣؛ ١٤: ٢٢؛ ١٦: ٦ …
٢٨  إنجيل متى ٩: ١٣؛ ١٢: ٧؛ ٢٣: ٢٣؛ إنجيل لوقا ١: ٧٢؛ ١: ٧٨؛ ١٠: ٣٧. رسالة بولس إلى أهل رومية ٩: ٢٣؛ ١٥: ٩؛ رسالة بولس إلى كورنثوس ٧: ٢٥؛ رسالة إلى أهل غلاطية ٦: ١٦؛ رسالة إلى أهل أفسس ٢: ٤؛ رسالة إلى أهل فيليبي ٢: ٢٧؛ رسالة إلى أهل تيموثاوس ١: ٢؛ ١: ١٦؛ ١: ١٨؛ إلى أهل تيطس ١: ٤؛ رسالة إلى العبرانيين ٤: ١٦؛ رسالة يعقوب ٢: ١٣؛ ٣: ١٧؛ ٥: ١١؛ رسالة يوحنا الرسول الثانية ١: ٣؛ رسالة يهوذا ١: ٢؛ ١: ٢١؛ سفر باروخ ٥: ٩.
٢٩  Cf. Felix Just, “Mercy and Compassion in the New Testament”, in http://catholic-resources.org/Bible/Mercy-Compassion.htm.
٣١  Cf. Guitta Pessis Pasternak, “La Bible en son sens entretien avec André Chouraqui” (13 Nov. 2012), in Revue Question De. No. 39. Novembre-Décembre 1980. http://www.revue3emillenaire.com/blog/la-bible-en-son-sens-entretien-avec-andre-chouraqui-par-guitta-pessis-pasternak.
٣٢  Cf. André Chouraqui (traduction), La Bible, Paris, Desclée de Brouwer, 2010. Ésaïe 49:15 “Une femme oublie-t-elle son nourrisson, à ne pas matricier le fils de son ventre? Celles-là mêmes oublieraient-elles, moi je ne t’oublierai pas.”.
٣٣  Jacques Berque, Le Coran: Essai de Traduction. Edition revue et corrigée. Paris, Albin Michel, 1995, p. 23.
٣٤  Cf. Francine Kaufmann. “Traduire la Bible et le Coran à Jérusalem: André Chouraqui”, in Meta, 43(1), 1998, 142–156.
٣٥  أرسطوطاليس، الخطابة. الترجمة العربية القديمة. حقَّقه وعلق عليه عبد الرحمن بدوي، الكويت: وكالة المطبوعات، ١٩٧٩م، ص١٠٨، المقالة الثانية، الفقرة ٨، ١٣٨٥ ب: ١٣–١٦.
٣٦  Cf. David Konstan, “La pitié comme émotion chez Aristote”, in Revue des Etudes Grecques/Année 2000/113–2/pp. 616–630.
٣٧  قارن: نيتشه، في جنيالوجيا الأخلاق، ترجمة فتحي المسكيني. ط٢، بيروت: مؤمنون بلا حدود، ٢٠١٦م، المقالة الثالثة، §§ ٩، ١٣، ١٤، ١٦–١٨، ٢٠، ٢١، ٢٨.
٣٩  S. Lancel, Saint Augustin, Paris, Fayard, 1999, p. 668.
٤٠  أغسطين، الاعترافات، الكتاب العاشر، ٣.
٤١  Augustin d’Hippone, “Les mœurs de l’Eglise catholique 28, 53”, in Bibliothèque Augustinienne (BA 1). Edition originale: 1949, seconde édition, 1949, p. 215.
٤٢  نيتشه، في جنيالوجيا الأخلاق . الكتاب الثالث، الفقرة ٢٢، مصدر مذكور: «إن العهد القديم — أجل إنه لشيء مغاير كليةً: قفا إجلالًا للعهد القديم! إذ فيه أنا أجد أُناسًا عظامًا، مشهدًا بطوليًّا وشيئًا من أندر الأشياء على الأرض، السذاجة الفريدة للقلب الكبير؛ بل أكثر من ذلك، أنا أجد شعبًا. أما في الجديد فليس ثمة سوى تدبير النِّحل الصغيرة، سوى زخارف النفس، سوى المنمق والكثير الزوايا والغريب الأطوار، سوى رائحة الجمعيات السرية، دون أن ننسى نفحة ما من الطلاوة الرعوية بين الحين والآخر، هي تنتمي إلى العصر (وإلى الأقاليم الرومانية) وليست يهودية بقدر ما هي هلنستية. الخنوع والعُجب متراصان الواحد بجانب الآخر؛ هراء المشاعر الذي يكاد يصم الآذان؛ تهيُّمٌ ولا هُيام؛ إيمائية مرهقة؛ ومن الغني عن البيان أن الأمر يخلو ها هنا من أي تربية جيدة.»
٤٣  Isabelle Wienand, Significations de la Mort de Dieu chez Nietzsche d’Humain trop humain à Ainsi Parlait Zarathoustra (Berlin: Peter Lang, 2006), pp. 127 sq.
٤٤  Ibid., p. 128.
٤٥  M. Heidegger, “Die Zeit des Weltbildes”, in Gesamtausgabe. Band 5 Holzwege. Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main, 1977, S. 76.
٤٦  J.-L. Marion, Au lieu de soi. L’approche de saint Augustin, Paris, PUF, “Épiméthée”, 2008.
٤٧  Alain De libera, “Au lieu de Dieu: Jean-Luc Marion lecteur d’Augustin”, in Revue de Métaphysique et de Morale, 2003/3, pp. 391–419.
٤٨  S. Augustin, Livres mystiques. Chap. XIV, La Miséricorde. https://livres-mystiques.com/partieTEXTES/albert/albert/14misericorde.htm.
٤٩  M. Heidegger, Phänomenologie des religiösen Lebens (Ergänzungen aus der Nachschrift von Oskar Becker), GA 60, p. 298.
٥٠  سفر التثنية ٥: ١٧؛ سفر التكوين ٤: ١٥.
٥١  سفر التثنية ١٣: ٦-١١: «وإذا أضلَّك سرًّا ابنُ أمك، أو ابنُك أو ابنتُك، أو زوجتك المحبوبة، أو صديقك الحميم قائلًا: لنذهبْ ونعبد آلهة أخرى غريبة عنك وعن آبائك من آلهة الشعوب الأخرى … فلا تستجب له ولا تُصْغِ إليه، ولا يُشفق قلبُك عليه ولا تترأَّف به، ولا تتستَّر عليه. بل حتمًا تقتله. كن أنت أول قاتليه، ثم يعقبك بقية الشعب.»
٥٢  Cf. Maurice Testard, “La Passion des saintes Perpétue et Félicité. Témoignages sur le monde antique et le christianisme”, in Bulletin de l’Association Guillaume Budé/Année 1991/1, pp. 56–75.
٥٣  Oeuvres complètes de Saint Augustin. Tome septième. Sermons de Saint Augustin. Paris: Victor Palmé, 1808. Sermon CCLXXXI, p. 411.
٥٤  Ibid. Sermon CCLXXX, p. 408.
٥٥  Ibid. Sermon CCLXXXIII, p. 413.
٥٦  Ibid. Sermon CCLXXX, p. 408.
٥٧  Ibid.
٥٨  H. Arendt, La condition de l’homme moderne, Paris: Calmann-Lévy, 2005, pp. 304-305.
٥٩  André Comte-Sponville, “La miséricorde”, in Petit traité des grandes vertus, Paris: P.U.F., 1999, p. 158.
٦٠  Dominique Bourg et Antoine Lion (sous la dir.), La Bible en philosophie. Approches contemporaines. Paris, Editions du Cerf, 1993, p. 59.
٦١  Jean-Pierre Changeux, Paul Ricœur, Ce qui nous fait penser. La nature et la règle. Editions Odile Jacob, 1998, p. 324.
٦٢  Elisabeth Weber (ed.), Living Together: Jacques Derrida’s Communities of Violence and Peace. New York, Fordham University Press, 2013, p. 30.
٦٣  Cf. Mouhanad Khorchide, Milad Karimi, Klaus Stosch (Hrsg.), Theologie der Barmherzigkeit? Zeitgemässe Fragen und Antworten des Kalam. Waxmann Verlag GmbH, 2014, S. 15, sqq.; 37 sqq.
٦٤  Louis Massignon, Parole donnée. Julliard, 1962, p. 285.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤