الفصل الخامس

ردي على اللورد كرومر

المصريون في رأي اللورد كرومر

على إثر استقالة اللورد كرومر نشر تقريرًا عن آرائه وأفكاره وما قام به من أعمال في القطر المصري، وقد تناول هذا التقرير طبيعة المصريين وأخلاقهم وأفكارهم، كما تناول ميولهم نحو الجامعة الإسلامية التي كانت تجول في خواطر بعض المصريين في ذلك الحين، وقد قمت في مايو سنة ١٩٠٧ بالرد على ما حواه هذا التقرير من أخطاء وادِّعاءات، وإني ألخص هذا الرد في الصفحات التالية:

ليس من موضوعنا أن نبحث عن قيمة الشرقي على العموم من جهة الأخلاق الثابتة وآثار التطوير المدني في تلك الأخلاق، ولا من جهة كفاءته السياسية لتدبير شئونه وحكم نفسه، ولا من جهة تاريخ الشرق في التمدن، ولا من جهة أن اليابان من بلاد الشرق كما استثناها اللورد كرومر في تقريره معتذرًا بعدم معرفتها، ولكنا نتعرض إلى تفسير تلك الجملة المبهمة الكثيرة المعاني القليلة الألفاظ التي صدر بها هذا الموضوع في تقرير اللورد.

قال الأستاذ سايس: «إن الذين أقاموا في الشرق وحاولوا الاختلاط بأهله يعلمون حق العلم أنه يستحيل مطلقًا على الأوربي أن يتحد في النظر مع الشرقي، ومن المحقق أن الأوربي بادئ الأمر يظن أنه هو والشرقي يتفاهمان ولكنه يأتي وقت — عاجلًا أو آجلًا — يرى الأوربي نفسه يحس فجأة أن ذلك كان حلم نائم، ويجده أمام إنسان ذي ملكات عقلية غريبة بالمرة؛ حتى ليظنه من سكان زحل!»

وبهذا الرأي يدين اللورد كرومر، ويحكم به على الشرقيين الذين يعرفهم لا على اليابانيين والصينيين.

صدق الأستاذ سايس إذا كان قوله منصرفًا إلى أن الأخوين: الشرقي والغربي مختلفان في النظر جدًّا فيما يتعلق بتفضيل المنفعة المادية على المنفعة الأدبية، أو بعبارة أخرى إن الشرقي بذكائة وأطوار تمدنه، ولغاته المملوءة بضروب المجازات، ووجوه القليل الاضطرابات، وطبيعة أوطانه، وما ألفه من التقاليد الدينية العريقة في نفسه ومواعظ أسلافه الغالب فيها تفضيل الزهادة؛ كل ذلك يجعله يميل بطبعه إلى أن يجعل للفضائل الأدبية كالإحسان والكرم والوفاء والإخلاص الديني المقام الأول في حياته الدنيا، ويفضلها على المنافع المادية، فعيب الشرقي قد يكون في سهولة أخلاقة وسلاسة انقياده، كما وصف به أرسطو سكان آسيا الذين يشهد لهم بالذكاء المقتضي صحة الإنتاج، ولكنه عاب عليهم ما ينتجه تأصل طبائع الاستبداد في حكوماتهم، ولا يظن المطلع على تقرير اللورد أنه أراد بقوله الإشارة إلى تلك الفضائل، خصوصًا أنه ليس في مقام مدح الشرقي، ولكن الذي يطلع على هذا الموضوع من التقرير يرى أنه يريد بيان مسألتين:

أولاهما: أن أفكار المصريين عقيمة غير منتجة إلى حد أنه يصعب معرفة مقاصدهم وآمالهم السياسية، وأقام على ذلك دليلًا هو أن أفكارهم بعيدة عن تطبيق هذه القاعدة: «من يبغِ المطلب يبغِ الوسيلة»؛ لأن بعضهم يظهر له الرغبة في الرضا عن نتائج الاحتلال دون الرضا عن الاحتلال، وأن أحدهم طلب إليه تعيين مهندس إنجليزي لتقسيم الماء، وبعضهم طلب قاضيًا إنجليزيًّا للفصل في قضية، ولا نتعرض هنا لذكر الأشياء التي حملت هؤلاء الأشخاص على مثل هذه الطلبات — على فرض أن طلباتهم تؤخذ على شعور المصريين جميعًا — بل نرجئ هذا البحث إلى الفصل الخاص بالموظفين، وغاية ما نورده هنا هو مناقشة القاعدة «من يبغ المطلب يبغ الوسيلة».

وجد الاحتلال الإنجليزي في مصر بعلة إطفاء الثورة وتأييد سلطة الخديوية المصرية والمحافظة على المصالح الأوربية، ثم تدرجت العلة إلى إصلاح شئون الأمة المصرية وإعدادها لتحكم نفسها بنفسها، وليأمن الإنجليز على حقوقهم التي كسبوها في مصر، ثم ينصرف عنها الاحتلال.

متى كان هذا هو غرض الاحتلال، وكانت أعمال الاحتلال الظاهرة الحسية تؤيد هذا الغرض، فيكون المصري الذي يرضى بالنتائج (أي بالإصلاح الذي لأجله جاء الاحتلال) ولا يرضى بالاحتلال هو إنسان عقيم النظر حقيقة.

أما وقد رأى المصري رأي العين أن الاحتلال لم يثبت له بالحس أن علة وجوده في مصر هو تأهيل مصر لأن تحكم نفسها بنفسها، بل رأى بين الغرض من الاحتلال وبين كثير من أعمال الاحتلال في مصر بونًا بعيدًا فأشكل عليه الأمر إلى حد أن المصري المنصف الكثير التدبر والتروي، الذي لا يشوب حكمه على الأمور في مصر غرض من الأهواء، يكاد كلما طابق بين علة الاحتلال وبين عمله يقع في روعه أن للاحتلال مقصدًا خفيًّا غير ما يقول الساسة الإنجليز، ولا شك في أن مثل هذا معذور إذا رضي بنتائجِ الاحتلال دون الاحتلال الذي أشكل المقصود منه على العقول.

•••

بشر المصري آماله حين رأى احترام الحكومة للحرية الشخصية التي نشرها الاحتلال وإلغاء السخرة وغيرها، والقيام بالأعمال النافعة، ولكنه لم يلبث أن رأى الاحتلال بعد ذلك بقليل قد ظهر في كثير من المواطن بمظهر المعاند، فأخذ أولًا يقتسم هو والخديوية المصرية آراء الناس وميولهم، فأخذ الناس أيضًا بمقتضى هذه المعاندة بين السلطتين أن يلتجئ كل إلى ما يرى في الالتجاء إليه مصلحته الذاتية؛ لأن المصلحة العامة هي في ألا يلتجئ الناس إلى أحد الطرفين دون الآخر؛ لأن انتشار ذلك يضيع شخصية الأمة، ويجعلها كما كانت لا حق لها إلا الطاعة للأمير — (إن سميت الطاعة حقًّا) — ولا ينكر أحد أن تنازع السلطتين من طبعه أن يجعل العناد يتخلل كثيرًا من أعمال كلتيهما؛ كلما ظفر الاحتلال بالسلطة قرب كثيرًا من الذين لا يهمهم إلا مصالحهم أو رواتبهم، ثم التفت إلى التعليم العام في المدارس الأميرية فوصل بها إلى هذا الحد الذي نراه اليوم، والذي جعل الحكومة نفسها تشكو قلة الأكفاء بل ندرتهم، ثم مال إلى النفوذ الشخصي للحكام الوطنيين فجردهم منه، وانحصر عملهم في الطاعة لغيرهم من الإنجليز سواء أكانوا رؤساء أم مرءوسين، ثم لم يستبدله بمشاركة الأمة له في الحكم، فاعتقد المصريون أو أغلبهم أن الاحتلال هو لمصلحة إنجلترا وأوربا بالذات، حتى لقد غلا بعضهم في تقدير فهمه العدل الذي جرى على يد الاحتلال، فقال: إن إنجلترا مهما كانت نياتها لمصر، لا يمكنها إلا أن تعدل ما دامت ترى أن لا مصلحة لها في الظلم.

فهل يكون المصري غير منتج إذا بنى فكره على الأعمال المشاهدة من خير وشر، واستنتج من هذه الأعمال نتيجتها اللازمة، وهي أن الاحتلال قد جاء ببعض الفوائد، ولكن تمشيه على طريقة حرمان الأمة من الحياة السياسية خطر على الأمة يوجد الضجر والقلق وسوء الظن بالاحتلال، كما قدمنا، فتكون النتيجة أن تطبيق القاعدة المذكورة على وجود الاحتلال (وهو الوسيلة) وعلى فوائده (وهي المطلب) من الصعوبة بحيث لا يمكن تطبيقها من غير تعسف إلا إذا أبان الاحتلال لمصر أنه يسعى في منح مصر حياة سياسية بالتدريج، والمؤمل أنه يعمل على ذلك، ولا ينكر منصف أن الحكومة اهتمت في هذه السنين الأخيرة بأمر نشر التعليم بين طبقات الفلاحين، ونجحت في تذليل كثير من الصعوبات التي كانت تقف في طريق تعليم البنات، ولو أضافت إلى ذلك منح الأمة شيئًا من الاشتراك معها في العمل لاقتنع الناس بأن الاحتلال مؤقت وأنه لا يقيم إلا ريثما تصلح مصر لحكم نفسها بنفسها، ولأمكن بعد ذلك القول بحق أن «من يبغ المطلب يبغ الوسيلة».

ولكنَّ هناك أمرًا آخر لا يصح إغفاله؛ لأنه قد زاد من الاحتلال إبهامًا على إبهام، وهو ما ذكره اللورد كرومر في خطبته الأخيرة في حفلة الوداع، تلك الخطبة التي هي منصبة في أغلب معانيها على الغرض السياسي الخطر الذي يحاول إقناع العالم به، وهو جعل مصر مستعمرة أوربية مختلطة يكون للأوربيين فيها الغنم، وعلى المصريين منها الغرم، فكان مهر قبول هذه الفكرة لدى الأوربيين أن صرح في خطابه بأن الاحتلال باق في مصر إلى ما شاء الله، فكان في هذا التصريح التباس جديد على الناس … ولكن مع ذلك نرى أن هذا التصريح ليس من شأنه أن يؤثر تأثيرًا جوهريًّا في السياسة المصرية؛ لأن وقت التفكير فيه لم يحن بعد.

ومن هذا يرى القارئ أن عدم صحة الفكر المصري في الإنتاج لم تأت من طبيعة له ولا من عرض ملازم له، بل أتت من إمكان الحكم على مقاصد إنجلترا من الاحتلال.

المسألة الثانية هي: الجامعة الإسلامية

إن فكرة الوحدة الإسلامية قد تجول أحيانًا بخواطر بعض الناس الذين لا يزالون بعيدين عن الاشتغال بالسياسة والنظر في الأمور العامة بشيء من التدقيق، ولكن تلك الفكرة لم تخرج عن حيز الخواطر، تظهر وتختفي تبعًا للحوادث، فكلما رأى المصريون اتفاق رجال السياسة الأوربية على شيء يضر بمصلحة مصر، أو يبعد ميعاد استقلالها أو يفيد استمرار الاحتلال إلى الأبد، قارنوا بين مصر وبين غيرها من ولايات البلقان التي استقلت، واستنتجوا من ذلك أن ذنب مصر أنها أمة إسلامية، وأن أوربا لا تساعد في الشرق إلا الأمم المسيحية، فتمنى بعضهم لو كان للمسلمين وحدة كما في أوربا هذه الوحدة التي يتخيلون وجودها، وأنها كانت الحامل لأوربا على التداخل في أمر ولايات البلقان وأرمينية، نقول ذلك ونحن لا نعرف أنه يوجد في اللغة كلمة جامعة مسيحية «بانيكريستيانزم» كما خلقت كلمة جامعة إسلامية «بانيسلامزم».

على أن عقلاء المصريين لا يرون لكلتيهما وجودًا في العالم، ولكن السياسة تخلق ما تشاء، فليس لأوربا أن تتوجس خيفة من فكرة ساذجة كهذه، بعيدة عن أن تؤدي إلى اعتداء من جهة المصريين، ولا أن تسبب قلق المستعمرين من الأوربيين، بل يرى هؤلاء العقلاء أن الذي خلق هذا الخاطر الساذج هو مظاهر السياسة الأوربية في الشرق.

أما كون الجامعة الإسلامية موجودة وجودًا حقيقيًّا، أو أنها مقصد من المقاصد التي يسعى المسلمون لتحقيقها، فهذا لا دليل عليه مطلقًا، كما أنه لو حوول إيجادها لاستحال ذلك بالمرة على طلابه.

علمنا التاريخ وطبائع البشر أنه لا شيء يجمع بين الناس إلا المنافع، فإذا تناقصت المنافع بين قلبين استحال عليهما أن يجتمعا لمجرد قرابة في الجنسية، أو وحدة في الدين، وإن أبلغ مثال على ذلك هو انشقاق المسلمين على أنفسهم في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مما هو مشهور ومأثور، إن أحسن ما قرأنا في الجامعة الإسلامية، هو ما ذكره الأستاذ براون في خطبته التي ألقاها في جامعة كيمبردج سنة ١٩٠٣ وأبان فيها أن الجامعة الإسلامية هي خرافة ابتدعها دماغ مكاتب التيمس في فينا، قال الأستاذ براون:

إنه ليس من السهل تعريف معنى البانيسلامزم بعبارة تنطبق على المثل العربي المشهور «خير الكلام ما قل ودل» ومع الأسف إننى استشرت أحد أصدقائي المسلمين في هذا الموضوع، فعرفني معنى «بانيسلامزم» بلا تردد في بضع كلمات، وهي «أن البانيسلامزم هي خرافة خلقها دماغ مكاتب التيمس في فينا.

وإن تجسيم الأمر في نفس عميد الاحتلال في مصر إلى حد أنه قد جعله تعصبًا للدين لا محل له بالمرة، إلا إذا كان الغرض منه بعث القلق إلى نفوس السياسيين من الأوربيين، حتى لقد جره ذلك الغرض إلى التعريض بأحكام الدين الإسلامي، وادعى أنها غير صالحة إلى أن تطبق في هذا الزمان.

قال ذلك بتصريحات كان من عادته أن يتوقاها؛ مراعاة لاحترام الدين الإسلامي، وتفاديًا من جرح شعور المسلمين، نقول: على غير عادته؛ لأنه كثير الاحترام للدين الإسلامي، كثير الحيطة في التعبير عنه بشيء يتعلق به، وكل تصريحاته مستفيضة في هذا المعنى؛ فقد قال في خطبته في كلية غوردون في ٤ يناير سنة ١٨٩٩:

ولا يخفى عليكم أن جلالة الملكة ورعاياها المسيحيين من أشد الناس استمساكًا بعروة دينهم، ولذلك فهم يعرفون وجوب احترام دين غيرهم، على أن حكم جلالتها يظلل من المسلمين عددًا أكثر مما يظلل حكم أي ملك في الأرض، وهم مع ذلك في عيشة هنية، وسعادة تحت حكمها الكثير الخيرات، دينهم موقر، وعاداتهم الشرعية محترمة كل الاحترام … إلخ.

وقد يؤثر عنه أنه كان يشير إلى أن المسلمين لا تصلح حالهم إلا إذا تمسكوا بدينهم الصحيح، وقد ذكر في تقرير سنة ١٩٠٥، وفي تقرير سنة ١٩٠٦، ما يفيد امتداح الذين يقومون بخدمة الدين وتخليصه من الدخائل التي متى خلص منها كان موافقًا لحاجات الناس في التمدن الحديث، وخص منهم بالذكر فقيد الإسلام المرحوم الشيخ محمد عبده، والسيد أحمد منشئ كلية عليكرة، ولهذه المناسبة نورد للقارئ نص الخطاب الذي ألقاه اللورد كرزون في كلية عليكرة في شهر مايو سنة ١٩٠١ مشيرًا فيه إلى فوائد الدين الإسلامي، والاعتراف بما للمسلمين من الفضل والمدنية:

نعم يمكن للمسلمين أن يسابقوا غيرهم إذا هم تعلموا كيف يسابقون، وهو ما عرفوه مرة قبل هذا الوقت في أيام كان فيها للمسلمين السطوة والسلطان، وكان قضاتهم يحكمون بالعدل بين الناس، وفلاسفتهم وأئمتهم يؤلفون الكتب النفيسة.

وإن عدول اللورد كرومر عن خطته من عدم التعرض للطعن على الدين الإسلامي بأي صورة، ومخالفة لبعض ساسة الإنجليز مثل اللورد كرزون في الآراء المتعلقة بأن الشريعة الإسلامية أسمح من أن تعيق عن حاجات التمدن الحاضر، كل ذلك جعل الناس يكادون يجمعون على أن اللورد أراد أن يصور المصريين — للإنجليز خصومًا، ولأوربا عمومًا — بصورة أمة غير قابلة للرقي؛ لتسهل بذلك الموافقة على محو الجنسية المصرية الصميمة التي يحاول محوها منذ عامين؛ لذلك قصد تجسيم الجامعة الإسلامية، وعزا لها ما عزا.

التعصب الديني

بعد أن رأى القارئ أن الجامعة الإسلامية لا أثر لها في مصر ولا نظن لها وجودًا في غير مصر، وأنها على هذه الصفة من العدم ليس من شأنها أن تزيد الجفاء بين الشرق والغرب، ولا أن تصلح ذريعة لرجال السياسة الأوربية يتخذونها سترًا يستر أعمالهم في الشرق، قد يكون من المفيد جدًّا في هذا المقام أن نتعرض إلى مناقشة تلك التهمة الثانية التي يربطها بالجامعة الإسلامية رابطة النسب أو رابطة العلة والمعلول، وهي تهمة التعصب الديني.

والدين الإسلامي يأمر بالتعاون والتعاضد والائتلاف بين أفراد الأمة، كما يأمر بالعدل والإحسان، ويوصي خيرًا بالمتحالفين له من أهل الأديان الأخرى على الصور المستفيضة في الفقه، وليس من مبادئه مطلقًا التعصب الشائن الذي يعبر عنه الإفرنج «بالفاناتيزم».

أهل الدين الواحد يوجد بينهم بحكم وحدة الاعتقاد حب ومعاونة، تختلف وجوه استعمالها باختلاف الصور العديدة التي تصورها لهم أفهامهم في الدين، وإن هذه الجاذبية الدينية تماثل الجاذبية التي تولدها وحدة العنصر أو وحدة اللغة، ونظن أن الأوربيين لم يقصدوا يومًا «بالفاناتيزم» هذه الجاذبية بوجه ما، ولكنهم يقصدون بالتعصب الديني معنى عدائيًّا هو التحرش بغير المسلمين وحضارتهم، والتربص بهم فلا يبقون عليهم، وهذا المعنى لا أصل له في الدين، كما لا أصل له في نفوس المسلمين الذين كل جنايتهم أمام أوربا أنهم أخذوا يفكرون في أن ترقى عقولهم بالتعليم ونفوسهم بالحرية، وأن يدفعوا بجميع الطرق السلمية كل مبدأ أو قوة تعمل على الحيلولة بينهم وبين ما يشتهون من الرقي العقلي؛ ليسابقوا غيرهم في الحياة المدنية، وأنهم يتعلمون الآن من الأوربيين، فكيف يمكن أن يضمروا لهم ما يتجنى له هؤلاء عليهم؛ ليبعدوهم عن كل مدنية، وليسهلوا لأنفسهم دوام الاستفادة منهم دون أن يفيدوهم، أظن أن وجه المسألة على هذه الصورة مقلوب الوضع، وأن المسلمين هم أولى بأن يتهموا الأوربيين بالتعصب، ولكنهم لا يريدون، ولا يستطيعون.

التعصب الديني شعور لا يمكن للمنصف أن يحكم بوجوده إلا بآثاره، ومن المشاهد أن الأقباط في مصر يعيشون مع المسلمين مختلطين في المصالح والمساكن متكاتفين في المزارع والأعمال، متجاورين على مقاعد المدارس، متشاركين في الوظائف والمرافق، ولم يسمع من زمان بعيد أن المسلمين الذين قد أمرهم الدين بحسن المعاملة هاج هائجهم على إخوانهم، أو أظهروا يومًا بما يقتضيه وجود التعصب الديني في النفوس من الحقد الذي يقدح زنده الاشتراك في المصالح، ومن المشاهد أيضًا أن الرومي يجيء به طلب الرزق إلى مصر منفردًا، يدخل إحدى قراها البعيدة عن مراكز الحكومة فيتزلف إلى كبار أهلها فيفسحون له في مساكنها ملجأ يأوي إليه، فلا يزال بتجارته الرابحة من بيع الزيتون والجبن بأضعاف القيمة بثمن آجل حتى يصبح ذا مال يقرضه إلى الفلاحين بالربا الفاحش، ولا يلبث على هذه الحال قليلًا من الزمان إلا هو دائن لأغلب أهل البلد ينزع ملكية أرضهم ويستخدمهم فيها عمالًا بسطاء، وكل هذا لم يحرك في نفوسهم ذلك التعصب الديني الموهوم، أليس ذلك إلا لأن هذا التعصب عديم الأثر في نفوس مسلمي مصر؟

أقام اللورد كرومر على هذه التهمة الشنعاء التي اتهم بها المصريين دليلين؛ أحدهما مسطور في تقريره عن سنة ١٩٠٥ بمناسبة حادثة الهماميل في الإسكندرية، وكان فيها أن مصريًّا ويونانيًّا تشاجرا على مشتري قطعة من الجبن، فطعن اليوناني المصري طعنة بسكين فقضى عليه، وأعقب ذلك أن يونانيًّا أراد قتل يوناني آخر بغدارة فأخطأه وأصاب وطنيًّا، فمات، فاجتمع رعاع الفريقين، وقال بعض فريق المسلمين «اقتلوا النصارى».

والثاني حادثة العقبة التي جعلت بعض الجرائد أو بعض الناس يظهرون ميلهم إلى تركيا بمناسبة الخلاف بينها وبين الحكومة المصرية على تحديد التخوم المصرية في تلك الناحية.

أما الحادثة الأولى فلا تثبت من التعصب شيئًا؛ لأن من الأمور الطبيعية أن الناس ينتصرون للمظلوم خصوصًا إذا كان من بني جنسهم، وقد روت روتر في ذلك الحين أن روسيًّا في باريس أطلق الرصاص على جنديين فرنسيين، فهمَّ الأهالي بقتله لولا أن رجال البوليس أنقذوه من أيديهم، ولم يقل أحد بأن انتصار الأهالي في باريس للجنديين كان سببه التعصب الديني، فانتصار الوطنيين للقتيل، وانتصار الأروام وغيرهم للقاتل هو من الأمور الطبيعية التي لا تثبت وجود التعصب الديني عند المصريين.

لم يبقَ بعدئذ إلا قول بعضهم: «اقتلوا النصارى» فلو صحت نية هؤلاء الصائحين بهذه الصيحة وقابلوا مسيحيين من المصريين أو من السوريين لما مسوهم بسوء، ولكن لفظة النصارى في لغة الرعاع مرادف للإفرنج أو نحو ذلك، فإن كان في نفوسهم عصبية لكانت عصبية جنسية لا عصبية دينية.

أما حادثة العقبة، فيحسن بنا أن نلفت نظر القارئ إلى سبب الحركة الفكرية التي جرت في مصر إبان حادث العقبة، كان من جرائها أن أساء الإنجليز الظن بالمصريين وافتكروا أن هؤلاء يتبرمون بهم ويودون لو استبدلوا الاحتلال التركي بالاحتلال الإنجليزي، وأن مثار هذا التبرم هو التعصب الديني من المصريين للترك، وقد جر هذا الفهم إلى نتائجَ مشئومةٍ، ولكنا نظن أن الإنجليز متى عرفوا السبب الحقيقي لهذه الحركة وأنصفوا، يقلعون عن تهمة المصريين بالتعصب، تلك التهمة التي تسوءنا أكثر مما ساءتهم.

نلتمس علل الأشياء بقياسها على أشباهها ونظائرها، فإذا أردنا أن نلتمس علة هذه الحركة الفكرية الحقيقية التي وجدت بمناسبة حادث العقبة حسن بنا أن نرجع بها إلى نظائرها من الحوادث، ولا نجد حادثة أشبه بها من جميع الوجوه أكثر من حادثة فاشودة؛ فإن الإنجليز كانوا يدفعون الترك عن العقبة باسم الحكومة المصرية لمصلحتها، ومصلحة الحكومة الإنجليزية، كما كانوا يدفعون الضابط مارشان عن فاشودة باسم الحكومتين المصرية والإنجليزية ولمصلحتهما أيضًا، وكان النزاع بين الإنجليز وبين الترك على الحدود الشرقية كما كان بينهم وبين الفرنسيين على الحدود الجنوبية المصرية، فماذا كان ميل المصريين وقتئذ بالنسبة لحادثة فاشودة؟

كان في مصر حركة أفكار تتجه في مجموعها إلى اجتذاب الناس إلى فرنسا أو إلى مارشان وجماعته؛ فكيف جاء هذا الشعور؟ وما مصدره؟

هل كان مصدره في النفوس أيضًا تعصبًا دينيًّا لفرنسا، أوجب استبدال الاحتلال الفرنسي بالاحتلال الإنجليزي؟!

لا هذا ولا ذاك، ولكن من الطبائع العمرانية أن الأمة متى أبعدت عن إدارة حكومتها وجهلت مقاصد حكامها، أو ظهر لها منهم عين لاستئثار بالمنفعة دونها، وحملها على ما تهوى وما لا تهوى من غير أن تستشار، كل ذلك يدعو بها إلى أن تتبرم بحكومتها إذا كانت حكومة وطنية، فإذا كانت أجنبية يكون التبرم والمقاطعة من باب أولى.

ومثال ذلك الحركة الفكرية للأمة في أوائل الثورة العسكرية سنة ١٨٨٢، فإن الأمة كانت قلقة تحب الخروج من ذلك الاحتلال الفعلي الشركسي وإن كان قلقها هذا لم يتعدَّ حد القلق؛ لأنه لم تكن لها في الثورة العسكرية فكرة ثابتة ولا مشاركة حقيقية، فهل كان هذا القلق والضجر من حال الحكومة، ومن قانون العسكرية، مترتبًا على تعصب ديني من المسلمين ضد المسلمين؟ لا شيء من ذلك أيضًا؛ فلو استقرأنا كل العلل الممكنة التي ولدت حركة الأفكار في سنة ١٨٨١ وسنة ١٨٩٨ بمناسبة حادثة فاشودة، وسنة ١٩٠٦ بمناسبة حادثة العقبة استقراءً صحيحًا خاليًا عن الغرض، لوجدنا أن العلة في كل ذلك واحدة، وهي قلق من عدم إشراك الحكومة إياها في شيء من الحكم.

ولكن ذوي الأغراض — عن جهل أو سوء قصد — جاءوا يصورون تلك الحركة الفكرية لعميد الاحتلال في صورة التعصب الديني، وهو قد صورها في الصيف الماضي لأوربا بصورة مزعجة؛ كل ذلك، والأمة هادئة بعيدة عن التعصب وآثاره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤